الأربعاء، 25 سبتمبر 2019

كيف تكتب أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟ ما هي أهمية أطروحة الدكتوراه؟ كيف تختار موضوع الأطروحة في التاريخ؟ ما هي العوامل التي قد تؤثر في اختيارك له؟ كيف تختار الفترة التاريخية موضوع البحث؟ كيف تختار مصادر و مراجع البحث؟ كيف تقيّمها؟ كيف تصيغ إشكالية البحث؟ كيف تضع تصميمه؟


كيف تكتب أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟ ما هي أهمية أطروحة الدكتوراه؟ كيف تختار موضوع الأطروحة في التاريخ؟ ما هي العوامل التي قد تؤثر في اختيارك له؟ كيف تختار الفترة التاريخية موضوع البحث؟ كيف تختار مصادر و مراجع البحث؟ كيف تقيّمها؟ كيف تصيغ إشكالية البحث؟ كيف تضع تصميمه؟

الكثير من  طلبة العلم يحلمون بإعداد أطروحات لنيل الدكتوراه، في أحد  ميادين المعرفة العلمية.ذلك أن إنجاز هذا النوع من البحوث، و إتمامه، بطريقة مرضية، يعتبر أفضل تتويج للمسار الجامعي لكل طالب و طالبة،هذا من ناحية، و من ناحية أخرى-ربما أكثر أهمية-،فالنجاح في هذا المشروع،يعد أكبر دليل على توافر صاحبه أو صاحبته،على قدرات و مهارات علمية و تنظيمية،  تؤهله لأن يدلي "باجتهادات ذات قيمة و وزن" في مجال تخصصه،و من ناحية ثالثة،فالدكتوراه،كشهادة علمية،تؤهل حاملها أو حاملتها،في الكثير من الدول المحترمة، لتولي أعلى و أسمى  المناصب القيادية، لاسيما في المجالات التي لها علاقة بالإنتاج العلمي و الفكري و التبربوي و الثقافي.
ما يهمنا ، هنا و الآن،من كل هذا، أن أطروحة الدكتوراه، هي بإجماع آراء ذوي الاختصاص، أكثر البحوث الجامعية أهمية و جدية، و أكثرها صعوبة أيضا.ذلك أن لها ميزة أساسية تميزها عن سائر البحوث الجامعية؛وهي أنها عمل إبداعي،في المضمون على الأقل.ففي أبسط تعريف لها من الناحية الأكاديمة،تعتبر الأطروحة "بحث عميق، يضيف حقيقة إلى المعرفة البشرية"، حقيقة جديدة في ميدان من الميادين.فهي إذن، ليست طريقة لتجميع " الحقائق المكتسبة"، و إعادة تنظيمها و عرضها بطريقة من الطرق.فالأطروحة، قد يكون لها من القوة و التأثير ، أحيانا، أن تحدث "ثورة" في التفكير العلمي، أو على الأقل ، تغير الكثير من المفاهيم الراسخة، و تكرّس مكانها، مفاهيم جديدة، لمدة طويلة من الزمن.
و لذلك،فقلة من الباحثين، هم الذين ينجحون في إعداد أطروحات ممتازة.و في معظم الحالات،يحتاج طلبة الدكتوراه إلى من يساعدهم و يرشدهم، إلى أفضل الطرق و أكثرها فعالية و نجاعة، لإعداد الأطروحات الجيدة.
و علم التاريخ، مثله مثل جميع العلوم الأخرى، يحتاج في دراسته و بحثه إلى المنهجية العلمية.في الفقرات التالية،يحاول الأستاذ الدكتور طارق الخالدي،أن يأخذ بأيدي الطلبة الذين يعدون أطروحات لنيل الدكتوراه في هذا الميدان، و يمشي معهم في مسار الإعداد، خطوة خطوة، ابتداء من اختيار فكرة الأطروحة، مرورا بصياغة إشكاليتها، إلى أن يكملوا كتابتها. 
***
كيف تعد أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟

[...] نستعرض في هذا الباب المختصر، بعض المسائل العملية التي تواجه طلاب الدراسات العليا، عندما يحين الوقت لكتابة الأطروحة أو الدراسة المطولة في التاريخ.و في أيامنا هذه[بداية ثمانينات القرن الماضي] تتراوح الفترة التي تستغرقها كتابة الأطروحات الجامعية بين سنتين إلى خمس سنين في الغالب.و هذه السنوات يصرفها الطالب في البحث و التفكير، يقتطعها من عمره و نشاطه، و قد تكون من أصعب سنوات حياته ماديا و نفسيا و فكريا.لذا فإن اختيار موضوع الدراسة بدقة، و تصميم البحث بعناية، يوفر على الطالب إضاعة الوقت الناتج عن الانتقال بين موضوع و آخر، إذ كثيرا ما يصرف الشهور الطوال في التنقيب عن موضوع معين ليكتشف في النهاية أنه ليس الموضوع الملائم، لسبب من الأسباب.
من هنا، فإن التمهل في انتقاء الموضوع، أسلم من الإسراع في ذلك، فلا بأس إن أمضى الطالب بضعة شهور في استعراض المشاكل المتعلقة بالمواضيع المختلفة ، قبل أن ينتقي موضوعه النهائي، فذلك أنفع له من إضاعة الوقت في القفز من موضوع إلى موضوع على غير هدى.
و انتقاء الموضوع يتم في الغالب لأسباب عديدة ، و يكون البعض منها ، أحيانا، ذي صلة بالموضوعية ، كأن تستهوينا فترة معينة أو شخصية معينة، فنتجه إليها ، كمن يتجه إلى صديق قديم أو إلى أرض مألوفة.
لكن، بالرغم من وجود العوامل النفسية المعقدة في اختيار الموضوع، فإن هناك بعض العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.ففي المقام الأول، هناك الخبرة السابقة.فإذا كان الطالب قد أظهر ميلا نحو علم الاقتصاد في حياته الجامعية، فقد يحسن صنعا إذا اختار موضوعا في التاريخ الاقتصادي، و قد يتشجع أكثر إذا عرف أن التاريخ الاقتصادي العربي لا يزال إلى الآن حقلا يحتاج إلى العديد من العاملين فيه.و هكذا، طبعا، بالنسبة إلى العلوم الأخرى، كالزراعة أو الطب أو علم الاجتماع أو الفلسفة أو ما شابه.و هذا الانتقاء للصنف التاريخي الملائم يمثل في الواقع الخطوة الأولى و الأهم نحو الهدف.
و هناك في المقام الثاني، الفترة التاريخية: هل يتجه إلى الوسيط أم إلى الحديث؟ و هذا الاختيار له أيضا، ملابسات هامة.ففيما يتعلق بالتاريخ العربي، فإن انتقاء الفترة الوسيطة يعني أن على الطالب أن يقرأ العديد من المصادر العربية القديمة النثرية و الشعرية، و هو أمر لا يعرف صعوبته إلا من عاناها.كذلك، فإن بعض المؤرخين يرى، و رأيهم جدير بالاعتبار، أن التاريخ الوسيط ينفصل عن الحديث انفصالا عظيما، و ذلك بسبب هوة اسمها الثورة الصناعية.فالعالم الصناعي، في رأيهم، يختلف اختلافا جذريا عن العالم ما قبل الصناعي، ليس فقط في أنماط الحياة بل و في الطبيعة البشرية كذلك.من هنا، فإن التاريخ الوسيط يتطلب خيالا أوسع، أو على الأقل، خيالا مختلفا عن الخيال الذي يستخدمه المؤرخ في الكتابة في العصور الحديثة.
و مع اختيار الحقل و الفترة ، يكون الطالب قد وصل إلى منتصف الطريق أو يكاد، نحو تحديد الموضوع نهائيا. و هذا التحديد يجري، في رأيي، حسب بعض المبادئ العملية، فهناك مثلا الاختيار بين موضوع واسع و موضوع ضيق.فإذا افترضنا على سبيل المثال أن الاختيار قد وقع على موضوع نشوء القومية العربية، فمن المستحسن أن يقتطع الباحث جزءا صغيرا من هذا الموضوع، لكي يركز البحث في الزمان و المكان، فالتركيز على قطر واحد ، و في زمن قصير، يكسب البحث عمقا و دقة.القاعدة إذاً هي تركيز الموضوع و تضييقه ما أمكن[ راجع ما كتب عن إشكالية البحث، في هذا الموقع]، و هذا ينطبق على الأخص على الأطروحات الجامعية، فالمؤرخ عليه أن يحسن استعمال المجهر قبل أن ينتقل إلى المرصد.
و بعد تحديد الموضوع، ينتقل الطالب أولا إلى المصدر الثانوية، أي الدراسات الحديثة و المعاصرة، و ذلك لتكوين فكرة عامة عن الموضوع.و يستحسن، في هذا الصدد، أن يقرأ الطالب بعض الكتب الهامة التي تعالج مواضيع مشابهة لموضوعه، بدون أن تكون حول موضوعه مباشرة، و ذلك للاطلاع على مناهج مختلفة في معالجة موضوع مشابه.فإذا افترضنا المثال الوارد أعلاه، أي أن الطالب قد اختار موضوع " نشوء القومية العربية"، فمن المفيد أن يطلع على كتب مشهورة تعالج موضوع نشوء القومية الإيطالية و الألمانية مثلان و ذلك لاستيحاء الطريقة التي يعالج فيها المؤرخون البارزون موضوع نشوء القوميات عموما.
و عندما يبدأ الموضوع بالاختمار في الذهن من خلال دراسة المصادر الثانوية، يحين الوقت لوضع تصميم للبحث[ راجع ما كتب في هذا الموقع، عن التصميم و أنواعه].و هذا التصميم ليس بالشيء الثابت، لأنه يتطور مع تطور البحث و سير الدراسة، لكنه أمر ضروري حتى يتسنى للطالب أن يتلمس طريقه عند الدخول إلى المصادر الأولية،أي المصادر و الوثائق التي تنتمي إلى نفس الفترة الزمنية التي هي موضوع البحث.و تصميم البحث هو في الواقع فهرس المحتويات، هو الهيكل العظمي الذي تبنى عليه الأطروحة، هو تقسيم أجزاء البحث بحسب أهمية كل جزء من هذه الأجزاء.لذا ،فإن البحث المتزن يجب أن يكون متزنا لا في مضمونه فحسب، بل و في شكله أيضا.
التصميم الجيد إذا يطال الكيف و الكم معا، فإن شيطان النقد لا يرحم المؤرخ الذي يسمح لجزء من أجزاء الموضوع أن يطغى على الكل.فإن كنا نكتب عن السلاجقة في الشام في مئة صفحة، فلا يمكن لنا أن نكرس ثلاثين صفحة منها لتاريخ السلاجقة على وجه العموم. و إن كنا نكتب سيرة صلاح الدين الأيوبي، فلا يمكن أن نكرس بابا واحدا لحروبه مع الصليبيين ، و تسعة أبواب لحروبه مع أمراء المسلمين الآخرين، كما فعل أحد المستشرقين في كتاب صدر حديثا[ راجع ما كتبناه عن مبدئي التوازن و التوازي، في كتابة البحوث..].
و حين يكتمل التصميم استنادا إلى دراسة الموضوع من مصادره الثانوية، تأتي أخيرا مرحلة الولوج في المصادر الأولية، بعد أن يكون الباحث قد هيأ نفسه لذلك.و إذا كان موضوع البحث يقع في التاريخ العربي الوسيط، و وصل الطالب إلى أن يضع لائحة بأسماء المؤرخين و كتبهم التي تهمه، من المفيد بادئ ذي بدء أن يتعرف إلى سيرة هؤلاء من خلال تراجمهم في كتب الطبقات، كإرشاد الأريب ( المعروف بمعجم الأدباء) لياقوت الحموي، و وفيات الأعيان لابن خلكان، للاطلاع على حياة المؤرخ و أساتذته و تلاميذه و محيطه و كتبه الأخرى و المنهج الذي اتبعه في الكتابة و إلى ما هنالك.و دراسة التأريخ و المؤرخين في الفترة المختارة هي في الغالب المدخل الأفضل لفهم الفترة بشكل شامل و عميق، كما أن العديد من الأطروحات التاريخية، تعقد فصلها الأول لدراسة المصادر، و هذا أمر مستحب و ضروري لتعميم الفائدة.
و هكذا يسير البحث عبر مراحل ثلاث: مرحلة المصادر الثانوية، ثم مرحلة تصميم البحث، ثم مرحلة المصادر الأولية.و تتلاشى المرحلة الأولى تدريجيا أما التصميم ،فإنه يلازم البحث حتى النهاية، متأرجحا في شكله و في نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، حسبما توحي به المصادر الأولية، و إلى أن يكتمل البحث نهائيا.و الأطروحة الجامعية الجيدة، تكون في العادة نتاج تفاعل فكري بين المشرف و الطالب، فلا يجوز أن يفرض الأول موضوعا معينا على الثاني، و العكس.كما أن دور المشرف ينحصر في توجيه الطالب نحو المصادر الثانوية و الأولية، و من ثم الإشراف على تصميم الأطروحة و اتزانها و منطقها.أما المضمون، فإن الطالب هو المسؤول الأول و الأخير عنه، كما أن من المفترض أن يصبح في النهاية" خبيرا" في موضوع بحثه.
و الآن، و قد اقتربنا من نهاية هذه الملاحظات حول التاريخ، فقد يكون من المناسب أن نختتم بالكلام عن المصادر و الهوامش في التاريخ [ راجع ما كتبناه، في هذا الموقع، عن أنواع المصادر و المراجع، و كيفية تقييمها..].
إن المصادر و الهوامش تشكل الجانب التمحيصي ( إذا صح اللفظ) من العمل التاريخي.فقد اعتاد بعض المؤرخين، و أنا منهم، أن ينظروا في بادئ الأمر إلى الهوامش و المصادر عندما يقع بين أيديهم كتاب جديد.و ليس في الأمر غرابة، لأن المصادر و الهوامش في العمل التاريخي، تشبه اللمسات الأخيرة التي ننظر إليها أولا عندما نشتري سلعة ما.العديد منا، ينظر إلى اللمسات الأخيرة، و من ثم ينظر إلى السلعة ككل، قبل أن يعطي رأيه النهائي فيها.لذا فإن الكلام في موضوع الهوامش و المصادر هو من قبيل " أخيرا لا آخرا".فربّ عمل تاريخي جيد شوهته مصادره و هوامشه، لأن المؤلف أرسل به إلى الطبع دون أن يكلف نفسه مشقة الانتباه الدقيق إلى لمسات عمله الأخيرة.و ربّ عمل تاريخي سيء، غفرت له بعض ذنوبه المصادر و الهوامش التي صاغها المؤرخ بدقة فأفادنا على الأقل بأسماء بعض ما قد غاب عنا من أسماء المصادر.
و فيما يختص بالمصادر الثانوية، فإن الطالب يستقيها في البدء من الأستاذ المشرف، لكن كشاف المصادر في الكتب التاريخية الجيدة، كثيرا ما يرشدنا إلى مصادر أخرى ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع البحث.و حتى لا يضيع الوقت في قراءة مصادر ثانوية، لا قيمة لها، على الطالب أن يحسن تقييم الكتاب الذي يقع بين يديه، قبل أن يبدأ بقراءته، و ذلك بإلقاء نظرة سريعة عليه في شكله و مضمونه: من المؤلف؟ من الناشر؟ ما تاريخ النشر؟ هل فيه قائمة بالمصادر المستعملة؟هل فيه هوامش؟ هل هو مفهرس جيدا؟ هل له تصميم منطقي واضح من خلال دراسة فهرس محتوياته؟ هل الأسلوب رصين و علمي أم هو عاطفي متحيّز؟ أما فيما يختص بالمصادر الأولية، فمن الضروري الاعتماد على الطبعة الموثوقة عند الباحثين، دون سواها،مخافة إضاعة الوقت في الاعتماد على طبعات غير علمية. و لا بد لكل طبعة علمية أو تحقيق علمي من مقدمة يصف فيها المحقق المخطوطات التي اعتمدها و لابد لها من هوامش توضح الاختلافات بين المخطوطات، كما لا بد لها من فهارس للأعلام و الأماكن و إلى ما هنالك.
هذه بعض الإشارات التي تساعد على التمييز بين الصالح و الطالح من المصادر.أما فيما يختص بالهوامش فعلى الطالب أن يحدد وظيفة الهوامش بدقة.فالهوامش هي الاستشهاد أو الإيضاح أو الإضافة، و ليست أبدا للتبجح أو الحشو.و الاستشهاد يكون غما بنص أو برأي، أما الإيضاح و الإضافة فنعني بهما تلك الأمور الهامة التي لا مجال لإيرادها في النص، و لكنها قد تهم الباحثين في مواضيع لها صلة بالموضوع الأساسي.أما التواريخ المعروفة و الحوادث المتواترة ، فلا حاجة للدلالة عليها في الهامش.و لا يوجد أي مقياس يحدد لنا بالضبط كمية الهوامش اللازمة ،فإذا أكثرنا من الاستشهاد بدت الأطروحة و كأنها فسيفساء من آراء الآخرين، أما إذا كان الاستشهاد قليلا، فإن الأطروحة قد تبدو و كأنها معلقة في الهواء الطلق.
الدكتور طريف الخالدي- بحث في مفهوم التاريخ و منهجه- دار الطليعة- بيروت 1982- ص ص 83-88.