فصل تمهيدي: العقود الإدارية
كثير ما تحتاج الإدارة، لتسيير و
تلبية حاجيات المرافق العامة، المدنية و العسكرية، إلى أن تقوم بأعمال
البناء ، أو الشراء، أو استجارة الخدمات..أو ما شابه ذلك؛ فينشأ بينها و بين
أشخاص القانون الخاص أو أشخاص القانون العام،عقودا متنوعة، تحدد حقوقها(و
واجباتها) و حقوق( و واجبات) المتعاقدين معها.
و تنوع هذه العقود، إنما يعود إلى الصفة
التي تتصف بها الإدارة، عند إبرامها:فالإدارة، قد تتصرف كشخص عادي من أشخاص
القانون الخاص. كما قد تتصرف كسلطة عمومية.و بالتالي، لا تخضع كل العقود التي
تبرمها الإدارة لنظام قانوني واحد، بل تنقسم إلى قسمين: عقود تخضع للقانون
المدني، و أخرى للقانون الإداري.
و هذا التقسيم في الحقيقة، يعتبر تقسيما
جوهريا؛ لأنه هو الأساس الذي يبنى عليه التمييز بين "العقود التي كانت و
مازالت تبرمها الإدارة"( في مفهومها الواسع)، و " العقود
الإدارية"،أي التي تبرمها الإدارة الخاضعة للقضاء الإداري:فليست كل العقود
التي تبرمها الإدارة، هي بالضرورة عقودا إدارية، و إنما العقود الإدارية هي فئة من
هذه العقود ، لها مميزاتها التي تميزها عن باقي عقود الإدارة، بل و تميزها عن باقي
العقود التي يعقدها الخواص فيما بينهم؛ من حيث أصول أحكامها(المبحث الأول)،
و أنواعها (المبحث الثاني) ،و حتى من جانب طبيعتها التعاقدية (المبحث
الثالث).
المبحث الأول: العقود الإدارية و أصول
أحكامها:
نشأت العقود الإدارية في مفهومها
المعاصر، أول ما نشأت، في ظل القضاء الإداري الفرنسي خلال القرن التاسع عشر. فهو
الذي تكفل بوضع أهم أحكامها و مبادئها( المطلب
الثاني)، و أهم العناصر التي تميزها عن العقود الخاصة ( المطلب الثالث).و
بالتالي ساهم في تحديد بعض أهم العناصر التي تدخل في تعريفها. إلى درجة أن
الفقهاء،عندما حاولوا وضع تعريفات للعقود الإدارية، اقتصروا، في الكثير من الحالات
على " إعادة صياغة" بعض الأحكام القضائية في مادة العقود الإدارية( المطلب الأول).
المطلب الأول: تعريف العقود الإدارية:
ليس للعقود الإدارية، تعريفا قانونيا و لا
قضائيا متفقا عليه. و إنما لها تعريفات فقهية؛ استنبطها فقهاء القانون الإداري؛ في
الغالب، من اجتهادات القضاء الإداري، و من مفهوم العقد في القانون المدني أيضا.
و لعل التعريفات التالية، التي نسوقها على
سبيل المثال لا الحصر، تؤكد ما ذهبنا إليه.وسيكون منهجي في مقاربتها كما
يلي:سأنتقل من التعريف العام، إلى التعريف الخاص،وصولا إلى التعريف الأخص.و ذلك و وفق تسلسل
تاريخي،ينقلنا هو الآخر من التعريف الأقدم إلى التعريف الأحدث، حتى يسهل علينا
ربطها لاحقا(أي التعريفات)، بالتطور الذي حصل على مستوى مدارس الاجتهاد القضائي.
1- التعريف الذي أوردته " الموسوعة العربية
الميسرة"(1965):
العقد الإداري، هو كل عقد تكون الإدارة
العامة طرفا فيه، لتسيير مرفق عام ، و يتضمن لذلك شروطا استثنائية غير مألوفة في
عقود القانون الخاص، تراعى فيها تغليب المصلحة العامة على مصلحة الفرد.
تتميز العقود الإدارية بقابليتها للتعديل من
جانب الإدارة وحدها،و لسلطة الإدارة الحق في توزيع جزاءات على المتعاقد معها إذا
اخل بالتزاماته، و في ذلك خروج على قاعدة " العقد شريعة المتعاقدين"،
التي تحكم عقود الأفراد[1].
2- التعريف الذي جاء به " القاموس
القانوني"(1988):
عقد إدراي، كل عقد تعقده الإدارة في سبيل
إنجاز اعمال عامة أو خاصة،و يقال له عقد المنفعة العامة (c.a.d’utilité publique) إذا كان محله عملا عاما، مثل عقود الامتياز التي تعقدها الحكومات
للقيام بعمل ذي منفعة عامة،و عقد المنفعة الخاصة (c.a.d’utilité privée)إذا كان عمله خاصا كالبيع و الإيجار[2].
3- التعريف الذي ساقته الأستاذة مليكة صروخ (2012):
العقود الإدارية هي تلك الإتفاقيات التي
تبرم بين الإدارة كسلطة عامة قائمة على تحقيق المصلحة العامة و بين الأفراد أو
الشركات الخاصة من أجل إنجاز عمل معين يحقق المنفعة العامة بشكل مباشر، مع تضمين
الاتفاق أهم شروط و قواعد تنفيذ العمل المطلوب و أهم حقوق و واجبات كل من الطرفين
المتعاقدين لدى تنفيذ ذلك العمل[3].
بعد هذا الاستعراض، سنحاول تحليل مضامين هذه
التعريفات، لنستخرج منها العناصر التي اقتبست من مفهوم العقد المدني، و تلك التي
استمدت من اجتهادات القضاء الإداري.
أولا: و لنبدأ، بالعناصر
المستمدة من العقد المدني:
عند التمعن في التعريفات أعلاه،ندرك
أنها حاولت ؛ أن توفر للعقد الإداري كل الشروط (الأركان) الأساسية التي يقوم عليها
العقد المدني، أعني هنا أركان :الرضى، و المحل، و السبب.
أ- فركن الرضى،و إن كان لا يبدو واضحا في هذه التعريفات،إلا
أنه يمكن تفسير غيابه، أو حضوره " الباهت"، بفرضية أن مؤلفي هذه
التعريفات، اعتبروا أن الرضى أمر بديهي،لا يحتاج الكثير من التوضيح:فالإدارة التي
تمثل السلطة العمومية(و السيادة)، لا يمكن أن تتعاقد إلا برضاها و إرادتها الحرة.
او أنهم اعتقدوا،على الأرجح، أن مصطلحي "عقد" أو "اتفاق"،
يكفيان للتعبير عن وجود " إيجاب" و " قبول" ..و حتى
"أهلية" من طرفي العقد الإداري.
و الجدير بلفت الانتباه
أيضا، أن جميع التعريفات، "اشترطت " أن يكون أحد طرفي العقد
"إدارة"،كي يصبح العقد إداريا:فالتعريف الأول تحدث عن(العقد
الإداري، هو كل عقد تكون الإدارة العامة طرفا فيه)، و في التعريف الثاني نجد(عقد
إدراي، كل عقد تعقده الإدارة)، و اخيرا في التعريف الثالث،نقرأ(العقود الإدارية هي
تلك الإتفاقيات التي تبرم بين الإدارة).
و لكن السؤال الذي يطرح هنا، هو:هل المراد
بالإدارة هنا " الشخص العمومي المسلح بالسلطة العمومية"؟ أم الإدارة
،مهما كان شكل الزي الذي تتستر به؟ يلاحظ أن بعض التعريفات ميزت بين الحالتين، في
حين أن تعريفات أخرى أغفلت ذلك.
و هناك سؤال آخر، يفرض نفسه بإلحاح شديد
هنا، هو : هل من الممكن (من الناحية العملية)،أن يتحقق ركن الرضى بين طرفي
(أو أطراف) العقد الإداري، في جميع حالات التعاقد الإداري؟ ألا يفرض على الإدارة
أحيانا أن تتعاقد مع أطراف "غير راضية عنهم كل الرضى" (كما يحدث في بعض
أنواع الصفقات العمومية، مثل المناقصة)؟
ب-أما المحل،فهو يجيب عن
السؤال "بماذا تم الالتزم؟"؛ أي ما هو " الشيء أو العمل الذي يلتزم
المتعاقد بعمله أو تسليمه..إلخ". و من شروطه أن يكون ممكنا أو موجودا او
معينا أو قابلا للتعيين[4].و لقد تمت الإشارة إليه بشكل صريح في
التعريفين الثاني(من أجل إنجاز أعمال عامة او خاصة) و الثالث(من أجل إنجاز عمل
معين)، و بشكل ضمني في التعريف الأول( لتسيير مرفق عام)[5].و
لعل التعريف الأخير كان أكثر تفصيلا في هذه الناحية، عندما أكد على :".. مع
تضمين الاتفاق أهم شروط و قواعد تنفيذ العمل المطلوب و أهم حقوق و واجبات كل من
الطرفين المتعاقدين لدى تنفيذ ذلك العمل".
ت-في حين أن السبب،هو
الذي يجيب عن سؤال"لماذا تم الالتزام؟"؛أي "ما هو الدافع أو الباعث
إلى التعاقد"؛و من شروطه أن يكون مشروعا و غير مخالف للنظام العام و الآداب
العامة،فقد أشارت إليه التعريفات الثلاث، باستعمال تعبيرين مترادفين تقريبا هما،
"المنفعة العامة" و "المصلحة العامة"[6].
ثانيا:أما فيما يخص العناصر
المقتبسة من اجتهادات القضاء الإداري، فهي تشير،إلى التطور الذي طرأ داخل مدارس
الاجتهاد القضائي .و معلوم أن النظام القانوني الذي يحكم العقود الإدارية،هو من
صنع القضاء الإداري [7]،إذ ان معظم القواعد و المبادئ و الأحكام
التي تحكم العقود الإدارية، لم تظهر بمقتضى قوانين أو نصوص تشريعية، كما هو الحال
في القواعد التي تخضع لها العقود المدنية(مدونة الالتزامات و العقود- ظهير 12 غشت
1913 و تعديلات التي لحقت به)،و إنما كشف عنها القضاء الإداري الفرنسي أولا، ثم
القضاء الإداري في باقي البلدان التي أخذت بالقانون الإداري(كمصر، و المغرب، و
تونس..إلخ).
و أهم العناصر ذات الأصل القضائي، التي
نجدها في تلك التعريفات،هي التي وردت في التعريفين الأول و الأخير:
أ-فالتعريف الأول يحاول التوفيق بين نظريتي
أو مدرستي " المرفق العام"(service public) و " السلطة العمومية"( autorité publique )،فلذلك
اعتبر " العقد الإداري، هو كل عقد تكون الإدارة العامة طرفا فيه، لتسيير مرفق عام ، و يتضمن لذلك شروطا استثنائية غير
مألوفة في عقود القانون الخاص".
ب- في حين أن التعريف
الأخير،جاء في مرحلة عرفت رجوعا قويا لنظرية" الإدارة =السلطة
العمومية"،كرد فعل ضد المطالبات المتزايدة بإضعاف مفهوم السيادة الوطنية، فمن
ثم اعتبر " العقود الإدارية هي تلك الإتفاقيات التي تبرم بين الإدارة كسلطة عامة قائمة على تحقيق المصلحة العامة":ففي هذا التعريف الأخير،كما نلاحظ، اختفاء مفهوم المرفق
العمومي،الذي كان يعتبر،إلى وقت قريب، أحد الضمانات الأساسية، للحد من توسع
السلطة،خارج صلاحياتها الشرعية و المشروعة.
و نكتفي
هنا،بالإشارة إلى هذه العناصر،على اعتبار أننا سنخصص المطلب التالي،لتدارسها
بتفصيل أكبر، في أصولها و تطورها..
المطلب الثاني: أصول احكام العقود الإدارية:
العقود الإدارية،أو بالأحرى العقود التي
أبرمتها الإدارة، كما
مرّ معنا،قديمة.و كانت في معظمها تدخل في نطاق القانون الخاص.على اعتبار أن
الإدارة، عندما كانت تبرم هذه العقود، لم تجد في "نفسها" حاجة إلى التصرف
كسلطة عمومية(autorité publique)،
و إنما تصرفت وفق الظروف،أي في معظم الحالات كشخص عادي من أشخاص القانون الخاص.
هذا، مع العلم، ان المعيار الوحيد الذي أخذ به، في البداية، للتمييز بين الأعمال
القانونية التي تقوم بها الإدارة، هو المظهر الذي تظهر به أثناء القيام بعمل من
الأعمال:فإذا ظهرت بمظهر السلطة العامة، فعملها يخضع للقانون العام،و إذا ظهرت
مجردة من ذلك المظهر، فعملها يخضع للقانون الخاص.
و ترتب على الأخذ بهذا المعيار( معيار
السلطة العمومية)،أن القضاء العادي(المدني)،كان هو المختص بالنظر في النزاعات التي
تترتب عن العقود التي تبرمها الإدارة.و لم يستثن من ذلك،إلا بعض العقود (المسماة)،
التي نصت قوانينها الخاصة[8] ،
على أنها "عقود إدارية"،حتى و لو كان تحيل على قواعد القانون الخاص؛ و
بالتالي يختص القضاء الإداري بفض منازعاتها: مثل عقود القروض العامة، و عقود شغل
الدومين العام(contrats
comportant occupation du domaine public)، و عقود الأشغال العامة[9].
و استمرت الأوضاع على هذا النحو، لبعض
الوقت.فلما ازداد اقبال الدولة الفرنسية، على إبرام العقود لتلبية الحاجيات
المتزايدة في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين( بناء خطوط السكك
الحديدية و الترامواي، و تزويد السكان بالماء و الكهرباء و الغاز، و بناء المدارس
و المستشفيات...إلخ)،تبين للقضاء الإداري بأن الاستمرار في تطبيق القانون المدني
على الكثير من تلك العقود( الجديدة و المستجدة) التي أبرمتها الدولة ، قد يضر بالمصلحة
العامة.فقرر الأخذ بنظرية المرفق العام، كمعيار في التمييز بين العقود( و مختلف
الأعمال) التي يختص بها القضاء العادي، و تلك التي تدخل في نطاق القضاء الإداري: و
بالتالي، اعتبر القضاء الإداري كل عقد تبرمه الإدارة من اجل تسيير أو إدارة
أو يتعلق بمرفق عمومي، عقدا إداريا، أي يخضع للقضاء الإداري[10].و لعل تعليق "المفوض الحكومي"(Le commissaire de gouvernement)،" جان روميو" (J.Romieu)(1858-1953)[11]، في تعليقه الشهير على حكم"تيريي (Terrier)(بتاريخ 6 فبراير 1903)، يعبر أفضل تعبير على هذا
الاتجاه:"إن اختصاص القضاء الإداري ، يتناول كل ما يتعلق بتنظيم و سير
المرافق العامة، وطنية أو محلية، سواء أكانت وسيلة الإدارة في ذلك عمل من اعمال
السلطة او تصرفا عاديا، و بالتالي فإن العقود التي تبرمها الإدارة بهذا الخصوص، هي
أعمال إدارية بطبيعتها و يختص القضاء الإداري بالفصل في كل ما يثار بشانها من
منازعات"[12].
و لقد سار القضاء الإداري، مسارا لا بأس
بها،في الأخذ بمعيار المرفق العام، و اصدر عدة أحكام أخرى شهيرة ،في تاريخ القضاء
الإداري، تدعم هذا التوجه، من أهمها :Feutry (1908)،
و [13]Thérond(1910).
بيد أن أنصار نظرية "السلطة العمومية"،لم
يعجبهم هذا التحول الذي طرأ على الاجتهادات القضائية الإدارية. فما لبثوا إلا
قليلا، حتى شرعوا في توجيه أسهم نقدهم إلى معيار "المرفق العام"،معتبرين
إياه معيارا فضفاضا و واسعا؛إذ يتسع لبعض الأنشطة الخاضعة للقانون
الخاص.و حاول فريق ثان التوفيق بين المدرستين(المرفق العام و السلطة العمومية)،
بالقول بان المرفق العمومي في حقيقته، إنما يعبر عن السلطة العمومية،إذ أنه
يحتاجها للقيام بوظائفه.و ذهب رأي ثالث إلى القول، بأن السلطة العمومية، ليست إلا
وسيلة لتحقيق أهداف المرفق العام..إلخ.
و أيا ما كان، فقد هيمن على الأجواء، في
بداية القرن العشرين ، إحساس بأن الأمور قد تذهب في اتجاه التقريب بين المدرستين
القضائيتين( و الفقهيتين بالتالي)، المتصارعتين.لولا أن خرج أحد القضاة،برأي أعاد
الصراع بين المدرستين إلى الواجهة، و بطريقة أكثر حدة هذه المرة،لاسيما و أنه( أي
الرأي) أصاب نظرية " المرفق العام كمعيار" بضربة قوية؛ زلزلت أركانها.
أجل ، ففي 22 يناير 1921، أصدرت محكمة
التنازع الفرنسية(Tribunal des conflits)،
حكما شهيرا،في قضية (Bac d’Eloka)،لتبين بكل وضوح بأنه بإمكان كل شخص عمومي، أن يستغل مرفقا عاما ،
بنفس الأسلوب الذي يعتمده الخواص؛ و بالتالي يخضع هذا الاستغلال للقانون الخاص[14].
و من هنا، لم يعد بالإمكان تطبيق القانون
الإداري "بحكم القانون"، على كل مرفق عمومي،كيفما كان،و إنما على
المرافق التي تقوم بالأعمال التي تتولاها الدولة بحكم وظائفها الأصلية. اما
الأعمال و الأنشطة التي قد تقوم بها بشكل مؤقت أو عرضي، أو أُرغمت على القيام بها،
لعدم وجود أحد من الخواص يتحمل أعباءها، فتدخل في مجال القانون الخاص.
كانت هذه ضربة موجعة،كما سبق القول، وجهها
القضاء الإداري ، لمدرسة " المرفق العام" ، التي كانت تحلم بأن تجعل من
معيار المرفق العام "حجر الزاوية"، في كل ما يتعلق بالقانون و القضاء
الإداريين.
و لكن هذا الاجتهاد،إذا قمنا بتقييمه بشكل
موضوعي؛ سنجد أنه جاء منسجما مع روح التطور، و انه قدم خدمات كبيرة للاقتصاد
(العام) الفرنسي:فقبيل هذا الاجتهاد، وقفت المقاولات و الشركات العامة،عاجزة عن تطوير
نفسها، و الإسهام بشكل فعال في خدمة الاقتصاد و المجتمع الفرنسيين.لأنها، بحكم
خضوعها لمساطر و إجاراءات القانون العام المعقدة،لم تستطع منافسة الشركات الخاصة،
التي تعمل معها في نفس المجال.و بالتالي، كان لابد من تخفيف العبء
"البيروقراطي" الملقى على عاتقها.
غير أن هذا الاجتهاد على أهميته، لم يسلم هو
الآخر من الانتقاد. فلقد وجهت له انتقادات كثيرة ، من طرف كبار فقهاء القانون
العام ، من أمثال العميد "دوجي" و العميد "هوريو"، لأسباب
متعددة و مختلفة. و لكن القضاء الإداري، أو على الأقل الاتجاه الذي تبنى هذا الرأي
داخل القضاء الإداري الفرنسي، لم يعر تلك الانتقادات اهتماما كبيرا، بل واصل
مسيرته في اتجاهه الجديد، مؤكدا في أحكام أخرى- في 1923، و 1932، و 1935...إلى
الآن[15]- أن المرافق الاقتصادية الصناعية أو التجارية(Les
services publics industriels ou commerciaux)،تمثل صنفا من المرافق العمومية، التي لا يجب إخضاعها للقانون
العام، و أن المرافق الإدارية (Les services publics administratifs) ،هي التي ينبغي إخضاعها(وحدها)
للقضاء الإداري.
والحاصل، أن مدرسة المرفق العام أصيبت
بانتكاسة كبيرة،في النصف الأول من القرن العشرين، و استمرت معها تبعاتها، حتى
النص الثاني منه.إلا أن ذلك لم يؤدي إلى القضاء عليها قضاء مبرما، كما كان
يُشيع أتباع مدرسة "السلطة العمومية".بل مازالت قائمة، و مازال لها
أنصار كثيرون من بين القضاة، و من بين الفقهاء أيضا.
و بالتالي،فإن المعركة بين أنصار
"المرفق العام كمعيار" من جهة و أنصار " السلطة العمومية
كمعيار"،في تمييز الأعمال القانونية الإدارية، مازالت قائمة. و لقد لمسنا
تأثيرها على تعريف العقود الإدارية بشكل عام. و سنرى،على وجه الخصوص، كيف تؤثر
ايضا ، على تحديد أي العناصر أكثر أهمية في إضفاء صفة العقد الإداري:هل هو وجود
علاقة بين العقد و نشأة و تسيير و إدارة مرفق عام؟ أم تضمُّنه شروطا استثنائية لا
نجدها في عقود القانون الخاص؟
المطلب الثالث:معايير التمييز بين العقود
الإدارية و العقود الخاصة:
هناك عدة معايير للتمييز بين العقود
الإدارية و العقود الخاصة(التي تبرمها الإدارة)، أبسطها و اسهلها ؛ هو المعيار
القانوني، الذي يعتمد على وجود نص قانوني(الفرع الأول).و في غياب هذا النص،
يلجأ القضاء إلى بعض العناصر، التي يعتبرها قرائن(أو مؤشرات) يستدل منها على طبيعة
العقد الذي أبرمته الإدارة؛ مثل:أن يكون احد طرفي العقد شخصا عاما(الفرع الثاني)،و
موضوع العقد نفسه(الفرع الثالث)، أو الشروط المضمنة فيه(الفرع الرابع).
الفرع الأول:وجود نص تشريعي:
قد يتدخل المشرع، فيضفي
صفة العقد الإداري ، على بعض أنواع العقود التي تبرمها الإدارة ، و يضع لكل منها
نظاما قانونيا خاصا.و يطلق الفقهاء، على هذه العقود اسم "العقود الإدارية
المسماة"(contrats administratifs nommés). و من أهمها:عقود الامتياز أو الالتزام و التدبير المفوض، و عقود
المعاونة، و عقود القرض العمومي، و عقود الصفقات العمومية[16].
و
على العكس من ذلك، يمكن للإدارة ان تعبر عن إرادتها في جعل عقد من العقود التي
تبرمها، عقدا خاصا، اي يخضع للقانون الخاص، بقرارات خاصة تصدرها.و لقد أكد هذا
الحق؛ القضاء الإداري،في أكثر من حكم ( من أشهرها حكم المجلس الأعلى في قضية السيد
"معمور بلقاسم"، بتاريخ 1958)[17].و لقد أشارت
المادة الثانية ، من قانون الصفقات العمومية ( مرسوم5 فبراير 2007)،إلى هذه
المسألة:"..تستثنى من مجال تطبيق هذا المرسوم:الاتفاقيات أو العقود التي
يتعين على الدولة إبرامها وفقا لأشكال و حسب قواعد القانون العادي..".و أضافت
المادة الثالثة ( الفقرة 6):
العقود و الاتفاقيات الخاضعة للقانون
العادي:عقود أو اتفاقيات يكون موضوعها، بالخصوص، الحصول على أعمال سبق تحديد شروط
توريدها و أثمانها[أي لا تحتاج إلى مفاوضات..] و لا يكون لصاحب المشروع تعديلها أو
ليست له فائدة في تعديلها[أي لا يحق للإدارة/أو لا ترغب في تعديل تلك الشروط..].و
تحدد لائحة الأعمال التي يمكن أن تكون موضوع عقود أو اتفاقيات خاضعة للقانون
العادي بمقرر للوزير الأول[18] بعد استطلاع رأي لجنة الصفقات[التابعة للحكومة]..
الفرع الثاني:أن تكون الإدارة طرفا في
العقد:
لقد رأينا، كيف أجمعت تعريفات العقود
الإدارية أعلاه، على ضرورة أن تكون الإدارة طرفا في العقد، كي يعتبر إداريا.
و يقصد بالإدارة هنا، كل شخص عام( من أشخاص
القانون العام).و من ثم لا تعد عقودا إدارية،الاتفاقات و العقود التي تبرم بين
الأفراد الطبيعيين أو المعنويين التابعين للقانون الخاص ، و التي لا تكون الإدارة
طرفا فيها، حتى و لو كان موضوع العقد يرتبط باداء خدمة عامة، أو يحقق منفعة عامة.
غير أنه، يجوز للأشخاص الخاصة أن تبرم عقودا
إدارية، إذا كان أحدها على الأقل، متعاقد باسم و لحساب شخص معنوي عام، كوكيل عنه.و
لقد محكمة التنازع الفرنسية، في إحدى احكامها الشهيرة (بتاريخ 8 يوليوز 1963)،
بأنه يعتبر عقد إداريا، العقد الذي أبرمته شركة اقتصاد مختلط (صاحب امتياز) مع أحد
المقاولين الخواص، و ذلك على اعتبار أن شركة الامتياز ، تعاقدت لحساب الإدارة[19].
و تعد أهم الأشخاص المعنوية، الدولة ، و
أشخاص القانون العام الترابية( الجماعات المحلية) أو المرفقية،و كذلك الهيئات
العامة ، من أمثال هيئات(نقابات) المحامين والأطباء و الصيادلة و غيرها.
الفرع الثالث:موضوع العقد:
وفقا لهذا العنصر/ المعيار(Le
critère de la participation à l’exécution du service public)، يعتبر العقد إداريا إذا كانت له
صلة بأداء المرفق العام لمهامه، كأن يتعلق بتنظيمه أو تشغيله أو المساهمة في
أعماله.
و في هذه الحالة، كما أصبح معروفا لديكم،
فإنه ليس المشرع أو الإدارة هو الذي يحدد وجود هذه الصلة أو انعدامها؛ بل القضاء
الإداري هو الذي يفعل ذلك.بل هو الذي تدخل اصلا لوضع هذا المعيار، كما مرّ معنا،
من خلال عدة أحكام،أشرنا إلى بعضها، و نشير فيما يلي إلى حكمين شهيرين إضافيين (
أحدهما فرنسي، و الآخر مغربي)؛ اعتبرا مجرد المشاركة في تسيير مرفق عمومي، قرينة
على أن هذا المشارك خاضع للقانون العام.
ففي الحكم الفرنسي، الصادر في قضية السيد
"لوريي"(Laurier)(1954)،قضت المحكمة بأن العقد الذي يربط حارس العمارة المملوكة
للإدارة،بهذه الأخيرة،يعتبر عقدا إداريا؛لأن هذا الحارس يشارك في تسيير المرفق
العام المتواجد بالعمارة.
أما في الحكم المغربي،فقد قضى القضاء
الإداري ،في قضية السيد "أحمد بن يوسف"( الغرفة الإدارية، بتاريخ 9
يوليوز 1959)؛ بأنه عون عمومي، و أن العقد الذي على أساسه التحق بعمله مع الإدارة،
يعد عقدا إداريا،رغم انه بني على قواعد تنتمي للقانون الخاص.ذلك أن طبيعة عمله –
مراقبة الموازين بوزارة التجارة و الصناعة- تمثل مشاركة في أداء مهام لصالح المرفق
العام.
الفرع الرابع:وجود شروط غير مألوفة في
العقود الخاصة:
يعتبر العقد الذي تعقده الإدارة ، عقدا
إداريا؛ إذا تضمن شروطا غير مألوفة في العقود الخاصة(Le critère de la clause exorbitante
ou du régime exorbitant)،تعترف للإدارة بامتيازات
لا نكاد نجدها في العقود الخاصة.
فمن المعلوم أن الفكرة المهيمنة على القانون
الخاص، هي فكرة المساواة؛ إذ أن كل الحقوق تستحق نفس الاحترام.و من هنا، المبدأ
الشهير " العقد شريعة المتعاقدين"؛ أي أن المتعاقدين يساهمون في وضع
القواعد التي تحكمهم:بالتساوي فيما بينهم، و دون خوف أو محاباة، و دون تفريق بين
غني و فقير، و قوي و ضعيف.
أما الفكرة المهيمنة على القانون العام، فهي
فكرة اللا"مساواة"؛ على اعتبار أن القانون العام وجد من أجل حماية
المصلحة العامة، التي يجب الاعتراف لها بحق الأسبقية.و أن هذا الاعتراف، لا يتناقض
مع جوهر المساواة، و لا مع مبدأ العدالة.فالعدل لا يعني معاملة متماثلة دون اعتبار
للفروق بين الأفراد و الجماعات.بل إن ما تعنيه العدالة؛ هو أنه يجب معاملة "
المثل كمثيله".و ليس من العدالة في شيء أن تعامل مصالح الأفراد كمصالح
الجماعات.
و من هنا، اعْتُرِف للإدارة بالحق في ألا
تعامل معاملة الند للند مع الأفراد أو حتى الجماعات في العقود الإدارية. و من أجل
إحداث التوازن بينها و بين الخواص في العقود ،كان لا بد من وضع شروط استثنائية أو
غير عادية لمصلحتها، تخلق نوعا من اللاتوازن في الحقوق و الواجبات لمصلحتها ، أي
لفائدة المصلحة العامة.
و في الحقيقة، لم يجمع الاجتهاد القضائي على
وضع تعريف واحد موحد لما يعتبره الشروط الاستثنائية،التي إذا أضيفت للعقد،منحت
للشخص العام مركزا أعلى أو استثنائيا قياسا إلى المتعاقد معها. و قد انعكس هذا
الاختلاف بين القضاة، على تعريف الفقهاء لهذه الشروط، فاختلفوا بدورهم في تحديدها،
و إن كان أغلبهم يجمل معظمها فيما يلي:
أ-سلطة الإدارة في تعديل العقد أو فسخه،
بقرار انفرادي، و دون حاجة إلى حكم قضائي؛
ب-سلطة الإدارة في الإشراف على التنفيذ، و
إعطاء التوجيهات و التعليمات للمتعاقد معها؛
ج-سلطة الإدارة في إنزال عقوبات بالمتعاقد معها،متى
أخل بالتزاماته؛
د-سلطة الإدارة في تغيير التنفيذ أو وقفه
مؤقتا،أو التنفيذ المباشر، أو إسناد التنفيذ إلى طرف ثالث، على حساب المتعاقد
معها..إلخ.
و الحاصل،إذا اعتبر القضاء أن العقد يتضمن
بنودا أو شروطا"غير عادية"، تؤشر على وجود اللاتوازن أو اللامساواة بين
طرفي العقد؛فإن ذلك يعتبر دليلا على أن العقد إداري.
بقي أن نقول، في ختام هذا المبحث، أو
بالأحرى ان نجيب على سؤال نلخص من خلاله كل ما أسلفناه عن هذه المعايير القضائية،
الا و هو:ترى هل كل معيار من هذه المعايير يعتبر في حد ذاته كافيا لتمييز العقود
الإداري؟ أم ان بعض المعايير اقدر من غيره على أداء هذه المهمة؟ أم أن هذه
المعايير ، لا تؤدي وظيفتها في التمييز، غلا إذا اخذت جميعها جملة؟
المبحث الثاني:أنواع العقود الإدارية:
إن العقود التي تبرمها الإدارة، متعددة و
متنوعة. و العقود التي قد تُضفى عليها صفة "العقود الإدارية"، هي الأخرى
متعددة و متنوعة.مما يجعل الباحث أمام كم هائل من العقود المتنوعة، كلها تدعي
الانتماء إلى صنف واحد.كيف نشأ هذا الإشكال؟
في الواقع، لقد انحصرت العقود
الإدارية المعاصرة، عند نشأتها في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، في ثلاثة صور
هي:عقد الالتزام أو الامتياز، و عقد الأشغال العامة، و عقد التوريد.إلا أنه سرعان
ازدادت و تنوعت، بازدياد تدخل الدولة في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية،مما أدى
إلى ظهور و تطور أشكال و انواع أخرى من العقود.
ألا يمكن تصنيف كل هذه العقود؟
في الحقيقة، ، انه مهما حاول الباحث
اليوم، ان يرتب و يصنف العقود الإدارية، على أي اساس من الأسس شاء؛ إلا أنه سيجدها
عصية على التصنيف الدقيق و الشامل، و ذلك لتنوعها و تعددها[20].و
لقد ارتأينا، حتى لا نكرر أنفسنا، أن لا نتناول في هذا المبحث إلا العقود الإدارية
المسماة الكبرى التي لا تندرج ضمن صنف الصفقات العمومية( التي سنتناولها بالتفصيل
لاحقا).أما العقود الإدارية غير المسماة، فلا سبيل لدراستها هنا، لأنها لا تكاد
تعد أو تحصى[1].
و عليه، فسنخصص الحيّز الأكبر من حديثنا
فيما يلي، لتناول:عقود الامتياز(المطلب الأول)، و عقود التدبير المفوض(المطلب
الثاني)، و عقود تقديم المساهمة ( المطلب
الثالث).
المطلب الأول:عقود الامتياز:
يقصد بهذه العقود(contrats de concessions)، تلك الاتفاقيات التي تبرمها الإدارة ( الدولة أو أحد
الأشخاص العمومية) مع احد الأفراد أو الشركات؛لإدارة مرفق عام اقتصادي، و استغلاله
لمدة محدودة، و ذلك عن طريق عمال و أموال يقدمها الملتزم و على مسؤوليته، في
مقابل تقاضي رسوم من المنتفعين بهذا المرفق العام[21].
و الجدير بالذكر، أن القول بأن
"الاستغلال يكون لمدة محدودة"، مسألة نسبية تختلف من عقد لآخر.كما ان
لها(المسألة) علاقة بالرسوم التي يتقاضها صاحب الامتياز.أي – بتعبير آخر – لها
علاقة بالأموال التي انفقها على امتيازه:فكلما كانت تكلفة استغلال المرفق العمومي
"متوسطة" ، و مدة الاستغلال طويلة؛ كلما كانت الرسوم صغيرة.و قس على
ذلك.
و في الواقع، لقد كان هذا النوع من العقود
معروفا في أوربا، منذ القرن التاسع عشر على الأقل.و لقد ظهر هناك، ليكون في
البداية، كطريقة في تخفيف بعض العبء الملقى على كاهل الإدارة ( مع العلم أن عقود
الامتياز لا تعفي الإدارة، من الاستمرار في تحمل مسؤولية المرافق العامة).ففي
فرنسا،خلال القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، أبرمت الإدارة المركزية، عقودا
سمحت للشركات الخاصة باستغلال مرافق عامة، وفق أحد الأشكال التالية:1) عقود أقرب
إلى مفهوم عقود الامتياز الحالية (concessions de services publics). أو2) عقود إجارة أراضي زراعية،
مقابل أجرة سنوية، نقدية أو عينية(حصة أو نسبة من المحاصيل) (contrats
d’affermage ).3)
أو عقود وكالة أو نيابة (gérance)، بمقتضاها تسمح الإدارة للمتعاقد معها(الوكيل أو النائب= gérant)؛أن يستغل لحسابه المرفق
العمومي،مقابل أجر يدفعه لها[22].
و لقد طورت فرنسا في التسعينات من القرن
العشرين،صنفا (فرعيا) من هذه العقود؛ ليطبق بالخصوص في الجماعات المحلية (collectivités
locales)، هو عقد التدبير
المفوض(contrats de délégation de service public). و لقد لقيت هذه العقود رواجا كبيرا، في بعض البلدان ، و من
بينها المغرب.و سنتناول بالدراسة، فيما يلي،هذا الفرع من عقود الامتياز. و لكن قبل
ذلك؛ لا بد لنا من الإشارة، و لو في عجالة، إلى فرع آخر من عقود الامتياز، نادرا
ما يحظى باهتمام الباحثين و الدارسين المغاربة.نلفت إليه الانتباه،و نحن
نمر، حتى لا يخلطه الطلبة بعقود صفقات الأشغال العمومية، نظرا للتشابه الكبير
بينهما.أعني هنا، "عقود الامتياز الخاصة بالأشغال العمومية"(Les
concessions de travaux publics).
فهذا النوع من العقود، يبرم لإنجاز كل
أو بعض المنشآت و المباني ، من طرف أحد أصحاب الامتياز، الذي يحصّل أجره من حقوق
استغلال المبنى أو المنشأة التي أقامها(ملعب لكرة القدم، أو مجزرة ، أو سوقا، أو
حتى طريقا سيارا..على سبيل المثال لا الحصر).
و الجدير بالذكر هنا، أن سلطات الحماية
الفرنسية لجأت في كثير من الحالات لهذا الأسلوب ، على الأقل في بدايات
عهدها.فبفضله استطاعت بناء و تسيير خطوط السكك الحديدية، و كذا انتاج و توزيع
الطاقة الكهربائة، على سبيل المثال لا الحصر[2].
هذا و الفرق بين هذا النوع من العقود، و
صفقة الأشغال، يكمن في المقابل المالي الذي يحصل عليه المقاول الذي بنى
المنشأة:ففي الصفقة العمومية، كما سنرى، يحصل المقاول على الثمن الكامل عن
أعماله،من صاحب المشروع.في حين،لا يحصل المقاول في عقد الامتياز ،إلا على الحق في
استغلال المبنى أو المنشأة التي أقامها، و باستعمال هذا الحق، يمكنه تحصيل رسوم من
المستفيدين منها، بمفرده أو بالإشتراك مع صاحب المشروع.
بقي علينا أن نشير، في الختام، إلى أن
الكثير من الفقهاء يؤمنون أن عقد الامتياز ، ليس عقدا إداريا محضا؛لأنه يشمل نوعين
من البنود: بنود أو شروط تعاقدية، و أخرى تنظيمية(بمعنى قانونية)[23].فالبنود التعاقدية، هي تلك التي تنظم أو تحكم الأعباء
المالية المتبادلة بين مانح الامتياز و الحاصل عليه(صاحب الامتياز). فهي إذن، لا
تؤثر على مستعملي المرفق العام(usagers)، بل يقتصر تأثيرها على تنظيم الجوانب المتعلقة بكيفية مكافأة
صاحب الامتياز(مدة الامتياز، و كيفية استرداده،و المزايا التحفيزية ،..إلخ).
أما البنود التنظيمية:فهي التي تتعلق بتنظيم
المرفق العام و سيره، كالرسوم التي يسمح بتحصيلها، و شروط الانتفاع بالخدمات التي يقدمها
المرفق (مثل احترام مبادئ: المساواة في معاملة مستعملي المرفق، و استمرارية المرفق
العام، و ملاءمة المرفق العام مع التطورات..إلخ).
المطلب الثاني: عقود التدبير المفوض:
تعرف المادة (2) من القانون 54.05، المتعلق
بالتدبير المفوض للمرافق العامة،كالتالي:" يعتبر التدبير المفوض عقدا يفوض
بموجبه شخص معنوي خاضع للقانون العام يسمى " المفوض"، لمدة محددة، تدبير
مرفق عام يتولى مسؤوليته إلى شخص معنوي
خاضع للقانون العام أو الخاص يسمى " المفوض إليه"، يخول له حق
تحصيل أجرة من المرتفقين أو تحقيق أرباح من التدبير المذكور أو هما معا.
يمكن أن يتعلق التدبير المفوض كذلك بإنجاز
أو تدبير منشأة عمومية أو هما معا تساهم في مزاولة نشاط المرفق العام
المفوض"[24].
و باستعراض مضامين هذا التعريف، نستطيع أن
نلاحظ وجود ثلاثة أركان يقوم عليها بناء التدبير المفوض:
1-الوسيلة القانونية: وجود اتفاق أو عقد بين
"المفوِّض"(déléguant) و "المفوض له"(délégataire)؛
2- موضوع العقد:استغلال مرفق عمومي؛
3-العنصر المالي(الأجر=rémunération ):مداخيل
أو إتاوات(redevances)
أو رسوم، أو ما شابه؛ التي يجب أن تكون مرتبطة بنتيجة الاستغلال غير الثابتة أو المؤكدة(تزيد
أو تنقص ،حسب الأحوال):فالتفويض يحمّل "المفوض له"،مسؤولية المخاطر
المالية لاستغلال المرفق موضوع التفويض، مهما كانت الوسيلة أو الوسائل التي
يستعملها في الحصول على أجره[25].
هذا، و إذا كان عقد التدبير المفوض يشبه إلى
حد كبير عقد الامتياز(من ذلك أنه يتضمن مثله بنودا تعاقدية و أخرى تنظيمية)؛ إلا
أنه يختلف عنه في جانب أساسي، ألا وهو قصر مدة الأول ؛ الأمر الذي يجعل الرسوم
التي يحصلها "المفوض له "، في العادة، أعلى سعرا من تلك التي يحصل
عليها صاحب الامتياز: فهذه هي الوسيلة الوحيدة الفعالة، لاسترجاع أمواله و
تحقيق أرباحه أيضا، في اقصر وقت.
المطلب الثالث: عقد المساهمة:
إن عقد المساهمة، أو الالتزام بالمعاونة(contrat
d’offre de concours)،عقد
يلتزم بمقتضاه شخص من أشخاص القانون العام أو الخاص، بالمساهمة نقدا أو عينا أو
هما معا،في نفقات مرفق عام أو أشغال عامة.
فقد يتقدم إلى الإدارة بعرض المساهمة، فرد
من الأفراد، كأحد الملاك العقاريين،يعرض المساهمة في إنفاق طريق عام، يوصل إلى
ممتلكاته. أو شخص من أشخاص القانون العام،كغرفة الفلاحة، تعرض المساهمة في حفر
آبار، أو تجهيز مستودعات إحدى تعاونيات إنتاج الحليب، بآلات التبريد.أو يعرض أحد
المقاولين العقاريين المساهمة، في بناء أجزاء من الحي أو المطعم الجامعي..إلخ.فإذا
قبلت الإدارة هذا العرض أو ذاك، ينعقد العقد.
هذا، و يشترط في هذه العقود،أن تأتي كنتيجة
للمبادرة الحرة من المساهم. و لا يقلل من قيمة "حرية المبادرة "
هاته، كونها جاءت بإيعاز أو إيحاء أو إغراء أو حتى طلب من الإدارة.
و ما يميز هذا النوع من العقود الإدارية،
أنه لا ينشئ التزامات بالنسبة للإدارة، رغم قبولها له.و لذلك يمكنها العدول عنه،
متى شاءت (بمبررات، لها علاقة بالمصلحة العامة.. طبعا):و بالتالي، لا يمكن
مسائلتها عن تراجعها، بناء على وعدها بالتعاقد:فلا يمكن، على سبيل المثال، للفلاح
الذي باع مواشيه أو أراضيه، ليساهم في بناء مسجد، أن يتابع وزارة الأوقاف لأنها
عدلت في آخر لحظة، عن فكرة بناء ذلك المسجد،بدعوى أنه تكبد خسائر، نتيجة "وعد
وزارة الأوقاف الذي لم يتحقق".
و لكن، في المقابل، يعتبر العقد ملزما
لمن تقدم بعرض أو طلب المساهمة،و يعتبر طلبه "إيجابا"، و متى لقي
"قبولا" من الإدارة، كما سبق القول،انعقد العقد. و من ثم فإن العرض الذي
يتقدم به شخص طبيعي، لا يسقط بوفاته، بل يجب على ورثته سحبه،إذا أرادوا ذلك، قبل
قبول الإدارة له.
و بالإضافة إلى هذه العقود، هناك عقودا
إدارية أخرى، مثل عقود " القرض العام".و عقود إيجار الخدمات:و هو اتفاق
بمقتضاه يقدم أحد الأشخاص الخواص ( الطبيعيين أو المعنويين) خدماته لشخص من أشخاص
القانون العام، مقابل عوض مالي يتفق عليه( من ذلك العقود التي تبرمها الإدارة مع
الخبراء و الفنيين لانجاز دراسات جيولوجية أو غيرها.و العقود التي تبرمها مع
المهندسين لمراقبة و تتبع الأشغال العامة مثلا.و منه أيضا عقود تأجير الخيام
للمصالح الإدارية بمناسبة الاحتفالات و المعارض و المهرجانات ..إلخ).
هذه هي أهم العقود الإدارية، بالإضافة إلى
عقود الصفقات العمومية، التي تتكون من:
أ- الصفقات التي تتعلق بالأشغال العمومية(كبناء الطرق،
مثلا)؛
ب-الصفقات التي تتعلق بتوريد
الأدوات و المعدات و التجهيزات؛
ت- الصفقات المتعلقة
بالخدمات( و أهمها خدمات النقل).
هذه الصفقات، ستكون بإذن الله تعالى، موضوعا
لدراستنا المفصلة في هذه الدروس، و لكن يجب علينا قبل الشروع في دراستها، أن نتم
بحث العقود الإدارية، بالنظر في طبيعتها التعاقدية:هل هي فعلا عقودا بالمعنى
الصحيح لكلمة عقد؟
المبحث الثالث:الحقيقة التعاقدية في العقود
الإدارية[26]:
لقد آمن الكثير من فقهاء القانون
الأوربيين ، في القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين،أن الحكومة، في كل بلد، هي
موطن السيادة و مركزها. و ان هذه الصفة تبقى لصيقة بها و بكل من يمثلها أو يتفرع
عنها، في كل الأعمال التعاقدية أو الانفرادية.و من ثم لم يتصوروا إمكانية إخضاع
الحكومة( او الإدارة التي تمثلها) للالتزامات التعاقدية،لأن ذلك يجعلها، في
نظرهم،في مقام مساو للأشخاص الطبيعيين و المعنويين ، الأدنى منها( بما لا يترك
مجالا للمقارنة). و هذا الأمر- أي التسوية- يتنافى مع مفهوم السيادة، التي تشترط،
أول ما تشترط، التفاوت بين الحكام(الإدارة) و المحكومين.
إن هذه الإشكالية ،فرضت نفسها على فقهاء
القانون العام، خلال الفترة التي سبقت الإشارة إليها أعلاه؛ فحاولوا حلها،بشتى
الطرق و الحلول.إلا أن معظم الحلول، تجمعت حول ثلاثة أراء أساسية: لقد ارتأى فريق
من الفقه، أن العقود التي تبرمها الإدارة، هي عقود حقيقية، تطبعها حرية الإرادة و
الرضى و المساواة. و بالتالي يجب أن تخضع للقانون الخاص ( المطلب الأول).
فيما تصور فريق ثان بأن العقود التي تبرمها الإدارة، ليس فيها مساواة بين الأطراف،
بل هي عقود تتميز بالتفاوت بين طرفيها، و هذا طبيعي فيها؛ لأن أحد طرفيها ينتمي
إلى القانون العام،و من ثم ليس ثمة ما يمنع من وصفها بالعقود،فإن لم تخضع للقانون
الخاص فهي تخضع للقانون العام( المطلب
الثاني).في حين ذهب فريق ثالث، إلى أن العقود هي العقود،لا
تتغير سواء كانت خاضعة للقانون الخاص او العام، و سواء أبرمتها الدولة أو الخواص.
و أن العقود التي تبرمها الدولة، ليست عقودا "محضة" أو
"حقيقية"، بل هي مزيج أو خليط من بنود تنظيمية و اخرى تعاقدية( المطلب
الثالث).
المطلب الأول: عقود الإدارة عقود
مدنية:
ذهب أصحاب هذا الرأي، لاسيما في فرنسا و
ألمانيا و إيطاليا- و في مصر لاحقا- إلى اعتبار العقود التي تبرمها الإدارة
جميعها،عقودا خاضعة للقانون الخاص (القانون المدني).و بالتالي لا يجوز للدولة،إذا
كانت طرفا فيها ، أن تنفرد بامتيازات خاصة على حساب المتعاقدين معها؛ذلك أن الأصل
في العقود هو المساواة بين المتعاقدين.
و من أشهر القائلين بهذا الرأي، نجد أتباع
المدرسة الفردانية(Individualiste)، الذين يعتبرون الفرد هو أساس كل الحقوق، و معيار جميع القيم.و
لقد كانت الفكرة السائدة بينهم ، ان سيادة الحكومة أمر نسبي؛ فهي ليست مطلقة بلا
حدود أو قيود، بل تحدها و تقيدها الحقوق الطبيعية للأفراد. بمعنى ، أنه لا يمكنها
المساس بالحقوق الطبيعية أو تجاوزها، إلا بناء على عقود، يعبر من خلالها
الأفراد – دون إكراه- عن رضاهم و قبولهم بالتنازل عن بعض حقوقهم، و من ضمنها حقهم
في التساوي مع غيرهم.
و في ألمانيا، ظهرت مدرسة فقهية أخرى،
انطلقت من أسس مختلفة، و لكنها انتهت إلى نفس ما انتهت إليه المدرسة الفردانية
تقريبا،هي مدرسة " الدولة الخزينة أو بيت المال"(L’Etat
fisc)(من اللاتينية fiscus= خزانة الدولة).
و تقول هذه النظرية، بأن للدولة
شخصيتين،شخصية تتمتع بالسلطة العمومية، و شخصية أخرى،تمثل الذمة المالية للدولة(Patrimoniale). و أن الشخصية الأولى هي الأصل،
بل هي التي خلقت الشخصية الأخرى، بمقتضى قرار سيادي.و أن الدولة تدخل طرفا ،بواسطة
الجانب الذي يمثل ذمتها المالية، في العقود التي تعقدها.و بالنتيجة، فلا مانع من
أن تكون الدولة مقيدة – و لو جزئيا- بالشروط و البنود التعاقدية، مثلها في ذلك مثل
الخواص،مادام أن جانبها السيادي بقي بمنأى عن العقود.
و لقد انتشرت آراء هذه المدرسة في فرنسا
أيضا، و وجدت في الفقيه الفرنسي "لوي إدوارد جوليان لافريير"(Laferrière)(1841-1901) أحد أكبر أنصارها.لا
بل إنه عمل على تطويرها و تحسينها، حتى أخرجها في صورة أكثر قبولا:لقد أدارها على
فكرة بسيطة،مفادها أن للإدارة شخصيتين ،أو هي شخص بوجهين( double faceà
):فهي شخصية معنوية عادية، لها ذمة مالية، و تتصرف كباقي أشخاص القانون العادي.و
لكنها تتصرف أيضا - و هذا هو وجهها الآخر – كشخصية تتمتع بحقوق السلطة العمومية(comme
dépositaire d’une part de l’autorité ou de la puissance)،و
بالتالي تعبر عن السيادة.
لقد لقيت هذه النظرية رواجا غير يسير في
أواخر القرن التاسع عشر، و بخاصة في أوساط الفقهاء في فرنسا و إيطاليا و ألمانيا،
و تبناها فقهاء كبار مثل هوريو، و لكنهم مالبثوا أن تراجعوا عن تأييدها،لاسيما بعد
الانتقادات التي وجهت لها.
و لكن أنصارها، لم يستسلموا لذلك، بل عملوا
على تطوير نظريتهم،خاصة الفقيهان الألمانيان "رودولف فون أهرينج"(Ihering)(1892-1818) و "جورغ
جلينيك"(Jellinek)(1851-1911).
فلقد جاء "اهرينج"، بنظرية
التحديد الذاتي لسلطة الدولة، و طورها بعده "جلينك".و مؤدى هذه النظرية
أن للدولة،باعتبارها رمز السيادة، خصائص جوهرية، من أهمها أنها غير قابلة للإخضاع
إلا لإرادتها و بإرادتها الحرة. و من ثم فعندما تبرم الدولة عقدا، فإنها تكون بذلك
قد اختارت بمحض إرادتها أن تضع نفسها،في موضع مساوي للخواص، و بالتالي فإن ذلك لا
ينتقص من سيادتها،إذ أن التزامها بالعقود التي تبرمها مع الخواص، جاء نتيجة
لإرادتها الحرة.
المطلب الثاني:العقود الإدارية تتميز
باللامساواة:
يرى أتباع هذا الرأي، أن الالتزام التعاقدي
في العقود الإدارية ، هو وليد قرار انفرادي(سلطوي أو تنظيمي)، تصدره الإدارة بما
لها من سلطة آمرة،يرضخ لها الطرف الآخر المتعاقد معها.فالعقود الإدارية إذن؛ هي
عقود تنتج ، بطريقة مباشرة، عن ممارسة الإدارة لسلطتها العمومية.أي أنها بطبيعتها،
تتميز بالتفاوت الحاصل بين الحكام و المحكومين، و بالتالي،فم تحصيل الحاصل،أن تخضع
للقانون العام، و أن يختص القضاء الإداري بالبت فيها.
يقول العميد "موريس هوريو"(Hauriou)(1856- 1929)، و هو أحد اهم
المدافعين عن هذا الرأي ، بأنه ليس في القانون ما يمنع من إبرام عقد بين طرفين غير
متساويين.فالعقود التي كانت تبرم قديما - في الجمهورية أو الإمبراطورية
الرومانيتين- بين الأحرار و العبيد ؛ كانت عقودا مستوفية لكل الشروط[27].
و لا عجب في ذلك- يضيف هوريو- فالعقود تبنى
على القبول و الرضى، و قد يقبل أحد طرفي العقد ، لسبب من الأسباب، أن يكون في
مكانة أو درجة أدنى من الطرف الآخر:فالقانون يسمح بذلك.
و من هنا، يخلص أنصار هذا الرأي إلى
القول؛ ان العقود الإدارية؛هي عقود حقيقية و صحيحة،رغم أنه لا يتحقق فيها مبدأ المساواة
بين الأطراف المتعاقدة،إذ لا يعقل أن تكون هناك مساواة بين الإدارة(الحكام) و
الخواص(المحكومين)،فمن طبيعة الأمور أن يكون هناك تفاوت بينهم:بمعنى أن المحكومين
المتعاقدين مع الإدارة، يقبلون تلقائيا،أن يكونوا في مكانة أدنى من الإدارة.هذا من
ناحية.و من ناحية أخرى،يمكن اعتبارها عقودا حقيقية و صحيحة لأنها، بكل بساطة،
تنسجم مع إرادة الإدارة التي تريد أن تبقى،حتى داخل العلاقة التعاقدية،محتفظة
لنفسها بالامتيازات الكثيرة التي توفرها لها القرارات الانفرادية( السلطة
العمومية).بتعبير آخر،فالإدارة لا ترى فرقا جوهريا بين العقد و القرار
الانفرادي،فكلاهما وسيلتين تستعملهما للقيام بمهامها(أي أن هذا هو منطق الإدارة أو
السلطة الحاكمة).و كأن الإدارة - و هذا مالا يصرح به هوريو، و إنما يستنبط من
كلامه-،عندما تبرم عقدا من العقود،فكأنها تتخذ قرارا انفراديا؛ وتستره بثياب العقد،حتى
لا يعترض عليه أحد: و الدليل على ذلك، أن الإدارة تملي شروط العقد كما تشاء،و لا
يملك المتعاقد معها إلا الخضوع و الاستسلام لما يملى عليه، أو الانسحاب من عملية
التعاقدية برمتها.
و عليه، و لإدراك حقيقة العقود الإدارية،
يوصي هوريو الباحثين "عن حقيقتها" ، ألا يقفوا عند مظاهرها
الخارجية،المطبوعة بالمساواة ؛ فذلك ليس إلا مظهرا خداعا.فالحقيقة التي لا يجب أن
ننساها، هي أن الإدارة لا تؤمن بالمساواة مع الخواص( فهذا امر يتنافى مع طبيعتها،
اي مع طبيعة القانون العام الذي يحكم جل أعمالها). بل يجب على الباحثين عن معنى العقود
التي تبرمها الإدارة، الغوص في دراسة كنانيش التحملات العامة و الخاصة؛ فبذلك
يستطيعون الكشف عن نوعية العلاقة التعاقدية التي تحبذها الإدارة، و التي لا
يمكن إلا أن تكون مطبوعة باللامساواة.
المطلب الثالث: العقود الإدارية عقود
مختلطة:
عندما كان يدافع "هوريو" عن وجهة
نظره، خرج فقيه فرنسي آخر،حجة هو الآخر في القانونين العام و الخاص، هو العميد
"ليون دوجي"(Duguit)(1859-1928)، بنظرية جديدة حول الطبيعة التعاقدية للعقود
الإدارية، سيكسب لها النجاح و الانتشار الواسع، هي نظرية العمل القانوني المركب أو
المختلط.
لقد رأى هذا الفقيه، ان الأعمال أو
الاتفاقيات التي تبرمها الإدارة مع الخواص، هي اقرب إلى أن تكون اتفاقيات منظمة
تنظيما قانونيا(convention)،
يقتصر فيها ميدان التعاقد ( بمعنى التفاوض على شروط العقد)، على الجوانب المتعلقة
بالثمن بالأساس، أما الجوانب الأخرى فتحددها
القوانين أو القرارات الإلزامية التي تسري على طرفي العقد( و أحدهما الإدارة طبعا)؛ و لا تؤسس
على التراضي أو التفاوض بين المتعاقدين[3].
أو بتعبير آخر، فالعقد الإداري،هو عمل
قانوني مركّب أو مختلط (mixte)، إذ يحتوي على نوعين من البنود:
أ-بنود تعاقدية، و هي لا تهم إلا طرفي
العقد( مثل الثمن، و المدة..)؛
ب-بنود تنظيمية،لا يقتصر أثرها على
المتعاقدين، بل تهم النظام العام أو القانون.
و المعيار، الذي يعتمده "دوجي"
للتمييز بين البند التعاقدي و البند التنظيمي، هو أن البند يعتبر تعاقديا، كلما
أمكن الاستغناء عنه ،إذا ما تم انجاز العمل موضوع العقد، من طرف الإدارة نفسها.
وبعد استعراض هذا الرأي،لست في حاجة إلى
القول أو التذكير،بأن هذا الرأي الذي عبّر عنه "دوجي" في بداية القرن
العشرين، لقي تأييدا في أوساط الفقهاء ،و من ثم القضاة و أخيرا المشرعين،في
السنوات اللاحقة، بل و غلى يومنا هذا. و يكفي أن أدلل على صحة هذا القول،بالإشارة
إلى المادة (12) من قانون التدبير المفوض، التي نصت على أن عقد التدبير المفوض
يتكون من الاتفاقية( أي الالتزامات التعاقدية)،و دفتر التحملات (و الملحقات):أي
يتكون من بنود تعاقدية، و أخرى تنظيمية(دفتر التحملات).
و لقد سبق القول أعلاه، في سياق الحديث عن
عقدي الامتياز و التدبير المفوض معا، أن البنود التعاقدية المتعلقة بهما، تخضع
لمبدأ" العقد الشريعة المتعاقدين"، في حين أن البنود التنظيمية، تنتمي
للقانون العام، و بالتالي فهي تعكس وجهات نظر السلطة العمومية:و هذا بالضبط ما أكد
عليه، العميد "دوجي".
و ما يقال عن هذين الصنفين من العقود
الإدارية، يقال عن باقي العقود الإدارية،بما فيها الصفقات العمومية أيضا.كتبت
الأستاذة الصروخ:
و هذه العقود بالرغم من كونها عقودا تبرم
برضى طرفيها معا،إلا انها لا تبرم بين طرفين متساويين في القوة (...)و الذي يعزز
قوة الإدارة في التعاقد هو ما تملكه من امتيازات (...) و تتجلى امتيازات الإدارة
فيما تقوم به من صياغة لنصوص العقد و وضع شروطه و قواعده بسلطتها التقديرية و
بإرادتها المنفردة(...) كما يجوز للإدارة ان تعدل البنود التنظيمية للعقد بإرادتها
المنفردة ضمانا لحسن سير المرافق العامة دون أن يتوقف ذلك على غرادة المتعاقد
معها.
أما إذا تعلق الأمر بالبنود التعاقدية، و هي
التي تخص فقط المتعاقدين..فإنه لا يجوز للإدارة تعديلها إلا بإرادة الطرف المتعاقد
معها[28].
و.. إلى اللقاء في الدرس القادم،إن شاء الله
تعالى.
[2] إبراهيم نجار و أحمد زكي بدوي و يوسف شلالا- الطبعة الثانية- مكتبة
لبنان- بيروت 1988- مادة "عقد إداري contrat administratif – ص75.
[3] الصفقات العمومية في المغرب ( الأشغال- التوريدات- الخدمات)- الطبعة
الثانية-دار القلم – الرباط 2012- ص19.
[4] قانون الالتزامات و العقود، في فصله الثاني:3) شيء محقق يصلح لأن
يكون محلا للالتزام..و انظر الفصول من 57 إلى 61 من نفس القانون..
[5] د.أحمد سلامة بدر- العقود الإدارية و عقد البوت- الطبعة الثانية –
مكتبة النهضة العربية – القاهرة 2010- ص 52 و ما بعدها.
[6] الفصل 2 من قانون الالتزامات و العقود:4)سبب مشروع للالتزام...و انظر
الفصول من 61 إلى 65 من نفس القانون
[7] لا يعني هذا أن القضاء الإداري، هو المصدر الوحيد للقواعد المنظمة
للعقود الإدارية، بل هناك مصادر أخرى منها المصدر التشريعي، و لكنه يكاد يقتصر على
الجوانب المسطرية.كما أن الكثير من التشريعات المرتبطة بالعقود الإدارية، ليست في
حقيقتها غلا تقنينا لبعض أحكام القضاء الإداري.
[8] و لأسباب تاريخية:فرغم أن عقود البيع(ventes
d’immeubles d’Etat)،تدخل عادة في إطار العقود الخاضعة للقانون الخاص؛إلا أنه و لأسباب ارتبطت
بأحداث الثورة الفرنسية(، كانت النزاعات االمتصلة ببيع العقارات المملوكة للدولة،
تحال على القضاء الإداري، منذ صدور قانون ().انظر: M.Lombard-Droit Administratif- 4e édition-Dalloz-Paris 2001-p229.
[9] فمن ذلك على سبيل المثال، ان قانون 28 بلوفيوز(السنة الثامنة
للثورة)(la loi du 28
Pluviôse An VIII)،كان ينص على أن
العقود ذات الصلة بتنفيذ شغل عام (Les contrats relatifs à l’exécution d’un travail public)،يكون لها طابع إداري، حتى و إن
تضمنت أو أحالت على قواعد تنتمي للقانون الخاص.انظر:Lombard-op.cit -p228.
[10] إن الحكم الذي وضع الأساس لمعيار المرفق العام في أول الأمر، هو حكم
محكمة التنازع الفرنسية، في حكمها الشهير في قضية "بلانكو"(Blanco)،في 8 فبراير 1873.انظر: الطماوي- القضاء
الإداري-م.س-ج1 ص63.
http:// www.coseil-etat.fr
[12] « ..tout ce qui concerne l’organisation et le
fonctionnement des services publics proprement dits , généraux ou locaux
(…)constitue une opération administrative .. ».
[13] للمزيد من التفاصيل عن هذه الأحكام، راجع موقع مجلس
الدولة الفرنسي، الذي سبقت الإشارة إليه في الهامش.
في
موقع:www.fr.wikipedia.org
[16] الصروخ- الصفقات العمومية- م. س- ص 31؛و لها أيضا- القانون الإداري:دراسة
مقارنة- الطبعة السابعة- دار القلم – الرباط 2010- ص 453 و ما بعدها.
[17] و ملخص هذه القضية، أن الإدارة كانت قد أصدرت منشورا
يمنح لها صلاحية توظيف بعض عناصرها، في نطاق القانون الخاص.و في هذا الإطار تم
توظيف السيد معمور بلقاسم.غير ان الإدارة، ممثلة في السيد عامل إقليم فاس، قرر طرد
السيد "بلقاسم" من وظيفته.فلجأ هذا الأخير إلى الغرفة الإدارية بالمجلس
الأعلى، طالبا إلغاء قرار الطرد، على اعتبار أنه قرار إداري، صدر عن سلطة إدارية ،
و ينصب على موضوع إداري ( وهذه هي الشروط لرفع الدعوى المتعلقة بالشطط في استعمال
السلطة). إلا ان هذه الغرفة،أصدرت حكما بعدم الاختصاص، معللة ذلك، بكون العقد،
موضوع الدعوى،-بحكم طبيعته القانونية- يخضع لقواعد القانون الخاص.
[18] و لقد صدر بالفعل هذا المقرر، و هو يحمل عدد 3.70.07 بتاريخ 5
رمضان 1428 الموافق لـ 18 سبتمبر 2007،و نشر بالجريدة الرسمية عدد 5565 ، بتاريخ
فاتح أكتوبر 2007.و باستعراض مضمون لائحة الأعمال التي يمكن أن تكون موضوع عقود
خاضعة للقانون الخاص، نجد:
- تأمين حظيرة سيارات الإدارات العمومية؛
- تأمين السيارات والقوارب ...و التغطية الصحية الأساسية و التكميلية؛
- الاشتراك في شبكات الاتصالات..و الصحف و المجلات..و الأنترنيت؛
- التوكيلات القانونية..و الاستشارات الطبية و البحوث القانونية أو العلمية
أو الأدبية،التي ..لا يمكن أن تكون موضوع صفقات؛
- اعمال التكوين التي تقوم بها الجامعات و المعاهد..و اعمال التكوين التي
تتطلب مؤهلات أو خبرة خاصة؛
- ...إلخ.(هذا على سبيل المثال لا الحصر).
[20] من ذلك على سبيل المثال، أنه يمكن إبرام عقد (يومي) مع
نجار لإصلاح بوابة الجماعة القروية، أو خزانة المكتبة.كما يمكن، أن نعقد عقدا، مع
صباغ، ليصبغ مكتب المدير أو الرئيس، أو إحدى قاعات الاجتماع:و يستغرق العقد بضعة
أيام. في هذين النموذجين من العقود، قد لا يتجاوز المبلغ الذي تدين به الإدارة،
لمن ينجز لها العمل الذي طلبته، بضع مئات من الدراهم. في حين أن بعض عقود
الامتياز، قد تمتد لعدة أجيال، كما هو الحال في عقود إنشاء و استغلال الطرق
السيارة.كما أن بعض الصفقات، التي تبرمها الإدارة المركزية ، قد تبلغ قيمتها؛
ملايير من الدراهم، كما هو الحال، في بناء السدود و المطارات و المستشفيات و كليات
الطب و المعاهد الهندسية..إلخ.
[21] هذا التعريف، مقتبس عن حكم محكمة القضاء الإداري المصرية
(جلسة:25/3/1956)، الذي جاء فيه:" التزام المرافق العامة[=عقود الامتياز] ليس
إلا عقد إداريا يتعهد احد الأفراد أو الشركات بمقتضاه بالقيام على نفقته و تحت
مسؤوليته المالية، بتكليف من الدولة أو إحدى وحداتها الإدارية، و طبقا للشروط التي
توضع له، بأداء خدمة عامة للجمهور، و ذلك مقابل التصريح له باستغلال المشروع لمدة
محددة من الزمن و استيلائه على الأرباح":أورده : احمد سلامة بدر – العقود
الإدارية..- م. س – ص 124.
[23] مصطلح تنظيمي هنا، لا يرتبط بالتمييز بين مجال "القانون" و
مجال" المرسوم"(مجال السلطة التنظيمية)، و إنما يعني القانون بمعناه
المادي أو الموضوعي: بلغة أخرى،فما هو تنظيمي هنا، هو ايضا قانوني، لأنه مجموعة من
القواعد العامة و المجردة.
[25] إن العنصر المالي، في الواقع، هو المعيار الذي يميز الصفقة العمومية
عن التدبير المفوض.فبينما يحصل صاحب الصفقة على أجره مباشرة من صاحب المشروع(في
الصفقة)، يحصّلها "المفوض له" من نتائج الاستغلال
[26] اعتمدت، في تحرير هذا المبحث بالأساس على المصدرين و المرجعين (في آن
واحد)، التاليين (و لاشك انكم تعرفون الفرق بين المصدر و المرجع..بفضل دروس
المنهجية):
Duguit (Léon)-Les transformations du droit public
Hauriou (Maurice)-La gestion administrative :Etude théorique
. و كلاهما منشورين في :www.gallica.bnf.fr
[27] و لرب قائل يقول اليوم:أليست عقود الإذعان ،عقودا
تبرم بين "العبيد" و " الأحرار"؟ و ما معنى الحرية، إن لم
نملك قرار الاختيار؟
[1] العقد المسمى هو العقد الذي خصه المشرع باسم
معين و فصّل أحكامه، لشيوعه بين الناس. و يفهم من هذا، طبعان أن العقود غير
المسماة، سميت كذلك لأنها لم تحظ من المشرع باسم أو تنظيم معينين، بل أخضع نشوءه و أحكامه للقواعد العامة
المقرّرة لجميع العقود؛ لقلة العمل بها.
و يقول الدكتور أنور سلطان، مضيفا إلى
التعريف السابق :" و أهمية هذا التقسيم
أنه إذا سكت المتعاقدان عن ذكر بعض أحكام عقد من العقود المسماة (contrats nommés) يرجع في تكملة هذا
النقص إلى الأحكام الخاصة التي أوردها المشرع في شأنه، أما إذا كان العقد من
العقود غير المسماة (contrats innommés) فيرجع بالنسبة له إلى القواعد
العامة في الالتزام":المبادئ القانونية العامة- الطبعة الثانية- دار النهضة
العربية- بيروت 1978- ص ص 283-84.
[2] ميشيل روسي-المؤسسات الإدارية المغربية- تعريب:
إبراهيم زياني و المصطفى أجدبا و نور الدين الراوي- مطبعة النجاح الجديدة- الدار
البيضاء 1993- ص 42.
[3] يمكن أن نشبه هذا النوع من الاتفاقيات بعقود
الزواج:فعقد الزواج، من حيث المبدأ، هو اتفاق بين الزوجين، إلا أن القانون وحده هو
الذي يحدد آثاره، و من ثم فهو لا يعد عقدا بالمعنى الصحيح للكلمة.انظر في هذا
الصدد: د.أنور سلطان- المبادئ القانونية العامة- م.س – ص 279.