في ما يلي، مقال بالغ الأهمية، كتبه المفكر العربي الأستاذ الدكتور الرميحي، رئيس تحرير مجلة العربي الأسبق، حفظه الله.و لأهميته، قررت إعادة نشره هنا، للتذكير بمحتواه،مصداقا لقوله تعالى:" فذكّر إن الذكرى تنفع المؤمنين"، صدق الله العظيم..
***
***
الخطاب العلمي العربي*
بقلم الدكتور محمد الرميحي
في ندوة عقدت بالكويت في ربيع 1981 عن الإبداع العلمي العربي الإسلامي – شارك فيها مجموعة كبيرة من ا لعلماء العرب و المسلمين الأجانب – وقف العالم الباكستاني المسلم الأستاذ محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 1979.وقف ليقول:" لقد كان عليَّ أن أختار في الخمسينات بين أن أبقى في باكستان أو أبقى في دراسة الفيزياء، و اخترت الأخيرة".
![]() |
عالم الفيزياء الباكستاني محمد عبد السلام(1926-1979) |
و كانت الإشارة واضحة، فهذه الكلمات القليلة تمثل أزمة العلماء و المشتغلين بالعلم في العالم الثالث اليوم، لأن هناك أسبابا كثيرة، و كثيرة جدا، تدفع العلماء في العالم الثالث طائعين أو مجبرين أن يتركوا بلادهم حتى يستطيعوا أن يشبعوا رغباتهم في الانجاز .لقد أردف وقتها، ذاك العالم الشهير بالقول:" لقد جئت هنا أتوسل إليكم أن تعطوا الأولوية القصوى للإبداع العلمي، و هي الخطوة الأولى و الأساسية إن أردتم اللحاق بركب التقدم العلمي".
قبل ذلك بعشر سنوات سمعنا نداء مشابها في قالب تعبيري مختلف في مؤتمر عقد بالقاهرة لتدريب العلميين، و يومذاك قال نائب مدير اليونسكو "مالكو أديشيا"- و هو هندي -:" إن أمريكا أنزلت رجلا على القمر على حساب إفقار دول نامية كثيرة من العلميين".
و لقد تكاثرت الكتابات و النداءات للاهتمام بالعلم و البحث العلمي، و بالعلميين في الوطن العربي و في دول كثيرة من العالم الثالث، ذهب جلها أدراج الرياح مع الأسف، دول محدودة فقط في العالم الثالث التفتت إلى هذه القضية و أولتها اهتماما خاصا في إطار خططها التنموية.
و الوطن العربي اليوم يقف أما تغيرات هائلة تستوجب إعادة طرح السؤال من جديد: و ماذا عن العلم و البيئة العلمية و البحث العلمي بالمعنى الواسع الشامل؟
العرب المسلمون و العلم !
لعل من نافلة القول ترديد ما كان للعرب و المسلمين في تراثهم من باع طويل في رعاية العلم و البحث العلمي شهد بها المنصفون من علماء الغرب قبل الشرق، و لعلنا نذكر على وجه التخصيص موسوعة جورج سارتون[(G.Sarton)(1884-1956) ] في تاريخ العلوم، و الذي اختار أن يقسم فيها تاريخ العلم إلى فترات تبلغ الخمسين سنة لكل فترة و يربطها بإحدى الشخصيات العلمية البارزة في ميقاتها، فعلى سبيل المثال ربط سارتون فترة 450-400 قبل الميلاد - و ما بعدها بأرسطو و العلماء الإغريق من بعده، ثم أورد الفترة الصينية.أما الفترة من سنة 750 م إلى 1100 ميلادية- " 350 سنة متواصلة " فكانت للعلماء المسلمين دون منازع، و تبرز فيها أسماء مثل :جابر بن حيان، الخوارزمي، الرازي، المسعودي، البيروني، ابن سينا، ابن الهيثم..إلخ، من مستوى هؤلاء العلماء.و بعد 1100 سنة ميلادية فقط يظهر أول الأسماء الغربية في موسوعة جورج سارتون- و لكن لقرنين و نصف يظل الشرف العلمي في الغرب شركة مع علماء مسلمين مثل ابن رشد و الطوسي و ابن النفيس.
لفد كان الاهتمام بالعلم و المعرفة جزءا من فطرة المجتمع العربي الإسلامي و سمة لتقاليده، حتى أنه روى عن المعلم أبي الريحان البيروني (ت 442ه/1048 أو 1050م) على لسان أحد تلاميذه أنه قال:" لقد بلغني أن البيروني كان في حضرة الموت، فأسرعت إلى منزله أملا في أن أراه للمرة الأخيرة، و سرعان ما تحققت أنه لن يعيش طويلا ، و عندما بلغه قدومي فتح عينيه و قال: ألست فلانا؟ فأجبت بالإيجاب و عندها قال: بلغني أنك قد توصلت إلى حل مشكلة معقدة في قوانين الإرث في الإسلام، ثم أشار إلى مسألة معروفة استعصى حلها لزمن طويل، فلم أتمالك نفسي و قلت: و لكن في هذه الظروف يا أبا الريحان ! و كان جوابه: " ألا ترى أنه خير لي أن أموت عالما بالأمر من أن أموت جاهلا به؟". و بقلب مملوء بالأسى، أخبرته بكل ما عندي ثم استأذنته و انصرفت، و لم أكد أبرح باب داره حتى سمعت صائحا من داخل الدار يقول: إلى رحمة الله يا أبا الريحان! ".
أبو الريحان البيروني،يعد من أكبر العلماء في تاريخ البشرية.
احتفل العالم بذكراه الألفية احتفالا مهيبا،فتعددت المؤتمرات ة الندوات التي عقدت لتكريمه،لاسيما
في البلدان التي اعتقد أنه ولد أو نشأ فيها:أفغانستان، و إيران، و باكستان، و الاتحاد السوفياتي
لعل هذه القصة- و من أمثالها الكثير في تراثنا العربي الإسلامي – تؤكد حقيقة أثبتتها الدراسات الكثيرة ، و هي حرص هؤلاء الأجلاء على متابعة البحث العلمي دون كلل أو ملل.
و لعل القضية الأخرى اللصيقة باحتضان العلم و البحث العلمي في تراثنا، أن علمائنا الأوائل لم يكونوا فقط ناقلين، بل أضافوا و جددوا و نقدوا ما جاء إليهم من علم حضارات سبقتهم- و تلك حقيقة لا تقبل الجدل – فقد أصبح اقتران العلم العربي الإسلامي بتاريخ العلوم شرطا لضمان موضوعية هذا التاريخ، و كذلك لفهم أفضل للفترات التي أعقبت النهضة العلمية العربية.
الانقطاع و التواصل:
ما غاب عنا حتى الآن، و مازالت كتاباتنا تمر عليه مرور الكرام – هو الإجابة المنطقية العلمية عن هذا السؤال: لماذا انقطع التراث العلمي العربي الإسلامي و ضعفت جذوته ثم اختفت خلال فترة القرون الطويلة التي لحقت القرن الحادي عشر الميلاد؟
هناك بعض الاجتهادات، و لكن لم يتقدم أحد – حسب علمي حتى الآن[ 1986]- بتفسير منطقي واضح للأسباب الداخلية التي شلت النشاط العربي الإسلامي العلمي.
لقد تنبه العالم الإسلامي و الأمة العربية في القرن التاسع عشر و ما بعده على حقيقة مفادها أن الهوة العلمية و التقنية تزداد في الاتساع بيننا و بين الغرب إلى درجة أن تلك الهوة أوقعت كثيرا من بلادنا في قبضة السيطرة الغربية، و لكن الجهود العديدة في تخطي تلك الهوة و مجاوزتها كانت تبوء بالفشل مرة تلو الأخرى، فالسلاطين العثمانيون و محمد علي و حكام آخرون اكتشفوا بشكل أو بآخر أن المعادلة في طرفي الهوة هي في ضعفنا العسكري و الاقتصادي، كما تكن أيضا في حقيقة التخلف العلمي و التقني. و عرفوا أيضا أن القوة التي يواجهونها هي قوة العلم في شكل سلاح و تنظيم و تدريب.كذلك اكتشفوا أن العلم و التقنية ليسا في توفير الوسائل العسكرية للدفاع فقط، و لكن كذلك في الغذاء و الزراعة و الإسكان و الصحة و الصناعة و التربية، أي في كل مناشط الحياة.
منذ ذلك الوقت، و لقرن و حتى اليوم، أصبحت صيحة العلم و البحث العلمي تطرح بشدة أحيانا أو بضعف في أحيان اخرى على الساحة العربية الإسلامية، و كذلك في العالم الثالث. و لكن- كما يبدو- دون تقدم كبير في هذا المجال.
![]() |
السلاح= الحرية، و السيادة، و الكرامة..و أشياء أخرى |
و منذ الحرب العالمية الثانية، حتى يومنا هذا، و قضية العلم و المعرفة العلمية تطرح في وطننا العربي، لقد اقتنعت أقطار عربية عديدة بأهمية البحث العلمي و ما يحققه من فوائد جمة عندما يتضح أثرها في الواقع الملموس، و أن العلم يمكن تسخيره في التنمية و الإعمار، و قد شغلت معظم هذه الأقطار العربية بإنشاء مراكز العلوم و مجالسها..و لكن ما نتيجة كل تلك الجهود؟
في بداية الثمانينات نجد تعليقا لأحد المختصين و المتابعين لهذا المجال هو الدكتور أسامة الخولي[1923-2002] ، يجيب فيه إجابة واضحة عن التساؤل الأخير فيقول:" لم ينجح قطر عربي واحد في إرساء دعائم وطيدة لنموذج بناء القدرة الذاتية و تسخير العلم لخدمة التنمية مثلما فعلت دول في العالم الثالث مثل :كوريا أو تايوان أو المكسيك أو بلغاريا على سبيل المثال"[1].
فالجهود المبذولة كلها أو جلها قد اعتورها القصور فبانت إما معطلة أو مبتورة بحيث لا تصل إلى نتائجها الحاسمة.تلك الخلاصة طبعت تساؤلا مهما:لماذا لا ننهض من جديد بمسيرة علمية حقيقية و شاملة؟
فالجهود المبذولة كلها أو جلها قد اعتورها القصور فبانت إما معطلة أو مبتورة بحيث لا تصل إلى نتائجها الحاسمة.تلك الخلاصة طبعت تساؤلا مهما:لماذا لا ننهض من جديد بمسيرة علمية حقيقية و شاملة؟
***
و ما زالت هناك أسئلة تطرح حتى الآن:
ما هي أولوياتنا في العلم و التقنية؟
كيف نهيئ الإنسان العربي للعطاء العلمي؟
من المسئول عن تمويل البحث العلمي و إعداد الكوادر المؤهلة لذلك؟
و بعض الأسئلة القديمة مازالت تطرح أيضا:
هل العلم ضروري إلى هذه الدرجة؟
و إذا كان باستطاعتنا الحصول على نتائج التقنية من العالم المتقدم فلماذا نبحث من جديد في اكتشافات علمية؟
بل مازال بعضنا يشكك في أن التفكير العلمي مناقض لبعض القوانين في تراثنا.يريدون بهذا الطرح أن يثبطوا همتنا مرة تلو أخرى و كأن الحقائق العلمية المتغيرة و المتطورة تهدد ما ورثناه من ثوابت. و تلك لعمري مقولة مسيطرة عليهم،و لا تمت إلى العلم بصلة، بل تتناقض تماما مع روح دعوتنا الحضارية.
و لكن تبقى الحقيقة المرة بارزة مهما حاولنا طمسها:هي أن افتقادنا للأمن الوطني و القومي نابع من إغفالنا للعلم، و أنه بغير الالتزام بمخطط واضح و صريح، و طويل الأمد،و قومي يحتضن قضية العلم، فليس هناك اطمئنان قريب يضفي على مشاعرنا السكينة و يكفل لنا الأمن العسكري و الغذائي و الثقافي..إلخ.
طبيعة التفكير العلمي:
لعل من الأخطاء الشاسعة بشأن الفكر العلمي أن نسِمه بأنه " مطلق"، فالفكر العلمي نسبي، و ما هو حقيقة اليوم قد لا يكون كذلك بعد فترة من الزمن، فهو نظام فكري يقر النظرة النقدية و التجربة و الملاحظة. و تاريخ العلوم، ليس مجرد تاريخ الاكتشافات العلمية و تطور مفاهيمها، بل إنه تاريخ حرية التفكير و السعي الدائم للتخلص من المطلقات الفكرية عندما تصبح تلك المطلقات عوائق أمام التقدم !
و العلم هو جهد إنساني منظم يحاول فهم ما يجري حول الإنسان في بيئته الطبيعية و الإنسانية.و كان تطور العلم في الاتجاهين الطبيعي و الإنساني متداخلا يرفد بعضه بعضا.هذا الجهد الإنساني متواصل تسلمه حضارة لحضارة، و جيل لجيل، و أيضا ليس هناك من شك بأن القرنين الماضيين شهدا مسيرة منتظمة و صاعدة في تخليص العلم بمعناه الدقيق من العبث و الخرافة حتى تطورت مناهجه. و لقد شهد العلم الطبيعي أيضا- بمعنى العلوم الأساسية و التطبيقية – تطورا بشكل أسرع مما شهده الشق الثاني من العلم، و هو العلوم الاجتماعية ( دراسة الإنسان في نفسه أو في علاقاته و تنظيماته).
إلا أننا اليوم يمكن لنا أن نقرر بارتياح أن العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، قد اكتسبت احتراما و تقبلا نسبيا بعد أن تقاربت في مناهجها و مباحثها مع العلوم الطبيعية.و لكن، لعل كثيرا منا عندما يتحدث عن العلم دون تحديد ينصرف الذهن مع هذا الحديث إلى العلم الطبيعي[ الفيزياء، و الكيمياء، و الجيولوجيا..إلخ] و تطبيقاته [ التكنولوجيا] فقط.
و من المفارقات الطريفة بين العلم الطبيعي و العلم الاجتماعي، أن أهم العوائق و العقبات في مجتمعنا العربي اليوم أمام تقدم العلم الطبيعي و تطبيقاته هي عقبات مجتمعية !
فما زالت بيننا فئات اجتماعية لم تسلِّم بعد بالأركان الأساسية لمتطلبات التفكير العلمي، حيث تتبنى مواقف شديدة الضرر للتقدم العلمي مثل التطير و التشاؤم و الاعتقاد بالخرافات، و أقلها ضررا الاستخفاف بما يمكن أن يقدمه العلم من حلول إيجابية لمشكلاتنا.تلك قضية مجتمعية في وطننا العربي على اختلاف درجاتها في أقطاره.و لعل مؤرخي العلوم يذكرون لنا مثلا آخر في التاريخ حيث توقف النمو العلمي في الصين، و كانت في فترة من فترات التاريخ؛ قمة التقدم العلمي و التقني؛لأن الطلب الاجتماعي على العلم قد تضاءل ثم انكمش لعوامل داخلية و خارجية، حينما تفشت الخرافات، و استشرى داء الجهالة، و خبت جذوة العلم و الفكر.
و مسئولتنا اليوم جميعا، هي حفز الجماهير و استثارة إقبالها على خوض مجالات العلم، لا من أجل مكانة أفضل في المجتمع أو دخل أعلى، و إنما من أجل النهوض العام بهيكل البناء على جميع مستوياته.
البعد الاجتماعي و الثقافي:
ما هي تفاصيل البعد الاجتماعي و الثقافي التي تنشط الإقبال الاجتماعي على العلم و التقنية أو تضعفه؟
إن الخوض في التفاصيل لا شك سوف يؤدي بنا إلى تفريعات كثيرة، إلا أن الحلقات الرئيسية يمكن إجمالها في القول بأن التاريخ قد برهن لنا أكثر من مرة أن العلم يمكن أن يقدم إلى مجتمعات تأخذ باجتهادات اقتصادية و سياسية مختلفة.. و في بعض الأوقات متناقضة، فقد ازدهر العلم في مجتمعات شمولية ، كما ازدهر في مجتمعات ليبرالية،كما ازدهر في مجتمعات تأخذ خطا وسطا بين هذه و تلك.
كذلك في المقابل نجد أن كثيرا من الاكتشافات العلمية ظلت مهملة لسنوات طويلة قبل أن تتحول إلى التطبيق في تقنيات محددة،لأن الحاجة غليها لم تنشط.
كما أن العلم و التطبيقات العلمية، لم يكن ينظر إليها حتى في عصر النهضة الأوروبية نظرة اجتماعية إيجابية، إلى درجة أن الجامعات المحترمة- في بعض دول أوروبا – لم تكن تقبل تخريج ( مهندسين) على أساس أنهم مجرد وسطاء لتطبيق نتائج العلم و تحويله إلى تقنية ![2]
ما أريد أن أقول إن تنشيط الطلب الاجتماعي على العلم و التقنية، لا بد أن يسبقهما خلق وعي عام بأهميتهما في تقدم الحياة و ازدهارها ، و تحقيق الاستقلال الوطني و القومي.
ما مجالات تنشيط هذا الوعي؟
في تقديري المبدئيح أن خلق هذا الوعي يجب ان يتكرس لدى القيادات الفكرية و السياسية، و أن يترسخ في أذهانها إيمان كامل بأهمية بناء القدرات الوطنية و العلمية و التقنية، و أن هذا البناء يحتاج إلى مال و وقت وجهد أيضا.
هناك عزلة حقيقية بين القيادات الفكرية من مثقفين من غير رجال العلم و بين ما يجري في دنيا العلم على أيدي المقتصرين عليه، و بعضهم لا يقدرون أثره في حياتهم و حياة مجتمعهم و عالمهم.فهناك من الناس من هم منصرفون عنه، و البعض مبهور به بغير دراية، و البعض الآخر خليط بين هذا و ذاك، و هذا ينسحب على معظم مراتب القيادات السياسية.
هذه العزلة تتمثل في ظواهر عديدة منها على سبيل المثال الأوضاع الشاذة لتدريس العلوم في أنظمتنا التعليمية، و أذكر – و لعل غيري يذكر معي – كيف كان مدرس الطبيعة في المدرسة الثانوية التي تعلمنا فيها يقدم لنا التجارب العلمية على أنها نوع من السحر أكثر منها قوانين طبيعية.
و في جامعاتنا مازال التعليم العلمي غريبا عن لغتنا و يلبس أثوابا غريبة عن مجتمعنا، و يعالج مشكلات ليس لنا بها علاقة !
و يضاف إلى ذلك ما يثور بين العشيرة العلمية العربية من وجوه النزاع و الخلاف بعضهم مع البعض الآخر، حتى دخلت العلاقات بينهم في نطاق " ما صنع الحداد"، كما يقول المثل.
و الحلقة الأخرى في البعد الاجتماعي الثقافي و علاقته بالنمو العلمي ما اصطلح على تسميته بالتنشئة الاجتماعية، فما زالت هناك علامات استفهام كثيرة.
إن ما يغرس في نفس الطفل من المحيطين به " الوالدان أو أحدهما أو أحد الأقارب المحتكين بالطفل أو أحد المدرسين" في هذه المرحلة المبكرة من طفولته هو ما يبقى و يظهر بعد ذلك في علاقاته مع الناس و المجتمع.
و التناقض الذي يواجه الصغير في معظم مجتمعاتنا العربية من تسامح مطلق في السنوات الأولى من الحياة، و أوامر بالانضباط ترقى إلى التسلط في الطفولة المتأخرة، يشكل في الغالب شخصية ليس لديها الاطمئنان الوجداني ؛ فيشب الولد أو البنت مترددا خجولا يخاف ولوج غير المألوف الذي هو أساس الإبداع مع التنمية العلمية.
و قد عبّر عن هذا المعنى أستاذ الاجتماع العربي "د.سعد الدين إبراهيم"ن حيث قال:" فالمبدع الذي يجهر بإبداعه في مجتمع سلطوي محافظ- مثل المجتمع العربي – هو في الواقع شهيد أو لابد أن يهيئ نفسه للاستشهاد !".
الصحوة العلمية العربية:
المسيرة العلمية العربية خلال الأربعين سنة الماضية، فيها من النجاحات بقدر الإخفاقات، و فيها من الإيجابيات بمثل المثبطات.
فـ"عادل ثابت" في الكتاب الرائع الذي أصدره " مركز دراسات الوحدة العربية" حول تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي يلخص لنا التجربة المصرية فيقول:" لقد وضعت الخطط تلو الخطط – في مصر خلال الأربعين سنة الماضية – و تواصلت الجهود دون تحقيق الكثير من النتائج التي تسهم في حل المشكلات الملحة للمجتمع.
" إن التجربة المصرية توصلت لضرورة النظر إلى التقنية بشكل جاد و موضوعي وفقا للدراسة المتأنية الشاملة التي تشترك فيها كل جهات الاختصاص و المسؤولين عن سوق العرض و الطلب من علميين و تقنيين اقتصاديين و تشريعيين".
إذا كان هذا ملخص تجربة أكبر قطر عربي و أقدمها في تاريخ التعليم، فالصورة في بقية اقطار الوطن العربي على اختلاف قدراتها أكثر تواضعا.
إلا أن للصورة وجها آخر، فهذا د. أنطوان زحلان الرجل الذي اهتم لفترة طويلة بتتبع العلم و السياسة العلمية في الوطن العربي حتى اصبح أحد الثقات في الموضوع يقول:إنه إذا استمرت الجهود في الإنتاج العلمي التي سادت في الوطن العربي في العقود الثلاثة الماضية كما هي حتى نهاية القرن، فإن ذلك قد " يخرج الأقطار العربية من موضعها في العالم الثالث".
و يعتمد زحلان على مجموعة من المؤشرات من بينها الإنتاج العلمي المحكم المنشور في مجلات دورية، و كذلك على أعداد الخريجين و الخريجات من الجامعات العربية و التي يقدر أنها ستبلغ اثني عشر مليون خريج في نهاية القرن الحالي.
و بعيدا عن الإحصائيات تقول لنا دراسات متفائلة أخرى بكلمات قاطعة أن الإنسان العربي قادر و صالح تماما للعطاء العلمي.
تلك الدراسات تعيد الثقة إلى النفس،إلا أن النجاحات التي نصادفها في الوطن العربي – كما يقول بعض النقاد – هي في حقيقتها جزر منعزلة، و ما زالت بعيدة عن التأصيل في المجتمع.
![]() |
بواعث..الأمل و التفاؤل |
و إذا آن لنا أن نختم هذا الحديث فلنختمه بملحوظات الدكتور محمد كامل رئيس "المركز القومي للبحوث" بمصر،إذ يقول عن التقنية:" إن الدراسات التي أجريت في البلدان الصناعية المتقدمة أثبتت أن من 60% إلى 80% من التحسن في مستوى المعيشة يعود إلى التقدم التقني، و أن 20% فقط يعزى إلى تراكم رأس المال".
لقد تعودنا في العقدين الأخيرين – على الأقل – أن نستهين برأس المال على أساس أنه متوافر بشكل أو بآخر في الوطن العربي، و لقد بدأت السنوات القليلة الأخيرة تثبت لنا أنه حتى هذا – توافر رأس المال – لم يعد على الأقل كما كان.
لقد كان هناك استثمار لا بأس به على مستوى الوطن العربي في الإنسان، و قد آن لنا أن ننظم هذا الاستثمار و ننميه بالاعتماد على العلم بشقيه الطبيعي و الاجتماعي،لإيجاد حلول لمشكلاتنا العربية المتزاحمة التي أصبح تزاحمها مشكلة جديدة أيضا !!
المصدر:العربي- العدد 330- مايو 1986- ص ص 8- 15.
* الصور المرفقة بهذا المقال ، و كذا التعليقات عليها ، هي من إضافة صاحب المدونة ( و لم تنشر مع أصل المقال،في العربي).
[1] لاحظ بأن مثقفينا،في تلك الفترة، لم يكونوا على علم بالتقدم الذي كانت تحرزه تركيا في المجالين العلمي و التقني، في ذلك الوقت: فلقد كانت تعمل ببط و بصمت و بسرية،حتى إذا جاءت الحكومات الإسلامية، استطاعت أن تستثمر جهود كل الحكومات السابقة، و تضيف إليها الكثير، فتحققت المعجزة الاقتصادية التركية، كما نعرفها اليوم.
هذه المعجزة جديرة بأن تحظى باهتمام الباحثين العرب و المسلمين،لأننا نتقاسم مع الأتراك أشياء كثيرة مشتركة( دين، و تاريخ و و حضارة و تقاليد..إلخ): و من ثم ، فهي الأقرب إلى النموذج الذي يمكن أن نطمح إليه.
[2] و اليوم انقلبت الآية، و أصبحت الجامعات تفتخر بعدد خريجيها من المهندسين، في كل فروع الهندسة.لا بل يلاحظ في فرنسا و الدول التي أخذت بنظامها التعليمي، أن المدارس العليا و مدارس أو معاهد تكوين المهندسين تحظى باهتمام السلطات الحاكمة، أكبر من ذاك الذي يمنح للجامعات، و يتمثل ذلك بالخصوص في الميزانيات التي تخصص لها، و التي تفوق بكثير الميزانيات التي تخصص للإنفاق على الجامعات( يحدث هذا في فرنسا، و المغرب، و الجزائر، و تونس على سبيل المثال لا الحصر..في حدود علمي، و الله أعلم ).
👍
ردحذفممكن حدا يقولي مميزات المقال باختصار
ردحذفاو وين بقدر الاقي تلخيص للمقال لانه عندي وظيفة ياريت تساعدوني
ما هاذا
ردحذف١٢٣٤٥٦
حذف