السبت، 26 ديسمبر 2015


نموذج للأسئلة التي تطرح في مادة الاقتصاد و التدبير
و نموذج للإجابة
امتحانات الدورة العادية -يناير 2015
مدة الإنجاز:ساعة و نصف
أجب عن أسئلة إحدى المجموعتين التاليتين:
المجموعة الأولى:
1- لم يكن " جون ماينرد كينز" اشتراكيا، بل كان ليبراليا؛إلا أنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية؛ قربته كثيرا من الاشتراكيين.اشرح هذه الفكرة، و حدّد إلى أي فئة من الاشتراكيين- الماركسيون، و الاشتراكيون الإصلاحيون(الديمقراطيون)، و الاشتراكيون الطوباويون- قربته هذه الفكرة أكثر( 8 نقط)؛
2- لماذا استطاعت " النسقية"؛ أن تقارب المقاولة بشكل جيد (قياسا إلى المقاربات التقليدية)؟(6 نقط)؛
3- كيف مهّدت الماركنتيلية لظهور الرأسمالية الصناعية ؟( 6 نقط).
المجموعة الأخرى:
1- كتب احد مؤرخي الفكر الاقتصادي:" ..بقي قانون "جان باتست ساي" المعروف بقانون المنافد"، سائدا في الفكر الاقتصادي الليبرالي، لمدة تزيد على قرن من الزمن ، إلى أن ألقى عليه " جون ماينرد كينز" ظلا كثيفا من من الشك..في الثلاثينات من القرن العشرين..".
حلّل هذا الرأي و ناقشه (8 نقط)؛
2- كيف ساهمت نظريات علوم التدبير في زيادة إنتاجية المقاولات؟(6 نقط)؛
3-ما هي الأصول الفكرية لنظرية " اليد الخفية"؟ و ما علاقتها بالسياسات الاقتصاديةن التي طبقت في ظل الاقتصاد الكلاسيكي؟(6 نقط).


و نموذج للإجابة:
سأقدم فيما يلي، نموذجا للإجابة، أو بالأحرى للطريق التي يجب أن يسلكها الطالب،للتوصل إلى الإجابة الصحيحة، عن الأسئلة التي تطرح في مادة الاقتصاد و التدبير..
و نموذج الإجابة الذي أقترحه،يتعلق بالسؤال الرئيس في المجموعة الأولى:

لم يكن كينز اشتراكيا، و لكنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية ،قربته من الاشتراكيين..

هذا السؤال يشبه إلى حد كبير السؤال الأول من المجموعة الأخيرة:"كتب أحد مؤرخي الفكر..."
و لقد تمكن الطلبة الذين تابعوا المحاضرات،و تعمقوا في دراسة الفكر الكلاسيكي و الفكر الكلاسيكي الجديد، في بعض  المراجع الورقية أو الإلكترونية ؛ من تقديم إجابات ممتازة عن السؤالين ؛ لأنه جرت العادة في هذه المصادرة أن تتم المقارنة بين فكر الكلاسيكيين و الكلاسيكيين الجدد من جهة، و فكر كينز و" تمرده أو ثورته" عليهم م جهة أخرى.كما أن الكثير من تلك المراجع، تناولت الفكر الاقتصادي الاشتراكي، و اشارت إلى اسهام "كينز" في انقاذ الليبرالية، و إخراجها من الهوة التي انزلقت إليها، في 1929، و التي لولاها- أعني اسهامات كينز- لتحققت فيها نبوءات "ماركس" ،بانهيارها و سقوطها،فوق رؤوس الرأسماليين.
و بالفعل،لقد أحدث "كينز" ثورة حقيقية في  الاقتصاد الليبرالي( الرأسمالي)،سواء على مستوى الأفكار أو الممارسات الاقتصادية.فلقد أقنع الناس ، في فترة حاسمة من التاريخ ، في العالم الليبرالي - ( أوروبا و أمريكا..و غيرها من الدول الليبرالية)- أن يعيدوا النظر في أسس الفكر الاقتصادي الكلاسيكي و الكلاسيكي الجديد، و الممارسات التي بنيت على أساسيهما، و التي كانت مرتكزة على مجموعة من المعتقدات أو المبادئ أو القوانين الأساسية، التي اعتبرت غير قابلة للنقاش، على اعتبار أنها حقائق علمية، بل قوانين طبيعية، من ذلك مبدأ " دعه يعمل ، دعه يمر"، و مبدأ " اليد الخفية"، و قانون المنافد لساي، و غيرها.
هذا لأشرح لكم خلفية السؤالين الرئيسيين في المجموعتين..و أنهما متشابهين إلى حد كبير..، و كان ذلك مقصودا، لأحقق نوعا من المساواة بين الطلبة..الذين يختارون المجموعة الأولى أو الأخرى.
و قبل أن نتطرق إلى كيفية الإجابة، و  مضمون الإجابة؛- ولقد تناولت كيفية الإجابة و شرحتها بتفصيل في المقال الخاص بمنهجية الإشكالية و التصميم،أقول قبل تناول مضمون الإجابة عن السؤالين المتشابهين في المجموعة الأولى و الأخيرة،أنوه إلى أنه كان يفترض أن يدرس  الطالب(ة) السؤال جيدا،قبل أن يشرع في الإجابة عنه:
و بالفعل، فمن المتوقع أن يقف الطالب(ة)، أمام السؤال و لو للحظات،و يتأمل في صياغته ،و يتوقف عند كل كلمة فيه و يحللها، و يعرف معناها، و الغرض من وجودها في السؤال..و القيمة التي تحظى بها في البناء الكلي للسؤال..إلخ؛ حتى يعرف ما هو مطلوب منه على وجه الدقة، فيجيب عنه و لا يتجاوزه إلى غيره ، و لا يجيب عن أسئلة افتراضية يضعها هو نفسه ، و من ثم يحاول فرضها على المصحح( و سنعود إلى هذه القضية بتفصيل أكبر لاحقا).
ثم كان ينبغي للطالب أيضا، أن يتأمل في عدد النقط المخصصة لمكافأة الإجابة الصحيحة على السؤال، و ما تمثله من مجموع النقط ..حتى يعرف مقدار الوقت و الجهد اللذين سيخصصهما لهذا السؤال:فمجوع النقط التي يمكن الحصول عليها، بعد الإجابة الصحيحة، هي (8 نقط)، و هي تمثل نسبة تفوق ثلث مجمل نقط الامتحان (20/20)، و لكنها أيضا أقل من النصف..
هذه مسائل بديهية،على الطالب أن يعرف كيف يحسبها، و يعرف كيف يتعاطى معها..فهي تدخل في الثقافة العامة لطالب العلم..حتى لو كان في الإعدادي، و من باب أولى الطالب الجامعي.
بعد هذه الملاحظات العامة، التي كان لابد من التذكير بها..
نأتي إلى الأسئلة:ما هي هذه الفكرة الأساسية التي جاء بها كينز الليبرالي، و التي أبعدته نسبيا من الليبراليين الكلاسيكيين و الليبراليين الجدد، و قربته من الاشتراكين؟ و كيف ألقى كينز ظلا من الشك على قانون المنافذ؟
إجابة سؤال المجموعة الأولى:
نضع السؤال أمامنا..و نقرأ، و نتأمل..و نتمعن ، ..أي العملية تحتاج إلى قراءة بطيئة ، و قراءة تأملية، و قراءة عميقة..

لم يكن " جون ماينرد كينز" اشتراكيا، بل كان ليبراليا؛إلا أنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية؛ قربته كثيرا من الاشتراكيين.اشرح هذه الفكرة، و حدّد إلى أي فئة من الاشتراكيين- الماركسيون، و الاشتراكيون الإصلاحيون(الديمقراطيون)، و الاشتراكيون الطوباويون- قربته هذه الفكرة أكثر( 8 نقط)؛

هناك أشياء كثيرة، و منهجية خاصة يجب اتباعها في قراءة السؤال، و استخراج أهم ما فيه، لا داعي لتكرارها هنا،..و ننتقل بسرعة إلى تحليل السؤال..و الفكرة الأساسية التي تلفت الانتباه هي :إن كينز كان ليبراليا؛ بمعنى أنه كان يؤمن بالملكية الفردية، و حرية السوق..إلخ.
و هذه المعلومة وحدها، قد لا تفيد الطالب،إلا إذا كان يعرف أيضا:
1- إن كينز، نادى بتدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد،لضمان التشغيل الكامل،و الرفع من الطلب الكلي..إلخ؛
2- و أن الاشتراكيين،على اختلاف فئاتهم، نادوا هم أيضا بتدخل الدولة في الاقتصاد، على تفاوت بينهم..طبعا.
إذا علم الطالب (ة) هذا، سيتمكن من الإجابة عن السؤال؛لأنه لن يبقى أمامه،إلا خطوة يخطوها، يتوصل بعدها إلى الفكرة( أو الإشكالية) الأساسية في السؤال، و التي اتفق فيها كينز مع الاشتراكيين،ألا و هي:أن الفكر الليبرالي و الفكر الاشتراكي التقيا معا،عند كينز.فكيف استطاع فكر كينز أن يربط هاتين المدرستين الاقتصاديتين المتناقضتين؟.

 هذه الفكرة،يمكن أن نعيد صياغتها بطريقة أخرى، على النحو التالي:ماهي الفكرة الاقتصادية التي اعتنقها كينز و جعلته في نفس الوقت ليبراليا و قريبا من الاشتراكيين؟
و هذه الفكرة الأخيرة،إذا اتخذناها إشكاليتنا الرئيسية، يجب  أن نفرعها إلى أفكار فرعية، كل واحدة منها، تجيب على جانب أو جزئية من الإشكالية.
من الأسئلة الفرعية،مثلا، السؤال التالي::ما هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه تدخل الدولة في الاقتصاد، من وجهة نظر كينز ؟
 بالإجابة عن هذا السؤال الفرعي، سيستطيع الطالب أن يحدد فئة الاشتراكيين التي يتفق معها كينز، و إذا تمكن من ذلك، يكون قد أجاب عن السؤال برمته.
و الحاصل، أن السؤال الأول من المجموعة الأولى، يتمحور حول قضية أساسية،و هي : إن تطور الفكر الاقتصادي، انتهى في عهد كينز إلى ضرورة تدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد.
هذه الإشكالية الرئيسية، قد تتفرع عنها إشكاليات- أو أفكار- فرعية، قد نجعل منها محاور لتحرير الإجابة،و قد تكون هي عناوين التصميم الذي نختاره، كالتالي:
1-  قد تكون الفكرة  الفرعية الأولى هي: إن كينز مفكر ليبرالي من نوع معين( مبحث أول):
في هذا المبحث،نحدد مفهوم الليبرالية الكلاسيكية في عجالة، و نبين اختلاف كينز مع  هذا المفهوم الليبرالي الكلاسيكي( و المتمثل في دعوته لتدخل الدولة)؛
2- و قد تكون الفكرة الفرعية الثانية هي: إن كينز قريب من الاشتراكيين( مبحث ثاني):
إذن،في هذا المبحث نشرح كيف أن مطالبة كينز بتدخل الدولة، تبعده عن الفكر الليبرالي الكلاسيكي، و تقربه من الفكر الاشتراكي، الذي يدعو هو الآخر لتدخل الدولة..
3- و قد تكون الفكرة الفرعية الثالثة و الأخيرة ،هي :إن كينز أقرب إلى الاشتراكية الإصلاحية(مبحث ثالث):
و نوضح في هذا المبحث،أن الاشتراكيين يختلفون حول مدى تدخل الدولة في تسيير أو توجيه أو الإشراف على الاقتصاد،و أن الليبرالية التي يعتنقها كينز تقربه أكثر من الاشتراكيين الإصلاحيين:و نشرح أين يلتقي معهم..
و بهذا تتم الإجابة عن الإشكالية التي اخترناها،أي نكون قد أجبنا عن السؤال الأول من المجموعة الأولى، وفق تصور ارتأيناه،نعتقد أنه يحل الإشكال، و يكشف لنا عن السبب الذي جعل كينز قريبا من الاشتراكيين عموما، و لاسيما الإصلاحيين منهم.
***
و أعود، في ختام هذا العرض،لألخص ما كان مطلوبا في السؤال الأول من المجموعة الأولى كالتالي:
إن الثورة التي أحدثها " كينز"؛ هي أنه اعتبر تدخل الدولة في المجال الاقتصادي ( تنظيم النشاط الاقتصادي ) أمرا ضروريا، لضمان التوازن الاقتصادي، و لتحقيق التشغيل الكلي..إلخ.و تدخل الدولة، في مجال الاقتصاد، قال به " مالتوس"، من الكلاسيكيين، و لكن بطريقة خجولة، لم تسترع الاهتمام. و أهملت.كما نادى بها الإشتراكيون، و بقوة أكبر من تلك التي أظهرها كينز نفسه، و لكن من منطلقات إيديولوجية تختلف عن المنطلقات الليبرالية التي آمن بها "كينز"( و هذه أمور معروفة لدى عامة المثقفين، ناهيك عن طلاب الدراسات القانونية و السياسية، و إن في السنة الأولى).
ففي حين كان الكلاسيكيون و الكثير من الكلاسيكيين الجدد ، ينادون بإبقاء الدولة بعيدة عن مجال الاقتصاد، و لا يسمحون لها بالتدخل لتنظيمه، بل رأوا أن التوازن الاقتصادي يتحقق تلقائيا بفضل " اليد الخفية"، و بفضل قانون المنافد، و عموما بفضل قوانين السوق الحرة.
إن الطالب يستطيع اكتساب هذه المعرفة ،من أكثر من مصدر، و في أكثر من مناسبة: فقد يعرفها، بمناسبة دراسة الفكر الاشتراكي.و يمكنه أن يدركها أيضا، إذا كان ملما بأفكار كينز.بمعنى،أن الطالب، الذي استوعب نصف البرنامج، يمكنه،أن يحصل على نصف النقطة، المخصصة للسؤال..
و للحصول على النصف الاخر،كان لا بد من الإجابة على السؤال التالي: و لكن ما هو الحد الذي ارتأى  كينز أن تدخل الدولة، لا يجب أن يتجاوزه في مجال الاقتصاد ؟ و الإجابة عن هذا السؤال الأخير، هي التي ستساعد الطالب، كما سبق القول، على معرفة المدرسة الاشتراكية التي يقترب منها كينز أكثر..
و بالفعل، فأغلب الاشتراكيين، نادوا بتدخل الدولة..، و هذا أمر اتفوا حوله.ثم اختلفوا فيما عدا ذلك:
1- فمعظم الطوباويين،لم يحبذوا التدخل القوي للدولة؛لأنهم أرادوا بناء اقتصاد تعاوني بمنأى عن الدولة، يعتمد على العمل الجماعي و التضامني للعمال و غيرهم.كما أنهم انتقدوا الكثير من الأفكار التي قامت على أساسها الليبرالية، مثل حرية المنافسة و الرغبة في تحقيق الأرباح( و هذا الانتقادات أبعدتهم عن كينز، الذي بقي مخلصا لأسس الفكر الليبرالي،متمثلة في الملكية الفردية، و حق الأفراد في جني الأرباح، بالاستعانة بميكانزمات المنافسة)؛
2- و لسبب قريب من هذا،اختلف "كينز" مع الماركسيين أيضا، الذين رفضوا هم  الملكية الخاصة، و طالبوا بتدخل الدولة في كل شيء، و حرموا امتلاك الأفراد للمقاولات الخاصة..؛
3-على عكس الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين طالبو بتدخل الدولة ، و لكنهم آمنوا ببقاء المقاولات الخاصة التي تقوم على أساس الملكية الخاصة، و التي تعمل على أساس من المنافسة الحرة ، و تسعى لتحقيق الأرباح..
و بذلك، فلقد كان كينز أقرب إلى الاشتراكيين الديمقراطيين من غيرهم . و لقد أشرت إلى هذا مرارا و تكرارا في المحاضرات، و ذكّرت به في المطبوع أيضا. و أكبر دليل على ذلك أن الكثير من الطلبة توفقوا في الإجابة عن هذا السؤال، و أجابوا عنه أحيانا، باستعمال نفس التعابير التي وردت في المحاضرات أو المطبوع (بالإضافة إلى الطلبة الذي أجابوا أيضا، من خارج هذين المصدرين، و كانت إجابتهم موفقة و صحيحة و مقبولة..و  الحمد لله).
إجابة سؤال المجموعة الأخرى:
و بنفس الطريقة، يمكن الإجابة عن السؤال الأول من المجموعة الأخرى:
و الأفكار الأساسية، التي كان يفترض أن تتضمنها أجوبة هذا السؤال، يمكن تلخيصها كالآتي:
 لقد آمن الليبراليون الرأسماليون- الكلاسيكيون بشكل خاص- بأن الاختلالات الدورية التي يشهدها الاقتصاد الرأسمالي ، من حين لآخر، و تؤثر على مستويات الأسعار و الأجور و الإنتاج و التشغيل، تزول من تلقاء نفسها- إذ أن قوانين السوق تعالج هذه الاختلالات بنفسها دون حاجة لتدخل الدولة- ،ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.تماما كما أكد " جان باتست ساي " في قانونه الشهير،أعني قانون المنافذ، الذي يقول بأن كل عرض يخلق الطلب المساوي له،و أن البضائع التي ينتجها هذا المقاول،تبادل بسلع أو بضائع أو خدمات ينتجها مقاول آخر؛ و بالتالي يتحقق التوازن بين العرض الكلي و الطلب الكلي دائما، و لا يمكن، بالتالي، أن تظهر أزمة ما نتيجة الزيادة في الإنتاج.ذلك أن الإنتاج(العرض)،في الحقيقة، لا يخرج إلى السوق إلا بعد أن يحقق مداخيل لعوامل الإنتاج( العمال يحصلون على الأجر، و ملاك الأرض يحصلون على الريع، و أصحاب رؤوس الأموال يحصلون على الفائدة،و المقاولون يحصلون على أرباح)،  و هذه المداخيل تنفق في السوق لشراء بضائع و سلع و خدمات أنتجها منتجون(مقاولون)آخرون،أي تتحول إلى طلب..فيتحقق التوازن الكلي(في السوق):فكل سلعة في السوق تجد من يشتريها، بما فيها قوة العمل و هي سلعة من السلع، عند الكلاسيكيين.
غير أنه عندما وقعت أزمة 1929،و التي امتدت إلى الثلاثينات من القرن العشرين،تبين أن أزمة الانتاج(العرض) يمكن أن تقع ،بل و يطول أمدها؛ و من ثم بدأ التشكيك في نظرية " المنافد".
و كان كينز على رأس منتقدي،قانون " المنافذ" لساي،و بين أنه يقوم على أساس خاطيء ؛إذ أن بعض العرض الفعلي(الإنتاج) قد يكون أكثر من الطلب-  بعض المنتجات، لا تجد من يشتريها-، لأن بعض المنتجين لا ينفقون كل مداخيلهم في السوق،و يقومون بإدخارها(و هذه نقطة اشار إليها مالتوس قبل كينز).و عندما يزداد حجم العرض( الانتاج)،مع تقلص  الطلب عليه، يقل الطلب على اليد العاملة، فتزداد البطالة..و يتحقق في المجتمع نوع من التوازن أدنى من العادي، أي أقل من التوازن الكلي:يتحقق فيه التوازن بين حجم اقل من الإنتاج مع طلب مساوي له، و لكنه قليل، قياسا مع الطلب العادي.
و للخروج من هذه الأزمة، اقترح كينز التخلي عن الفكرة التي قال بها "ساي"، و مفادها؛  أن العرض يخلق الطلب، و طالب باستبداله بفكرة أخرى، هي أن الطلب يخلق العرض:أي أن الطلب على السلع الاستهلاكية ، سيجعل المصانع و المعامل و المزارع و المتاجر تطلب اليد العاملة، فيتقلص عدد العاطلين عن العمل، و هؤلاء العمال و المستخدمين سيحصلون على أجور و رواتب سينفقونها في الطلب على السلع، ستترجم بدورها إلى طلب على مزيد من العمالة.كما أن توفر الأموال بأيدي المقاولات، و قدرتها على الاقتراض بفوائد ضئلة..،سيشجعها على الاستثمار و طلب السلع الاستثمارية، و بالتالي ستشغل العاطلين عن العمل.. و هكذا يعود الانتعاش إلى الاقتصاد.
و لكن، في ظروف الأزمة، من سيقوم بذلك الطلب الكلي الذي سيخلق العرض؟ يقول كينز: إن على الدولة أن تقوم بتشغيل العاطلين عن العمل، و تدفع لهم أجورا و رواتب من ميزانية الدولة( أو ميزانيات البلديات..إلخ)،و أن تنشئ مقاولات و مشاريع و تمنح المقاولات القروض بفوائد منخفضة ،..فتشجع بذلك على تشغيل اليد العاملة العاطلة..إلخ،و تحريك آلة الاقتصاد من جديد.



الأربعاء، 29 يوليو 2015

عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي


الدكتور زكي نجيب محمود(1993-1905)- رحمه الله- من كبار فلاسفتنا المعاصرين.و له إسهامات هامة في علم المنهج. و عنه أخذت درسا في المنهج ما نسيته منذ تعلمته، و خلاصته:" أن العلم الحقيقي، هو الذي لا يملك فيه الباحث القدرة على تغيير النتائج".فالكيميائي مثلا- و أنا درست الكيمياء-، إذا قام بتحليل محلول معين، لا يستطيع أن يغير نتيجة التحليل،فالنتيجة تفرض نفسها عليه: فإذا كان المحلول يحتوي حديدا أو نحاسا، فلا يمكنه أن يكتب في تقريره - اللّهم إلا إذا قرر تزوير النتيجة- أنه يحتوي الذهب أو الفضة.
هذا الدرس على بساطته، هو المعيار الأساس في تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الاجتماعية: ففي الأولى يصعب على الباحث تغيير النتيجة، في حين في العلوم الاجتماعية، يمكن للباحث بسهولة أن يقول عن الأبيض أنه أسود، و عن الأحمر أنه أخضر، أو أنه مشكل من ألوان  قوس قزح.
في الفقرات التالية، المقتبسة من الفصل الثاني، من كتابه " تجديد الفكر"، يحدثنا الأستاذ زكي نجيب محمود عن بعض العقبات التي تحول بيننا و بين تجديد فكرنا العلمي، فلنستمع إليه..
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
زكي نجيب محمود

مهما يكن المصدر الأول الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة و العلم، ثم يعود فيبني على تلك المبادئ سائر أحكامه و أفكاره و معتقداته و مذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيا من السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لمعات حدسية اهتدت بها البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان، أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة و العلم ، قد يكون بابا من هذه الأبواب، ثم يسلط الإنسان على تلك "المبادئ" قوته الاستدلالية - و ذلك هو " العقل"- ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن يستخرجه من أحكام و أفكار؛ و مهما يكن ذلك المصدر الأول - و قد اختلف الفلاسفة في أيها تكون له الصدارة- فهنالك شرط لا بد من الوفاء به، لكي تستقيم لنا المعرفة الصحيحة بعد ذلك، و هو أن يمحو الانسانُ أخطاءه التي كان قد زلّ فيها قبل أن يستقي العلمَ من مصدره المختار، و أن يسدّ الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاوده من جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ إذ لا يجدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين يكون وعاء الباطل مازال هنالك قائما إلى جواره؛ فالباطل - على مر الزمن- قمين[ كفيل] أن يفسد الحق، كما تفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح؛ فإذا جاء الحق و ظهر - بأية وسيلة من وسائله- وجب كذلك أن يُزهق الباطل في اللحظة نفسها؛ فإقامة الصواب و تصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب و السلب يسيران معا،الأول يثبت ما يستحق الإثبات، و الثاني يمحو ما لا بد أن يمحى.
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
روني ديكارت
و هذا بعينه هو ما حرص على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعا، على اختلاف أزمانهم و تباين مناهجهم؛ فهم- إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد- يُجمعون على إزالة الباطل و طمس مصادره.لتتم لهم إقامة الحق و تفجير منابعه...
[... و هذا ما فعله رواد المنهج الحديث فـــ] كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلاًّ منهما رجل، أما أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت[(1650-1596)(René Descartes) ]، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئاً من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي و ما وراءه؛ و أما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون [ (Francis Bacon)(1626-1561)]، الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئا من  الطبيعة الخارجية و ما نشاهده في ظواهرها، ثم نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها و نكون على يقين من صوابها.
و لكن ليختلفا كيف شاءا في اتجاه السير ماذا يكون؟
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
فرنسيس بيكون

أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نقوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ و اقتلاع جذوره، حتى تُبذر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.

فالرجلان معا يلتقيان في أن المعرفة الصحيحة ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن اعترضتها العوارض فسدّت عليها الطريق: عوارض من أوهام الإنسان و نزواته و ميوله و أهوائه و رغباته و شهواته و ما قد يصيبه من تعصب و تسرع، و من خضوع سهل لذوي الشهرة و النفوذ من أقدمين و محدثين و معاصرين؛ لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق مادامت نفسه و ما يجرى فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر (هذا ديكارت) و مادامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق الأمين ( هذا بيكون).لماذا يقع الإنسان في الخطأ، و الباطن قائم أمام بصيرته و الظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن نضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟ فلماذا تفعل، و ما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟
لا بد أن يكون هنالك عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رؤسنا ملئت - على غير وعي منا - بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ، ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ و لهذا عني الرجلان - ديكارت و بيكون- أول ما عنيا بأن يدقا في الرؤوس دقا عنيفا، لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد[ كان الأساتذة الجامعيون، عندما كنت طالبا، على رأس من يقوم بهذا الدق العنيف.و أذكر  بهذه بالمناسبة، أستاذنا الدكتور عبد اللطيف أكنوش- حفظه الله-، الذي كان يجيد هذا النوع من الدق..في رؤوس طلبة السنة الأولى حقوق، بكلية الدار البيضاء، أو على الأقل هذا هو انطباعي عنه..].

الدكتور زكي نجيب محمود- تجديد الفكر العربي- الطبعة السادسة- دار الشروق- القاهرة/بيروت 1400/1980- ص ص 21-26.


الخميس، 23 يوليو 2015

مشكلة المنهج في العلوم الاجتماعية

مشكلة المنهج في العلوم الاجتماعية

تعرفت على الأستاذ الدكتور " إيفان دربن" (Evan Durbin)(1948-1906)،كمفكر اقتصادي و سياسي، عندما قرأت الترجمة العربية  لكتابه " سياسة الاشتراكية الديمقراطية"(The Politics of Democratic Socialism)(London-1940)، و كنت وقتها أّدرِّس مادة " الإيديولوجيات السياسية المعاصرة"، لطلبة الفصل السادس قانون عام(2011).
و منذ ذلك التاريخ، راجعت الكتاب عدة مرات،كانت آخرها في بداية الموسم الدراسي  الحالي،بمناسبة إعداد بعض المحاضرات في الاقتصاد،للفصل الأول.و في كل مرة، كنت  أعيد  قراءة فصول كثيرة منه، و في كل مرة أكتشف كم كان هذا المؤلف أستاذا بارعا و مبدعا في معظم المواضيع التي تناولها أو حتى أشار إليها، في كتابه.و أستاذيته تتجلى في أسلوبه الأكاديمي التعليمي؛ فهو يستعرض الأفكار  الصعبة، بأسلوب بسيط أو مُبسط، و لكن دون تبسيط يخل بالقيمة العلمية لأفكاره ، و أيضا دون استخفاف بعقل القارئ. بيد أن أستاذيته تتجلى أكثر في المنهج الذي اتبعه في كتابه ، و كان رائدا فيه:فهو لا يكتفي بالتحليل السياسي الاقتصادي لموضوع اقتصادي محض، بل يستعين بمختلف فروع العلوم الاجتماعية الأخرى- علم السياسة، و علم الاحتماع، و علم النفس، و القانون،و التاريخ..إلخ -، لشرح أفكاره، و التدليل على صحتها؛ و ذلك انطلاقا من رؤية واضحة لديه،مفادها أن قضايا العلوم الاجتماعية لا يمكن حلها من خلال الدراسات الفرعية المتخصصة (كل فرع على حدة)، بل من خلال الجهود المشتركة لجميع العلوم الاجتماعية.و هو يشرح وجهة نظره هاته - التي كانت جديدة وقت نشر الطبعة الأولى من كتابه، سنة 1940-، في الفقرات التالية.
و لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة، في نهاية هذه الفقرات،أن " دربن" بدأ حياته العلمية بدراسة البيولوجيا، و بالضبط " علم الحيوان"، انتقل بعدها إلى دراسة العلوم، ثم استقر أخيرا في دراسة الاقتصاد،ليعين، بعد تخرجه، محاضرا في مدرسة لندن الاقتصادية( London School of Economics (LSE))(1930-1945).
 و كان بالموازاة مع دراسته ، يناضل في صفوف حزب العمال ، فما هي إلا سنوات حتى أصبح من كبار الشخصيات السياسية في بريطانيا، في النصف الأول من القرن العشرين.و في عام 1948، توفي غرقا في شاطيء البحر، و قد ألقى بنفسه في الماء لينقذ ابته و طفلا آخر، فمات غرقا، إذ لم يكن يجيد السباحة.و كان في ذلك الوقت عضوا في البرلمان  و وزيرا في حكومة العمال، و كان زملاؤه يتوقعون له مستقبلا زاهرا في السياسة، لو قدر له أن يعيش.

[...] إنني عالم اجتماعي بالمهنة، و انني أبدأ بافتراض مألوف في حضارة أوروبا منذ القرن الثامن عشر، و هو أننا يجب أن ننتهج الأساليب الاجتماعية[= المناهج الاجتماعية]، و لكن الأفراد القليلين الذين وهبوا جزءا كبيرا من وقتهم و جهدهم لتتبع الدراسات الاجتماعية الحالية يشعرون بالثقة بأن كثيرا منهم يوفون بهذه الحاجة إن المواضيع التي نتحدث فيها متخصصة جداً.
و إننا لا ننفق كل جهودنا في دراسة و تمحيص جزء منفصل من الحقل الاجتماعي.بل بعض "أوجه" السلوك الاجتماعي، و من الصعب ألا نشعر أن حقيقة المجتمع البشري المركبة - و هي الشيء الذي يجب علينا إدراكه- تضيع بين هذه الأوجه المختلفة من الحياة.
و ربما يسمح لي القارئ بأن أستشهد ببعض فقرات من مقال لي يعالج هذه المشكلة بأسلوب آخر.فقد كتبت ما يلي، في مجلة" إيكونميك جورنال"، في معرض مناقشتي للمشاكل التي تعترض منهاج البحث عند العالم الاجتماعي عامة، و عند الاقتصادي خاصة:
"..و من الضروري أن نوجه انتقادا مضادا آخر لما عليه الحالة الحاضرة في العلوم الاجتماعية [ الثلاثينات من القرن العشرين]؛فهذه العلوم - كما يبدو لي- لا يمكن أن تنفصل بعضها عن بعض في مجال الدراسة.
و لا شك في أن تقسيم العلوم الاجتماعية إلى أقسام فرعية أمر مرغوب فيه كما هو حتمي. و أن العلوم الطبيعية لم يكن يقدر لها التقدم لو أن العلماء درسوا العالم الطبيعي ككل.و كذلك فالعلوم الاجتماعية لم يكن يقدر لها التقدم لو أننا درسنا المجتمع ككل.و لكن الحقيقة تبقى و هي أن تقسيمنا للعلوم الاجتماعية - خلافا للعلوم الطبيعية- إن هو إلا تجريد عن الحقيقة و ليس جزءا من الحقيقة ".

فعلم النبات ما هو إلا دراسة لمجموعة من الكائنات الحية ؛ هي النباتات.و علم الحيوان ما هو إلا دراسة لمجموعة أخرى من الكائنات الحية هي؛ الحيوانات. و دراسة  الكيمياء التركيبية[Synthetic Chemistry =  Chemie Synthétique ] ما هي إلا دراسة لمجموعة من المواد ؛هي الجزيئات[Molecules= Molécules ].و دراسة البللورات[ Crystals =Cristals  ] ما هي إلا دراسة لمجموعة من الأشياء؛ هي البللورات.   و موضوع الدراسة في كل هذه الحالات أشياء حقيقية مستقلة أو مجموعة من الأشياء، و ليست موضوعا لشيء مركب، و أنها أشياء حقيقية.

و لكن هل يمكن تمييز معظم موضوعاتنا[ في العلوم الاجتماعية] بهذه الكيفية؟ أفليست هذه الموضوعات غالبا ما تكون جوانب من الحقيقة الاجتماعية، أو هي تجريد عن الحقيقة؟ و هل يعد علم الاقتصاد شيئا آخر غير دراسة الجانب الاقتصادي من السلوك الاجتماعي؟ و هل تعد الدراسة العلمية للقانون شيئا آخر غير دراسة الجوانب القانونية للسلوك الاجتماعي؟ و هل يعد التاريخ السياسي شيئا آخر غير دراسة الجوانب السياسية من التاريخ عامة؟ و أخيرا هل يعد التاريخ الاقتصادي شيئا آخر غير دراسة للجوانب الاقتصادية للتاريخ عامة؟ أي أن تقسيماتنا ترجع، مرة أخرى، إلى تحديد معاني كلمات اقتصادي، و قانوني، و سياسي، و لا ترجع إلى الأقسام الفرعية التي تتضمنها موضوعات الدراسة.
و لا شك في أن معظم العلماء الاجتماعيين يعترفون بذلك..فليس هناك أي اقتصادي ينكر أن السلوك (الاقتصادي) يتاثر بالأفكار السياسية، و التقاليد القانونية و التاريخية. و كذلك يزداد اعتراف المحامين بأن القانون و تطور القانون يتأثران بالقوى " الاقتصادية" و " السياسية". و لا يمكننا أن نعتقد أن مجرى التاريخ " السياسي" منفصل عن عن الأحداث " الاقتصادية"، و هكذا.
و سوف ترغمنا هذه الاعتبارات على أن نتساءل عما إذا كانت موضوعاتنا[فروع العلوم الاجتماعية] الحالية تتلاءم مع أي تقسيم حقيقي في موضوع دراستنا ، فربما تضيع  الحقيقة بين الأوجه التي نقسمها..و دعنا الآن نسوق بعض الأمثلة العشوائية:
1- لنفرض أننا أردنا أن نفهم الجانب القانوني للملكية، طبيعتها ، و أصلها، و أهميتها الحالية و احتمالات المستقبل بالنسبة لها.فما هو عدد الموضوعات[=العلوم الاجتماعية الفرعية = علم الاقتصاد، علم السياسة،..إلخ] القائمة التي يمكن، أو في الواقع يجب، أن تسهم في دراستنا؟
كل الموضوعات تقريبا،فبدون مساعدة القانون لا يمكننا تفهم ما هو نظام الملكية. و بدون التاريخ العام لا يمكننا ان نقول كيف جاء نظام الملكية إلى الوجود، أو ما هي القوى التي يمكن أن تغيره. و بدون علم الاقتصاد لا يمكننا أن نتفهم ما يترتب على نظام الملكية. و كثير مما ينطوي عليه نظام الملكية لا يتضح إلا عن طريق علم النفس. و لعلم النفس العام و علم الأجناس[Anthropology=علم الإنسان=علم يعنى بأصل و تطور الحضارات الإنسانية و الصفات الجسدية للإنسان..] قسط كبير يسهمان به.و بدون مساعدة كل هذه الموضوعات أو معظمها لا يمكننا أن نقول إننا ندرس نظام الملكية في وضعه الاجتماعي الحقيقي، أو أن نضع أنفسنا في موقف يسمح لنا بأن نتنبأ للمستقبل.
2- أو لنفرض أننا أردنا أن ندرس الحرب - و مما يؤسف له أنها ظاهرة اجتماعية ملموسة- عندئذ نجد أن التاريخ ضروري لنا في هذه الدراسة. و علم النفس ضروري ، و كذلك علم الأجناس كما أن علم الاقتصاد و علم الاجتماع عامة لهما قسط كبير يسهمان به.
و على ذلك، يبدو أن دراسة الحقيقة تشق جميع مجالات التخصص القائمة لدينا حاليا.أو بالأحرى تطوقها جميعا.و إذا ما اتحدنا أمكن لنا أن نقف و ننصب قامتنا، أما إذا انقسمنا فلا مفر من أننا سنهوى.و على ذلك، فعلى أي شكل سوف نتحد؟
إنني مقتنع بأن حل هذه المشكلة يمكن الوصول إليه في المدى الطويل عن طريق قيام تعاون منظم بين الأخصائيين الحاليين:الاقتصاديين مع المؤرخين، و المؤرخين مع علماء الاجتماع، و علماء الاجتماع مع علماء النفس.
و لكن وقتاً طويلا سوف ينقضي في الواقع قبل أن ينتظم مثل هذا التعاون بطريقة عاقلة.و وقت أطول قبل أن تصبح نتائج هذا التعاون ممكنة و ذات فائدة في مدى السياسة الاجتماعية.فهل من المستحيل أن نفعل أي شيء في هذا الوقت، أو أن نناقش دراسة الخدمات الاجتماعية بطريقة مثمرة؟
لقد كتبت هذا الكتاب[ سياسة الاشتراكية الديمقراطية]  على أمل أن الإجابة بالنفي تماما ليست هي الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة.
و لكن مناقشة مشكلة المنهج تفسر الشكل الخاص الذي سيتخذه هذا الكتاب، إن لم نكن نلتمس العذر لهذا الشكل.فلقد حاولت أعطي مجالا واسعا، و أن أقول شيئا عن عدد كبير من الموضوعات [يقصد فروع العلوم الاجتماعية] لأنني أعتقد أن جميعها لازم لكي نفهم السياسة الاقتصادية فهما سليما.و إنني أرمي إلى التعرض إلى علم النفس، و النظرية السياسية، و علم الاقتصاد؛ ذلك لأن المجتمع الذي نعيش فيه، و الذي يجب علينا أن نعمل على إصلاح شكله، يتألف من أفراد لا تعتبر بواعثهم و نظمهم و طبيعتهم اقتصادية، أو شخصية تماما و لكنها مركبة من هذه البواعث الثلاث، و لا يفهمه إلا أولئك الذين سوف يدرسون الجنس البشري على وضعه الحقيقي، أي على أن طبيعته مختلفة و مركبة.


إيفان برن- سياسة الاشتراكية الديمقراطية- الترجمة العربية للدار القومية للطباعة و النشر- القاهرة (دون تاريخ)- ص ص 29-33.