كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي
تقسيم العمل ..و الاقتصاد الأمريكي
(1929-1830)
كتب البروفسور
لورنس ج.ر.هرسون(Lawrence J.R.Herson)، في كتابه (The
Politics of Ideas)، الذي ترجم إلى الى
العربية تحت عنوان" سياسات..و أفكار":
[...] لقد كانت الأمة الأمريكية الجديدة في حاجة
ماسة إلى البنادق و المدافع و الذخيرة" بكميات كبيرة"..و من ثم فقد
اقترح إيلي هويتني[(Eli Whitney)(1825-1765) ] - ذلك الشخص الذي مكنته "عبقريته"
من تحسين آلة تمشيط القطن (وحلجه)..-[...] أن يكون صنع البنادق المسماة بنوع الماسكت
، و اللازمة للمشاة، عن طريق تقسيمها بصورة تجعلها ذات " أجزاء"
تكون قابلة للتبادل " أي بأسلوب يجعل من السهل وضع كل جزء مكان الآخر، و
استخدامه بدلا منه".
[...] و الآن ،
تأمل-على سبيل المثال- كل ما تندرج تحته من نتائج و خطط و عمليات، فكرة تلك
البنادق التي يتم تصنيعها بالطريقة التي اقترحها هويتني في هذا الصدد..
إن الأسلوب
"التقليدي" ، القديم، لصنع البنادق كان يقضي بأن تصنع كل "
بندقية" عن طريق عامل واحد - أو بمساعدة معاونيه من " صبيان
الحرفة"- و من ثم ، فإن كل بندقية
تصنع بكاملها،
كشيء قائم بذاته، ..و بعبارة أخرى، كانت كل أجزائها تصنع على وجه التخصيص، بالنسبة
لكل بندقية، على حدة..ثم تركب معا بمنتهى الدقة و الإحكام و التأني.
[...] و الآن- و
على النقيض تماما من هذا النظام التقليدي العتيق- يمكنك أن تقارن نظاما آخر، يقوم
على مبدأ الانتاج الكبير، الذي يتم على الصورة التالية:
إن جميع الأجزاء،
بالنسبة لجميع البنادق" التي من طراز ما قد وحدت قياسيا"،فصارت كلها
واحدة، و نمطية، أي أنها متماثلة تماما.. و على ذلك،فإن من الميسور - في هذه
الحالة- تخزين قطع الغيار اللازمة للاصلاح مقدما..و حتى قبل أن تمس الحاجة
إليها..و بهذا يتسنى، أيضا، إصلاح أي " بندقية" من " مخزون"
قطع الغيار الضخم.
و بهذا، يكون من
الممكن فنيا تفتيت عملية صنع البندقية إلى جملة مراحل، أو خطوات،
تشكل كل منها جزءا من أجزاء السلعة النهائية الصنع " أي البندقية في حالتنا هذه"..و على
هذا، ينبغي ألا يكون أي عامل في حاجة إلى أن يعلم من تفصيل مهمته أكثر من حدود
المهارة اللازمة لانتاج الجزء المسئول عنه، لا غير!
و نتيجة لهذا
الأسلوب، سوف يرتفع معدل الإنتاج،لأنه لن يكون محدودا- بعد الآن- بحدود أوقات و
طاقات أولئك الذين يملكون قدرا كافيا من الدقة و المهارة، التي تمكن كلا منهم من
صنع البندقية برمتها، و كامل أجزائها، كعمل فني واحد و متكامل..
[...] إن صنع
" منتج سلعي" بأسلوب انتاج الأجزاء المتبادلة، أو المتعاوضة - و على
نطاق واسع- ...هو ذات التكنيك أو الأسلوب الفني الذي أطراه- ونصح به- العالم
الاقتصادي الكبير آدم سميث،بوصفه الطريق السلطاني [ الطريق الأفضل] إلى
تحقيق أضخم و أعظم إنتاج، بأقل تكلفة
اقتصادية ممكنة..
[...] و على أساس
هذه القواعد، و الظروف الانتاجية الجديدة، يصبح إنتاج الأجزاء المتبادلة- أو بمعنى
آخر أجزاء المعاوضة، في منتج؛ مرتبطا- من ناحيتي المفهوم الفكري و التطبيق العملي
على السواء- بروح و منطق، النظام الرأسمالي.و لقد يكون الأمر الأهم من ذلك بالنسبة
لنمو، و تطور، هذا النظام الذي بدأ الأوربيون يحمدونه، و يطلقون عليه اسم "
النظام الأمريكي في الانتاج" - هو ما تحقق بعدئذ من أفكار و نظريات بشأن
تقسيم العمل، و تبسيط الإجراءات، و تحليل الوظائف و المهام.. مما جعل من الميسور (
بصفة مطردة) ابتكار أنواع الآلات، و الماكينات، و العُدد التي تضطلع بمهمة كل جزء
من أجزاء كل منتج على حدة.و إذا نحن رجعنا إلى الوراء حتى عام 1853، و جدنا "
صمويل كولت"[(S.Colt)(1862-1814)] (مخترع الروفلفر أو
الغدارة)[= المسدس]، قد بنى مصنعا لانتاج " الغدارات" استخدم فيه (1400)
آلة ميكانيكية ، كل آلة منها مختصة بصنع جزء من أجزاء الغدارة وفق نظام الانتاج
الكبير!
و من مرحلة انتاج
البنادق و المضخات و الساعات[- التي اتبع فيها نفس الأسلوب في العمل-]، انتشرت
الأفكار و الأساليب الفنية الحديثة - المستخدمة في عمليات الانتاج الكبير- و تطرقت
إلى ابتكار آليات و ماكينات أكثر تركيبا و أشد دقة و تعقيدا..و التي من قبيل آلات
حصاد المحاصيل الزراعية، و آلات الخياطة (و بحلول سنة 1848، كان " سايروس ماك
كورميك"[ (C.McCormick)(1884-1809)]- مخترع الحصادة
الآلية- ينتج 4000 آلة في كل عام).
و الواقع ذهب
البعض إلى أن الحرب الأهلية الأمريكية، إنما قد تم الانتصار فيها للشماليين، بفضل
انتاج البنادق و الذخائر الحربية اللازمة، و كذا الأحذية و الملابس، بفضل اختراع
الآلات التي اخترعت وقتئذ لتحقيق هذا الانتاج الكبير، و من بينها آلات الخياطة[1]..فضلا
عما تحقق من سهولة و انتظام، في عمليات الحصاد الزراعي، بفضل التوسع في انتاج تلك
الحصادات الزراعية السابق الإشارة إليه.
هذا، و يحاول
مؤرخو التكنولوجيا - من خلال تأملاتهم المتعمقة لجذور هذا الموضوع- تفسير السبب في
نجاح نظام الانتاج الكبير عندنا، فيرون أن هذا النظام هو امتداد لمنطق "
الثورة الصناعية" الأوربية، و لتطبيقاتها العملية..و من ثم كان من اللازم أن
يزدهر بدوره فوق صعيد التربة الأمريكية أيضا، و معظم الناس يتفقون على أن السبب
المهم الذي أسهم في نجاح نظام الانتاج الكبير في العالم الجديد، هو نقص عدد السكان
في أمريكا (وقتئذ)..
و بفضل هذا النظام
- الذي غدا متاحا على نطاق واسع - عملت الآلات ( لا من أجل التخفيف من عناء
الانسان فحسب، و مواجهة الحاجة المستمرة إلى العديد من الأيدي العاملة..الأمر الذي
لم يكن ميسورا مع النقص النسبي في عدد السكان)- بل سمح كذلك، و لعدد أقل نسبيا ،
أن يضطلعوا بإنتاج و توزيع السلع المختلفة، و الأغذية اللازمة ، بدرجة أكبر
حجما..و على نطاق أكثر اتساعا و انتشارا..
إلا أن اقتصارنا
على رؤية النظام الأمريكي كمجرد صورة للإنتاج الكبير عامة، أو لنظام القطع
المتبادلة ( أو المتعاوضة) في المنتج الواحد بكميات هائلة..أو حتى صورة
لاستخدام الآلية لصنع الآت أكثر دقة و تعقيدا مثل السيارات و الآلات
الكاتبة..إلخ..
ان اقتصارنا على
مثل هذه الرؤية المتعجلة تفقدنا، في الواقع، كثيرا من حقائق الوضع و دلالاته..ذلك
أن الرأسمالية هي بمثابة ثقافة و نظام الانتاج الكبير في الولايات المتحدة
غدا الحد، أو المعيار القاطع في قيام " نظم فرعية رأسمالية ثقافية"، لها
صبغاتها السياسية و الاقتصادية البارزة..و الحق أن نظام الانتاج الكبير قد اندمج
تماما في نسيج الحياة الأمريكية ذاتها، و أصبحا معا كلا واحدا.
و لكي نعي بوضوح
ملموس، كل هذه المفاهيم " المجازية"، فإن علينا أن نتأمل أن منطق
الانتاج الكبير، و تطبيقه العملي ، إنما يعنيان:
1- انتاج سلع و
بضائع بتكاليف أكثر انخفاضا بصورة مطردة؛
2- و من ثم أيضا،
يتسنى جعل المنتجات الغذائية و السلعية، متاحة لأولئك الذين هم في أدنى درجات
السلم الاقتصادي؛
3- و بالتالي،
يتسنى الاسهام في رفع مستويات المعيشة في المجتمع برمته؛
4- و الأكثر من
هذا، فإنه يتسنى أيضا، بفضل مبدأ تقسيم العمل ، و مبدأ التخصص في الانتاج الجزئي
لأقسام ، و أجزاء المنتج الواحد؛اتاحة فرص العمل لأولئك الذين ليس لهم إلا مهارات
قليلة، أو تدريب منخفض المستوى نسبيا، و بذلك نوفر عليهم الوقت الطويل، و كذا
النفقات الضرورية، مما كان سيتطلبه الأمر لو أنهم قضوا فترة التلمذة الصناعية
بتمامها لإعدادهم مهنيا؛
5- هذا إلى أن
عادات و احتيجات المعامل و المصانع، سيقع عبؤها على العامل و أسرته، فيحول أسلوب
حياتهم اليومية..فثمة الحاجة إلى وضع تقارير يومية عن درجة المواظبة على العمل.كما
أن حركات العمال و سلوكهم يتم رقابتها بدقة عن طريق نظام إداري رئاسي "
هيرارشي" يشرف على نشاط " المصنع".هذا إلى أن ساعات العمل التي
يقضيها العامل بالمصنع تضطره إلى أن يقيم هو و أسرته قريبا منه( الأمر الذي يساعد
على تكوين أماكن و أحياء شعبية مزدحمة تماما بقطاعاتها)..و بإيجاز ، نجد أن كلا من
نظام المصنع، و الثقافة العادية أو " الثانوية" للعامل، يندمج كلاهما في
الآخر تماما؛
6- و على ذلك، فإن
مستوى الإنتاجية، يعني بصفة عامة، ربحية أكبر. و من ثم، فإن مثل هذه الانتاجية
المتزايدة تحفز على الادخار[توفير الاموال، الاقتصاد في الانفاق] (الأمر الذي يؤدي
بدوره إلى " ظاهرة" التراكم النقدي أو " التكدس الرأسمالي)..عن
طريق تقديم فرص للاستثمار و الكسب لأولئك الذين كدسوا رؤوس أموالهم على هذا
النحو..كما أن ذلك يحفز بدوره على..
7- خلق و إيجاد
اختراعات و ابتكارات جديدة، ..و هذه بدورها ترفع من مستوى الانتاجية ، و من
الربح..الأمر الذي يعمل على..
8-زيادة الفرص
أمام مقاولي الأعمال و مروجي المشروعات- (و هم الذين ينظمون سبل الإفادة من
الابتكارات و المخترعات و يضطلعون بتمويلها، و بتنظيم العمل الانساني، كما يأخذون
على عاتقهم تحمل المخاطر و مواجهتها)؛ ثم زيادة الفرص أمامهم لمواصلة الارتفاع
بمستوى الأرباح إلى أعلى فأعلى.
إن هذا التصوير
السريع الذي قدمناه، يعطي صورة مثالية لديناميات المجتمع، في ذات الوقت، و
ذلك في غضون تلك الفترة التي يهمنا أمرها ها هنا( و الممتدة من سنة 1865 إلى سنة
1932).
على أن الرأسمالية
لها أيضا جوانبها السوداء..جوانبها الأكثر سوءا.إن الطبيعة البشرية هي كما هي،فإن
المقاول - ( أو بالأحرى منظم الأعمال)- سرعان ما يُغْرى بالرغبة في رفع الأسعار و
جني الأرباح السريعة، لا عن طريق زيادة الإنتاجية [قوة الإنتاج، قياسا إلى
التكلفة]..و لكن باحتكار عرض السلعة في السوق..و من ثم،،فإن الرأسمالية تترك هنا لطبيعة منطقها ، كما تسعى وراء
زيادة معدلات الربح إلى حدودها القصوى، عن طريق دفعها للعمال أقل الأجور الممكنة !!
و على هذا نجد أن
ظواهر الأحياء الفقيرة المكدسة، إلى حد الاختناق بسكانها، و ساعات العمل الطويلة
المرهقة، و الأجور القليلة، و حوادث و
إصابات العمل في الصناعات ، في
"ورش" غير آمنة أمنا صناعيا، و أيضا غير صحية..
و الواقع، كانت
هذه كلها ظواهر عامة في غضون القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين( و هكذا"
تخلق الرأسمالية بيئتها التي تلازمها")..
ثم إن منطق
الرأسمالية يؤدي، كذلك، إلى الانتاج الزائد عن الحد، و إلى أن يزيد العرض على
الطلب..و أيضا- و خلال الفترة التي تعنينا في هذه الدراسة- أدت إلى وقوع فترات
هبوط و انكماش حادة و متكررة، و إلى بطالة عامة في صفوف العمال، و إلى وقوع فترات
دورية من الضيق و المعاناة ( و هو ما نطلق عليه اسم الازمات )..
***
البروفسور لورنس
هيرسون- سياسات..و أفكار: دراسة علمية تحليلية لمفهوم النظرية السياسية
الاجتماعية، مع تطبيقاتها على واقع السياسة الأمريكية العامة- ترجمة: صلاح الدين
الشريف- مكتبة الانجلو مصرية- القاهرة 1987- ص ص 414-422.
[1] لقد أسهم عدد كبير من
المخترعين في اختراع آلة الخياطة، إلا أن اشهره هؤلاء هو الأمريكي" إلياس
هاو"(E.Howe)(1819-1867)، الذس سجل براءة
اختراع سنة 1846.و هي الآلة، التي عرفت تطويرات عديدة أهمها، تلك التي أدخلها
عليها الأمريكي" إسحاق سنجر"(I.Singer)(1811-1875).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق