تطور المقاولة الصناعية منذ نشأتها إلى بدايات القرن 19
تطور المقاولة الصناعية
مرت المقاولة الصناعية،
بعدة مراحل و تطورات، منذ نشأتها (كمقاولة حرفية)، إلى أن صارت ( مانيفاكتورة)،في القرن 19؛و سنحاول، فيما يلي، التعرف على أهم هذه التحولات، مع الحرص على إبراز أهم
الخصائص و التطورات التي ميزتها في كل مرحلة من هذه المراحل..
أولا: المقاولة الحرفية:
ظل الإنتاج الصناعي، و منذ
أقدم العصور، يتم في إطار " صناعة الاكتفاء الذاتي"، حيث كانت الأسر( أو
حتى العائلات)، تنتج معظم الأشياء التي تحتاجها:كانوا يزرعون أو يصيدون ما يلزم
لغذائهم، و يصنعون ملابسهم، و أدواتهم و أوعيتهم البسيطة ( أواني الطبخ، و معدات
العمل، و بعض الأثاث، و مواد البناء..إلخ): وبذلك كانت الأسر، تشكل وحدات
اقتصادية، مغلقة، أما التبادل فنادرا ما كان يحدث.
و الذين كانوا يقومون
بالتبادل (أو التجارة)،كانوا فئة قليلة من الصناع المحترفين، الذين أدركوا أن من
مصلحتهم التخصص في بعض الأعمال، و تبادل منتجاتهم الصناعية مع الآخرين، للحصول على
حاجياتهم التي لا يستطيعون إنتاجها.
إلا أن عددهم ظل محدودا ،
طيلة العصور القديمة،و أغلبهم كان يزاول الصناعة، إلى جانب حرف أخرى كالزراعة،و
كانت معظم منتجاتهم الصناعية، تتم تحت الطلب: كان الصانع يعالج المواد الأولية
التي يأتي بها الزبون، و ينتج السلع التي يطلبها هذا الأخير، وفق المواصفات التي
يحددها. و نادرا ما كان يعمل من أجل البيع
منتجاته في السوق المحلية القريبة من بيته ، لزبائن لا يعرفهم.
و في نهاية العصور الوسطى، بدأ مبدأ "
الاكتفاء الذاتي يتلاشى"رويدا رويدا،في أوربا الغربية بالخصوص.فازداد عدد
الصناع،و بدؤوا يلعبون دورا كبيرا في النشاط الاقتصادي الأوربي.و رغم أن الزراعة مازالت
تستحوذ على مكانة كبيرة في النشاط الاقتصادي حتى نهاية العصور الوسطى، إلا أن
الأنشطة الصناعية و خصوصا التجارية، كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقا عريضا نحو
الصدارة، التي ستبلغها بعد حين.
و الصناعة في هذه المرحلة، مازالت
صغيرة و منزلية .و مازالت تتميز بنفس مميزات الصناعات القديمة،التي كان يمارسها
الحرفيون الأحرار في أثينا أو روما،و أهمها اجتماع عناصر الإنتاج بين يدي شخص
واحد، هو مالك المقاولة( مالك الرأس مال)، و هو مديرها، و هو العامل الوحيد أو
الأساسي فيها.
و كانت مجالات هذا الاستغلال
الحرفي، مازالت محدودة جدا، فأدوات العمل قليلة و بدائية، و لا وجود للآلات. و كان
الرأسمال ضعيفا، يكفي لدفع كراء محل صغير لممارسة لعمل، و شراء بعض الأدوات و
القليل من المواد الأولية. و كان العاملوون قلة، فالحرفي يعمل بنفسه، أو بمساعدة
أسرته( الزوجة و الأبناء) أو عائلته ( الأب و الإخوة و الأصهار)،و بعض المساعدين
من المعلمين المتدربين.
و كان الإنتاج الحرفي، في
ذلك الوقت، خاضعا لنظام خاص، يحدد شروط الانخراط في المهن و الحرف المختلفة، و
العلاقات بين أرباب العمل و العمال؛ و هو النظام التعاوني.و لا يتسع المجال هنا
للحديث بالتفصيل عن هذا النظام، إلا أنه لأهميته، بالنسبة لهذه المادة و مادة
" قانون الشغل " التي سيدرسها الطلبة في مرحلة لاحقة،نتناول هنا أهم
أسسه، و التي يمكن تلخيصها في التالي:
كان جميع المشتغلين بمهنة
واحدة في بلد واحد أو أكثر، يتكتلون و يؤلفون لأنفسهم رابطة(
طائفة="نقابة") لها نظام قائم على التقاليد و العرف، و يرعى مصالح هذه
الرابطة، الحاكم في المنطقة ( اقطاعي صغير أو كبير، أو حتى الملك) مقابل فوائد
يجنيها منها (الرابطة).و هكذا،كان باستطاعة الرابطة تمنع- بتأييد من الحاكم في
المنطقة- أن ينافسها أحد، أو ينتحل الصنعة من ليسوا من أبنائها. كما كان للرابطة
محكمة مؤلفة من كبار معلمي الحرفة المحلفين، سميت (Jurande)،في فرنسا مثلا، وظيفتها: مراقبة
أعمال جميع أعضاء الرابطة، و الإشراف على فحص الصناع و الحرفيين الجدد، و وضع
القيود الصناعية ليرعاها أبناء المهنة في أعمالهم.
كان القصد من هذا التقييد،
حصر العمل بأبناء المهنة فقط لمنع المنافسة، و إنتاج السلع و البضائع المتقنة من
نوع واحد و جنس واحد و سعر واحد( و كان في هذا حماية للمستهلك ، من ناحية أخرى).
في هذه المرحلة من تطور
الصناعة، كان الانتاج محدودا ، يتناسب مع عدد السكان القليل في القرون الوسطى
الأوربية. و لذلك كان الصناع يهتمون بالكيف ( الجودة) أكثر من اهتمامهم بالكم ( و
يشهد على ذلك التحف التي خلفتها العصور الوسطى).إلا أن ذلك الكم ،في الواقع،لم يكن
كافيا لتلبية كل الحاجيات، و لا لتأمين نمو التبادل، و ازدهار الاسواق.
غير أنه،مع ازدياد عدد
السكان،في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر، و تعدد و تنوع مطالبهم،لم يعد الإنتاج
المحلي يكفي،كما ازدياد الاقبال على شراء السلع غير الكمالية (الأواني،و الأدوات،
و الأقمشة..)، تلعب دورا تجاريا هاما. لا سيما بعد الاكتشافات الجغرافية، و تدفق
المعادن النفيسة من أمريكا على أوربا. و
أيضا، مع عودة الاستقرار السياسي،خاصة بعد ظهور الدول القومية "الحديثة
النشأة"، و إزالة الحدود التي كان قد وضعها نبلاء الإقطاع، عادت المدن لتزدهر
من جديد، بل توسعت أكثر من ذي قبل، و أصبحت مراكز تجارية نشطة، و أسواقا يبيع فيها
الحرفيون و المزارعون منتجاتهم.
و هكذا فقد بدأت النهضة
التجارية،من الأسواق المحلية،التي كانت تقام قرب أو داخل المدن. والأسباب التي
تفسر ذلك كثيرة، منها صعوبة النقل، و بالتالي عدم إمكانية انتقال السلع و الأشخاص،
على نطاق واسع.بالإضافة إلى ذلك لم تكن الطرق سالكة و آمنة، و نضيف إلى ذلك أيضا
تعدد و اختلاف الأنظمة القانونية، و الأعراف و التقاليد التجارية، من "
إقطاعية" إلى أخرى.
و في البداية، لم يكن
الحرفيون ينتجون إلا لهذه الأسواق المحلية، و غالبا تحت و حسب الطلب (sur commande)؛ إذ كانوا ينتجون فقط سلعا سبق
طلبها و دفع ثمنها أو ضمن تصريفها سريعا،بوساطة تاجر وسيط،مقابل نسبة من ثمن
البيع.و لا عجب في ذلك، فقد كان الاقتصاد، لا يزال اقتصاد احتياجات محلية معروفة و
محدودة( و كان أغلب الحرفيين يوجدون في المدن، و لكن في الريف أيضا كان هناك
حرفيون و صناع ، ينتجون بعض المصنوعات، في أوقات الفراغ فقط،لتحسين دخلهم، أو
لتوفير منتوجات لدفع أقساط كراء الأراضي التي يستغلونها في الاقطاعية).
و قد نتج عن ذلك، عدم تخوف
من تضخم السوق- (وجود سلع معروضة(عرض)، أكثر من الطلب عليها)-؛ إذ ظل الإنتاج متوافقا
مع الاستهلاك، بل أقل من الاستهلاك في الكثير من السلع و الخدمات.و بالتالي
فالتوازن الاقتصادي بقي كان متحققا.
إلا أنه لوحظ في نهاية هذه
الفترة، أن نفوذ الحرفي، بدأ يتقلص مع توسع الأسواق الحضرية،و تحولها إلى أسواق
وطنية، و أحيانا دولية، تجمع باعة و مشترين قادمين من أماكن بعيدة جدا( و أهم هذه
الأسواق الدولية، كانت تقام في مقاطعة " شمبانيا"(Champagne) الفرنسية، الواقعة في الشمال
الشرقي الفرنسي، عند تقاطع الطرق البرية الآتية من إيطاليا، و الذاهبة إلى هولنذا
و بلجيكا الحاليتين).
و قد بدأ هذا التوسع
التجاري، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، و السبب الرئيس في ذلك، هو زيادة الاتصال
بين الناس ، و بين الحضارات، و يكفي أن نسوق هنا، الحروب الصليبية، التي شجعت
التجارة بين أوربا و الشرق الأوسط،و بهذه الطريقة ربطت أوربا نفسها بآسيا و
إفريقيا أيضا، بوساطة التجارة الإسلامية. و لقد استفاد الإيطاليون، من هذه
العلاقات التجارية،فبنوا أساطيل عظيمة،في أغلب مدنهم الجنوبية مثل جنوة، و بيزا، و
البندقية.كما شقوا طرقا برية، نحو شمال أوربا أيضا.فأرسلوا السفن عبر البحر، و
القوافل عبر البر، تحمل السلع الأسيوية و الإفريقية و العربية و الأوربية، من
منطقة أوربية إلى أخرى.
ثم ما لبث هذا التوسع
التجاري المتصاعد و المتمدد عبر القارات، أن عرف دفعة "جبارة" أخرى ، بل
غير مسبوقة،نتيجة الاكتشافات الجغرافية لما وراء البحار في القرن الخامس عشر. و
نتيجت لهذه الاكتشافات أقيمت طرق دولية أخرى للتجارة، بين أوربا و افريقيا و الهند
و جنوب الشرق الأسيوي، مباشرة، و دون الحاجة إلى الوسيطين الإسلامي و الإيطالي:و
بذلك تحول مركز التجارة الدولية من البحر الأبيض المتوسط( الشرق العربي و
إيطاليا)، إلى الدول الأوربية المطلة على المحيط الأطلسي ( إسبانيا، و البرتغال، و
فرنسا، و انجلترا، و هولندا)[1].
و نتيجة لهذا التوسع، منافس
قوي للحرفي هو التاجر الوسيط.في الواقع لقد كان هذا التاجر موجودا، و لكن
إمكانياته المالية(رأسماله)، و مجال عمله كان محدودا، فقد كان يحصر نشاطه في
المجال المحلي.أما الآن، فنحن أمام وسيط من نوع آخر، له إمكانيات أكبر، و مجال
نشاطه يشمل الوطن كله، بل يمتد إلى الأسواق الأجنبية أيضا:يشتري كميات كبيرة من
المنتجات المحلية و الوطنية، و يعيد بيعها في أسواق أخرى وطنية أو أجنبية.
و من هنا،و كي يستفيد من
الإمكانيات التي يتيحها له هؤلاء الوسطاء، في بيع منتجاته بكميات أكبر؛ انتقل
الحرفي،ليوسع نشاطه هو الآخر و ينميه، من الورشة او " المصنع المنزلي"،
إلى محل أو ورشة أكبر، يستطيع أن يمارس فيه أنشطة أكثر، و يجمع فيه عدد أكبر من
العمال و المساعدين، و المواد الأولية،..إلى غير ذلك مما يحتاجه في عمله.
و هكذا، توافرت الظروف
للانتقال من الانتاج الحرفي الضئيل،الذي كان يتم تحت الطلب، لتلبية حاجيات الجيران
أو الاصدقاء أو العائلة..أو غيرهم من الزبائن المعروفين، إلى الإنتاج الضخم،
الموجه للأسواق الكبيرة( بمقاييس ذلك الزمن طبعا).غير أن الحرفي، أصبح تحت "
رحمة " التاجر الوسيط.ثم ما لبث هذا المقاول في التجارة أن تحول إلى
"مقاول في الصناعة أيضا"، فأثبت أنه منافس قوي للحرفي الصانع، و سرعان
ماقضى على استقلاله، و حوله إلى " أجير عنده"، كما سنرى فيما يلي.هذا من
جهة.و من جهة أخرى؛فقد نتج عن هذا التطور الذي طرأ على "حجم الصناعة
الحرفية" و توجهها نحو "الأسواق الوطنية و الدولية" ، إشكالية
عويصة، تمثلت في أن المنتج لم يعد يعرف هوية الزبون، و لا حاجياته الحقيقية:و
بالتالي، استعصى عليه أن يعرف ماذا ينتج؟ و كم ينتج؟ و متى ينتج؟
و هي أسئلة، سيتصدى علماء
الاقتصاد للإجابة عنها، ابتداء من " المركنتيليين"، و مرورا
بالكلاسيكيين ، و وصولا إلى الكلاسيكيين الجدد ( النيو كلاسيكيون= الحديون)، و
سنرى كيف فعلوا ذلك في المحاضرات( و في هذا العرض أيضا، سنرى كيف أجاب الكلاسيكيون،
على هذه الأسئلة).
و مهما يكن الأمر، فإن هذا
التحول الذي طرأ على المقاولة الصناعية الحرفية،يعتبره معظم مؤرخي الاقتصاد،
"ثورة حقيقية"، دفعت بالصناعة الحرفية خطوة كبيرة إلى الأمام،و جعلتها
تصل إلى تحقيق ثورة أخرى، هي الثورة الصناعية الكبرى، في القرنين الثامن عشر و
التاسع عشر.
و الجدير بالذكر هنا، أن المؤرخين
الماركسيين، يرون أن هذا التطور الذي حدث ، لم يحصل نتيجة الدور الذي قام به التاجر
الوسيط فقط، بل شارك فيه الحرفيون أنفسهم، إن لم يكونوا هم الذين تحملوا العبء
الأكبر منه. ذلك أنهم بفضل ما استطاعوا مراكمته من رأسمال،اتجهوا نحو التجارة،
ليستفيدوا من توسع الأسواق، فبدأوا بتنظيم نشاطهم على أسس رأسمالية -(تأجير
العمال، والإنتاج للسوق، من أجل تحقيق الربح، و إعادة استثمار الأرباح في الانتاج..)-
متحررين بذلك من قيود الطوائف (الرابطات الحرفية، التي تحدثنا عنها أعلاه).
إن هذه العملية التي وصفها
" كارل ماركس"، بـ " الطريق الثوري حقا"، هي التي أدت، في
نظره، إلى نشأة الرأسمالية التجارية ( الماركنتيلية)، فكانت بذلك هي " جنين
العلاقات الانتاجية الرأسمالية"، التي ظهرت ضمن المجتمع الإقطاعي، و التي
ستستغرق سنوات طويلة- عدة قرون في إنجلترا مثلا- حتى تنضج..و تعطينا الثورة
الصناعية..و بالتالي الرأسمالية الصناعية.
و لو حاولنا، أن نلخص أهم
مميزات المقاولة الحرفية، التي امتدت من بداية العصور الوسطى إلى ما قبيل الثورة
الصناعية، ماذا يمكن أن نقول؟
خلال العصور الوسطى، بدأت
تتشكل المعالم الأولى للمقاولة الحرفية الصناعية، و التي كانت تهدف في البداية إلى
تحقيق الاكتفاء الذاتي: المهم هو تدبير الحاجيات اليومية،أما فكرة البحث عن زيادة
الثروة، بتحقيق الأرباح، فلم تكن مطروحة ، في هذه المرحلة من تطور المقاولة
الحرفية الصناعية.
و لقد ارتبط هذا النوع من
المقاولة، بالصناعات التقليدية المنزلية، التي تنتج المنتجات الضرورية للأسرة أو
العائلة ( أو الجيران )، تحت إشراف رب الأسرة ، الذي كان هو رئيس العمل( المُعلم = Le maitre ) ، و هو المسير، و هو صاحب رأس
المال.
و رغم أن هؤلاء الحرفيين،
كانوا في معظمهم "هواة"،و أعني بالضبط الحرفيين الذين كانوا يمارسون
أعمالهم في الأرياف. إلا أن المحترفين منهم، و الذي كانوا يزاولون نشاطهم في
المدن، توافروا على مؤهلات و مهارات و خبرات تؤهلهم للعمل، إذ كانت هناك
"طوائف أو نقابات"، تنظم المهن، و تحرص على حسن سير العمل، و تتقاضى
منهم "إتاوات و ضرائب"، لحمايتهم،يؤدى جزء منها للملك أو النبيل
الإقطاعي، و تحتفظ النقابة المهنية التي ينتمي إليها الحرفي ، بالباقي.
أ- تنظيم المقاولة الحرفية:
كانت المقاولة الحرفية،
صغيرة الحجم، و لا تتطلب فضاء أو مساحة كبيرة :كانت غرفة كبيرة في المنزل، أو جناح
منه، يكفي لهذا الغرض.
و كان المقاول الحرفي ،
يملك المكان، في الغالب، و يملك كل ما فيه من أدوات و معدات و مواد أولية، كما أن
كل العاملين فيه، كانوا يعتبرون " ملكا له"، باعتبارهم أفراد أسرته: لقد
كانت الفكرة السائدة عند هؤلاء الحرفيين، هي أن يكون المشروع مملوكا للأسرة وحدها،و
يجب أن يبقى منحصرا فيها. و لذلك لم يلجؤوا إلى اقتراض الأموال من خارج الأسرة،بل
لم يستعينوا بالعمال من خارج العائلة ، و إن فعلوا فسرعان ما يعملوا على إدماجهم
في الأسرة، بطريقة أو أخرى( و يشجع على
ذلك، العلاقة الأبوية التي تنشأ بين المعلم و العمال الذين يتدربون عنده،فيبقى
ولاؤهم دائما لمعلمهم، و يصعب عليهم الانفصال عنه ).
ب- تنظيم العمل فيها:
إن تنظيم العمل،كان يعتمد
على تراتبية (هرمية)، من ثلاث مستويات أو درجات، تكاد تكون نسخة طبقة الأصل من
النظام الاقطاعي (الفيودالي):في أعلى الهرم، يتربع المعلم، بسلطاته الواسعة، التي
لا يحد منها، إلا سلطات النقابة، و الإقطاعي.بعده، في الدرجة الثانية، يأتي الرفيق
أو الزميل( Le compagnon)، ثم في الرتبة أو الدرجة الأخير
نجد المتعلم (L' apprenti ).
فلقد كان المتعلم يلتحق
بالحرفة، و هو صغير السن،فيربى و يتعلم في أحضان أسرة المعلم، كما لو كان واحدا
منها، فيتلقى تكوينا حرفيا، يتعرف من خلاله على أسرار المهنة، و قد يستغرق ذلك مدة
عشر سنوات.و بعدما يصبح مؤهلا للمارسة الحرفة، يصعد إلى الرتبة الأعلى، أي يصبح
"رفيقا" للمعلم، فيصير بإمكانه امتلاك أدوات العمل الخاصة به، و لكن
انتاجه يحسب في مصلحة المعلم.و لا يسمح له بأن يصبح" معلما" مستقلا
بعمله ، و له أن ينشيء مقاولته الخاصة ، إلا بعد ان يجتازا امتحانا،يثبت فيه
مهاراته و قدراته،قد يتمل في الغالب في انجاز عملا " استثنائيا" أو
" تحفة"( Chef- d'oeuvre )[2].
ج- صناعة القرار فيها:
لست في حاجة إلى القول،
بعدما عرفنا المكانة الخاصة التي يتمتع بها " المعلم"، أن كل قرارات
الإنتاج تعود إليه: فكل العمليات تنطلق من المعلم، و تتم تحت مسؤوليته، ابتداء
من تسلم الطلبيات -و التي قد تكون كثيرة و
متميزة جدا[3]،
إذا كان هذا المعلم قد نال شهر واسعة في مجال عمله-،إلى وضع التصورات الأولى
لتنفيذها، مرورا باقتناء المواد الأولية،و وضع التطورات موضع التنفيذ، و انتهاء
بتسليم البضاعة إلى طالبها[4].
ثانيا:المانفكتورات
في ظل نظام الصناعة
المنزلية، كان الحرفي مازال يملك أدواته التي يستعملها في العمل ( وسائل الإنتاج)،
و يعمل بنوع من الحرية في ورشته الصغيرة أو الكبيرة نسبيا، و ينظم عمله باستقلال
نسبي عن التاجر الوسيط( الذي كانت إمكانياته محدودة، و مجال نشاطه محليا،
بالأساس).
كل هذا الكلام ، ليس إلا
تذكير بما قلنا أعلاه..و قلنا أيضا، أنه مع توسع الأسواق التجارية، و ازدياد الطلب
على السلع- مع ظهور الدول الوطنية، و استقرار الأوضاع، و أيضا نتيجة الاكتشافات
الجغرافية..إلخ-،سيفقد هذا الحرفي استقلاله، و سوف ينتقل من وضعية المقاول ( الصغير)
إلى وضعية المقاول "الأجير"، الذي يتلقى أجرا من التاجر الوسيط، و يتلقى
منه أوامر عن العمل:كيف و متى يعمل..و ماذا و كيف ينتج..و ربما يمده بأدوات
العمل..و بالمواد الأولية خصوصا.
و بالفعل، فإن التاجر
الوسيط، أو فلنقل المقاول التاجر- و هو الأصح- ، الذي كان يمضي جزءا من وقته
متنقلا بين المنازل، حتى ينظم و ينسق عمليات الإنتاج، ثم يتسلم المنتجات، ليعمل
على تسويقها؛وجد أنه من الأفضل بالنسبة له، أن يجمع كل المتعاملين - حتى لا نقول
العاملين معه- في مكان واحد.فالمقاول التاجر، الذي كان يحترف بيع الملابس الصوفية
مثلا، و كانت تصنع باليد غالبا حتى منتصف القرن الثامن عشر، كان يشتري الصوف من
أصحاب الماشية، ثم يعهد به إلى رجال في قرية معينة لينظفونه، و آخرين - في نفس
القرية أو غيرها- أن يغزلونه،و آخرين ينسجونه، و آخرين يهذبونه، و يصبغونه..ثم
يحمل الملابس الصوفية،بعدما اكتملت صناعتها، ليبيعها إلى أصحاب المحلات في
المدينة، أو التجار الدوليين..
إن هذا المقاول التاجر،
مالبث أن أدرك أن من مصلحته أن يؤسس - يبني أو يشتري أو يكتري- ورشة كبيرة
(مانيفاكتورة)(manufactures)،
يجمع فيها كل الحرفيين الذين يحتاجهم.و لأن العقارات في المدن، كانت مرتفعة
الثمن،هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، كان أغلب العمال من الريف، كما أن معظم
المواد الأولية كانت تأتي من الريف؛ فقد خرج هذا المقاول بصناعته اليدوية، من
المدن الإنجليزية إلى الريف.
و مع هذه المانيفاكتورات
الكبيرة نسبيا، ظهرت الحاجة إلى الاستعانة برؤوس الأموال الضخمة، نسبيا.فتمت
الاستعانة بنظام الشركات، إذ بدون ذلك كان سيصعب تجميع الأموال الكافية لشراء
الآلات، و الأراضي التي ستقام عليها ورشات العمل، و دفع أثمنة المواد الولية، و
أجور العمال..إلخ، في المراحل الأولى من الإنتاج ( أي قبل بيع المنتجات)، أي قبل
أن تصبح الناعة قادرة على تمويل نفسها بنفسها.
و يعتقد كثير من المؤرخين،
أن هذا النظام في التمويل- الشركات- ، قد حصل ابتداء من القرن السادس عشر على الأقل،و امتد بعد ذلك،
بشكل تصاعدي، لاسيما بعيد بدأ الثورة الصناعية( على تفاوت بين المناطق و الدول).
و لقد كانت المانيفاكتورات،
حتى في هذا الوقت المبكر نسبيا، تتوافر على كل الخصائص التي طبعت لاحقا المقاولات
الحديثة،بل و المعاصرة أيضا، على الأقل إذا نظرنا إليها من ناحية ملكية رأس
المال:لقد أصبح هناك فصل بين رب العمل و العمال، فلم يعد رب العمل هو ذلك الشخص الطبيعي
الذي يعرفه العمال عن كثب، بل أصبح شخصا معنويا، هو الشركة. و رأيسهم في العمل،
مجرد أجير مثلهم..، و إن كانت مصالحه مختلفة، في الكثير من الحالات، عن مصالح
العمال و عن مصالح الشركة أيضا..
بالإضافة إلى ذلك، بل قبل
ذلك، لقد أدى تحول المقاولة " الحرفية" من العمل تحت الطلب، إلى العمل
الموجه للسوق، أن أصبحت خاضعة لنظام السوق، و قوانين العرض و الطلب..
و بالفعل، فلقد أصبحت
المقاولة الآن رأسمالية، لا تعمل لتلبية حاجيات " المقاول الفليلة"،بل
من أجل تحقيق الربح..و لتحقيق أرباح كثيرة ، يجب عليها أن تنتج كميات كبيرة. و لكن
السؤال الذي أصبح يفرض نفسه على المقاول التاجر الرأسمالي هو: كيف يمكن التوفيق
بين الانتاج مع احتياجات السوق؟ و من يعرف بالضبط احتياجات السوق؟ من سيشتري
منتجاتنا؟ و كيف نحدد أسعارها؟ كيف نتغلب على المنافسين؟..؟
ففي ظل الاقتصاد
الطبيعي المغلق، في أزمنة ملاك العبيد، أو
في العهد الإقطاعي، كانت المشكلة منحلة؛ إذ كان الحرفي الحر ينتج وفق الطلب، و
لزبائن معروفين: فكان الحرفي العبد، في العهدين اليوناني و الروماني، ينتج لتلبية
حاجيات مالكه.و كان القِن(عبد الأرض) ينتج لأسرته و للسيد الإقطاعي، في العهد
الإقطاعي( الفيودالي).
أما، في ظل اقتصاد رأسمالي،
يعتمد على السوق، فقد أصبح الانتاج يوجه إلى زبائن افتراضيين، و مجهولين لدى
المقاول التجاري، في الكثير من الحالات.فلو طرح عليه سؤالا من نوع: كم من البضائع
تنتج؟ و ما هو الثمن الذي سيدفع لك مقابلها؟ ..لما أمكنه الجواب، بشكل دقيق..
هنا، جاء علماء الاقتصاد،
ابتداء من أمثال "آدم سميث"، ليقولوا
بأن الجواب على هذه النوعية من الأسئلة، لا تتوافر عند المنتج، بل السوق هو
الذي يحددها.كيف؟
يقول "آدم سميث"
، مثلا، و تابعه على ذلك الكلاسيكيون و حتى الكلاسيكيون الجدد،أن السوق- و هو
عبارة عن مجموعة من المتعاملين في سلعة واحدة، وحداتها متماثلة كل التماثل- هو
الذي يتيح التقاء العرض (عرض السلع ) بالطلب (طلب تلك السلع)،وفق
"قوانين" السوق، أو وفق قوانين العرض و الطلب.
فما هي أهم مقتضيات هذه
"القوانين"؟( و بالمناسبة،فالكلاسيكيون، يعتبرون هذه القوانين جزء من
النظام الطبيعي (L'ordre naturel)، الذي خلقه الله، و بالتالي فهي قواعد " أزلية"..لا
تتغير).
تقضي هذه القوانين، بأنه
إذا كان حجم الانتاج من البضائع و السلع غير كاف،مثلا من الملابس الصوفية، لتلبية
حاجيات الطلب (عليها)، ارتفع ثمنها، نتيجة التنافس بين الناس و رغبتهم الشديدة في
الحصول عليها(غير أن هذا الطلب، لا يحسب إلا إذا كان أصحابه قادرون على دفع الثمن
الذي يحدده السوق).و عندما يرتفع الثمن، ترتفع أرباح المنتج (صاحب العرض= الذي
يصنع هذه الملابس الصوفية).هذا الربح، سرعان ما يحمل مقاولين آخرين على الدخول إلى
هذه السوق(إنتاج الملابس الصوفية)، لعرض بضاعتهم. و بدخول هؤلاء المنتجين، و أيضا
نتيجة تزايد الطلب على سلع المنتج أو المنتجين الموجودين أصلا في السوق،يزداد
الطلب على اليد العاملة (لاسيما الماهرة في غزل و نسج الصوف..)، و على الرأسمال
للتوسع في الانتاج (شراء آلات، و شراء مباني و عقارات..). و يزداد كذلك الطلب على
المواد الأولية التي تستعمل في هذه السوق الرائجة،..فيتم جذب كل هذه العناصر من
حرف و أنشطة أخرى( أي أسواق أخرى).و تكون النتيجة ..هي انخفاض أسعار الملابس
الصوفية.
و عندما تنخفض أسعار
الملابس الصوفية، فإن أرباح منتجي هذه السلعة، تنخفض، مما يجعلهم يخفضون من
إنتاجهم ( العرض)، بل إن بعضهم قد ينسحب من السوق، فيتجه إلى انتاج سلع أخر؛ فتكون
النتيجة هي تقلص العرض من الملابس الصوفية، قياسا إلى الطلب عليها،فتعود أثمانها
للارتفاع من جديد.
و هكذا،فإن أسعار أي سلعة،
تميل في السوق الحرة- المطبوعة بالتنافس- ، تميل إلى التذبذب حول القيمة الحقيقة
للسلعة- و هي تكلفة الإنتاج في المدرسة الكلاسيكية-، إلى أن تستقر على وضع يتحقق
فيه الثمن المناسب( الطبيعي)، الذي يرتضيه الجميع.
و هكذا،فإن السوق الحرة،و
عن طريق آليات المنافسة الحرة هي الأخرى، تعمل على تخصيص و توزيع الموارد
الاقتصادية( الموارد الطبيعية، و اليد العاملة، و الرأسمال)على مختلف المجالات،
بما يخدم مصلحة الاقتصاد.
[1] " في القرن الخامس عشر و السادس عشر سيطرت
إسبانيا و البرتغال على التجارة العالمية،ثم إنهما فقدتا هذه السيطرة في القرن
السابع عشر، فخَلَفهم الهولنديون في هذا الميدان.و في أواخر القرن الثامن عشر،
بدأت الثورة الصناعية في إنكلترا ثم امتدت إلى فرنسا ( بعد عام 1830)، فانتقل زمام
التجارة العالمية إلى بريطانيا و فرنسا، و اشتد الصراع التجاري بين الدولتين،
فكُتبت الغلبة آخر الأمر للبريطانيين..": موسوعة المورد- المجلد الثالث- مادة
" التجارة"- ص 64.
[2] "..و كان النظام الطائفي في أول الأمر يفسح
أمام جميع الرفقاء باب الارتقاء إلى رتبة معلم حيث يرتقي إليها من يثبت جدارته. إلا
أنه ابتداء من القرن السادس عشر، أصبح الارتقاء إلى رتبة معلم يزداد صعوبة إذ
أصبحت هذه المرتبة محتكرة بين أيدي بعض العائلات التي تتوارثها ابنا عن
أب...":د.موسى عبود- دروس في القانون الاجتماعي- ص 19.
[4] هذا النوع من المقاولات الفردية، أو التي يحتكر
فيها شخص واحد كل المهام، مازلنا نعثر عليها إلى يومنا هذا، و تتمثل ، على سبيل المثال،
في المحلات التجارية الصغيرة، و بعض الحرف التقليدة ( إسكافي ، حداد، بائع الخضر و
الفواكه..).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق