الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

المنهجيات الجامعية:
 لقد خلصنا في درس السابق، إلى توضيح حقيقة هامة، هي أن المنهجية ظاهرة اجتماعية،تكاد تكون لصيقة بكل الجماعات الاجتماعية.ففي كل ميدان أو نشاط اجتماعي نجد منهجية غالبة؛ تمثل بالنسبة للمنتمين لذلك الميدان دليلا أو مرشدا مشتركا،ينطلقون منه و يعودون إليه،لمعرفة  الكيفيات التي ينبغي عليهم استعمالها لتحقيق أهدافهم( بحكم انتمائهم لجماعة واحدة).
 و من هنا ، يقال بأن المنهجية، هي "القَيِّم أو الحارس" على المناهج المتبعة في  كل ميدان من الميادين؛ فتمارس الرقابة عليها(المناهج) و تقيِّمها؛ لتقوّمها أو لتنتقي منها ما تراه مناسبا أو ملائما، حسب الأحوال و حسب ميادين العمل الفكري أو اليدوي. و من هنا، فالمنهجية الجامعية،بحكم انتمائها إلى  مجتمع معين- (= بمعنى  نموذج معرفي /ثقافي معين) -، تمثل مجموع المعايير التي يتم على ضوئها؛ اختيار المناهج التي تتفق مع مفهوم " العلم الحقيقي ..أو المعرفة الصحيحة..أو الطريقة السليمة.."، في حقل علمي معين، أو نشاط مهني معين من أنشطة الحياة[1](المطلب الأول).
و لأن الجامعات تتكون من عدد من الكليات ( و المعاهد و المدارس)، من جهة.و لأن كل مؤسسة من هذه المؤسسات، تميل لأسباب موضوعية و ذاتية، إلى الاستقلال بمنهجيتها الخاصة،من جهة أخرى،فإنه غالبا ما تظهر إلى جانب المنهجيات الجامعية العامة، منهجيات جامعية فرعية (المطلب الآخر).

المطلب الأول: المنهجيات الجامعية العامة:

إن المنهجية كما مرّ معنا أعلاه، هي الرؤية العامة،أي مجموع "الحقائق و القواعد و المبادئ و طرق التفكير..إلخ"، التي تؤمن بها جماعة صغيرة - كجماعة الأطباء أو صناع الخزف مثلا-، أو جماعة أكبر هي المجتمع ( و ما تؤمن به الجماعة الصغيرة، ينبثق بشكل مباشر أو غير مباشر، من ثقافة الجماعة الأكبر):في الحالة الأولى نسميها منهجية، و في الحالة الأخيرة(عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الكلي=الدولة) نسميها ثقافة أو حضارة أو  إيديولوجيا عامة،أو حتى رأي عام..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

دليل كتب لطلبة غير فرنسيين ،لتعريفهم بالمنهجية الجامعية الفرنسية

و بالتالي، يمكن القول أن المنهجية الجامعية هي الرؤية العامة، التي تهتدي بها كل جامعة جامعة، عندما تحدد الأهداف التي تريد بلوغها،أو تختار الوسائل أو المناهج التي تريد الاستعانة بها.ذلك أن المنهجية ، ذات طبيعة مزدوجة؛ فهي تعني من ناحية؛ مجموع الأهداف التي ينبغي تحقيقها،و هي ( أي الأهداف) مستمدة من "الفلسفة" أو "الإيديولوجيا" العامة التي يتبناها المجتمع(و بالأخص الأيديولوجيا التي تعتنقها القوى الاجتماعية المسيطرة عليه). و من ناحية أخرى تعني؛ مجموع الطرق(المناهج ) و الوسائل التي تستخدم(أو ينبغي استعمالها) لبلوغ أو  انجاز تلك الأهداف.
و عليه، فالمنهجية الجامعية، هي  مجموع الأهداف و الوسائل( و ما يرتبط بها من قواعد و تعاليم و نصائح و إرشادات عامة..)، القابلة للتطبيق في الحياة الجامعية.فهي إذن، خلاصة المناهج المنتقاة – أي التي ثبتت صحتها من وجهة نظر "مجتمع"  الجامعة: في التعليم، و البحث،و إلقاء الدروس،و إجراء الامتحانات،و أسماء و نوعية الشهادات الجامعية و الدرجات العلمية..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
 و بالتالي،فالمنهجية الجامعية، تتضمن مجموع القواعد و المبادئ و القيم..إلخ،التي يتم على أساسها انتقاء المواضيع التي ينبغي أن تعلّم للطلاب.و  هي التي تحدد مفهوم العلم الحقيقي و الصالح، الذي يستحق الدعم و المساندة.و هي التي تضع المعايير، التي على أساسها يتم اختيار الأساتذة.و هي التي تحدد المبادئ و القيم التي يعتز بها المجتمع، و يعتبرها أهلا لأن تلقن للطلاب( أي أنها هي التي تحدد مواصفات المواطن الصالح)،و هي المعايير التي على أساسها نوزع شواهد النجاح..إلخ.
لا بل إن المجتمع- أعني الفئة الغالبة عليه- هو الذي يحدد للجامعة أهدافها و وسائلها و أسماء و أنواع "دبلوماتها".ألم نقل بأن المنهجية ليست إلا انعكاسا للنموذج المعرفي السائد في المجتمع؟ بلغة أخرى، فالمنهجية الجامعية، في كل جامعة، تبني الجسور، بين  ما يريده المجتمع ،أو أهم و أقوى مكوناته ، و ما (يجب) أن تحققه الجامعة.
غير أن الجامعة ليست جماعة أو مجتمعا أو" مدينة صغيرة ، متجانسة في قيمها و متماثلة في سلوكها". بل على العكس من ذلك،فهي تتكون في الغالب من مجموعة من "الثقافات الفرعية" المتعددة و المتنوعة؛ثقافات الكليات، و المعاهد..،و الأساتذة و الطلاب،و الإداريين[2]. مما يؤدي إلى وجود مستويات من المنهجية الجامعية:المنهجية الجامعية العامة،التي تشترك فيها كل فروع الجامعة الواحدة، و المنهجيات الجامعية الفرعية؛ الخاصة بكل فرع أو وحدة أو مؤسسة أو كلية أو معهد.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
الجامعة..مجموعة من الثقافات الفرعية

المطلب الآخر:المنهجيات الجامعية  الخاصة:

تستمد كل جامعة ، منهجيتها العامة، من قيم، و قوانين، و أخلاق، و عادات، و تقاليد، و أهداف..إلخ، المجتمع الذي تنتمي إليه.بكلمة و احدة، تستقي الجامعة، منهجيتها العامة، من الحضارة التي تنتمي إليها، أو من الإيديولوجية التي تعتنقها النخب الحاكمة في المجتمع[3].ولأن النخبة الحاكمة، تتأثر بروح العصر الذي تنتمي إليه، أو تربطها علاقات بالفئات أو المصالح المهيمنة على ذلك العصر،فمن الطبيعي أن تكون تعكس ثقافتها- و منهجيتها- الآراء السائدة في عصرها أيضا.
هذا ما يتجلى مثلا في القانون المتعلق بتنظيم التعليم العالي في المغرب[4]، فهو يعكس إلى حد كبير رؤية المشرع المغربي لآمال و هموم،قسم كبير من المغاربة. و لقد حدد في مادته (3) من الفصل الأول (الخاص بالجامعات)،مهام الجامعات المغربية التي لا تختلف كثيرا عن المهام المسندة لأي جامعة أخرى  من جامعات  العالم":فتحت تأثير منهجيات التعليم الأوربية، أصبحت كل الجامعات تصدر عن رؤية واحدة موحدة تقريبا،تعبر عنها منظمة "اليونسكو" على النحو التالي:"..ففي الجامعات تلتقي، في المقام الأول،مجمل الوظائف التقليدية المرتبطة بتقدم المعارف و نقلها، و البحث،و التجديد، و التعليم و التدريب، و التعليم المستمر. و يمكن أن نضيف إلى هذه الوظائف وظيفة أخرى تزداد أهميتها باستمرار منذ بضع سنوات، ألا وهي التعاون الدولي"[5]
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
و هكذا، فلقد  صار من أهداف الجامعة المغربية مثلا،إشراك الطلاب الجامعيين ،على تنوع و تعدد تخصصاتهم، في ثقافة عامة واحدة، مغربية و عالمية ، حتى يتخرجوا جميعا: أبناء جامعة واحدة، و أبناء وطن واحد، و أبناء إنسانية واحدة[6]، و أبناء زمن واحد (بكل ما فيه من خير و شر).و بذلك يتعمق في وجدان الطالب الإحساس بالانتماء الإنساني،و الحس الوطني،و الولاء لبلاده و أهله، و الفخر بدينه و لغته،و يتكون لديه الثراء الروحي و الثقة بالنفس،و تقوى شخصيته.و كل هذه مؤهلات و مهارات و أخلاق..عامة، يحتاجها كل الطلاب في كل الجامعات، و في كل الكليات و المعاهد، بل و في كل التخصصات.
غير أنه، و رغم أن الكليات و المعاهد التي تنتمي إلى جامعة واحدة، تشترك في هذه الأهداف(المنهجية) العامة و في وسائل تحقيقها أيضا.إلا أن كل كلية و كل معهد أو كل مدرسة في تلك الجامعة، تنزع إلى أن تكون لها منهجيتها الخاصة،في حدود المتاح لها من استقلال .و لقد أظهرت الملاحظات الأمبريقية و الدراسات السوسيولوجية، أنه كلما وجدت مجموعات فرعية، اتجه أفرادها إلى أن تكون لهم طرقهم الخاصة و أساليبهم و أهدافهم المتميزة.و يضاف إلى ذلك، و يدعمه، عوامل أخرى هي أن الاختلاف في المهام المسندة لكل كلية ،و كذا ظروف نشأتها أو تطورها، قد تؤدي إلى تفرد كل منها بمنهجيتها الخاصة،حتى لو كانت جميعها تنتمي لمنهجية عامة واحدة: فلكل تخصص، و لكل متخصص، و لكل بيئة خاصة.. خصائصها المنهجية.
و في الواقع،فإن هذه الاختلافات لا تعود لعوامل موضوعية وحدها،بل نجدها قد تنتج عن عوامل مرتبطة برغبات و أهواء و طموح بعض الفاعلين الاجتماعيين ، داخل كل كلية على حدة ، و لاسيما الأساتذة. يقول الأستاذ السعيدي في هذا الصدد:
..فالأساتذة الجامعيون، بحكم اختلاف مشاربهم الفكرية و المعرفية و الإيديولوجية، و باختلاف مكانتهم الجامعية و العلمية و مواقفهم الثقافية، الاجتماعية و السياسية؛ غالبا ما تختلف أيضا أهدافهم المعرفية و العلمية و الإيديولوجية،عن الأهداف التي تحددها المؤسسة داخل التنظيم الجامعي؛ و يتجلى ذلك بوضوح في الأهداف المعرفية داخل المقررات ، و في نفس المادة المدروسة، و نفس التخصص بالنسبة لكل أستاذ جامعي.فكل أستاذ جامعي يضيف للدروس المقررة ، دروسا أخرى مكملة وفق هواجسه و همومه المعرفية و العلمية. هذا الوضع الذي يختلف عن الأهداف الديداكتيكية في المقررات الوزارية المدروسة داخل التعليم ما قبل الجامعي[7].
 لهذا، لا ينبغي أن نستغرب إذا وجدنا المناهج، المستعملة في كل كلية ، أو حتى في كل تخصص، بل و في الكثير من  المواد الدراسية أحيانا[8]، مختلفة  بعضها عن بعض،مع ادعائها جميعها بالانتماء إلى نفس المنهجية الجامعية العامة:فهذا أحد مميزات الجامعة، و أحد ثمار الحرية الأكاديمية.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
كتاب عن منهجية دراسة القانون في فرنسا
كما أنها إحدى الضروريات التي يمليها التخصص.فمع أن كل الكليات،التي تنتمي إلى منهجية عامة واحدة ( مجتمع واحد)، تعلم طلابها مجموعة من المهارات العامة المشتركة أو المتشابهة،التي يحتاجونها للقيام بأعمالهم الدراسية العادية،مهما كانت تخصصاتهم.إلا أننا نجد إلى جانب ذلك،بل أهم من ذلك، منهجيات أخرى خاصة في كل كلية و معهد، يجب على المنتمي إليها(الكلية أو المعهد) أن يتعلمها؛لأنها ترتبط بالمهن التي سيمارسونها بعد التخرج .مثل المهارات التي يحتاجها الأطباء ، و المهندسون، و المحامون، و الباحثون العلميون..و غيرهم.

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية



[1]  فحتى في الاستعمال الدارج و العادي، عندما يستعمل الناس المنهج أو المنهجية، يستعملهما بمعنى التخطيط لهدف، أو الوسيلة و الغاية معا:فيقال هذا الرجل يعمل وفق منهجية معينة، أي أنه قد رسم لنفسه هدفا، و سخر الوسائل المتاحة له  لتحقيقه . فالمنهجية تعني هنا الإجرائية أو المسطرة أو الإستراتيجية.
[2]  هيربرت جاكوب-بعض نتائج تقدم العلوم و العلوم الاجتماعية – في:دور الجامعات في عالم متغير – م.س – ص 148.
[3]  فجامعة القرويين ،على سبيل المثال،كانت تتمتع بالاستقلال التربوي (لأنها على الأرجح كانت مستقلة ماليا، ينفق عليها من الأحباس )، طيلة العصور الوسطى.و لكن ابتداء من الثامن عشر، فرض المخزن المغربي، على الجامعات المغربية تلقين تخصصات معينة، و منع على علمائها تدريس مجموعة من العلوم العقلية. و هذا ما نجده في الظهير الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله ( 1757-1790 )،الذي حدد بدقة المواد التي يجب تدريسها و تلك الممنوعة و الكتب التي ينبغي الاعتماد عليها.ثم أصبح هذا الظهير، لاحقا، هو الأساس الذي ينظم العلاقات بين مؤسسة الخزن و المؤسسات الجامعية. و بعد وضع الدستور الأول (1962)،انتقل هذا الاختصاص من المخزن ، بمفهومه التقليدي،إلى الوزير الأول، الذي أصبح  يحدد التخصصات  و لوائح الشهادات..و غيرها من مهام الجامعة، بمقتضى مراسيم،يصدرها بعد دراستها في المجلس الوزاري. انظر:د.حسين العمراني-إدارة التعليم العالي و البحث العلمي بالمغرب(الجزء الأول:ضرورة عقلنة اتخاذ القرار)- دون إشارة لمكان الطبع-1999- ص 156.
من ذلك على سبيل المثال، المرسوم 2.04.89 الصادر بتاريخ 18 ربيع الآخر 1425 (7 يونيو 2004)، بتحديد اختصاص المؤسسات الجامعية و أسلاك الدراسات العليا، و كذا الشهادات الوطنية المطابقة.
[4]  انظر:الظهير شريف رقم 1.00.199، الصادر في 15 صفر 1421(19 ماي 2000)، بتنفيذ القانون رقم 01.00.
[5] التعليم ذلك الكنز المكنون – تقرير قدمته إلى اليونسكو اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي و العشرين- اليونسكو/مركز الكتب الأردني- عمان 1997- ص 114.
و هذا ما أكده بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته منظمة اليونسكو في  باريس ( ما بين 5-8 يوليوز 2009).
[6]  جاء في بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته اليونسكو( و المنشور في موقع اليونسكو):
المادة3:و ينبغي لمؤسسات التعليم العالي أن تعمل، من خلال مهامها الأساسية ( البحث و التعليم و خدمة المجتمع)، التي تضطلع بها في سياق الاستقلال المؤسسي و الحرية الأكاديمية، على تعزيز توجهها الجامع بين التخصصات، و تشجيع التفكير النقدي و تعزيز المواطنة النشطة.فمن شأن ذلك الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة و السلم و الرفاهية، و في تطبيق حقوق الإنسان، و منها المساواة بين الجنسين.
المادة 4:ينبغي ألا يقتصر التعليم العالي على تطوير مهارات عالية لخدمة العالم الراهن و المقبل فحسب،و إنما يجب ان يسهم أيضا في تهيئة مواطنين ذوي مبادئ أخلاقية و ملتزمين ببناء السلام و الدفاع عن حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية.
[7]  السعيدي – ص 135.
[8] "إن مادة المنهجية ليست مادة موحدة إذ ليس هنالك من منهجية واحدة و إنما هنالك منهجيات و تقنيات مختلفة باختلاف موضوعها.و لكن رغم هذا الاختلاف في المنهجيات إلاّ أن فكرة واحدة تنتظمها..": المنهجية القانونية – م.س- ص11.

هناك 3 تعليقات: