الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

تقسيم العمل ..و الاقتصاد الأمريكي
(1929-1830)
كتب البروفسور لورنس ج.ر.هرسون(Lawrence J.R.Herson)، في كتابه (The Politics of Ideas)، الذي ترجم إلى الى العربية تحت عنوان" سياسات..و أفكار":
[...] لقد كانت الأمة الأمريكية الجديدة في حاجة ماسة إلى البنادق و المدافع و الذخيرة" بكميات كبيرة"..و من ثم فقد اقترح إيلي هويتني[(Eli Whitney)(1825-1765) ] - ذلك الشخص الذي مكنته "عبقريته" من تحسين آلة تمشيط القطن (وحلجه)..-[...] أن يكون صنع البنادق المسماة بنوع الماسكت ، و اللازمة للمشاة، عن طريق تقسيمها بصورة تجعلها ذات " أجزاء" تكون قابلة للتبادل " أي بأسلوب يجعل من السهل وضع كل جزء مكان الآخر، و استخدامه بدلا منه".
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

[...] و الآن ، تأمل-على سبيل المثال- كل ما تندرج تحته من نتائج و خطط و عمليات، فكرة تلك البنادق التي يتم تصنيعها بالطريقة التي اقترحها هويتني في هذا الصدد..
إن الأسلوب "التقليدي" ، القديم، لصنع البنادق كان يقضي بأن تصنع كل " بندقية" عن طريق عامل واحد - أو بمساعدة معاونيه من " صبيان الحرفة"- و من ثم ، فإن كل بندقية
تصنع بكاملها، كشيء قائم بذاته، ..و بعبارة أخرى، كانت كل أجزائها تصنع على وجه التخصيص، بالنسبة لكل بندقية، على حدة..ثم تركب معا بمنتهى الدقة و الإحكام و التأني.
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

[...] و الآن- و على النقيض تماما من هذا النظام التقليدي العتيق- يمكنك أن تقارن نظاما آخر، يقوم على مبدأ الانتاج الكبير، الذي يتم على الصورة التالية:
إن جميع الأجزاء، بالنسبة لجميع البنادق" التي من طراز ما قد وحدت قياسيا"،فصارت كلها واحدة، و نمطية، أي أنها متماثلة تماما.. و على ذلك،فإن من الميسور - في هذه الحالة- تخزين قطع الغيار اللازمة للاصلاح مقدما..و حتى قبل أن تمس الحاجة إليها..و بهذا يتسنى، أيضا، إصلاح أي " بندقية" من " مخزون" قطع الغيار الضخم.
و بهذا، يكون من الممكن فنيا تفتيت عملية صنع البندقية إلى جملة مراحل، أو خطوات، تشكل كل منها جزءا من أجزاء السلعة النهائية الصنع  " أي البندقية في حالتنا هذه"..و على هذا، ينبغي ألا يكون أي عامل في حاجة إلى أن يعلم من تفصيل مهمته أكثر من حدود المهارة اللازمة لانتاج الجزء المسئول عنه، لا غير!
و نتيجة لهذا الأسلوب، سوف يرتفع معدل الإنتاج،لأنه لن يكون محدودا- بعد الآن- بحدود أوقات و طاقات أولئك الذين يملكون قدرا كافيا من الدقة و المهارة، التي تمكن كلا منهم من صنع البندقية برمتها، و كامل أجزائها، كعمل فني واحد و متكامل..
[...] إن صنع " منتج سلعي" بأسلوب انتاج الأجزاء المتبادلة، أو المتعاوضة - و على نطاق واسع- ...هو ذات التكنيك أو الأسلوب الفني الذي أطراه- ونصح به- العالم الاقتصادي الكبير آدم سميث،بوصفه الطريق السلطاني [ الطريق الأفضل] إلى تحقيق أضخم و أعظم إنتاج،  بأقل تكلفة اقتصادية ممكنة..
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

[...] و على أساس هذه القواعد، و الظروف الانتاجية الجديدة، يصبح إنتاج الأجزاء المتبادلة- أو بمعنى آخر أجزاء المعاوضة، في منتج؛ مرتبطا- من ناحيتي المفهوم الفكري و التطبيق العملي على السواء- بروح و منطق، النظام الرأسمالي.و لقد يكون الأمر الأهم من ذلك بالنسبة لنمو، و تطور، هذا النظام الذي بدأ الأوربيون يحمدونه، و يطلقون عليه اسم " النظام الأمريكي في الانتاج" - هو ما تحقق بعدئذ من أفكار و نظريات بشأن تقسيم العمل، و تبسيط الإجراءات، و تحليل الوظائف و المهام.. مما جعل من الميسور ( بصفة مطردة) ابتكار أنواع الآلات، و الماكينات، و العُدد التي تضطلع بمهمة كل جزء من أجزاء كل منتج على حدة.و إذا نحن رجعنا إلى الوراء حتى عام 1853، و جدنا " صمويل كولت"[(S.Colt)(1862-1814)] (مخترع الروفلفر أو الغدارة)[= المسدس]، قد بنى مصنعا لانتاج " الغدارات" استخدم فيه (1400) آلة ميكانيكية ، كل آلة منها مختصة بصنع جزء من أجزاء الغدارة وفق نظام الانتاج الكبير!
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

و من مرحلة انتاج البنادق و المضخات و الساعات[- التي اتبع فيها نفس الأسلوب في العمل-]، انتشرت الأفكار و الأساليب الفنية الحديثة - المستخدمة في عمليات الانتاج الكبير- و تطرقت إلى ابتكار آليات و ماكينات أكثر تركيبا و أشد دقة و تعقيدا..و التي من قبيل آلات حصاد المحاصيل الزراعية، و آلات الخياطة (و بحلول سنة 1848، كان " سايروس ماك كورميك"[ (C.McCormick)(1884-1809)]- مخترع الحصادة الآلية- ينتج 4000 آلة في كل عام).
و الواقع ذهب البعض إلى أن الحرب الأهلية الأمريكية، إنما قد تم الانتصار فيها للشماليين، بفضل انتاج البنادق و الذخائر الحربية اللازمة، و كذا الأحذية و الملابس، بفضل اختراع الآلات التي اخترعت وقتئذ لتحقيق هذا الانتاج الكبير، و من بينها آلات الخياطة[1]..فضلا عما تحقق من سهولة و انتظام، في عمليات الحصاد الزراعي، بفضل التوسع في انتاج تلك الحصادات الزراعية السابق الإشارة إليه.
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

هذا، و يحاول مؤرخو التكنولوجيا - من خلال تأملاتهم المتعمقة لجذور هذا الموضوع- تفسير السبب في نجاح نظام الانتاج الكبير عندنا، فيرون أن هذا النظام هو امتداد لمنطق " الثورة الصناعية" الأوربية، و لتطبيقاتها العملية..و من ثم كان من اللازم أن يزدهر بدوره فوق صعيد التربة الأمريكية أيضا، و معظم الناس يتفقون على أن السبب المهم الذي أسهم في نجاح نظام الانتاج الكبير في العالم الجديد، هو نقص عدد السكان في أمريكا (وقتئذ)..
و بفضل هذا النظام - الذي غدا متاحا على نطاق واسع - عملت الآلات ( لا من أجل التخفيف من عناء الانسان فحسب، و مواجهة الحاجة المستمرة إلى العديد من الأيدي العاملة..الأمر الذي لم يكن ميسورا مع النقص النسبي في عدد السكان)- بل سمح كذلك، و لعدد أقل نسبيا ، أن يضطلعوا بإنتاج و توزيع السلع المختلفة، و الأغذية اللازمة ، بدرجة أكبر حجما..و على نطاق أكثر اتساعا و انتشارا..
إلا أن اقتصارنا على رؤية النظام الأمريكي كمجرد صورة للإنتاج الكبير عامة، أو لنظام القطع المتبادلة ( أو المتعاوضة) في المنتج الواحد بكميات هائلة..أو حتى صورة لاستخدام الآلية لصنع الآت أكثر دقة و تعقيدا مثل السيارات و الآلات الكاتبة..إلخ..
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

ان اقتصارنا على مثل هذه الرؤية المتعجلة تفقدنا، في الواقع، كثيرا من حقائق الوضع و دلالاته..ذلك أن الرأسمالية هي بمثابة ثقافة و نظام الانتاج الكبير في الولايات المتحدة غدا الحد، أو المعيار القاطع في قيام " نظم فرعية رأسمالية ثقافية"، لها صبغاتها السياسية و الاقتصادية البارزة..و الحق أن نظام الانتاج الكبير قد اندمج تماما في نسيج الحياة الأمريكية ذاتها، و أصبحا معا كلا واحدا.
و لكي نعي بوضوح ملموس، كل هذه المفاهيم " المجازية"، فإن علينا أن نتأمل أن منطق الانتاج الكبير، و تطبيقه العملي ، إنما يعنيان:
1- انتاج سلع و بضائع بتكاليف أكثر انخفاضا بصورة مطردة؛
2- و من ثم أيضا، يتسنى جعل المنتجات الغذائية و السلعية، متاحة لأولئك الذين هم في أدنى درجات السلم الاقتصادي؛
3- و بالتالي، يتسنى الاسهام في رفع مستويات المعيشة في المجتمع برمته؛
4- و الأكثر من هذا، فإنه يتسنى أيضا، بفضل مبدأ تقسيم العمل ، و مبدأ التخصص في الانتاج الجزئي لأقسام ، و أجزاء المنتج الواحد؛اتاحة فرص العمل لأولئك الذين ليس لهم إلا مهارات قليلة، أو تدريب منخفض المستوى نسبيا، و بذلك نوفر عليهم الوقت الطويل، و كذا النفقات الضرورية، مما كان سيتطلبه الأمر لو أنهم قضوا فترة التلمذة الصناعية بتمامها لإعدادهم مهنيا؛
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

5- هذا إلى أن عادات و احتيجات المعامل و المصانع، سيقع عبؤها على العامل و أسرته، فيحول أسلوب حياتهم اليومية..فثمة الحاجة إلى وضع تقارير يومية عن درجة المواظبة على العمل.كما أن حركات العمال و سلوكهم يتم رقابتها بدقة عن طريق نظام إداري رئاسي " هيرارشي" يشرف على نشاط " المصنع".هذا إلى أن ساعات العمل التي يقضيها العامل بالمصنع تضطره إلى أن يقيم هو و أسرته قريبا منه( الأمر الذي يساعد على تكوين أماكن و أحياء شعبية مزدحمة تماما بقطاعاتها)..و بإيجاز ، نجد أن كلا من نظام المصنع، و الثقافة العادية أو " الثانوية" للعامل، يندمج كلاهما في الآخر تماما؛
6- و على ذلك، فإن مستوى الإنتاجية، يعني بصفة عامة، ربحية أكبر. و من ثم، فإن مثل هذه الانتاجية المتزايدة تحفز على الادخار[توفير الاموال، الاقتصاد في الانفاق] (الأمر الذي يؤدي بدوره إلى " ظاهرة" التراكم النقدي أو " التكدس الرأسمالي)..عن طريق تقديم فرص للاستثمار و الكسب لأولئك الذين كدسوا رؤوس أموالهم على هذا النحو..كما أن ذلك يحفز بدوره على..
7- خلق و إيجاد اختراعات و ابتكارات جديدة، ..و هذه بدورها ترفع من مستوى الانتاجية ، و من الربح..الأمر الذي يعمل على..
8-زيادة الفرص أمام مقاولي الأعمال و مروجي المشروعات- (و هم الذين ينظمون سبل الإفادة من الابتكارات و المخترعات و يضطلعون بتمويلها، و بتنظيم العمل الانساني، كما يأخذون على عاتقهم تحمل المخاطر و مواجهتها)؛ ثم زيادة الفرص أمامهم لمواصلة الارتفاع بمستوى الأرباح إلى أعلى فأعلى.
إن هذا التصوير السريع الذي قدمناه، يعطي صورة مثالية لديناميات المجتمع، في ذات الوقت، و ذلك في غضون تلك الفترة التي يهمنا أمرها ها هنا( و الممتدة من سنة 1865 إلى سنة 1932).
على أن الرأسمالية لها أيضا جوانبها السوداء..جوانبها الأكثر سوءا.إن الطبيعة البشرية هي كما هي،فإن المقاول - ( أو بالأحرى منظم الأعمال)- سرعان ما يُغْرى بالرغبة في رفع الأسعار و جني الأرباح السريعة، لا عن طريق زيادة الإنتاجية [قوة الإنتاج، قياسا إلى التكلفة]..و لكن باحتكار عرض السلعة في السوق..و من ثم،،فإن الرأسمالية  تترك هنا لطبيعة منطقها ، كما تسعى وراء زيادة معدلات الربح إلى حدودها القصوى، عن طريق دفعها للعمال أقل الأجور الممكنة !!
و على هذا نجد أن ظواهر الأحياء الفقيرة المكدسة، إلى حد الاختناق بسكانها، و ساعات العمل الطويلة المرهقة،  و الأجور القليلة، و حوادث و إصابات  العمل في الصناعات ، في "ورش" غير آمنة أمنا صناعيا، و أيضا غير صحية..
كيف ساهم تقسيم العمل في تطوير الاقتصاد الأمريكي..ثم العالمي

و الواقع، كانت هذه كلها ظواهر عامة في غضون القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين( و هكذا" تخلق الرأسمالية بيئتها التي تلازمها")..
ثم إن منطق الرأسمالية يؤدي، كذلك، إلى الانتاج الزائد عن الحد، و إلى أن يزيد العرض على الطلب..و أيضا- و خلال الفترة التي تعنينا في هذه الدراسة- أدت إلى وقوع فترات هبوط و انكماش حادة و متكررة، و إلى بطالة عامة في صفوف العمال، و إلى وقوع فترات دورية من الضيق و المعاناة ( و هو ما نطلق عليه اسم الازمات )..
***
البروفسور لورنس هيرسون- سياسات..و أفكار: دراسة علمية تحليلية لمفهوم النظرية السياسية الاجتماعية، مع تطبيقاتها على واقع السياسة الأمريكية العامة- ترجمة: صلاح الدين الشريف- مكتبة الانجلو مصرية- القاهرة 1987- ص ص 414-422.






[1] لقد أسهم عدد كبير من المخترعين في اختراع آلة الخياطة، إلا أن اشهره هؤلاء هو الأمريكي" إلياس هاو"(E.Howe)(1819-1867)، الذس سجل براءة اختراع سنة 1846.و هي الآلة، التي عرفت تطويرات عديدة أهمها، تلك التي أدخلها عليها الأمريكي" إسحاق سنجر"(I.Singer)(1811-1875).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق