السبت، 27 أبريل 2013

الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين

الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين


الجامعة كما أتصورها

أحمد أمين

للجامعة – كما أتصور- وظيفتان : وظيفة علمية و وظيفة خلقية، و كلتا الوظيفتين متصلة بالأخرى أتم اتصال؛ فالضعف العلمي يتبعه ضعف خلقي و العكس ، كما أن القوة العلمية تتبعها قوة خلقية و العكس.
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين

فمن الناحية العلمية ارى أن  وظيفتها تخالف الوظيفة العلمية للمدارس الابتدائية و الثانوية؛ ففيهما توجه العناية إلى وسائل التعليم أولا، و كمية من العلم أثبت العلم صحتها ثانيا.أما في الجامعة فوسائل التعليم فيها ثانويةن و إنما القصد الأول إلى البحث العلمي و وضع القضايا العلمية و الأدبية موضع البحث و النظر؛ من أجل هذا لا يمكنك أن تتصور مدرسة ابتدائية أو ثانوية من غير طلبة، لأنه لا يمكن تعليم من غير متعلم؛ و لكن يمكنني أن اتصور دراسة في كلية أو جامعة من غير طلبة، و ذلك بعكوف طائفة من العلماء و مساعديهم يبحثون و ينقبون.بل و لو كان هناك طلبة فالجزء الأهم من الجامعة لا يُقضى بين الفصول، و لكنه يقضى في مكاتب الأساتذة و المكاتب [ المكتبات] العامة و المعامل[ المختبرات].
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين
في التعليم قبل الجامعي؛توجه العناية إلى وسائل التعليم أولا

و قديما قالوا:" العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك".و هذا أكثر انطباقا على العلم الجامعي.

فأستاذية الجامعة- كما أتصورها- نوع من الرهبنة؛ فكما ينقطع الراهب للعبادة في دير ينقطع الأستاذ للعلم و خدمته، أو بعبارة أخرى إن الراهب يعبد الله عن طريق الصوم و الصلاة، و هذا يعبده عن طريق العلم أيضا.

فإذا شغل الراهب بالمال و طرق تحصيله و حب الشهرة و الرياسة و الجاه، فهو راهب فسد، كذلك العالم إذا شغلته العلاوات و الدرجات و حب الشهرة و الجاه، فهو عالم فسد؛ إنما يجب على الامة و الحكومة أن توفرا له وسائل راحته الضرورية التي تتناسب مع تفرغه للعلم و تضحيته لذائذ الحياة من اجل العلم.فإن هو بعد ذلك ضل عن منهجه العلمي، فاللوم عليه.
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين
في الجامعة، يجب أن تعطى الأولوية للبحث العلمي

هذا العالم – في هذا الوضع – قد وطّن نفسه على خدمة العلم، و خدمة الأمة في طريق العلم، و خدمة الإنسانية من طريق العلم، لا غرض له في الحياة إلا ذلك؛ العلم مثله الأعلى، و العلم لذته العظمى، و العلم يشغل أهم جزء من مخه، في أكله و شربه و راحته و رياضته و أحيانا في نومه؛ هو يحب الحقيقة كما أحب المجنون ليلى؛ يرى أنه لا يخفف آلام الإنسانية إلا الإخلاص في الفكر، و الإخلاص للعلم، و مواجهة الحقائق كما تبدو له، كائنة ما كانت و لو خالف الناس جميعا.

من أجل هذا كله تتطلب حياته الاستقلال التام، بل إن الاستقلال له ألزم من الاستقلال السياسي، لأن العلم لا يمكن أن ينهض إلا إذا كان حرًّا؛ و العالم لا يعد عالما إلا إذا عشق الحق، سواء كان ما اعتقده حقيقة يرضي الحكومة أو لا يرضيها، يرضي السياسة أو لا يرضيها.إن كانت السياسة تعترف بأن من وسائلها المشروعة تقريب وجهات النظر، فالعلم لا يعرف ذلك؛ إنما يعرف أن هذا أسود أو أبيض و لا بالدنيا كلها بل و لا بحياته، فكثير ضحوا حياتهم لنظريتهم العلمية.
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين
مبادئ الحريات الأكاديمية..صارت عالمية

هذا ما أتصوره في الأستاذ الجامعي، فإن انحرف عن هذا النهج لم يكن أستاذا بحتاً، بل كان أستاذا و تاجراً.و كل ما في الأمر أنه تاجر بعلمه و الآخر تاجر بسلعته؛ بل هو شر من التاجر البحت، لأنه اتخذ من العلم سلعةن فقلب الوضع، و تاجر في غير متجر.

مثل هذا الأستاذ عزيز، و إذا ظفرنا بواحد من هذا الصنف في كل بيئة جامعية ضمنا نجاحها،لأنه إذ ذاك يصبح مناراً يهتدي به المدرسون و الطلبة في الظلمات؛ هو مثل حي للتضحية، و مثل حي في سمو الخلق، و مثل حي لغلبة المعنويات على الماديات، هو خير على العلم و الخلق جميعا.

هناك عامل آخر في البناء الخلقي الجامعي يعين الأستاذ على تحقيق مَثَله، هو الجامعة ككل، ممثلة في مجالس كلياتها و مجالس جامعاتها و مديرها و إدارتها.

و هي أن تكون متمشية مع الأستاذ في استقلاله، تعمل الواجب بقطع النظر عن كل اعتبار آخر. لا تخدم إلا شيئين: العلم و الخلق، ليست تخدم حزباً سياسيا، و لا تخدم رغبة وزير؛إنما تخدم العلم كعلم عالمي لا وطن له، و تخدم الخلق كخلق إنساني.فإن كان ولا بد من حصر هذه الدائرة الخلقية، فإنها تخدم أمتها ككل، و تتخذ لنفسها مركز النجم في السماء يسترشد به الساري، سواء أكان مؤمناً أم كافراً، و سواء أكان لونه السياسي أبيض أم أسود، تعتقد أنها الجامعة المصرية لا الجامعة السياسية الحزبية؛ فإذا هي موضع التقديس من كل حزب، و موضع الإكبار من كل هيئة.و متى اتخذت هذا الوضع، كانت كل العواطف، السياسية و الحزبية تُهبّ بعيداً عنها و لا تسلمها؛ تهب حولها لا عليها.فإن أريد منها أن تتنحي قِيدَ شعرة عن هذا النهج، قال كل من فيها:" لا" بملءِ فيه، حرة في معالجة مسائلها، حرة في وضع برامجها، حرة في تصريف مالها في حدود ميزانيتهان حرة في معالجة مشكلاتها كما يتراءى لها.

قد تخطئ في ذلك، و لكنها تتعلم من الخطأ كما تتعلم من الصواب، و تسترشد بضلالها كما تسترشد بهدايتها، و هي بهذا تنمو من الداخل لا تنمو من الخارج، تكون كالإنسان يكبر و يترعرع من الأكل الصحي و الهواء الصحي، لا كإنسان يضخم بكثرة الملابس عليه.

إن الجامعة إن فعلت هذا،كانت مثلا للطلبة في تصرفاتهم. إنهم يخجلون أن يتحزبوا إذا كان كل الجو الجامعي حولهم لا يتحزب. إنهم يعودون إلى آبائهم الروحيين إذا لعبت بهم الأهواء.إنهم يسمعون نبضات قلوب أساتذتهم كما يسمعون دقات ساعاتهم.يضبطون بأعمال أساتذتهم أخلاقهم، كما يضبطون على ساعة الجامعة ساعاتهم. أما إن عكس الوضع و سَيّر الخارجُ الأساتذة، و سَيّر الطلبة الأساتذُةَ و الخارجَ،كان ذلك هرما مقلوبا أو كان رجلا يمشي على رأسهن أو كان ضبطاً لساعة المرصد على ساعة رجل الشارع، و في ذلك إنذار بالخيبة.

بجانب أستاذ الجامعة و هيئة الأساتذة و الإدارة عامل آخر كبير من عوامل الخلق الجامعي، هو تكوين رأي عام بين الطلبة يشعر بالواجب و يقدّر المسؤولية؛ و أعتقد ان تسعين في المائة من زلات الطلبة ترجع إلى فقدان هذا العامل الهام؛ فلو ان هناك رأيا عاما يحتقر الطالب، إذا كلم فتاة كلمة نابية أو نظر إليها نظرة شاذة،فهل يجرؤ الطالب على ارتكاب هذا الخطأ؟ و إذا كان الرأي العام بين الطلبة يحتقر الكاذب، و يحتقر المستهتر، و يحتقر الهازل، فما أعظم الإصلاح الذي يرجى من وراء ذلك ![1]
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين
خلال اجتماعات الطلبة، يتشكل الرأي العام الجامعي

إن معظم الزلات الخلقية من الطلبة لا تقع تحت سلطان القانون، فليس القانون يؤاخذ على كذبه، و لا نظرة نابية، و لا كلمة جارحة، و لا ضحكة مستهترة، و لا نحو ذلك من الشرور؛ إنما يترك ذلك كله للرأي الجامعي يعاقب عليه بالازدراء و الاحتقار و المقت؛ فما لم يوجد رأي عام من هذا القبيل و اكتفى بالقانون، فلا أمل في النجاح.

لا بد من الإكثار من اجتماع الطلبة بمناسبات مختلفة يتعرضون فيها للخطأ، و يهيأ الرأي العام فيها للنقد على هذا الخطأ، حتى يتبلور الرأي العام و يأخذ سبيله في سلطانه على النفوس.يجب أن يعوّدوا أن يحكموا أنفسهم بتكوين قضاة منهم يحكمون على زلاتهم و ينفذون قضاءهم بأيديهم و السنتهم.بهذا يسود في الطلبة الشعور بالشرف و الندم على الهفوة.

يجب أن يكون للجامعة تقاليد قد أسست على قانون الشرف، يخشى كل طالب من كسرها كما يخشى من ارتكاب السرقة أو الخيانة.

حكى لي أستاذي المرحوم عاطف بركات باشا، أنه لما سافر في بعثة إلى جامعة من جامعات إنجلترا، و كان حديث عهد بها، دخن في حجرة كان التدخين فيها محرّما، فمرّ بعض رجال الجامعة في هذه الحجرةن و شمّ رائحة الدخاننفسأل: من المدخّن؟ فلم يجب أحد، و لا عاطف بركات، فتركهم الأستاذ و انصرف.قال عاطف باشا:فاحسست أن كل من حولي من الطلبة ينظرون إليّ نظرة فيها شيء كثير من الاحتقار.فمن ذلك اليوم عظم شان الصدق في نفسي، و استفظعت غلطتي، و لم أعد بعد غلى مثلها.

و مما يتصل بهذا بث الروح بين الطلبة بشدة ارتباطهم بكليتهم؛ فيفخرون بأستاذهم الشهير بعلمه و مؤلفاته، و يفخرون بالنابغة فيها من أساتذتهم و طلبتهم، و بانتصار كليتهم في الألعاب و في جميع أفعال البطولة و في ميادين الأعمال الشريفة؛ و يستهجنون أعمال النذالة و السلوك الوضيع، و على الجملة يشعر كل طالب بأنه جزء من كل، يعتز بعزة الكل و يهون بهوانه.
الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين


***     ***     ***

أستاذ صالح يقوم مقام المنارة في الكلية، و هيئة صالحة من الأساتذة و الإدارة، و رأي عام من الطلبة له سلطان على نفوسهم، هي أهم ما أرى من عوامل الإصلاح للخلق الجامعي و العلم الجامعي.


الجامعة كما تصورها المرحوم أحمد أمين

المرحوم أحمد أمين
أحمد امين(1887-1954)، باحث أدبي عربي.اشتغل  قاضيا، في القضاء الشرعي لمدة معينة، ثم انتقل إلى التدريس في كلية الاداب بالجامعة المصرية( جامعة القاهرة)،ثم انتخب عميدا لها.له مؤلفات و شهيرة و مفيدة.و نشر مقالات أدبية كثيرة في مجلتي "الرسالة" و " الثقافة"، و جمعها في  كتابه "فيض الخاطر"، الذي ظهر في أجزاء(10) متتابعة قبيل وفاته(انظر: الموسوعة العربية الميسرة-"مادة أحمد أمين"؛ و انظر أيضا موسوعة وكيبيديا).

و المقال الذي بين أيدينا، هو أحد هذه المقالات.. و قد أعيد نشره مؤخرا، ضمن الأعمال الكاملة لأحمد أمين، تحت عنوان : موسوعة الحضارة الإسلامية- دار نوبليس- بيروت 2006-المجلد الحادي عشر- فيض الخاطر(1)- ص ص 61-64.



[1]  و  ما أحوجنا أن ينشأ هذا الرأي العام بين الأساتذة أيضا. و أنا شخصيا أعتقد أن أكثر من تسعين بالمائة من زلات الأساتذة ترجع إلى غياب هذا العامل الرادع.فلو أن هناك رايا عاما مشتركا بين الأساتذة،يجمع على احتقار الأستاذ الذي يتحرش بالطالبات، و يتاجر في النقط، و لا يقوم بواجبه إزاء الطلبة و غزاء زملائه و لا يحترم أحدا،و يستغل سلطاته لتحقيق جرائم يندى لها الجبين،.. لما تجرأ أستاذ على اقتراف "فضيحة" من الفضائح التي نسمع أو نقرأ عنها كل يوم.