السبت، 25 يناير 2014

فكرة الجامعة

 لقد مرت الجامعة، منذ نشأتها و حتى الآن،بالكثير من التطورات، ساهمت - لاشك- في إكسابها سماتها الأساسية البارزة و المميزة التي نعرفها لها و بها اليوم: فهي "الحرم" الذي يجمع الأفراد و الجماعات من كل حدب و صوب، و من مختلف التيارات الفكرية،و يسمح لهم بتبادل الآراء و الأفكار ،  في أجواء من الود و الاحترام و الأمن( و الحرية الأكاديمية)[1].
و هي أيضا، المكان الأفضل لتداول المعرفة الصحيحة،و تنقيحها ،و إنتاجها، و جعلها في متناول كل من بإمكانهم استيعابها و استخدامها،لخدمة الأفراد و الجماعات و الإنسانية ككل. 
و لكن الجامعة في حقيقتها، فكرة..أكثر من كونها مكانا  أو " حرما جامعيا". بل هي لم ترتبط، في نشأتها و تطورها، بالأمكنة، بقدر ما ارتبطت بالأفكار الإنسانية و تطورها. و لعل أقرب دليل يؤكد ذلك، هو أن الوظائف التي تؤديها الجامعة ، و المكانة التي تحتلها داخل كل مجتمع،..إلخ،ليست إلا انعكاس للحالة الفكرية التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك، و ترجمة صادقة للإيديولوجيات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية السائدة فيه.

فما هي الجامعة؟ (المبحث الأول) و كيف نشأت و تطورت؟(المبحث الثاني) و ما هي الوظائف التي قامت و مازالت تقوم بها ( المبحث الثالث).

المبحث الأول:مفهومالجامعة:

تعرف الجامعة عادة،بأنها مؤسسة للتعليم النظامي العالي[2]؛و تتكون في معظم الحالات من مجموعة من كليات، تختص كل منها بفرع من فروع المعرفة أو العلوم الأساسية و التطبيقية و الهندسية و الطبية و الإنسانية.و قد تتضمن أيضا بعض المدارس أو المعاهد المهنية.و تتميز المؤسسات الجامعية ، عن مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي،بأنها تملك الحق في منح  مختلف الدرجات العلمية الوطنية، في مختلف حقول الدراسة فيها[3].كما أن من مميزاتها أن الأساتذة  فيها،يقومون بالإضافة إلى مهام التدريس  بإنجاز الأبحاث العلمية و الإشراف عليها و تأطيرها، و نشر المؤلفات العلمية[4].

و سنقوم فيما يلي، بتحليل هذا التعريف ، إلى عناصره الأولية، لنرى ما يختفي وراءه من معلومات هامة.

المطلب الأول: الجامعة مؤسسة للتعليم العالي:

يكون الانتساب إلى الجامعة، من حيث المبدأ العام، بعد الحصول على شهادة الدراسة الثانوية(البكالوريا)؛ لأنه يشترط في الطالب الجامعي، أن يعرف مجموعة من المعارف العلمية المتكاملة -((في صورة مفاهيم علمية، و نظريات، و مناهج، و قواعد لغوية..و غيرها) - تؤهله لتلقي التعليم العالي و العميق .
و كل هذه المؤهلات ، يحتاجها كل الطلاب في كل الجامعات، و في كل الكليات و المعاهد، بل و في كل التخصصات. فالتعليم العالي، بصفة عامة، يمثل حقلا تعليميا و تكوينيا " متقدما" و عميقا، يكتسب الطالب فيه، مهارات معرفية و " كفايات أو كفاءات" تخصصية عالية المستوى، بالمقارنة بالمهارات و الكفايات المعرفية الأولية العامة التي يلقنها في التعليم ما قبل الجامعي.
و لكن الجامعة،  ليست بالضرورة، هي الـ" مؤسسة" الوحيدة التي تقدم  بعض هذا النوع من الخدمات؛ فقد تكون هناك مؤسسات أخرى خاصة أو عامة تقوم بوظائف التعليم و التكوين،هي الكليات و المعاهد و المدارس و الأكاديميات- تختلف الأسماء من بلد لآخر-، و التي تركز على واحد أو اثنين من حقول المعرفة، و لا تتبع بالضرورة لوزارة التعليم العالي، بل قد تتبع لوزارة أو أكثر. ففي المغرب، مثلا،توجد مؤسسات غير تابعة للجامعات، و بالتالي غير تابعة لوزارة التعليم العالي- ( تتبع مختلف الوزارات)-،و تؤدي وظائف التعليم العالي و التكوين المهني، أو البحث العلمي، و تسمى هذه المؤسسات مدارس أو معاهد أو مراكز[5].
و لكن الجامعة،مع ذلك، تبقى هي المؤسسة الوحيدة التي تؤدي كل هذه الوظائف مجتمعة ،و  في هذا الصدد ، كتب الفيلسوف  الألماني "كارل يسبرز"(Jaspers)(1969-1883) في كتابه" فكرة الجامعة"(Die Idee der Universitat-1923)، أن :" الجامعة هي المدرسة المهنية، و معهد البحث ، و المركز الثقافي في آن واحد. و أن من يحاول دفع الجامعة لأن تختار بين الوظائف الثلاث، أو من يحاول دفعها لأن تصبح ثلاثة مراكز أحدها للتدريب المهني ، و آخر للتعليم، و ثالث للبحث يكون قد جرها إلى الانتحار لأن حياتها تقوم على تفاعل الوظائف الثلاث"[6].
فكرة الجامعة
كارل  ياسبرز

المطلب الثاني: التعليم الجامعي تعليم نظامي:

 عندما يقال عن سلوك أو نشاط  معين بأنه نظامي،فإنما  يراد بذلك، في الغالب، وصفه بأنه مضبوط بالنظام و الانتظام.و عندما يقال عن مؤسسة تعليمية، بأنها نظامية،فالمراد بذلك غالبا، إلزامية الحضور إلى الدروس التي تلقى فيها- أي في الحرم الجامعي، الذي يشمل مبنى الإدارة، و قاعات الدراسة أو مدارجات ،و المعامل و المختبرات ، و المكتبة، إلخ-و المواظبة على ذلك بشكل منتظم (مستمر) .
 و الدراسة الجامعة، كما هو معلوم، تحتاج إلى الانتظام، أي التفرغ. إلا أن بعض الطلبة لا يستطيعون التفرغ، لأسباب كثيرة منها الرغبة في الجمع بين الدراسة و كسب الرزق،أو لأسباب أخرى.
من هنا،تطور مفهوم الجامعة،حتى يستجيب لحاجيات هذه الفئة من الطلبة، و من ثم تم إعفاء الطلبة من شرط المواظبة على الحضور.و هكذا يلاحظ اليوم، أن الكثير من الجامعات لا تشترط التواجد الدائم بالجامعة، خاصة بالنسبة للطلبة المرتبطين بالتزامات وظيفية أو غيرها تضطرهم إلى تقسيم وقتهم بين الدراسة و العمل.
كما يلاحظ ،و منذ مدة ليست بالقصيرة (منذ 1971 في بريطانيا)، ظهور جامعات مفتوحة- يستطيع كل من يرغب بذلك، الانتماء إليها-،و جامعات  تسمح بالدراسة عن بعد: و السمة العامة التي تجمع بين هذين النمطين من الجامعات،و تميزهما عن الجامعات التقليدية، هي أن " المعلم" و "المتعلم"،يوجدان في أماكن منفصلة،و يتم التواصل بينهما باستعمال وسائل الاتصال التقليدية (البريد أو المعاصرة  (من فضائيات، و بريد إلكتروني،و غيره من تقنيات الأنترنيت). و بذلك يستطيع الطلبة أن يدرسوا في بيوتهم ، حسب قدراتهم و في الأوقات التي تناسبهم.

الجامعات الإلكترونية

و لكن عدم الالتزام بالحضور للحرم الجامعي- أو عدم وجود هذا الحرم أصلا، كما هو الحال في بعض أنظمة التعليم عن بعد - لا يعفي الطلبة من الالتزام بباقي الشروط الأخرى للتعليم التقليدي:مثل شروط القبول، و محتوى المقررات، و نظام التقويم (الامتحانات).

المطلب الثالث: الدرجات الجامعية:

 تمنح الجامعات للخريجين، درجات أو شواهد ( دبلومات).و هي ألقاب علمية ، تشهد لمن يحملها ،بأنه  بلغ في دراسة حقل من حقول المعرفة ، درجة معينة من الاتقان أو التعمق .فالطالب الذي ينهي بنجاح المرحلة الأولى، التي تمتد ثلاث سنوات، في نظام "الليسانس- الماستر-الدكتوراه"( و اختصاره: إِلْ.إِمْ.دي=LMD)، يحصل على درجة علمية تسمى "الإجازة"( الليسانس= Licence)،و هي تعادل شهادة البكالوريوس(Bachelor) في النظم الأنجلوسكسونية.
الدبلوم= تتوج الحياة الجامعية

أما الطالب الذي ينجح في المرحلة الأولى من الدراسات العليا(السلك الثالث)،و التي تمتد سنتين بعد الإجازة، فيمنح درجة " الأستاذية" أو " الماستر (Master ))(=الماجستير في النظام الأنجلوسكسوني).ثم إذا أراد الحصول على الدكتوراه، فعليه أن يتم المرحلة "الأخيرة" من الدراسة الجامعية، و التي تمتد لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات(، و يعد بحثا معمقا ، يدافع فيه عن أطروحة معينة(Thése)، أمام لجنة من الأساتذة الجامعين ( و الخبراء  أحيانا)، الذين يفترض فيهم معرفة عميقة جدا، بموضوع البحث( و منهجية البحث العلمي الجامعي و مناهجه).
فكرة الجامعة
نظام "الليسانس الماستر الدكتوراه"

المطلب الرابع : الأستاذ الجامعي و البحث العلمي:

إن وضعية الأستاذ الجامعي، و مكانته الاجتماعية، و سلطته العلمية، و المزايا المادية و المعنوية التي يتمتع (أو قد يتمتع) بها،داخل و خارج الجامعة التي ينتمي إليها؛ تجعله في موقع جد متميز قياسا إلى زميليه في التعليمين الابتدائي و الإعدادي/الثانوي.و هو موقع، تترتب عنه الكثير من النتائج، التي تكون لها انعكاسات كبيرة جدا، على علاقة الأستاذ بالإطار الإداري/التنظيمي الذي يعمل فيه ،و علاقته بطلبته، و علاقته بالمواد التي يدرسها:فالأستاذ الجامعي، يتوفر على حرية كبيرة في إعداد و إلقاء محاضراته على طلبته،فله، مثلا، أن يختار الشكل و الصيغة اللتان تناسبانه في إلقاء محاضراته أو تقديمها ( و هذا يدخل في إطار ما يعرف بـ "الحرية الأكاديمية.
و إلى جانب التدريس، فإن الأستاذ الجامعي يخصص حيزا هاما من وقته للبحث العلمي. لا بل أصبحت قضية تفرغ الكثير من الأساتذة للبحث العلمي على حساب التعليم، مشكلة من أهم المشاكل التي تعاني منها الجامعات اليوم: فالكثير من الأساتذة يخصصون أوقات كثيرة للبحث العلمي ، و يعتبرون أن التدريس شر لابد منه،بل هو مضيعة للوقت -الوقت الذي يجب أن يستثمر في البحث-، إذ أن النجاح في نشر البحوث هو الذي يعتبر "دليلا عمليا على الملائمة للحياة العملية الأكاديمية"[7]، و يعتبر سبيلا إلى الاستقرار و النجاح في الحياة الجامعية، و  هو أقرب طريق للترقية[8].
و هكذا،للأسف، أصبح البحث العلمي و المهام الأخرى الملقاة على كاهل الأستاذ الجامعي، تقلص من دوره التوجيهي:فمسؤولية  عضو هيئة التدريس الأكاديمية ، لا تتوقف عند القيام بالتدريس و إجراء الأبحاث فقط،  بل تتعدى ذلك إلى الإرشاد الأكاديمي للطلاب، فمدرس الجامعة ليس ملقنا لكنه مرشد و موجه و صديق لطالب الجامعة ، الذي يكون في العادة طالب ناضج بالغ يأمل في معاملته على هذا الأساس.
فهل نحن في حاجة إلى  سن قوانين "التفرغ"، حتى يتفرغ الأستاذ "بكليته لكليته"؟ و لإجبار الأساتذة على تخصيص حصص زمنية معينة ،كل أسبوع،لمعاونة طلابهم داخل حرم الجامعة و تلبية طلباتهم الأكاديمية و إرشادهم في كل ما يسهل لهم استيعاب دروسهم و النجاح في امتحاناتهم و حياتهم الجامعية[9]؟
ليس لدي أجوبة عن هذه الأسئلة...و لكن مما لاشك فيه،أنه من الضروري تعديل قوانين الترقية حتى تأخذ بعين الاعتبار الجهود التي يبذلها الأساتذة في مساعدة الطلبة، و الرقي بطرق و مناهج التدريس.

المبحث الثاني :نشأة الجامعة و تطورها:

هذا ، هو مفهوم الجامعة اليوم ،و هو مفهوم حديث، في حين أن الجامعة قديمة، مما يعني أنه  قد نشأ و تطور عبر مئات السنين، حتى استقر على مضمونه الحالي.فما هي أهم المراحل التي عبرتها الجامعة في مسار تطورها الطويل؟ و ما هي أبرز التحولات التي طرأت على أهدافها و وسائلها في العمل؟

المطلب الأول:النشأة الأولى، في العصور القديمة:

هناك رأي منتشر بين  الأكاديميين و الباحثين الأوربيين، يزعم أن الجامعات قد نشأت في أوروبا خلال العصور الوسطى، و أنه لا يجوز إرجاع أصلها إلى ما قبل القرنين الثاني عشر و الثالث عشر الميلاديين،إذ في ذينك القرنين نشأت جامعات بولونيا( الإيطالية)، و باريس و أكسفورد، و أصبحت قدوة لكل الجامعات الأخرى[10].
و هذا الرأي فيه الكثير من المغالطة و المبالغة، و هو في نظري المتواضع، بعيد كل البعد عن الصواب.ذلك أن  الجامعة كمؤسسة  للتعليم العالي ،لابد أن تكون قديمة،من حيث الفكرة و من حيث التطبيق أيضا.
فمن حيث الفكرة، لا بد أنها نشأت في أكثر من مكان،لأنها تقوم على تصور بسيط جدا،يستند إلى ثلاثة عناصر من السهل العثور عليها في كل الحضارات ، و هي: 1)الطالب الذي يرغب بالمعرفة العميقة(التعمق و "التخصص" في معرفة موضوع معين)، و  2) المادة المعرفية المعمقة(إمكانية وجود هذا النوع من المعرفة)،أي 3) إمكانية وجود  الأستاذ المتخصص،القدر على تقديم المعرفة العميقة للطلاب الذين يرغبون في تلقيها عنه( مجانا أو مقابل تعويض..).
و هذه شروط،كما ترى،من الممكن توفرها في كل مكان، و ليس في أوروبا العصور الوسطى فقط[11].و على أساس هذا الاستنتاج المنطقي ، يمكننا القول بأنه لا يجب ربط نشأة الجامعة ، بأوروبا العصور الوسطى.بل لابد أن تكون فكرة الجامعة أقدم من ذلك. هذا ما يقوله المنطق،لا بل هذا هو ما يؤكده التاريخ أيضا.
 و بالفعل،فالتاريخ، يخبرنا أن الجامعة كرسالة، تعود – على الأقل- إلى بلاد اليونان، مئات السنين قبل الميلاد.ففي عام (388 ق.م) افتتح أفلاطون(نحو 427-347 ق.م) أكاديميته، في عام (335 ق.م) أسس أرسطو"( نحو384-322 ق.م) " الليسيوم"(Lyceum).و هذان المعهدان أو الجامعتان، هم أشهر مؤسسات التعليم العالي في العالم القديم.[12]
فكرة الجامعة
أفلاطون و أحد تلامذته (لعله أرسطو ؟)

هذه هي الفكرة الأصل في الجامعة، أما الأشياء الأخر(القوانين المنظمة لعلاقة الأساتذة بالطلبة، و الإدارة، و الامتحانات، و الشواهد،..إلخ)، فهي تفاصيل لم تظهر إلا فيما بعد، و ابتداء من العصور الوسطى.

المطلب الثاني: نشأة الجامعات الإسلامية:

 في العصور الوسطى، ازدهر المفهوم الإسلامي للجامعة ، ممثلا بما يعرف بالمدارس  و الجوامع: مثل جامع القرويين(245ه/859 م)، و الأزهر(359ه/970 م)، و الزيتونة( أفتتحت كمسجد ابتداء من 120ه/737 م)، و المدرسة النظامية ( 459 ه/ 1066 م).و كانت هذه الجامعات، تدرس مختلف أنواع العلوم و الفنون.و كانت تقوم، بشكل ثانوي، بتكوين الأطر و الموظفين،و توفر فرص التدرب على أسس البحث العلمي،و تمنح الشهادات العلمية.و مازالت بعض هذه الجامعات، قائمة حتى يوم الناس هذا؛ و لكن يبدو أن مفهوم التعليم فيها ، قد انحصر في التعليم الديني بالأساس( القرويين بالخصوص).و يصف الأستاذ محمد عبد الرحيم غنيمة في كتابه " تاريخ الجامعات الإسلامية الكبرى"،بقوله:"إنها صورة ناطقة عن التقاليد الجامعية، فهناك الإجازات العلمية، و الملابس الجامعية، و ألقاب الأساتذة كالإمام و الفقيه و المحدث...إلخ. و كل لقب من هذه الألقاب يدل على مستوى معين"[13].
فكرة الجامعة
جامعة القرويين

و من المعروف أن هذه المدارس كان لها تأثير كبير في نشأة الجامعات الأوروبية حوالي القرن الثاني عشر الميلادي.

المطلب الثالث: نشأة الجامعات الأوربية:

فكرة الجامعة
شعار جامعة ساليرنو

و بالفعل،فلقد بدأت المعالم الأولى للجامعات الأوربية  تظهر منذ القرن الحادي عشر و بداية القرن الثاني عشر،فظهرت جامعات سلرنو (Salerno) و بولونا (Bologna) في إيطاليا، و مونبلييه(Montpellier) و باريس في فرنسا. و ما أن حلّ عام 1250 حتى كانت هناك تسع جامعات في إيطاليا، و خمس في فرنسا، و اثنتان في انجلترا، و أربع في إسبانيا. و في نهاية القرن الخامس عشر، بلغ عدد الجامعات في أوروبا ثمانين جامعة.و كان الطلبة و الأساتذة يتنقلون من جامعة إلى أخرى( كان التدريس يتم باللغة اللاتينية بالأساس)، و كان الحكام يتنافسون على اجتذاب الجامعات بأساتذتها و طلبتها.[14]
فكرة الجامعة
شعار جامعة بولونيا الإيطالية

في القرن 14م، كانت كلمة "جامعة"(Universitas)، قد بدأت تستعمل للدلالة على مجموع الطلاب و المدرسين الذين يؤلفون رابطة أو نقابة، ذات استقلال ذاتي،و هدفها توفير الحماية لأعضائها،و التمتع ببعض الامتيازات الخاصة المعترف بها[15].و لم يكن لهذا "المجمع" أو "الجامعة" مكان محدد، بل كان يمكنها أن تنقل مكان اجتماعها إلى حيثما شاءت[16].
و خلال هذه الفترة، طورت الجامعات الأوربية الكثير من ملامحها،التي نراها اليوم، من اسم و موقع مركزي، و اساتذة يتمتعون ببعض الاستقلال الذاتي، و طلبة ملتزمون و نظام محاضرات مستقر، و إجراءات للامتحانات و منح للدرجات العلمية، و حتى التنظيم الإداري.[17]
و لقد ظلت الجامعات الأوربية،حتى مطلع العصر الحديث؛ تعمل وفق تقاليد موروثة عن القرون الوسطى، و تكاد تحصر مهمتها في تعليم النخب الحاكمة،و إعدادها لتحمل أمانة القيادة السياسية و الفكرية للمجتمع.[18]

المطلب الثالث: الجامعات في العصور الحديثة و المعاصرة:

 في القرن التاسع عشر، عرفت الجامعات الألمانية، ثورة كبيرة، كان لها صدى هائل، في كل أنحاء العالم. فبفضل الإصلاحات التي أدخلها العالم و المصلح التربوي  "فيلهلم فون هومبولت"(Wilhelm Heinrich von Humboldt)(1769-1859) على نظام التعليم في جامعة برلين - أولا ثم في باقي الجامعات الألمانية لاحقا- صار نظام التعليم الجامعي  الألماني هو المثل الأعلى للتعليم العالي. فما هي أهمية هذه الإصلاحات؟
فكرة الجامعة
شعار جامعة برلين


و بالفعل،فمنذ هذه الإصلاحات  قامت الجامعات الألمانية على مبادئ إيجابية، لفتت إليها انتباه المعنيين بالتعليم الجامعي، من أهمها:أولا، أنها أصبحت مؤسسة للتعليم ما بعد الثانوي، إذ كان يتحتم على الطلبة الراغبين في الالتحاق بها ؛ أن يتموا المرحلة الثانوية بنجاح.و ثانيا: كان للطلبة أن يختاروا ، بمطلق الحرية، مجال دراستهم.و أكثر من هذا، كان بوسعهم أن ينتقلوا من جامعة لأخرى،دون تأثير كبير على مستقبلهم الدراسي.و ثالثا :كان أعضاء هيئة التدريس أحرارا فيما يريدون تدريسه،و أن يقوموا بالأبحاث البحتة(لاسيما في العلوم الطبيعية). و أخيرا ،و ليس آخرا، كانت الجامعات تتوفر على مكتبات غنية، كما كانت تتيح للطلبة القيام أنشطة أخرى بالموازاة مع الدراسة، مثل الأنشطة الرياضية[19].
و لو تأملنا في هذه المزايا أو السمات، لوجدنا أنها هي الأسس التي قامت عليه فكرة الجامعة المعاصرة، و لم يبق إلا بعض التحسينات ، التي ستساهم بها الجامعات الأمريكية فيما بعد، لتكتمل صورة الجامعة كما نعرفها اليوم.
و لعل أهم هذه الإسهامات التي أضافتها الجامعات الأمريكية، تمثلت في اهتمامها بالتكوين المهني ،و انفتاحها على المجتمع الذي تنتمي إليه.
حقا،إذا كان توفير المعرفة و نشرها قد شكلا مصدر فخر و شهرة الجامعات الأوربية، كالفرنسية و الإنجليزية.و إذا كان تحويل الجامعات إلى مراكز للبحوث العلمية هو محل فخر و اعتزاز الجامعات الألمانية و شهرتها عبر العالم؛فإن ما جعل الجامعات الأمريكية تحظى باهتمام الشعوب و تكريمها، هو عنايتها الفائقة بالتكوين المهني من جهة، و تسخير الجامعة لخدمة المجتمع الذي تنتمي إليه من جهة أخرى[20].
و بفضل هذا المفهوم الذي ينبثق من جذور الثقافة الأمريكية، استطاعت الجامعات الأمريكية- لاسيما جامعات (Land grant colleges)، التي أنشـأت بموجب قانون مريل(Morill Act)، لسنة 1862- ان تجعل من التركيز على التكوين المهني ( في ميادين الزراعة و الصناعة الميكانيكية)،الطريق الأقصر الذي عبرته الولايات المتحدة،  في ظرف نصف قرن فقط (1862-1914)، لتصبح واحدة من أقوى الدول في العالم[21].
فكرة الجامعة
موريل (صاحب المشروع القانوني) و الرئيس لينكولن الذي دعمه و صادق عليه

المطلب الرابع: الجامعات في عصر حقوق الإنسان:

 غير أنه،على أهمية الدور الذي لعبته الجامعات الألمانية و الأمريكية ، في تطوير مفهوم الجامعة الحديث،لا يجب أن نقلل من إسهامات عوامل أخرى، و على رأسها التحولات الكبرى التي شهدها العالم، مثل الثورات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الصناعية و الثقافية، و الثورات العلمية و التكنولوجية، التي عرفها العالم( ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر،و خصوصا في بداية القرن العشرين).ثم  ثورات التحرر و الاستقلال و البناء و الديمقراطية و حقوق الإنسان(السياسية و المدنية، و الاجتماعية و الاقتصادية،و ..) التي شهدها العالم ، لاسيما العالم النامي،في النصف الثاني من القرن العشرين.
1-  ففي عصر الديمقراطية  و حقوق الإنسان،أصبح الحق في  التعليم الجامعي ، حقا مضمونا لكل فرد أنهى مرحلة التعليم العام..و واجب عليه في آن واحد.
"2- و في زمن الحرية، أصبح  الشعار الذي يرفع أكثر من غيره هو "الحرية الأكاديمية":حرية الأستاذ و الطالب..و إدارة الجامعة، عن كل السلطات و التأثيرات الخارجية.
3- و في زمن التنمية المستدامة و التنمية البشرية  الشاملة، صار التعليم الجامعي لا يقصر اهتمامه على البحث العلمي أو نقل الموروث العلمي أو التكوين المهني أو خدمة المجتمع فحسب ، بل صار يهتم بتنمية شخصية المتعلم، و بيئته الاجتماعية من كافة النواحي.و لقد زاد الاهتمام بهذه المضامين، في العقود القليلة الأخيرة من القرن الماضي. خاصة مع بروز وجهات نظر تؤكد على فاعلية العنصر البشري و استثماره في دفع عجلة التنمية في المجتمع و الحفاظ على مكاسبها،و إعداده للتعامل مع الظواهر المستحدثة و الناجمة عن التغيرات الهيكلية و عن  العولمة بأبعادها الاقتصادية و التكنولوجية و الثقافية.
فكرة الجامعة
الحق في التعليم العالي، صار من الحقوق الجوهرية التي يجب على الدول احترامها و الإنفاق عليها

4- و في الحقيقة، لقد امتد تأثير العولمة إلى وظائف الجامعة نفسها:ففي زمن  الشركات المتعددة الجنسيات و انتشار مفاهيم السوق ؛ أخذت الجامعات تفقد سيادتها على إنتاج و توزيع المعرفة.يتجلى ذلك ، على سبيل المثال، في ظهور شراكات جديدة بين "العلم " و "الرأسمال" و "السلطة السياسية"، كان من نتائجها، تحويل قدرات الجامعة على التعليم و التكوين و البحث، إلى خدمة المصالح الضيقة للنخب السياسية و الاقتصادية ،على حساب مشاريع التنمية الحقيقيةو كانت نتيجة هذه التحالفات " المشبوهة" أن انصب اهتمام العملية التعليمية الجامعية، على  تلوين الطلبة بألوان  براقة تلائم أذوق أرباب أسواق الشغل من جهة، و تخفي ضعف مؤهلاتهم العلمية و العملية ، من جهة أخرى:أي أن الأستاذ  لم يعد يدرس من المواد التعليمية، إلا الجوانب القليلة السطحية التي يطلبها السوق.و بذلك أخذت الجامعة تفقد قدرتها على خلق المعرفة الحقيقية و إصلاحها و إبداعها.
و الحاصل، من هذا الاستعراض السريع ،أن  الجامعة نشأت و تطورت و مازالت تتطور و لن تتوقف عن التطور..و أنه في كل مرحلة من المراحل التي قطعتها اكتسبت وظيفة جديدة تساهم بها في بناء المجتمع الذي تنتمي إليه، بل و في تشييد صرح البشرية جمعاء..

المبحث الثالث:وظائف الجامعة :

منذ منتصف القرن الماضي- العشرين- تقريبا، هيمنت على حقل التعليم الجامعي، ما عرف باسم الجامعة متعددة الوظائف.و هي فكرة جديدة للجامعة، نشأت كرد فعل على عجز مفهوم الجامعة التقليدي عن مسايرة ركب الحضارة و الاستجابة لحاجيات الإنسانية.
فالمفهوم الحديث للجامعة يرى أنه من الضروري أن يؤسس التعليم الجامعي على خلفية عريضة من الثقافة العامة( المطلب الأول)، دون تقليل من أهمية التخصص ، بل يراه أمرا مطلوبا،إذ لا بد للطالب من أن يتدرب على كل ما يستجد في مجال تخصصه ، حتى يسهل عليه، بعد التخرج، الاندماج في الحياة المهنية و النجاح فيها(المطلب الثاني).و من أهداف التعليم الجامعي الحديث أيضا تخريج " أجيال"،من الأفراد الذين يتسمون بسعة الأفق و القدرة على تفحص "الحقائق" الرائجة في المجتمع، و التحقق من صحتها،أو إصلاحها،و كذا التكيف مع المستجدات عندما تظهر( المطلب الثالث).و أخيرا،فإن من واجب الجامعة أن لا تكتفي بتنمية الأكاديميين أو الجامعيين فحسب ، بل يجب عليها أن تلعب دورا قياديا و رائدا في تطوير المجتمع برمته( المطلب الرابع). و من ثم تعبئة الجسم الجامعي كله للإسهام في تحقيق التنمية المستدامة و السلم و الرفاهية لكل فئات المجتمع، و في تطبيق حقوق الإنسان.. في مختلف المجالات (المطلب الخامس).

المطلب الأول: التعليم و نشر الثقافة:

إن نشر الثقافة العامة ، بوصفها عملية تواصل يتم من خلال نقل المعارف و المعاني و الخبرات البشرية بين الأجيال؛ هي أهم وظيفة تقوم بها الجامعة حاليا،و تكاد تنفرد بها.فبالرغم التطورات التي طرأت على وظائف الجامعة،  من جهة،و بالرغم من ظهور مدارس و معاهد عليا أصبحت تقدم هي الأخرى مستويات عليا من الثقافة العامة، إلا أن الجامعة مازالت تحتفظ بأهميتها الكبيرة في تقديم أعلى مستويات الثقافة العامة على الإطلاق.
إن هذه الوظيفة، كما رأينان هي الوظيفة الأصلية للجامعة، فكل الجامعات القديمة، سواء تلك التي ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية، أو الحضارة الغربية، أو غيرها من الحضارات، إنما نشأت في الأصل لنشر الثقافة في صفوف أبناء النخب الحاكمة، التي كانت تقبل على الجامعة ،من أجل الإشباع العقلي، وحبا منها للمعرفة، و رغبة منها في التعلم،و ليس بهدف نفع عملي[22].
فكرة الجامعة
توفير الثقافة العامة  العميقة ،هي أقدم وظيفة للجامعة
و اليوم، ما زالت الجامعات تحمل رسالة نشر الثقافة العامة:فالمهمة الأولى للأستاذ الجامعي، هي نقل المعلومات التي أصبحت مستقرة و متفق عليها، في ميدان من ميادين المعرفة الإنسانية، من خلال دراستها، و تبويبها، و فرز  و مقارنة عناصرها،و مناقشة  تياراتها و نظرياتها المختلفة،و استقصاء مكوناتها، و إخضاعها للنقد و الفحص[23].
و لقد ظهرت في الجامعات الأوربية، منذ القرن التاسع عشر و إلى منتصف القرن العشرين، بعض التيارات التربوية، التي حاولت تغليب الثقافة التخصصية على الثقافة العامة داخل الجامعات، على اعتبار أن دور التعليم الجامعي، هو جعل الطالب يحصر اهتمامه  في التخصص و التعمق، في مادة من المواد الدراسية( أو مواد متكاملة)، فبذلك يتفوق في مجال من مجالات المعرفة،و بالتالي يضمن المجتمع ككل  التطور و التقدم في هذا الحقل العلمي.
غير أنه، و منذ الخمسينات من القرن العشرين، بدأت الأصوات ترتفع مطالبة، بإدخال تعديلات على هذه المنهجية الجامعية ؛ لأنه اتضح للناس؛ أن التخصصات الضيقة؛ تنتج خريجين جامعيين  من ذوي الأفق الثقافي الضيق ،الذين كثيرا ما تنحصر حصيلتهم العلمية في مجال محدود جدا،و يكونون خارج هذا المجال جهلة، و جهلهم لا يضرهم وحدهم بل  يجر الكثير من الويلات على أسرهم و مجتمعاتهم[24].
و هكذا،فلم يعد هناك أحد يؤمن بأن ثقافة الخريج الجامعي ، يجب أن تقتصر على الثقافة التخصصية في علم أو فن واحد أو فرع واحد من فروع المعرفة. ذلك أنه لا يمكن لأي مواطن معاصر، في أي مكان في العالم، أن يتحمل مسؤولياته الكاملة ، و يؤدي الواجبات المتعددة الملقاة على عاتقه، و المساهمة في بناء المجتمع الذي ينتمي إليه،و هو لا يعرف إلا نوعا واحدا من أنواع المعرفة[25].

المطلب الثاني:الإعداد ..لمهنة:

إن وظيفة إكساب الطلبة المعارف و المهارات العملية التخصصية،  التي تؤهلهم للعمل في مختلف المهن( الهندسة، و الطب،و المحاماة، و التعليم،و المحاسبة.إلخ)؛ كانت من الوظائف " الهامشية"  للجامعة القديمة،و حتى بدايات العصر الصناعي، كما مرّ معنا أعلاه.أما في عصرنا هذا،فلقد أصبح التعليم المهني أحد أركان التعليم الجامعي الأساسية، نتيجة الربط " الميكانيكي"- في عقول جميع الناس- بين التعليم الجامعي و الحصول على فرص للشغل من جهة، و التعليم المهني و التقدم الصناعي و الزراعي و التكنولوجي من جهة أخرى[26].
و هكذا، صار من أهداف الجامعة، في مفهومها المعاصر،إعداد(Formation)[27] الطالب/المواطن،لأن يكون مؤهلا لممارسة نشاط مهني معين، و بالتالي يكون قادرا على كسب عيشه و الإنفاق على نفسه و أسرته( أو عائلته) من خلال أداء عمل أو وظيفة معينة في المجتمع، بدلا من أن يعيش عالة على غيره.هذا فضلا على ما يحققه ذلك العمل، أو تلك الوظيفة، من قيمة مضافة، قد تساهم في التنمية الشاملة،( الاقتصادية، و الاجتماعية، و..إلخ)، للمجتمع الذي تنتمي إليه الجامعة.
فكرة الجامعة
التكوين المهني، أحد الوظائف الأساسية للجامعة

 و لكن إعداد الطلبة لممارسة مهن المستقبل، لا يكون بالتلقين، و إنما بالتمرين و التدريب، فالدروس العملية و التطبيقية تترك آثارا تبقى راسخة في ذهن الطلاب، و هي بذلك تربطهم بالواقع المعيش، الذي سيضطرون  إلى مواجهته بعد تخرجهم[28].
و لقد كانت الجامعات الأمريكية رائدة في هذا الميدان، فقد ركّزت - و ما زالت- على الجانب العملي للمعرفة بدل الاهتمام بالجانب النظري فحسب.يقول البروفيسور "بارنز":" يوجد اعتقاد هام في فلسفة التعليم الأمريكية..[هو] فكرة أن المدارس يجب أن تدرب الشخص كله (أي الطالب) و ليس عقله فحسب.."[29].
وهكذا ارتبطت كليات الطب الأمريكية، بالوحدات الاستشفائية،منذ وقت مبكر نسبيا،و هو ما مكن الطلبة من معاينة حالات واقعية، و الأساتذة من تحيين التقنيات العلاجية و الجراحية و الإدارية. أما في كليات الحقوق ،فقد شجعت الطلبة  على ربط صلات وطيدة و وثيقة بالجهاز القضائي؛ فعوض الاقتصار على كتب أحكام القضاء، وجدناهم يحضرون المحاكمات و يعملون مع المحامين،..إلخ.بل كان بإمكان الطلبة ، ضمن شروط خاصة،الدفاع عن المتقاضين الفقراء. و استفاد طلبة الهندسة المعمارية، من جهتهم، من إمكانية العمل في بعض المشاريع العمرانية الرامية إلى تجديد الأكواخ. فيما ارتاد أولئك الذين سيصبحون علماء اجتماع مصالح الرعاية الاجتماعية.

المطلب الثاني: البحث العلمي:

يقوم بالبحث العلمي في المجتمعات المعاصرة، ثلاثة أصناف من المؤسسات هي: الجامعات، و المعاهد غير الجامعية(الحكومية و الخاصة)،و مراكز البحث العلمي في الشركات.غير أن الجامعات تؤدي مهام تتزايد أهميتها باستمرار، في مجال الأبحاث العلمية الأساسية.فهي التي تعد الباحثين ، و تضمن بالتالي تزويد معاهد و مراكز الأبحاث باستمرار ،بالقوى البشرية و العقول العلمية المتخصصة في البحوث العلمية.هذا، فضلا على أن البحوث العلمية، التي تتم خارج الجامعات، تعتمد اعتمادا كبيرا على نتائج البحوث التي تنجز في الجامعات.
لا بل إن الكثير من الاكتشافات و الاختراعات، يعود الفضل في تحقيقها إلى البحوث الجامعية،التي أنجزها الأساتذة و الطلاب الجامعيون، في مختلف المجالات و التخصصات العلمية:في علم الفلك، و الفيزياء النووية، و الرياضياتن و الكيمياء، و البيولوجيا، و الميكانيك، و علم النفس، و عم الاجتماع، و علم السياسة، و  المسيقى،..و غيرها.
فكرة الجامعة
البحث العلمي

أجل،فالمجتمعات اليوم كلها، خاصة  المتقدمة ، أصبحت تنتظر من الجامعة ألا تقصر وظائفها على تلقين المعرفة للطلبة، أو تعدهم لممارسه مهن معينة، بل عليها أيضا أن تدربهم على مبادئ التعليم الذاتي المستقل،و التعود على طرح الأسئلة، و اختيار و اختبار الفروض،و وزن الأشياء بمقاييس العقل و المنطق، في إصدار الأحكام و بلوغ النتائج بعد جمع الحقائق و الوقوف على المعلومات الصحيحة، و الدراسة العلمية المنظمة، و ابتكار الحلول لمواجهة مشاكل الحياة المتجددة،التي تحتاج إلى حلول جديدة،أي تحتاج - بلغة أخرى- إلى الكثير من العقول المفكرة لا المقلّدة، التي تعوّل على الحفظ[30].
كما أن الجامعة مكلفة أيضا بحكم دورها في المجتمع بصياغة الحقائق المتحصِّلة، و تفحصها و التحقق من صدّقيتها، و مدى قابليتها للتعميم، ثم صيغتها( أو إعادة صياغتها)، بطريقة علمية مناسبة لتيسير الإفادة منها في الحياة اليومية.و لا يتأتى ذلك لها، إلا من خلال قيامها بالبحوث النظرية و التطبيقية المتصلة بالمتطلبات الناشئة عن الحاجيات الآنية و المتوقعة للمجتمع.و بذلك تصبح الجامعة مصدرا، لإنتاج المعرفة العلمية الصحيحة،و نشرها و تعميمها و تيسيرها، حتى تكون في متناول كل من يرغب باستعمالها أو تسخيرها في خدمة التنمية الشاملة لمجتمعها:و يتمثل ذلك عمليا،في تقديم معارفها و خبراتها لخدمة أنشطته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية..إلخ.

المطلب الرابع: خدمة المجتمع:

و تعني هذه الوظيفة ، الخدمات العامة التي تقدمها الجامعة، خارج  نشاطها العادي (التعليم و التكوين و البحث العلمي)، لهيئات و منظمات و أفراد،لأغراض ثقافية  و مهنية و اجتماعية و سياسية، و طبية ، وتنموية: للمساهمة،في اقتراح حلول للمشكلات التي تواجه المجتمعات المعاصرة،مثل تلوث الهواء و الماء، الأمراض، و النقص في الغذاء، و حماية البيئة البحرية، و غيرها [31].
و لقد نشأت هذه الوظيفة في مفهومها المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية، في  القرن التاسع عشر فقط(1862)؛ إذ كانت خدمة المجتمع، ضمن الوظائف التي تقوم بها جامعات هبة أو منحة الأرض الأمريكية([32]University Land Grant).أما اليوم،فأهم الأنشطة التي تشهدها الجامعات الآن، و التي يمكن أن ندرجها  في إطار هذه الوظيفة ، هي تلك التي تتمثل في المجالات الفكرية و الثقافية العامة،و  من أبرزها إقامة الندوات و المؤتمرات، و المعارض العلمية و الثقافية و الفكرية،تحت رعاية الجامعة ، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه.. فالجامعة اليوم، كما يؤكد الأستاذ الدكتور محمد منير مرسي :" ..و ينبغي أن تتفتح الجامعة على المجتمع كما ينبغي أن تفتح أبوابها لأبنائه من غير طلابها ليجدوا في رحابها العلم و الثقافة و المعالجة العلمية لمشكلاتهم الاجتماعية. و على الجامعة أن تتحسس آمال المجتمع و آلامه لتكون معبرة عنها واعية لها مستجيبة لها متعاطفة معها.و لا بد للجامعة أن تستجيب للاحتياجات الثقافية للمجتمع لتسهم من خلال ذلك في تنشيط بنيته الاجتماعية و الارتفاع بمستواه الفكري و الثقافي"[33].
فكرة الجامعة
في 1962 احتفلت الولايات المتحدة بمرور مائة سنة على تأسيس "جامعة خدمة المجتمع"

المطلب الخامس: الإسهام في التنمية الشاملة و احترام حقوق الإنسان:

إن الوظائف التي تحدثنا عنها أعلا، هي الوظائف  الأساسية و " التقليدية" للجامعات اليوم، في كل أنحاء العالم .غير أنه ، و تحت تأثير فلسفات التربية التي انتشرت في السنوات الأخيرة، و التي روجت و تروج لها بعض المنظمات الدولية كاليونسكو ، ظهرت وظائف أخرى للجامعة ، هدفها تخريج "أجيال" من المواطنين العالميين الذين يتسمون بسعة الأفق، و الانفتاح على بيئاتهم المحلية و العالمية.
تأمل معي، عزيزي القارئ، على سبيل المثال ما جاء في بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته اليونسكو:
 المادة3:و ينبغي لمؤسسات التعليم العالي أن تعمل، من خلال مهامها الأساسية ( البحث و التعليم و خدمة المجتمع)، التي تضطلع بها في سياق الاستقلال المؤسسي و الحرية الأكاديمية، على تعزيز توجهها الجامع بين التخصصات، و تشجيع التفكير النقدي و تعزيز المواطنة النشطة.فمن شأن ذلك الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة و السلم و الرفاهية، و في تطبيق حقوق الإنسان، و منها المساواة بين الجنسين.
المادة 4:ينبغي ألا يقتصر التعليم العالي على تطوير مهارات عالية لخدمة العالم الراهن و المقبل فحسب،و إنما يجب ان يسهم أيضا في تهيئة مواطنين ذوي مبادئ أخلاقية و ملتزمين ببناء السلام و الدفاع عن حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية[34].
من خلال هذه المواد يتجلى لك أن الفكرة التي صارت مهيمنة على الجامعة اليوم و في كل أنحاء العالم تقريبا،هي أنه لا يجب أن تحصر هذه الأخيرة دورها في تخريج الأطر المطلوبة لشغل المناصب " التخصصية"، في مختلف المواقع. أو الاهتمام بالبحث العلمي فحسب، على أهميتهما النسبية.بل إن من واجبها أيضا، تخريج النخب و الزعامات ، القادرة على قيادة المجتمع إلى مستقبل أفضل، بدلا من الاكتفاء بخدمة الواقع،وفق ممارسات تقليدية و عقيمة في الغالب.
و زبدة القول، إن التعليم الجامعي اليوم لم يعد يقصر دوره، و لا يحصر أهدافه في العمل على تمكين الطلبة الجامعيين من حيازة المعرفة العامة، و المهارات العقلية و اليدوية التخصصية فحسب، و إنما تتجاوز ذلك إلى الاهتمام بتنمية كفاياتهم العامة، و كل قدراتهم و مؤهلاتهم،لاسيما الإبداعية منها، مثل: المرونة و سرعة التفكير و الإبداع[35]، و تنمية مهارات التعلم من خلال الخطأ و الصواب، و القدرة على الحكم السليم و إصدار القرارات،و الاعتماد على النفس في الوصول إلى مصادر المعرفة الأصلية و الأصيلة و توظيفها في استنباط الحلول للمشاكل الشخصية و الاجتماعية، و القدرة على الحوار و النقاش و الخطابة و الإلقاء.هذا فضلا عن  الإحساس بوحدة المعرفة، و ربط العلوم الدقيقة بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية..و الشعور بوحدة الإنسانية[36] .
و لقد زاد الاهتمام بهذه المضامين و المعاني، في العقود القليلة الماضية، خاصة مع بروز وجهات نظر تؤكد على فاعلية العنصر البشري و استثماره في دفع عجلة التنمية في المجتمع و الحفاظ على مكاسبها،و إعداده للتعامل مع الظواهر المستحدثة و الناجمة عن التغيرات الهيكلية و عن  العولمة بأبعادها الاقتصادية و التكنولوجية و الثقافية.
و انطلاقا من هذا المنظور، فإن الطالب الذي يدرس الحقوق، و الطالب الذي يدرس الآداب، و الطالب الذي يدرس العلوم، على تباين و تنوع تخصصاتهم، ينبغي أن يشتركوا جميعا في ثقافة عامة واحدة،مغربية و عالمية معاصرة في نفس الوقت، حتى يتخرجوا جميعا أبناء جامعة واحدة، و أبناء وطن واحد،و أبناء إنسانية واحدة،..و أبناء زمن واحد[37].
و لقد أدرك المشرع المغربي هذه الحقيقة ،فعمل على مسايرة كل هذا التطور الذي طرأ على  وظائف الجامعة.و الدليل على ذلك،أنه  حدد- في المادة (3) من الفصل الأول،من القانون المتعلق بتنظيم التعليم العالي في المغرب- ،مهام الجامعات على النحو الآتي:تناط بالجامعات المهام الرئيسية التالية(...)التكوين الأساسي و التكوين المستمر؛ تنمية و نشر العلم و المعرفة و الثقافة؛إعداد الشباب للاندماج في الحياة العملية خاصة بواسطة تنمية المهارات؛البحث العلمي و التكنولوجي؛(...)؛المساهمة في التنمية الشاملة للبلاد؛المساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية..إلخ".
فكرة الجامعة
مانديلا..رمز المواطن العالمي






[1]  د.يوسف سيد محمود – رؤى جديدة لتطوير التعليم الجامعي- تقديم :د.حامد عمار – الدار المصرية اللبنانية – بيروت 2009- ص ص 21-22.راجع أيضا مادة "الجامعة" في الموسوعة العربية العالمية-  الطبعة الثانية- مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر و التوزيع- الرياض 1999-المجلد الثامن-ص 147 و ما يليها.
[2]  يمكن أن تكون الجامعات عامة أو خاصة.فالنظام لقانوني المغربي، يسمح بإنشاء الجامعة الخاصة، و يطلق عليها في هذه الحالة أسماء " مدارس أو معاهد أو مراكز"، كما يمكن الترخيص لها بحمل أسماء " جامعة خاصة أو " كلية خاصة". راجع المادة(41) من الظهير الشريف رقم 01.00.199 الصادر في 15 صفر 1421( 19 ماي 2000)، بتنفيذ القانون رقم 01.00 المتعلق بالتعليم العالي-ج.ر . عدد 4798-21 صفر 142 (25 ماي 2000)-ص 1194.
[3]  موفق دعبول – الجامعة – الموسوعة العربية – النسخة الرقمية- المنشورة على  العنوان:www.arab-ency.com ( اطلع عليه بتاريخ:03/2/2011).و انظر أيضا: لموسوعة العربية الميسرة- دار الشعب –القاهرة 1965-مادة " الجامعة".
[4]  دليلك إلى الجامعات الأمريكية- ترجمة: د.أمين  سلامة- مكتبة الوعي العربي/دار الجيل للطباعة- الفجالة(مصر) 1986- ص 52.
[5]  و الأمثلة على ذلك كثيرة، منها:المدرسة الحسنية للأشغال العمومية، التابعة لوزارة التجهيز؛ و المعهد العالي للإعلام و الاتصال، التابع لوزارة الاتصال، و مراكز تكوين الأساتذة التابعة لوزارة التربية و التعليم..إلخ.
[6]  اقتبسه  الدكتور سامي عريفج- وظيفة الجامعات في العالم العربي اليوم- الفيصل- العدد 69-دار الفيصل الثقافية-الرياض (ربيع الأول 1403هـ/يناير 1983م)- ص37.

[7] جيمس تريفيل- لماذا العلم؟- ترجمة:شوقي جلال- سلسلة عالم المعرفة- العدد 372- المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت (فبراير 2010)- ص 206.
[8]  معايير الترقية المهنية، في الجامعات اليوم، هي مدى مساهمة المرشح للترقية في النشاط البحثي- بغض النظر عن القيمة الحقيقية لهذا النشاط- و ذلك وفق أساس في التقييم، مقتبس عن الجامعات الغربية، مفاده " انشر أو اندثر"(Publish or Perish)، و " جدّد أو تبخّر"(Innovate or Evaporate).جيمس تريفيل- لماذا العلم؟- ترجمة:شوقي جلال- سلسلة عالم المعرفة- العدد 372- المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت (فبراير 2010)- ص 203 و ما يليها.
و يقول هذا المؤلف (ص 205 ):" و كم هي عسيرة المبالغة في تقييم الآثار السلبية التي تركها التأكيد على البحوث و أضرت بالتدريس على المستوى الجامعي(...) و نذكر على سبيل المثال أنه في مطلع سبعينات القرن العشرين تلقى أستاذ مساعد جديد بإحدى الجامعات الكبرى نصيحة صادقة الود من رئيس القسم الذي يتبعه، إذ قال له: "إذا قضيت أكثر من 10في المائة من وقتك في التدريس ،فإنك بذلك ستضر بفرص الترقي إلى أستاذ".انظر أيضا: حسن الصغير – التعليم الجامعي في الوطن العربي – ص 26.
[9]  يقول الأستاذ الدكتور أبوشقرا، معلقا على قانون التفرغ:" ..إن هذا القانون ربط مصير الأستاذ بمصير الكلية التي ينتمي إليها، فلم يعد عابر سبيل يلقي محاضرته و يمشي، و بسبب هذا القانون أصبح للأستاذ الجامعي الوقت الكافي لمعاونة طلابه داخل الحرم الجامعة و تلبية طلباتهم الأكاديمية و إرشادهم في كل ما يعود إلى رفع مستواهم و توفير المناخ الملائم لنجاحهم.و لو أردنا أن نهتدي بمن سبقنا في تراثه الجامعي لوجب علينا تأمين المزيد من الوقت للطلاب، كأن نجل مثلا لكل فريق من الطلاب أستاذا واحدا يقوم مقام المرشد، يستشيرونه في جميع أمورهم الأكاديمية و غير الأكاديمية.و من هنا نفسر موقف الطلاب المؤيّد،لا بل التمسك، بقانون التفرغ، و هذا خير دليل على الفائدة التي يقدمها هذا القانون للطلاب":م.س- ص ص 14-15.و لعل الأستاذ أبوشقرا، يشير هنا، إلى ما يعرف في الجامعات الغربية (الإنجليزية و الأمريكية و الأسترالية..و حتى الأوربية)، بنظام( الحماية أو  الوصاية=tutorat ).
[10]  فؤاد سزكين- الجامعة ميراث البشر المشترك هل كانت نشاتها في أوروبا من تلقاء نفسها؟- م.س- ص51-52.
[11] سامي عريفج- نشوء الجامعات و تطور وظائفها-أفكار- وزارة الثقافة و الشباب- عمان –العدد 47-كانون الأول 1979- ص 29.
 [12]   المرجع السابق- ص 31 و ما بعدها.
[13]   اقتبسه سامي عريفج - المرجع السابق- ص 31.
 [14] فؤاد سزكين- الجامعة ميراث البشر المشترك هل كانت نشاتها في أوروبا من تلقاء نفسها-في:الجامعة، البحث العلمي، و التنمية- مطبوعات الأكاديمية المغربية- الرباط 1989- ص54؛عريفج- المرجع السابق- ص ص 31-32.
[15]  يقول الأستاذ محمود قمبر :"الحرية لأكاديمية: نشأت فكرة الحرية الأكاديمية بقيام أول رابطة  حقيقية لأساتذة جامعة باريس، تناضل من أجل الحرية و الاستقلال في مجتمع محكوم دينيا و ملكيا. و نجحت هذه الرابطة في وضع أول لائحة جامعية في 1215م تحدد الواجبات و الالتزامات و الأخلاقيات و الامتيازات و حرية التدريس و منح الليسانس و الإدارة الذاتية و حرمة الجامعة و تعزيز روافد التمويل برسوم طلابية و إعانات خيرية..".و يضيف :" و الحرية الأكاديمية تعني حرية الجامعات كمؤسسات تعليمية عليا بما يحقق لها استقلالية وظيفية تمارس بها أعمالها، و حرية أساتذتها كعلماء باحثين عن المعرفة و القائمين بإنتاجها و تطويرها و نشرها و تعليمها..": محمود قمبر – م. س- ص 68.
[16]  نشوء الجامعات و تطور وظائفها-أفكار- ص31-32؛ الجامعة ميراث البشر المشترك هل كانت نشاتها في أوروبا من تلقاء نفسها- ص  51.
[17]  عريفج- ص 32.
[18]  دليلك إلى الجامعات الأمريكية- ترجمة: د.أمين  سلامة- مكتبة الوعي العربي/دار الجيل للطباعة- الفجالة(مصر) 1986- ص 54
[19]  بارنز- دليلك إلى الجامعات الأمريكية- م.س- ص ص 57-58.
[20]  سنتناول هذه الخدمة في سياق حديثنا عن وظائف الجامعة.
[21]  نيقولاس هانز- التربية المقارنة – ترجمة يوسف ميخائيل أسعد-دار النهضة العربية – القاهرة 1966- ص 378 و ص ص 386-7.؛ عبد الهادي بوطالب- وضع  البحث و الإبداع في العالم الإسلامي- في الجامعة ، البحث العلمي و التنمية- مرجع سابق- ص 62.
[22]  "..لقد نشأت جامعاتنا في سياق ليبرالية صفوة تنشد المعرفة من أجل المعرفة و الاستنارة،ممتزجة مع معارك الاستقلال و الحركة الوطنية، ثم انتقالا بتوجهها إلى مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، لتركز حاليا على مطالب سوق العمل كما هو الشأن في جميع الأقطار النامية الأخرى":د.حامد عمار- العرب و جامعاتهم..رؤية مستقبلية- العربي- العدد 551- وزارة الإعلام- الكويت( شعبان 1425هـ/أكتوبر 2005م)- ص 22.  و يمكن الاستشهاد لصحة هذا "الرسالة"، برأي "قاسم أمين "، الذي عاصر تأسيس أو جامعة مصرية أهلية (سنة 1908)، إذ قال:" لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم وسيلة لمزاولة صناعة ، أو للالتحاق بوظيفة، بل نطمع أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبا للحقيقة و شوقا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم":د.محمد حسين هيكل- رسالة الجامعة المصرية- اقتبسه:د.محمود قمبر – دراسات في التعليم الجامعي- م.س- ص 36.
[23]  د.أحمد حسين الصغير – ص24.
[24]  جامعة الهواء- العربي-العدد 155- أكتوبر – ص 14.
[25] دراسات في التعليم الجامعي- ص ص 55-56.و يضيف (56-57):"..لم  يعد من اللائق أن يجهل الطبيب الحقائق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و التي تؤثر في حياة مرضاه، أو أن يجهل الأديب أو المفكر الحقائق العلمية و تقنيات العصر التي تشكل حياة الناس في مجتمعه.
" إن العلوم خارج التخصص أصبحت تشكل في برنامج الدراسة الجامعية نسبة تتراوح ما بين 10% و 20% و توزعت المواد في دوائر ثلاث: علوم القسم العلمي، و علوم الكلية التابع لها القسم، و علوم خارج القسم و الكلية في الجامعة التي ينتميان لها".
[26]  بركات- التربية أمام الانفجار الثقافي و السكاني- م.س- ص 59.
[27]  يستعمل هذا المصطلح الفرنسي عادة، فيما يخص علاقته بالجامعة، بمعنى التدريب الفكري و اكتساب الخبرة العملية.انظر: د: جون.ب.ديكنسون- العلم و المشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث-ترجمة : شعبة الترجمة باليونسكو- عالم المعرفة- العدد112- أبريل 1987- ص 97.
[28]  انظر: د.محمد مرعي – الجامعات العربية..لماذا هي خارج الترتيب العالمي؟- العربي- العدد 587- أكتوبر 2007-ص 24.
غير أن خبراء التعليم الجامعي، يرون أنه لكي يحقق هذا التكوين الثمار المرجوة منه، يجب أن يعهد به إلى مدرسين ممارسين لمهن معينة،أو لذوي  الخبرة العملية و المهنية(praticiens) :ففي كليات الحقوق مثلا، يمكن أن يعهد بهذا التكوين للمحامين و القضاة ورجال الأعمال(مديري المؤسسات الخاصة)، و الموظفين الكبار(في القطاع العام)،..إلخ.
[29]  دليلك إلى الجامعات الأمريكية- م. س – ص 66.
[30]  د.سعيد إسماعيل علي- فلسفات تربوية معاصرة- عالم المعرف- العدد 198-  المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب - الكويت (يونيو 1995)- ص 119.
[31]  حسن الصغير – م. س- ص 29.
[32]  سميت كذلك، لأنها أقيمت على أراضي منحتها أو وهبتها حكومات الولايات إلى مؤسسي هذه الجامعات. و من هذه الجامعات ، الرائدة في ميدان خدمة المجتمع، جامعة "دركسيل" (Drexel)، في فيلادلفيا(ولاية بنسليفانيا) ،التي كانت تفتح صالاتها لسماع الموسيقى و المحاضرات و الخطابة، و المعارض و المباريات و ما شابه، "لكسب رضا الشعب".انظر: بارنز- م. س- ص 63 و ص 71.
[33]  دراسات في التربية المعاصرة- م.س- ص ص 31-32.
[34]   و المنشور في موقع اليونسكو،و عنوانه: www.unesco.org
[35]  يراد بالإبداع عموما، القدرة على إيجاد حلول جديدة لمشكلات مطروحة(قديمة أو جديدة)، سواء باختراع أشياء جديدة،أو اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء.
[36]  يقول الأستاذ الدكتور هنري مدني:"..فالعلوم التي تدرس أو بالحري تمارس في الجامعات و كلياتها متعددة جداً و كل منها له أهميته في المجموعة. فكلمة" جامعة" نفسها تذكرنا بضرورة التفاعل و التعايش للفروع بعضها مع البعض على حرم الجامعة كي تأتي بالنتائج المطلوبة و المؤدية إلى تحسين حياة الإنسان و المجتمع الموجود فيه.فكليات العلوم التطبيقية أول من يشدّد على ضرورية الثقافة العامة في برامجها و هكذا نحن حريصون جدا في جامعاتنا بأن لا نخرج الطبيب أو المهندس الذي لا يعرف سوى كتاب الطب أو الرياضيات و العلوم":التفرغ و أستاذ العلوم التطبيقية- ندوة: الأستاذ الجامعي و التفرغ- سلسلة ندوات الدراسات الإنمائية – ص37.
[37]  لعل هذا أحد الأسباب التي دفعت المشرع إلى إحداث "جامعات" من نوع " الكليات متعددة التخصصات" ،لتشجيع اتصال و احتكاك الطلبة و الأساتذة  من كل التخصصات .فكرة الجامعة

الجمعة، 17 يناير 2014

الخطاب العلمي العربي

في ما يلي، مقال بالغ الأهمية، كتبه المفكر العربي الأستاذ الدكتور الرميحي، رئيس تحرير مجلة العربي الأسبق، حفظه الله.و لأهميته، قررت إعادة نشره هنا، للتذكير بمحتواه،مصداقا لقوله تعالى:" فذكّر إن الذكرى تنفع المؤمنين"، صدق الله العظيم..
***

الخطاب العلمي العربي*

بقلم الدكتور محمد الرميحي
في ندوة عقدت بالكويت في ربيع 1981 عن الإبداع العلمي العربي الإسلامي – شارك فيها مجموعة كبيرة من ا لعلماء العرب و المسلمين الأجانب – وقف العالم الباكستاني المسلم الأستاذ محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 1979.وقف ليقول:" لقد كان عليَّ أن أختار في الخمسينات بين أن أبقى في باكستان أو أبقى في دراسة الفيزياء، و اخترت الأخيرة".
الخطاب العلمي العربي
عالم الفيزياء الباكستاني محمد عبد السلام(1926-1979)
 و كانت الإشارة واضحة، فهذه الكلمات القليلة تمثل أزمة العلماء و المشتغلين بالعلم في العالم الثالث اليوم، لأن هناك أسبابا كثيرة، و كثيرة جدا، تدفع العلماء في العالم الثالث طائعين أو مجبرين أن يتركوا بلادهم حتى يستطيعوا أن يشبعوا رغباتهم في الانجاز .لقد أردف وقتها، ذاك العالم الشهير بالقول:" لقد جئت هنا أتوسل إليكم أن تعطوا الأولوية القصوى للإبداع العلمي، و هي الخطوة الأولى و الأساسية إن أردتم اللحاق بركب التقدم العلمي".
قبل ذلك بعشر سنوات سمعنا نداء مشابها في قالب تعبيري مختلف في مؤتمر عقد بالقاهرة لتدريب العلميين، و يومذاك قال نائب مدير اليونسكو "مالكو أديشيا"- و هو هندي -:" إن أمريكا أنزلت رجلا على القمر على حساب إفقار دول نامية كثيرة من العلميين".
و لقد تكاثرت الكتابات و النداءات للاهتمام بالعلم و البحث العلمي، و بالعلميين في الوطن العربي و في دول كثيرة من العالم الثالث، ذهب جلها أدراج الرياح مع الأسف، دول محدودة فقط في العالم الثالث التفتت إلى هذه القضية و أولتها اهتماما خاصا في إطار خططها التنموية.
و الوطن العربي اليوم يقف أما تغيرات هائلة تستوجب إعادة طرح السؤال من جديد: و ماذا عن العلم و البيئة العلمية و البحث العلمي بالمعنى الواسع الشامل؟
العرب المسلمون و العلم !
لعل من نافلة القول ترديد ما كان للعرب و المسلمين في تراثهم من باع طويل في رعاية العلم و البحث العلمي شهد بها المنصفون من علماء الغرب قبل الشرق، و لعلنا نذكر على وجه التخصيص موسوعة جورج سارتون[(G.Sarton)(1884-1956) ] في تاريخ العلوم، و الذي اختار أن يقسم فيها تاريخ العلم إلى فترات تبلغ الخمسين سنة لكل فترة و يربطها بإحدى الشخصيات العلمية البارزة في ميقاتها، فعلى سبيل المثال ربط سارتون فترة 450-400 قبل الميلاد - و ما بعدها بأرسطو و العلماء الإغريق من بعده، ثم أورد الفترة الصينية.أما الفترة من سنة 750 م إلى 1100 ميلادية- " 350 سنة متواصلة " فكانت للعلماء المسلمين دون منازع، و تبرز فيها أسماء مثل :جابر بن حيان، الخوارزمي، الرازي، المسعودي، البيروني، ابن سينا، ابن الهيثم..إلخ، من مستوى هؤلاء العلماء.و بعد 1100 سنة ميلادية فقط يظهر أول الأسماء الغربية في موسوعة جورج سارتون- و لكن لقرنين و نصف يظل الشرف العلمي في الغرب شركة مع علماء مسلمين مثل ابن رشد و الطوسي و ابن النفيس.

الخطاب العلمي العربي
لفد كان الاهتمام بالعلم و المعرفة جزءا من فطرة المجتمع العربي الإسلامي و سمة لتقاليده، حتى أنه روى عن المعلم أبي الريحان البيروني (ت 442ه/1048 أو 1050م) على لسان أحد تلاميذه أنه قال:" لقد بلغني أن البيروني كان في حضرة الموت، فأسرعت إلى منزله أملا في أن أراه للمرة الأخيرة، و سرعان ما تحققت أنه لن يعيش طويلا ، و عندما بلغه قدومي فتح عينيه و قال: ألست فلانا؟ فأجبت بالإيجاب و عندها قال: بلغني أنك قد توصلت إلى حل مشكلة معقدة في قوانين الإرث في الإسلام، ثم أشار إلى مسألة معروفة استعصى حلها لزمن طويل، فلم أتمالك نفسي و قلت: و لكن في هذه الظروف يا أبا الريحان ! و كان جوابه: " ألا ترى أنه خير لي أن أموت عالما بالأمر من أن أموت جاهلا به؟". و بقلب مملوء بالأسى، أخبرته بكل ما عندي ثم استأذنته و انصرفت، و لم أكد أبرح باب داره حتى سمعت صائحا من داخل الدار يقول: إلى رحمة الله يا أبا الريحان ".
الخطاب العلمي العربي

 أبو الريحان البيروني،يعد من أكبر العلماء في تاريخ البشرية.
احتفل العالم بذكراه الألفية احتفالا مهيبا،فتعددت المؤتمرات ة الندوات التي عقدت لتكريمه،لاسيما 
 في البلدان التي اعتقد أنه ولد أو نشأ فيها:أفغانستان، و إيران، و باكستان، و الاتحاد السوفياتي   
لعل هذه القصة- و من أمثالها الكثير في تراثنا العربي الإسلامي – تؤكد حقيقة أثبتتها الدراسات الكثيرة ، و هي حرص هؤلاء الأجلاء على متابعة البحث العلمي دون كلل أو ملل.
و لعل القضية الأخرى اللصيقة باحتضان العلم و البحث العلمي في تراثنا، أن علمائنا الأوائل لم يكونوا فقط ناقلين، بل أضافوا و جددوا و نقدوا ما جاء إليهم من علم حضارات سبقتهم- و تلك حقيقة لا تقبل الجدل – فقد أصبح اقتران العلم العربي الإسلامي بتاريخ العلوم شرطا لضمان موضوعية هذا التاريخ، و كذلك لفهم أفضل للفترات التي أعقبت النهضة العلمية العربية.

الانقطاع و التواصل:

ما غاب عنا حتى الآن، و مازالت كتاباتنا تمر عليه مرور الكرام – هو الإجابة المنطقية العلمية عن هذا السؤال: لماذا انقطع التراث العلمي العربي الإسلامي و ضعفت جذوته ثم اختفت خلال فترة القرون الطويلة التي لحقت القرن الحادي عشر الميلاد؟
هناك بعض الاجتهادات، و لكن لم يتقدم أحد – حسب علمي حتى الآن[ 1986]- بتفسير منطقي واضح للأسباب الداخلية التي شلت النشاط العربي الإسلامي العلمي.
لقد تنبه العالم الإسلامي و الأمة العربية في القرن التاسع عشر و ما بعده على حقيقة مفادها أن الهوة العلمية و التقنية تزداد في الاتساع بيننا و بين الغرب إلى درجة أن تلك الهوة أوقعت كثيرا من بلادنا في قبضة السيطرة الغربية، و لكن الجهود العديدة في تخطي تلك الهوة و مجاوزتها كانت تبوء بالفشل مرة تلو الأخرى، فالسلاطين العثمانيون و محمد علي و حكام آخرون اكتشفوا بشكل أو بآخر أن المعادلة في طرفي الهوة هي في ضعفنا العسكري و الاقتصادي، كما تكن أيضا في حقيقة التخلف العلمي و التقني. و عرفوا أيضا أن القوة التي يواجهونها هي قوة العلم في شكل سلاح و تنظيم و تدريب.كذلك اكتشفوا أن العلم و التقنية ليسا في توفير الوسائل العسكرية للدفاع فقط، و لكن كذلك في الغذاء و الزراعة و الإسكان و الصحة و الصناعة و التربية، أي في كل مناشط الحياة.
منذ ذلك الوقت، و لقرن و حتى اليوم، أصبحت صيحة العلم و البحث العلمي تطرح بشدة أحيانا أو بضعف في أحيان اخرى على الساحة العربية الإسلامية، و كذلك في العالم الثالث. و لكن- كما يبدو- دون تقدم كبير في هذا المجال.
الخطاب العلمي العربي
السلاح= الحرية، و السيادة، و الكرامة..و أشياء أخرى

و منذ الحرب العالمية الثانية، حتى يومنا هذا، و قضية العلم و المعرفة العلمية تطرح في وطننا العربي، لقد اقتنعت أقطار عربية عديدة بأهمية البحث العلمي و ما يحققه من فوائد جمة عندما يتضح أثرها في الواقع الملموس، و أن العلم يمكن تسخيره في التنمية و الإعمار، و قد شغلت معظم هذه الأقطار العربية بإنشاء مراكز العلوم و مجالسها..و لكن ما نتيجة كل تلك الجهود؟
في بداية الثمانينات نجد تعليقا لأحد المختصين و المتابعين لهذا المجال هو الدكتور أسامة الخولي[1923-2002] ، يجيب فيه إجابة واضحة عن التساؤل الأخير فيقول:" لم ينجح قطر عربي واحد في إرساء دعائم وطيدة لنموذج بناء القدرة الذاتية و تسخير العلم لخدمة التنمية مثلما فعلت دول في العالم الثالث مثل :كوريا أو تايوان أو المكسيك أو بلغاريا على سبيل المثال"[1].

فالجهود المبذولة كلها أو جلها قد اعتورها القصور فبانت إما معطلة أو مبتورة بحيث لا تصل إلى نتائجها الحاسمة.تلك الخلاصة طبعت تساؤلا مهما:لماذا لا ننهض من جديد بمسيرة علمية حقيقية و شاملة؟
***
و ما زالت هناك أسئلة تطرح حتى الآن:
ما هي أولوياتنا في العلم و التقنية؟
كيف نهيئ الإنسان العربي للعطاء العلمي؟
من المسئول عن تمويل البحث العلمي و إعداد الكوادر المؤهلة لذلك؟
و بعض الأسئلة القديمة مازالت تطرح أيضا:
هل العلم ضروري إلى هذه الدرجة؟
و إذا كان باستطاعتنا الحصول على نتائج التقنية من العالم المتقدم فلماذا نبحث من جديد في اكتشافات علمية؟
بل مازال بعضنا يشكك في أن التفكير العلمي مناقض لبعض القوانين في تراثنا.يريدون بهذا الطرح أن يثبطوا همتنا مرة تلو أخرى و كأن الحقائق العلمية المتغيرة و المتطورة تهدد ما ورثناه من ثوابت. و تلك لعمري مقولة مسيطرة عليهم،و لا تمت إلى العلم بصلة، بل تتناقض تماما مع روح دعوتنا الحضارية.
و لكن تبقى الحقيقة المرة بارزة مهما حاولنا طمسها:هي أن افتقادنا للأمن الوطني و القومي نابع من إغفالنا للعلم، و أنه بغير الالتزام بمخطط واضح و صريح، و طويل الأمد،و قومي يحتضن قضية العلم، فليس هناك اطمئنان قريب يضفي على مشاعرنا السكينة و يكفل لنا الأمن العسكري و الغذائي و الثقافي..إلخ.

طبيعة التفكير العلمي:

لعل من الأخطاء الشاسعة بشأن الفكر العلمي أن نسِمه بأنه " مطلق"، فالفكر العلمي نسبي، و ما هو حقيقة اليوم قد لا يكون كذلك بعد فترة من الزمن، فهو نظام فكري يقر النظرة النقدية و التجربة و الملاحظة. و تاريخ العلوم، ليس مجرد تاريخ الاكتشافات العلمية و تطور مفاهيمها، بل إنه تاريخ حرية التفكير و السعي الدائم للتخلص من المطلقات الفكرية عندما تصبح تلك المطلقات عوائق أمام التقدم !
 و العلم هو جهد إنساني منظم يحاول فهم ما يجري حول الإنسان في بيئته الطبيعية و الإنسانية.و كان تطور العلم في الاتجاهين الطبيعي و الإنساني متداخلا يرفد بعضه بعضا.هذا الجهد الإنساني متواصل تسلمه حضارة لحضارة، و جيل لجيل، و أيضا ليس هناك من شك بأن القرنين الماضيين شهدا مسيرة منتظمة و صاعدة في تخليص العلم بمعناه الدقيق من العبث و الخرافة حتى تطورت مناهجه. و لقد شهد العلم الطبيعي أيضا- بمعنى العلوم الأساسية و التطبيقية – تطورا بشكل أسرع مما شهده الشق الثاني من العلم، و هو العلوم الاجتماعية ( دراسة الإنسان في نفسه أو في علاقاته و تنظيماته).
إلا أننا اليوم يمكن لنا أن نقرر بارتياح أن العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، قد اكتسبت احتراما و تقبلا نسبيا بعد أن تقاربت في مناهجها و مباحثها مع العلوم الطبيعية.و لكن، لعل كثيرا منا عندما يتحدث عن العلم دون تحديد ينصرف الذهن مع هذا الحديث إلى العلم الطبيعي[ الفيزياء، و الكيمياء، و الجيولوجيا..إلخ] و تطبيقاته [ التكنولوجيا] فقط.
و من المفارقات الطريفة بين العلم الطبيعي و العلم الاجتماعي، أن أهم العوائق و العقبات في مجتمعنا العربي اليوم أمام تقدم العلم الطبيعي و تطبيقاته هي عقبات مجتمعية !
فما زالت بيننا فئات اجتماعية لم تسلِّم بعد بالأركان الأساسية لمتطلبات التفكير العلمي، حيث تتبنى مواقف شديدة الضرر للتقدم العلمي مثل التطير و التشاؤم و الاعتقاد بالخرافات، و أقلها ضررا الاستخفاف بما يمكن أن يقدمه العلم من حلول إيجابية لمشكلاتنا.تلك قضية مجتمعية في وطننا العربي على اختلاف درجاتها في أقطاره.و لعل مؤرخي العلوم يذكرون لنا مثلا آخر في التاريخ حيث توقف النمو العلمي في الصين، و كانت في فترة من فترات التاريخ؛ قمة التقدم العلمي و التقني؛لأن الطلب الاجتماعي على العلم قد تضاءل ثم انكمش لعوامل داخلية و خارجية، حينما تفشت الخرافات، و استشرى داء الجهالة، و خبت جذوة العلم و الفكر.
و مسئولتنا اليوم جميعا، هي حفز الجماهير و استثارة إقبالها على خوض مجالات العلم، لا من أجل مكانة أفضل في المجتمع أو دخل أعلى، و إنما من أجل النهوض العام بهيكل البناء على جميع مستوياته.

البعد الاجتماعي و الثقافي:

ما هي تفاصيل البعد الاجتماعي و الثقافي التي تنشط الإقبال الاجتماعي على العلم و التقنية أو تضعفه؟
إن الخوض في التفاصيل لا شك سوف يؤدي بنا إلى تفريعات كثيرة، إلا أن الحلقات الرئيسية يمكن إجمالها في القول بأن التاريخ قد برهن لنا أكثر من مرة أن العلم يمكن أن يقدم إلى مجتمعات تأخذ باجتهادات اقتصادية و سياسية مختلفة.. و في بعض الأوقات متناقضة، فقد ازدهر العلم في مجتمعات شمولية ، كما ازدهر في مجتمعات ليبرالية،كما ازدهر في مجتمعات تأخذ خطا وسطا بين هذه و تلك.
كذلك  في المقابل نجد أن كثيرا من الاكتشافات العلمية ظلت مهملة لسنوات طويلة قبل أن تتحول إلى التطبيق في تقنيات محددة،لأن الحاجة غليها لم تنشط.
كما أن العلم و التطبيقات العلمية، لم يكن ينظر إليها حتى في عصر النهضة الأوروبية نظرة اجتماعية إيجابية، إلى درجة أن الجامعات المحترمة- في بعض دول أوروبا – لم تكن تقبل تخريج ( مهندسين) على أساس أنهم مجرد وسطاء لتطبيق نتائج العلم و تحويله إلى تقنية ![2]
ما أريد أن أقول إن تنشيط الطلب الاجتماعي على العلم و التقنية، لا بد أن يسبقهما خلق وعي عام بأهميتهما في تقدم الحياة و ازدهارها ، و تحقيق الاستقلال الوطني و القومي.
ما مجالات تنشيط هذا الوعي؟
في تقديري المبدئيح أن خلق هذا الوعي يجب ان يتكرس لدى القيادات الفكرية و السياسية، و أن يترسخ في أذهانها إيمان كامل بأهمية بناء القدرات الوطنية و العلمية و التقنية، و أن هذا البناء يحتاج إلى مال و وقت وجهد أيضا.
هناك عزلة حقيقية بين القيادات الفكرية من مثقفين من غير رجال العلم  و بين ما يجري في دنيا العلم على أيدي المقتصرين عليه، و بعضهم لا يقدرون أثره في حياتهم و حياة مجتمعهم و عالمهم.فهناك من الناس من هم منصرفون عنه، و البعض مبهور به بغير دراية، و البعض الآخر خليط بين هذا و ذاك، و هذا ينسحب على معظم مراتب القيادات السياسية.
هذه العزلة تتمثل في ظواهر عديدة منها على سبيل المثال الأوضاع الشاذة لتدريس العلوم في أنظمتنا التعليمية، و أذكر – و لعل غيري يذكر معي – كيف كان مدرس الطبيعة في المدرسة الثانوية التي تعلمنا فيها يقدم لنا التجارب العلمية على أنها نوع من السحر أكثر منها قوانين طبيعية.
و في جامعاتنا مازال التعليم العلمي غريبا عن لغتنا و يلبس أثوابا غريبة عن مجتمعنا، و يعالج مشكلات ليس لنا بها علاقة !
و يضاف إلى ذلك ما يثور بين العشيرة العلمية العربية من وجوه النزاع و الخلاف بعضهم مع البعض الآخر، حتى دخلت العلاقات بينهم في نطاق " ما صنع الحداد"، كما يقول المثل.
و الحلقة الأخرى في البعد الاجتماعي الثقافي و علاقته بالنمو العلمي ما اصطلح على تسميته بالتنشئة الاجتماعية، فما زالت هناك علامات استفهام كثيرة.
إن ما يغرس في نفس الطفل من المحيطين به " الوالدان أو أحدهما أو أحد الأقارب المحتكين بالطفل أو أحد المدرسين" في هذه المرحلة المبكرة من طفولته هو ما يبقى و يظهر بعد ذلك في علاقاته مع الناس و المجتمع.
و التناقض الذي يواجه الصغير في معظم مجتمعاتنا العربية من تسامح مطلق في السنوات الأولى من الحياة، و أوامر بالانضباط ترقى إلى التسلط في الطفولة المتأخرة، يشكل في الغالب شخصية ليس لديها الاطمئنان الوجداني ؛ فيشب الولد أو البنت مترددا خجولا يخاف ولوج غير المألوف الذي هو أساس الإبداع مع التنمية العلمية.
و قد عبّر عن هذا المعنى أستاذ الاجتماع العربي "د.سعد الدين إبراهيم"ن حيث قال:" فالمبدع الذي يجهر بإبداعه في مجتمع سلطوي محافظ- مثل المجتمع العربي – هو في الواقع شهيد أو لابد أن يهيئ نفسه للاستشهاد !".

الصحوة العلمية العربية:

المسيرة العلمية العربية خلال الأربعين سنة الماضية، فيها من النجاحات بقدر الإخفاقات، و فيها من الإيجابيات بمثل المثبطات.
فـ"عادل ثابت" في الكتاب الرائع الذي أصدره " مركز دراسات الوحدة العربية" حول تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي يلخص لنا التجربة المصرية فيقول:" لقد وضعت الخطط تلو الخطط – في مصر خلال الأربعين سنة الماضية – و تواصلت الجهود دون تحقيق الكثير من النتائج التي تسهم في حل المشكلات الملحة للمجتمع.
" إن التجربة المصرية توصلت لضرورة النظر إلى التقنية بشكل جاد و موضوعي وفقا للدراسة المتأنية الشاملة التي تشترك فيها كل جهات الاختصاص و المسؤولين عن سوق العرض و الطلب من علميين و تقنيين اقتصاديين و تشريعيين".
إذا كان هذا ملخص تجربة أكبر قطر عربي و أقدمها في تاريخ التعليم، فالصورة في بقية اقطار الوطن العربي على اختلاف قدراتها أكثر تواضعا.
إلا أن للصورة وجها آخر، فهذا د. أنطوان زحلان الرجل الذي اهتم لفترة طويلة بتتبع العلم و السياسة العلمية في الوطن العربي حتى اصبح أحد الثقات في الموضوع يقول:إنه إذا استمرت الجهود في الإنتاج العلمي التي سادت في الوطن العربي في العقود الثلاثة الماضية كما هي حتى نهاية القرن، فإن ذلك قد " يخرج الأقطار العربية من موضعها في العالم الثالث".
و يعتمد زحلان على مجموعة من المؤشرات من بينها الإنتاج العلمي المحكم المنشور في مجلات دورية، و كذلك على أعداد الخريجين و الخريجات من الجامعات العربية و التي يقدر أنها ستبلغ اثني عشر مليون خريج في نهاية القرن الحالي.
و بعيدا عن الإحصائيات تقول لنا دراسات متفائلة أخرى بكلمات قاطعة أن الإنسان العربي قادر و صالح تماما للعطاء العلمي.
تلك الدراسات تعيد الثقة إلى النفس،إلا أن النجاحات التي نصادفها في الوطن العربي – كما يقول بعض النقاد – هي في حقيقتها جزر منعزلة، و ما زالت بعيدة عن التأصيل في المجتمع.


الخطاب العلمي العربي
بواعث..الأمل و التفاؤل
و إذا آن لنا أن نختم هذا الحديث فلنختمه بملحوظات الدكتور محمد كامل رئيس "المركز القومي للبحوث" بمصر،إذ يقول عن التقنية:" إن الدراسات التي أجريت في البلدان الصناعية المتقدمة أثبتت أن من 60% إلى 80% من التحسن في مستوى المعيشة يعود إلى التقدم التقني، و أن 20% فقط يعزى إلى تراكم رأس المال".
لقد تعودنا في العقدين الأخيرين – على الأقل – أن نستهين برأس المال على أساس أنه متوافر بشكل أو بآخر في الوطن العربي، و لقد بدأت السنوات القليلة الأخيرة تثبت لنا أنه حتى هذا – توافر رأس المال – لم يعد على الأقل كما كان.
لقد كان هناك استثمار لا بأس به على مستوى الوطن العربي في الإنسان، و قد آن لنا أن ننظم هذا الاستثمار و ننميه بالاعتماد على العلم بشقيه الطبيعي و الاجتماعي،لإيجاد حلول لمشكلاتنا العربية المتزاحمة التي أصبح تزاحمها مشكلة جديدة أيضا !!
المصدر:العربي- العدد 330- مايو 1986- ص ص 8- 15.
* الصور المرفقة بهذا المقال ، و كذا التعليقات عليها ، هي من إضافة صاحب المدونة ( و لم تنشر مع أصل المقال،في العربي).

[1]  لاحظ بأن مثقفينا،في تلك الفترة، لم يكونوا على علم بالتقدم الذي كانت تحرزه تركيا في المجالين العلمي و التقني، في ذلك الوقت: فلقد كانت تعمل ببط و بصمت و بسرية،حتى إذا جاءت الحكومات الإسلامية، استطاعت أن تستثمر جهود كل الحكومات السابقة، و تضيف إليها الكثير، فتحققت المعجزة الاقتصادية التركية، كما نعرفها اليوم.
هذه المعجزة جديرة بأن تحظى باهتمام الباحثين العرب و المسلمين،لأننا نتقاسم مع الأتراك أشياء كثيرة مشتركة( دين، و تاريخ و و حضارة و  تقاليد..إلخ): و من ثم ، فهي الأقرب إلى النموذج الذي يمكن أن نطمح إليه.
[2] و اليوم انقلبت الآية، و أصبحت الجامعات تفتخر بعدد خريجيها من المهندسين، في كل فروع الهندسة.لا بل يلاحظ في فرنسا و الدول التي أخذت بنظامها التعليمي، أن المدارس العليا و مدارس أو معاهد تكوين المهندسين تحظى باهتمام السلطات الحاكمة، أكبر من ذاك الذي يمنح للجامعات، و يتمثل ذلك بالخصوص في الميزانيات التي تخصص لها، و التي تفوق بكثير الميزانيات التي تخصص للإنفاق على الجامعات( يحدث هذا في فرنسا، و المغرب، و الجزائر، و تونس على سبيل المثال لا الحصر..في حدود علمي، و الله أعلم ).

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

المنهجيات الجامعية:
 لقد خلصنا في درس السابق، إلى توضيح حقيقة هامة، هي أن المنهجية ظاهرة اجتماعية،تكاد تكون لصيقة بكل الجماعات الاجتماعية.ففي كل ميدان أو نشاط اجتماعي نجد منهجية غالبة؛ تمثل بالنسبة للمنتمين لذلك الميدان دليلا أو مرشدا مشتركا،ينطلقون منه و يعودون إليه،لمعرفة  الكيفيات التي ينبغي عليهم استعمالها لتحقيق أهدافهم( بحكم انتمائهم لجماعة واحدة).
 و من هنا ، يقال بأن المنهجية، هي "القَيِّم أو الحارس" على المناهج المتبعة في  كل ميدان من الميادين؛ فتمارس الرقابة عليها(المناهج) و تقيِّمها؛ لتقوّمها أو لتنتقي منها ما تراه مناسبا أو ملائما، حسب الأحوال و حسب ميادين العمل الفكري أو اليدوي. و من هنا، فالمنهجية الجامعية،بحكم انتمائها إلى  مجتمع معين- (= بمعنى  نموذج معرفي /ثقافي معين) -، تمثل مجموع المعايير التي يتم على ضوئها؛ اختيار المناهج التي تتفق مع مفهوم " العلم الحقيقي ..أو المعرفة الصحيحة..أو الطريقة السليمة.."، في حقل علمي معين، أو نشاط مهني معين من أنشطة الحياة[1](المطلب الأول).
و لأن الجامعات تتكون من عدد من الكليات ( و المعاهد و المدارس)، من جهة.و لأن كل مؤسسة من هذه المؤسسات، تميل لأسباب موضوعية و ذاتية، إلى الاستقلال بمنهجيتها الخاصة،من جهة أخرى،فإنه غالبا ما تظهر إلى جانب المنهجيات الجامعية العامة، منهجيات جامعية فرعية (المطلب الآخر).

المطلب الأول: المنهجيات الجامعية العامة:

إن المنهجية كما مرّ معنا أعلاه، هي الرؤية العامة،أي مجموع "الحقائق و القواعد و المبادئ و طرق التفكير..إلخ"، التي تؤمن بها جماعة صغيرة - كجماعة الأطباء أو صناع الخزف مثلا-، أو جماعة أكبر هي المجتمع ( و ما تؤمن به الجماعة الصغيرة، ينبثق بشكل مباشر أو غير مباشر، من ثقافة الجماعة الأكبر):في الحالة الأولى نسميها منهجية، و في الحالة الأخيرة(عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الكلي=الدولة) نسميها ثقافة أو حضارة أو  إيديولوجيا عامة،أو حتى رأي عام..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

دليل كتب لطلبة غير فرنسيين ،لتعريفهم بالمنهجية الجامعية الفرنسية

و بالتالي، يمكن القول أن المنهجية الجامعية هي الرؤية العامة، التي تهتدي بها كل جامعة جامعة، عندما تحدد الأهداف التي تريد بلوغها،أو تختار الوسائل أو المناهج التي تريد الاستعانة بها.ذلك أن المنهجية ، ذات طبيعة مزدوجة؛ فهي تعني من ناحية؛ مجموع الأهداف التي ينبغي تحقيقها،و هي ( أي الأهداف) مستمدة من "الفلسفة" أو "الإيديولوجيا" العامة التي يتبناها المجتمع(و بالأخص الأيديولوجيا التي تعتنقها القوى الاجتماعية المسيطرة عليه). و من ناحية أخرى تعني؛ مجموع الطرق(المناهج ) و الوسائل التي تستخدم(أو ينبغي استعمالها) لبلوغ أو  انجاز تلك الأهداف.
و عليه، فالمنهجية الجامعية، هي  مجموع الأهداف و الوسائل( و ما يرتبط بها من قواعد و تعاليم و نصائح و إرشادات عامة..)، القابلة للتطبيق في الحياة الجامعية.فهي إذن، خلاصة المناهج المنتقاة – أي التي ثبتت صحتها من وجهة نظر "مجتمع"  الجامعة: في التعليم، و البحث،و إلقاء الدروس،و إجراء الامتحانات،و أسماء و نوعية الشهادات الجامعية و الدرجات العلمية..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
 و بالتالي،فالمنهجية الجامعية، تتضمن مجموع القواعد و المبادئ و القيم..إلخ،التي يتم على أساسها انتقاء المواضيع التي ينبغي أن تعلّم للطلاب.و  هي التي تحدد مفهوم العلم الحقيقي و الصالح، الذي يستحق الدعم و المساندة.و هي التي تضع المعايير، التي على أساسها يتم اختيار الأساتذة.و هي التي تحدد المبادئ و القيم التي يعتز بها المجتمع، و يعتبرها أهلا لأن تلقن للطلاب( أي أنها هي التي تحدد مواصفات المواطن الصالح)،و هي المعايير التي على أساسها نوزع شواهد النجاح..إلخ.
لا بل إن المجتمع- أعني الفئة الغالبة عليه- هو الذي يحدد للجامعة أهدافها و وسائلها و أسماء و أنواع "دبلوماتها".ألم نقل بأن المنهجية ليست إلا انعكاسا للنموذج المعرفي السائد في المجتمع؟ بلغة أخرى، فالمنهجية الجامعية، في كل جامعة، تبني الجسور، بين  ما يريده المجتمع ،أو أهم و أقوى مكوناته ، و ما (يجب) أن تحققه الجامعة.
غير أن الجامعة ليست جماعة أو مجتمعا أو" مدينة صغيرة ، متجانسة في قيمها و متماثلة في سلوكها". بل على العكس من ذلك،فهي تتكون في الغالب من مجموعة من "الثقافات الفرعية" المتعددة و المتنوعة؛ثقافات الكليات، و المعاهد..،و الأساتذة و الطلاب،و الإداريين[2]. مما يؤدي إلى وجود مستويات من المنهجية الجامعية:المنهجية الجامعية العامة،التي تشترك فيها كل فروع الجامعة الواحدة، و المنهجيات الجامعية الفرعية؛ الخاصة بكل فرع أو وحدة أو مؤسسة أو كلية أو معهد.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
الجامعة..مجموعة من الثقافات الفرعية

المطلب الآخر:المنهجيات الجامعية  الخاصة:

تستمد كل جامعة ، منهجيتها العامة، من قيم، و قوانين، و أخلاق، و عادات، و تقاليد، و أهداف..إلخ، المجتمع الذي تنتمي إليه.بكلمة و احدة، تستقي الجامعة، منهجيتها العامة، من الحضارة التي تنتمي إليها، أو من الإيديولوجية التي تعتنقها النخب الحاكمة في المجتمع[3].ولأن النخبة الحاكمة، تتأثر بروح العصر الذي تنتمي إليه، أو تربطها علاقات بالفئات أو المصالح المهيمنة على ذلك العصر،فمن الطبيعي أن تكون تعكس ثقافتها- و منهجيتها- الآراء السائدة في عصرها أيضا.
هذا ما يتجلى مثلا في القانون المتعلق بتنظيم التعليم العالي في المغرب[4]، فهو يعكس إلى حد كبير رؤية المشرع المغربي لآمال و هموم،قسم كبير من المغاربة. و لقد حدد في مادته (3) من الفصل الأول (الخاص بالجامعات)،مهام الجامعات المغربية التي لا تختلف كثيرا عن المهام المسندة لأي جامعة أخرى  من جامعات  العالم":فتحت تأثير منهجيات التعليم الأوربية، أصبحت كل الجامعات تصدر عن رؤية واحدة موحدة تقريبا،تعبر عنها منظمة "اليونسكو" على النحو التالي:"..ففي الجامعات تلتقي، في المقام الأول،مجمل الوظائف التقليدية المرتبطة بتقدم المعارف و نقلها، و البحث،و التجديد، و التعليم و التدريب، و التعليم المستمر. و يمكن أن نضيف إلى هذه الوظائف وظيفة أخرى تزداد أهميتها باستمرار منذ بضع سنوات، ألا وهي التعاون الدولي"[5]
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
و هكذا، فلقد  صار من أهداف الجامعة المغربية مثلا،إشراك الطلاب الجامعيين ،على تنوع و تعدد تخصصاتهم، في ثقافة عامة واحدة، مغربية و عالمية ، حتى يتخرجوا جميعا: أبناء جامعة واحدة، و أبناء وطن واحد، و أبناء إنسانية واحدة[6]، و أبناء زمن واحد (بكل ما فيه من خير و شر).و بذلك يتعمق في وجدان الطالب الإحساس بالانتماء الإنساني،و الحس الوطني،و الولاء لبلاده و أهله، و الفخر بدينه و لغته،و يتكون لديه الثراء الروحي و الثقة بالنفس،و تقوى شخصيته.و كل هذه مؤهلات و مهارات و أخلاق..عامة، يحتاجها كل الطلاب في كل الجامعات، و في كل الكليات و المعاهد، بل و في كل التخصصات.
غير أنه، و رغم أن الكليات و المعاهد التي تنتمي إلى جامعة واحدة، تشترك في هذه الأهداف(المنهجية) العامة و في وسائل تحقيقها أيضا.إلا أن كل كلية و كل معهد أو كل مدرسة في تلك الجامعة، تنزع إلى أن تكون لها منهجيتها الخاصة،في حدود المتاح لها من استقلال .و لقد أظهرت الملاحظات الأمبريقية و الدراسات السوسيولوجية، أنه كلما وجدت مجموعات فرعية، اتجه أفرادها إلى أن تكون لهم طرقهم الخاصة و أساليبهم و أهدافهم المتميزة.و يضاف إلى ذلك، و يدعمه، عوامل أخرى هي أن الاختلاف في المهام المسندة لكل كلية ،و كذا ظروف نشأتها أو تطورها، قد تؤدي إلى تفرد كل منها بمنهجيتها الخاصة،حتى لو كانت جميعها تنتمي لمنهجية عامة واحدة: فلكل تخصص، و لكل متخصص، و لكل بيئة خاصة.. خصائصها المنهجية.
و في الواقع،فإن هذه الاختلافات لا تعود لعوامل موضوعية وحدها،بل نجدها قد تنتج عن عوامل مرتبطة برغبات و أهواء و طموح بعض الفاعلين الاجتماعيين ، داخل كل كلية على حدة ، و لاسيما الأساتذة. يقول الأستاذ السعيدي في هذا الصدد:
..فالأساتذة الجامعيون، بحكم اختلاف مشاربهم الفكرية و المعرفية و الإيديولوجية، و باختلاف مكانتهم الجامعية و العلمية و مواقفهم الثقافية، الاجتماعية و السياسية؛ غالبا ما تختلف أيضا أهدافهم المعرفية و العلمية و الإيديولوجية،عن الأهداف التي تحددها المؤسسة داخل التنظيم الجامعي؛ و يتجلى ذلك بوضوح في الأهداف المعرفية داخل المقررات ، و في نفس المادة المدروسة، و نفس التخصص بالنسبة لكل أستاذ جامعي.فكل أستاذ جامعي يضيف للدروس المقررة ، دروسا أخرى مكملة وفق هواجسه و همومه المعرفية و العلمية. هذا الوضع الذي يختلف عن الأهداف الديداكتيكية في المقررات الوزارية المدروسة داخل التعليم ما قبل الجامعي[7].
 لهذا، لا ينبغي أن نستغرب إذا وجدنا المناهج، المستعملة في كل كلية ، أو حتى في كل تخصص، بل و في الكثير من  المواد الدراسية أحيانا[8]، مختلفة  بعضها عن بعض،مع ادعائها جميعها بالانتماء إلى نفس المنهجية الجامعية العامة:فهذا أحد مميزات الجامعة، و أحد ثمار الحرية الأكاديمية.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
كتاب عن منهجية دراسة القانون في فرنسا
كما أنها إحدى الضروريات التي يمليها التخصص.فمع أن كل الكليات،التي تنتمي إلى منهجية عامة واحدة ( مجتمع واحد)، تعلم طلابها مجموعة من المهارات العامة المشتركة أو المتشابهة،التي يحتاجونها للقيام بأعمالهم الدراسية العادية،مهما كانت تخصصاتهم.إلا أننا نجد إلى جانب ذلك،بل أهم من ذلك، منهجيات أخرى خاصة في كل كلية و معهد، يجب على المنتمي إليها(الكلية أو المعهد) أن يتعلمها؛لأنها ترتبط بالمهن التي سيمارسونها بعد التخرج .مثل المهارات التي يحتاجها الأطباء ، و المهندسون، و المحامون، و الباحثون العلميون..و غيرهم.

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية



[1]  فحتى في الاستعمال الدارج و العادي، عندما يستعمل الناس المنهج أو المنهجية، يستعملهما بمعنى التخطيط لهدف، أو الوسيلة و الغاية معا:فيقال هذا الرجل يعمل وفق منهجية معينة، أي أنه قد رسم لنفسه هدفا، و سخر الوسائل المتاحة له  لتحقيقه . فالمنهجية تعني هنا الإجرائية أو المسطرة أو الإستراتيجية.
[2]  هيربرت جاكوب-بعض نتائج تقدم العلوم و العلوم الاجتماعية – في:دور الجامعات في عالم متغير – م.س – ص 148.
[3]  فجامعة القرويين ،على سبيل المثال،كانت تتمتع بالاستقلال التربوي (لأنها على الأرجح كانت مستقلة ماليا، ينفق عليها من الأحباس )، طيلة العصور الوسطى.و لكن ابتداء من الثامن عشر، فرض المخزن المغربي، على الجامعات المغربية تلقين تخصصات معينة، و منع على علمائها تدريس مجموعة من العلوم العقلية. و هذا ما نجده في الظهير الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله ( 1757-1790 )،الذي حدد بدقة المواد التي يجب تدريسها و تلك الممنوعة و الكتب التي ينبغي الاعتماد عليها.ثم أصبح هذا الظهير، لاحقا، هو الأساس الذي ينظم العلاقات بين مؤسسة الخزن و المؤسسات الجامعية. و بعد وضع الدستور الأول (1962)،انتقل هذا الاختصاص من المخزن ، بمفهومه التقليدي،إلى الوزير الأول، الذي أصبح  يحدد التخصصات  و لوائح الشهادات..و غيرها من مهام الجامعة، بمقتضى مراسيم،يصدرها بعد دراستها في المجلس الوزاري. انظر:د.حسين العمراني-إدارة التعليم العالي و البحث العلمي بالمغرب(الجزء الأول:ضرورة عقلنة اتخاذ القرار)- دون إشارة لمكان الطبع-1999- ص 156.
من ذلك على سبيل المثال، المرسوم 2.04.89 الصادر بتاريخ 18 ربيع الآخر 1425 (7 يونيو 2004)، بتحديد اختصاص المؤسسات الجامعية و أسلاك الدراسات العليا، و كذا الشهادات الوطنية المطابقة.
[4]  انظر:الظهير شريف رقم 1.00.199، الصادر في 15 صفر 1421(19 ماي 2000)، بتنفيذ القانون رقم 01.00.
[5] التعليم ذلك الكنز المكنون – تقرير قدمته إلى اليونسكو اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي و العشرين- اليونسكو/مركز الكتب الأردني- عمان 1997- ص 114.
و هذا ما أكده بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته منظمة اليونسكو في  باريس ( ما بين 5-8 يوليوز 2009).
[6]  جاء في بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته اليونسكو( و المنشور في موقع اليونسكو):
المادة3:و ينبغي لمؤسسات التعليم العالي أن تعمل، من خلال مهامها الأساسية ( البحث و التعليم و خدمة المجتمع)، التي تضطلع بها في سياق الاستقلال المؤسسي و الحرية الأكاديمية، على تعزيز توجهها الجامع بين التخصصات، و تشجيع التفكير النقدي و تعزيز المواطنة النشطة.فمن شأن ذلك الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة و السلم و الرفاهية، و في تطبيق حقوق الإنسان، و منها المساواة بين الجنسين.
المادة 4:ينبغي ألا يقتصر التعليم العالي على تطوير مهارات عالية لخدمة العالم الراهن و المقبل فحسب،و إنما يجب ان يسهم أيضا في تهيئة مواطنين ذوي مبادئ أخلاقية و ملتزمين ببناء السلام و الدفاع عن حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية.
[7]  السعيدي – ص 135.
[8] "إن مادة المنهجية ليست مادة موحدة إذ ليس هنالك من منهجية واحدة و إنما هنالك منهجيات و تقنيات مختلفة باختلاف موضوعها.و لكن رغم هذا الاختلاف في المنهجيات إلاّ أن فكرة واحدة تنتظمها..": المنهجية القانونية – م.س- ص11.