الثلاثاء، 14 مايو 2013

كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون


 كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون

في الشهر الماضي[يونيو 1980] احتفلت كلية الحقوق في جامعة القاهرة بمرور مائة سنة على إنشائها..فهي أقدم كلية  من نوعها في العالم العربي و الشرق الأوسط.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
جامعة القاهرة
و لعل خريجيها، من كل أبناء العالم العربي، و خريجي حقوق " الاستانة" أو القسطنطينية، أيام كانت عاصمة الإمبراطورية العثمانية المسيطرة على العالم العربي كله سوى مصر[و المغرب الأقصى]، هم الذين قادوا و شكلوا السياسة في كل العالم العربي خلال حقبة طويلة من الزمن..ربما سادت[حتى/لولا] هزيمة حرب فلسطين الأولى سنة 1948،إذ بدأ حكم "الحقوقيين" يتزعزع و يتراجع، بعد أن طغى السيف[حكم العسكر=الانقلابات العسكرية التي شهدها العالم العربي في الخمسينات و الستينات من القرن العشرين] على القانون.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
جمال عبد الناصر، الذي تزعم أشهر انقلاب عسكري في التاريخ العربي المعاصر( في 23
يوليوز 1952)، و هو الانقلاب الذي انقلب بدوره إلى ثورة سنة 1956
و ربما كانت هزيمة 1948 ذاتها هي التي أقنعت العرب[الضباط الأحرار في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر ..مثلا؟] زمنا طويلا بعدم جدوى القانون أمام السيف، مهما كانت القضية عادلة [القضية الفلسطينية مثلا].
 و إن " الحق فوق القوة، و الأمة فوق الحكومة" كلمة جميلة أطلقها أشهر حاملي شهادات القانون، سعد  زغلول، اهتزت بها أعواد المنابر زمنا..و لم يهتز بها شيء آخر بعد !
و كم كنت حزينا،لأنني كنت بعيدا عن القاهرة يوم احتفلت كلية الحقوق بالعيد المئوي لها.ذلك انني أحد خريجي تلك الكلية العتيدة، التي طبعت موجات الأثير على جدرانها عددا من أعظم الأصوات التي عرفتها مصر و العروبة.و إذا كنت لم أشتغل بالقانون إلا قليلا، إلا أن الأثر الذي تتركه كلية الحقوق في نفس تلميذها لا ينمحي،إذا كان قد دخلها عن حب و شغف، لا عن طريق تقليعة " مكاتب التنسيق".ثم انني إذا كنت قد تركت العمل بالقانون إلى مهنة الكتابة و الصحافة بعد حوالي خمس سنوات فقط ، إلا أنني ما اكتشف فجأة أنني مازلت أشتغل بالقانون من ناحية،ربما تركت ما نسميه "بالقانون الخاص"، و هي القوانين المدنية و الجنائية و غيرها،إلا أنني بقيت – ككاتب – على صلة دائمة بما نسميه " القانون العام": أي الاقتصاد و العلوم السياسية و القانون الدولي و القانون الدستوري و القانون الإداري..أي القوانين التي تنظم حياة المجتمعات و الشعوب و الدول،و ليس الحياة الخاصة للأفراد...كما هو الحال في كل ما نسميه "القانون الخاص"...
و لكن الأهم من ذلك، أنني فعلا اكتشف عادة انني مازلت اشتغل بالقانون،لأنني دائما أجد نفسيا متلبسا بالتفكير في أي موضوع بطريقة "قانونية".أو بطريقة متأثرة بالتفكير القانوني إلى حد بعيد.
ذلك أن دراسة القانون تعلم المرء طريقة خاصة في التفكير.تزود صاحبها بما يشبه "الترموستات" أو منظم درجة الحرارة،يقرأ الإنسان في الآداب، و يحلق وراء الفنون ، و يجوب آفاق الفلسفة..و هذه أشياء ربما كانت هي جوهر الفكر، و لكن من درس القانون – فيما يخيل لي – يجوب هذا كله و قد ربطه التفكير القانون إلى أرض واقعية معينة.فهو ينظم تفكيره، و يضع في صدره ميزانا دائما يزن به كل ما يعرض له من أفكار و أمور. و يخلصه من تيارات " الفن للفن " و " الفكر للفكر".في حين يربطه بأن الفن للحياة، و الفكر للحياة،و السياسة للحياة، و كل شيء وبدءه و منتهاه الحياة و الناس. و أن الرؤية المتأثرة بالقانون هي الفرق بين أحلام اليقظة و أحلام التطبيق. أو بين تهويمات الخيال و رؤى الحقيقة.
و لست هنا أفاضل بين شيئين،فحياتنا بلا أحلام لا تساوي شيئا.و بغير الأحلام ل تتحقق الأشياء العظيمة.و لكن حياة تقوم على الأحلام هي بالونات ملونة تطير في الهواء و تضيع، و ليست مركبات فضاء  محددة الغرض، محكمة التوجيه.
ثم..هل هناك قضية دارت حولها حياة المجتمعات الإنسانية منذ نشأت، و لا تزال، أكثر من قضية " الحق و الواجب ؟ " و هي قضية القانون. و أليس القانون هو الوسيلة البشرية لتنظيم الحياة..ابتداء من تنظيم حركة المرور في الشارع إلى علاقات الدول ببعضها البعض في البر و البحر و الفضاء ؟
كل إنسان يتفتح وعيه على شيء مختلف.هكذا الحياة. لو كانت زهورها بلون واحد، و أشجارها بطول واحد، لفقدت جمالها، بل لصارت جحيما.و نفس الحال في البشر. لو كانوا على شاكلة واحدة و نمط واحد لفقدت الحياة مذاقها بل وربما مغزاها.و الإخوة في البيت الواحد، كثيرا ما يتباينون رغم كل عوامل الوراثة الواحدة و التربية الواحدة..
بالنسبة لي..لا أذكر مهما حاولت التذكر أن أمرا استبد بي منذ البداية أكثر من تلك القضية، الحق و الواجب، الظلم و العدل، و بالتالي الأداة في كل هذا و هي القانون.
و كانت ترجمتها في سن المراهقة هي الشغف الهائل بحضور القضايا الكبرى،و الاستماع إلى المرافعات الرنانة.و كنت إذا قرأت عن محاكمة سياسية كبرى حدثت منذ عشرات السنين، ذهبت إلى دار الكتب، و طلبت مجلدات صحف تلك الفترة لأقرأ القضايا و المرافعات و مناقشات المحكمة كاملة بالتفصيل. و كان كل تاريخ مصر الوطني في الفترة السابقة[ قبل الثورة المصرية لسنة 1952؟ ] في يد المحامين، و كانت المحاكم إحدى أهم ساحات الكفاح.
و كنت أرى نفسي و أنا صبي في شتى الأدوار داخل تلك الحلبة الرائعة:قاعة المحكمة.أحيانا ذلك القاضي الجالس على عرشه، أو ذلك المحامي بصوته المدوي، و أحيانا المتهم الواقف في قفص الاتهام في ثبات بوصفه بطلا و سبب تلك الدراما كلها !

و استقر رأيي على أن أكون قاضيا.فهذه الهيبة و الرهبة. و هذه الدقة و المتابعة و اليقظة. ثم أخطر و أصعب شيء:حين يخلو إلى نفسه، و قد سمع أقوى الحجج من الجانبين، و عشرات الشهود المتناقضينـ و كيف يمسك من وسط هذا كله بخيط الحقيقة،و تصدر من فهمه الكلمة حاسمة و نهائية.
على أنني حين دخلت كلية الحقوق فعلا، دخلت في الواقع الجامعة بأكملها، و تفتحت أمامي مع سنوات الشباب كل فروع المعرفة.و كنت أحضر محاضرات كلية الحقوق و كلية الآداب و أحيانا غيرها.و تلك ميزة الجامعة.إنها تعطيك كل المفاتيح.هذا ما يفرقها عن المدرسة. و حين يقرأ المرء الأدب و الفلسفة و مذاهب الفكر المتلاطمة يجد أن العثور على الحقيقة ليس سهلا.بل إنه يكاد يكون مستحيلا ؟ هذه مجالات تعلمك أن لكل رأي ألف وجه، و أن كل موقف له ألف تفسير.و أن المذنب قانونيا قد يكون هو البريء فكريا أو اجتماعيا أو حتى فلسفيا. و وجدت أن مهنة القضاء صارت لا تناسبني.إنها مهنة مستحيلة.أي عذاب و أرق و ألم يكابده المرء حتى يقول " هذه هي الحقيقة " ! مستحيل..إنها ضد طبيعتي،عمل كل الموازنات، و حساب كل الاعتبارات، سوف يفضي بي إلى الشلل...
و اتجه ذهني إلى ذلك المترافع البليغ.إنه يأخذ جانبا واحدا و يحاول إثباته. و هذا أمتع و أسهل و أفخم حتى لو كان يدافع عن قاتل.فقد قرأت أيامها- فيما قرأت من كتب المحامين الكبار – كلمة لمحام إنجليزي كبير يقول " حين يقف المتهم في القفص ، مجردا من كل سلاح، محروما من أي صديق ، و العالم كله يشير إليه بأصابع الاتهام.هنا لا بد أن يقف إلى جانبه شخص.هذا الشخص هو المحامي.و في هذا الموقف يكمن دوره المقدس ! ".ما أعظم هذا !
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
المحامي

و لكني حين تخرجت من كلية الحقوق، و من الجامعة كلها،لأنني مرة أخرى، كنت أشعر أنني طالب بالجامعة كلها(...)اكتشفت أن مهنة المحاماة هي آخر ما يناسبني ! على الأقل  ذلك النوع من المحاماة.فليس من طبيعتي الانطوائية أن أواجه الجمهور، و أتحدث كأنني على خشبة مسرح !ثم إنني كنت أقل من السن القانونية لممارسة المحاماة ! ثم إن الكلمة المكتوبة صارت أوسع انتشارا من أعظم كلمة تقال في قاعات المحاكم !
و كان حظي من ممارسة القانون أصعب جوانبه،بالنسبة لي: وكيل نيابة.مهمتي أن أضيق الخناق على المتهم، و أن أثبت جريمته، بدل أن أثبت براءته. و مرة أخرى جريمة بالمعنى القانوني، التي قد يكون في نفسي ألف سبب ضد اعتبارها جريمة.
و بعد سنوات قليلة قفزت من زورق القانون بشكله المباشر، إلى زورق الصحافة و الكتابة..و البحث عن الحق و الواجب و القانون بمعانيها الأوسع.
و بعد..
فقد بدأت هذا الحديث و في ذهني أن يكون حديث ذكريات عن أساتذة عظام، حتى و إن خالفتهم الرأي..و لكنني سرت وراء فكرة القانون، ربما لأنها ناقصة في حياتنا،أو لأنها غير مفهومة على وجهها الحقيقي. و لكني قبل أن أستطرد وراء فكرة القانون، استأذن في رواية الذكرى القانونية الوحيدة بعد تفرغي للصحافة...
كان المرحوم عبد الرزاق السنهوري باشا، أكبر عقل قانوني أنتجه العالم العربي في هذا القرن [ العشرين ] بغير شك.و لم ألحق به تلميذا في كلية الحقوق، و إن كانت كتبه ظلت هي الأساس في [أي ] مجال كتب فيه.و إذا كانت شهرته في القانون عالمية، فإنني كنت أراه من أفصح من كتبوا باللغة العربية.فكانت كتاباته القانونية من أرقى الكتابات الأدبية في تقديري.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
عبد الرزاق السنهوري( 1895-1971)
و لم أكن – على البعد طبعا – من المعجبين بدوره في الحياة العامة، سواء في آرائه في التعليم كوكيل لوزارة المعارف، أو لتعاطفه مع أحزاب الأقلية ضد حزب الوفد.
فلما تأسس مجلس الدولة لأول مرة، و كان أول رئيس له، قبل ثورة 23 يوليو 52 بسنتين تقريبا، صار بطلا قوميا لدى كل فئات الشعب في مصر.
كانت المعركة السياسية على أشدها قبل الثورة، و كانت معظم المواجهات السياسية تنتهي إلى مجلس الدولة[باعتبارها أعلى محكمة إدارية في مصر]، و كان يصدر أحكاما قضائية بلغت القمة في شجاعتها و نزاهتها، و دقتها في مراعاة القانون، و عمقها في تطبيق " روح القانون "، و هو الأصعب و الأهم.كانت رئاسة مجلس الدولة إحدى التحولات الكبرى في حياة مصر قبل الثورة.
و بعد الثورة ، اقترب منه منصب أول رئيس لجمهورية مصر اقترابا شديدا، و لكن تقلبات الثورات في أيامها الأولى عصفت به، و انتهى معزولا ، جالسا في بيته، غير مسموح حتى بذكر اسمه في صحيفة.
و كنت كاتبا صحفيا مبتدئا. و ذات يوم اتصل بي المستشار المرحوم زكي بك حسين، و كان صديقا لأبي.و قال لي أنه جاء ذكري في حديث مع السنهوري، و أنه أبدى إعجابا بما أكتبه كاسم جديد، و أنه يجب أن يراني. و كان الرجل و قد انسحبت عنه الأضواء لا يزور و لا يزار.
و وجدت في ذلك تشريفا عظيما... و ذهبت لجلسة هادئة في بيته في مصر الجديدة، كان لها وقع التنويم المغناطيسي. و اتفقنا على أن أزوره عصر كل خميس. و قد واظبت على ذلك حتى سافر في مهمة ،حين استعانت به حكومة الكويت.
ذكرت هذه الواقعة،لأنني لم أر في حياتي رجلا تجسدت فيه روح القانون مثل السنهوري.لست أتحدث هنا عن علمه و مؤلفاته و آثاره. و لا حتى عن الحوار معه حين يكون حول القضايا الجدية. و لكن،حتى حين يكون الحديث حول أبسط الأشياء اليومية،يشعر المرء أن هذا الرجل قد " تشرب " روح القانون. حتى عقله لا يتحرك و يعمل في الصغيرة و الكبيرة ، إلا  و قد نهل من هذا المنبع. كان قد ترك الدنيا و السياسة و عواطفها و انفعالاتها و صار عقلا خالصا و ضميرا خالصا.أي حكاية يأتي ذكرها ، لا تلبث، إذا علق عليها ، أن تجدها و كأنها كانت كومة من الأشياء ، و قد انتظمت فجأة ، و وضعت كل جزئية في مكانها بسحر ساحر.
و كان رحمه الله يحثني وقتها على ترك الصحافة، التي لم أبدأها إلا من قريب ، بعد أن عر مني أنني سجلت رسالة دكتوراه في السوربون بباريس ،عن مرحلة من تاريخ مصر السياسي، و كان ميله الغريزي إلى أن بحثا طويلا ممتعا هو أعظم شيء.و لكن التيار جرفني إلى مجرى الصحافة بغير رجعة..
و ما أقل  ما نختار ما نفعله في هذه الحياة...
و لكن.. ماذا عن القانون  و عن روح القانون ؟
كنا نظن في بدء دراسة القانون أنه نصوص. و أن الدنيا تتغير بتغيير النصوص.العدل يسن بقانون، الظلم يزول بقانون.الخطأ يحدد بقانون. و الصواب يحدد بقانون.
كلا...علمتنا الأيام، و علمنا الأساتذة الكبار، أن القانون شيء غير هذا، شيء أعمق و أبعد من هذا بكثير.
القانون الجدير بهذا الاسم هو المعبر حقا عن روح المجتمع، الصاعد من أعماقه، تماما كالتعبير الفني حين يكون صادقا..
بدليل أن هناك مجتمعا فيه قانون غير مكتوب " عادة " أو تقليدا، يعيش قرونا محل احترام الناس و مراعاتهم.
في حين أن هناك قانونا يحمل كل أنواع الأختام .ختم حاكم أو ختم برلمان . و لكنه لا يحظى بأي اعتراف أو احترام من الناس، حتى من يوم صدوره.
ليست كل ورقة تحمل [ختم] سلطة تشريعية أو تنفيذية، قانونا بهذا المعنى.
قانون بمعنى الفرض، نعم.قانون بمعنى قرار السلطة، نعم. و لكنه ليس قانونا ، بمعنى تعبيره عن روح المجتمع، و اتساعه لرغباته و أمنياته، و تجاوبه مع أفئدة الناس في هذا المجتمع.
لذلك ترى أحيانا قوانين تهطل كالمطر، لكن سرعان ما تجففها الشمس، و تمسحها الرياح...
و ترى قناعات الناس ي تصرفاتهم، تسير ي مسالك أخرى تماما...
و نرى قوانين تنقل من الكتب، أو تؤخذ من بلاد شتى متنافرة، كمن ينتقي أصنافا من دكان العطار، و لكنها تبقى غريبة.
هل تورع شجرة بلاستيك مصطنعة، و تثمر؟ مستحيل.
هل تزرع شجرة حقيقية في أي مكان؟ إن كل نبتة لها بيئة و طقس [تحكم] عليها بالعقم أو بالإثمار.
كذلك القانون...
أحمد بهاء الدين
حديث الشهر-العربي- العدد 260
شعبان 1400هـ/يوليو 1980
ص ص6-11
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون

أحمد بهاء الدين(1996-1927)، صحفي مصري و مفكر عربي كبير، غني عن التعريف.رأس تحرير مجلة العربي، بعدوفاة أحمد زكي- رحمهما الله-؛..و لعله كان واحدا من أهم صناع الرأي في العالم العربي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين.اقرأ سيرته، .. في موسوعة وكيبيديا.