الدكتور زكي نجيب محمود(1993-1905)-
رحمه الله- من كبار فلاسفتنا المعاصرين.و له إسهامات هامة في علم المنهج. و عنه
أخذت درسا في المنهج ما نسيته منذ تعلمته، و خلاصته:" أن العلم الحقيقي، هو
الذي لا يملك فيه الباحث القدرة على تغيير النتائج".فالكيميائي مثلا- و أنا
درست الكيمياء-، إذا قام بتحليل محلول معين، لا يستطيع أن يغير نتيجة
التحليل،فالنتيجة تفرض نفسها عليه: فإذا كان المحلول يحتوي حديدا أو نحاسا، فلا
يمكنه أن يكتب في تقريره - اللّهم إلا إذا قرر تزوير النتيجة- أنه يحتوي الذهب أو
الفضة.
هذا الدرس على بساطته،
هو المعيار الأساس في تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الاجتماعية: ففي الأولى يصعب
على الباحث تغيير النتيجة، في حين في العلوم الاجتماعية، يمكن للباحث بسهولة أن
يقول عن الأبيض أنه أسود، و عن الأحمر أنه أخضر، أو أنه مشكل من ألوان قوس قزح.
في الفقرات التالية،
المقتبسة من الفصل الثاني، من كتابه " تجديد الفكر"، يحدثنا الأستاذ زكي
نجيب محمود عن بعض العقبات التي تحول بيننا و بين تجديد فكرنا العلمي، فلنستمع
إليه..
![]() |
زكي نجيب محمود |
مهما يكن المصدر الأول
الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة و العلم، ثم يعود فيبني على تلك المبادئ
سائر أحكامه و أفكاره و معتقداته و مذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيا من
السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لمعات حدسية اهتدت بها
البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان، أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة
و العلم ، قد يكون بابا من هذه الأبواب، ثم يسلط الإنسان على تلك "المبادئ"
قوته الاستدلالية - و ذلك هو " العقل"- ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن
يستخرجه من أحكام و أفكار؛ و مهما يكن ذلك المصدر الأول - و قد اختلف الفلاسفة في
أيها تكون له الصدارة- فهنالك شرط لا بد من الوفاء به، لكي تستقيم لنا المعرفة
الصحيحة بعد ذلك، و هو أن يمحو الانسانُ أخطاءه التي كان قد زلّ فيها قبل أن يستقي
العلمَ من مصدره المختار، و أن يسدّ الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاوده من
جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ إذ لا يجدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين
يكون وعاء الباطل مازال هنالك قائما إلى جواره؛ فالباطل - على مر الزمن- قمين[
كفيل] أن يفسد الحق، كما تفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح؛ فإذا جاء
الحق و ظهر - بأية وسيلة من وسائله- وجب كذلك أن يُزهق الباطل في اللحظة نفسها؛
فإقامة الصواب و تصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب و السلب يسيران
معا،الأول يثبت ما يستحق الإثبات، و الثاني يمحو ما لا بد أن يمحى.
![]() |
روني ديكارت |
و هذا بعينه هو ما حرص
على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعا، على اختلاف أزمانهم و تباين مناهجهم؛ فهم-
إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد- يُجمعون على إزالة الباطل و طمس مصادره.لتتم
لهم إقامة الحق و تفجير منابعه...
[... و هذا ما فعله رواد
المنهج الحديث فـــ] كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلاًّ منهما رجل،
أما أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت[(1650-1596)(René
Descartes) ]، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئاً من فكرة
داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي و ما وراءه؛ و
أما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون [ (Francis Bacon)(1626-1561)]،
الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئا من الطبيعة الخارجية و ما نشاهده في ظواهرها، ثم
نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها و نكون على يقين من صوابها.
و لكن ليختلفا كيف شاءا
في اتجاه السير ماذا يكون؟
![]() |
فرنسيس بيكون |
أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نقوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ و اقتلاع جذوره، حتى تُبذر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.
فالرجلان معا يلتقيان في
أن المعرفة الصحيحة ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن
اعترضتها العوارض فسدّت عليها الطريق: عوارض من أوهام الإنسان و نزواته و ميوله و
أهوائه و رغباته و شهواته و ما قد يصيبه من تعصب و تسرع، و من خضوع سهل لذوي
الشهرة و النفوذ من أقدمين و محدثين و معاصرين؛ لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق
مادامت نفسه و ما يجرى فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر
(هذا ديكارت) و مادامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق
الأمين ( هذا بيكون).لماذا يقع الإنسان في الخطأ، و الباطن قائم أمام بصيرته و
الظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن نضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟
فلماذا تفعل، و ما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟
لا بد أن يكون هنالك
عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رؤسنا ملئت - على غير وعي منا -
بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ، ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ و
لهذا عني الرجلان - ديكارت و بيكون- أول ما عنيا بأن يدقا في الرؤوس دقا عنيفا،
لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد[ كان
الأساتذة الجامعيون، عندما كنت طالبا، على رأس من يقوم بهذا الدق العنيف.و أذكر بهذه بالمناسبة، أستاذنا الدكتور عبد اللطيف أكنوش-
حفظه الله-، الذي كان يجيد هذا النوع من الدق..في رؤوس طلبة السنة الأولى حقوق،
بكلية الدار البيضاء، أو على الأقل هذا هو انطباعي عنه..].
الدكتور زكي نجيب محمود-
تجديد الفكر العربي- الطبعة السادسة- دار الشروق- القاهرة/بيروت 1400/1980- ص ص
21-26.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق