الثلاثاء، 14 فبراير 2017

المشكلة و الإشكالية:ما هو الفرق بينهما؟

سؤال يردده الكثير من الطلبة الباحثون..و فيما يلي جواب ممتاز للأستاذ الجابري، رحمه الله.
المشكلة و الإشكالية:ما هو الفرق بينهما؟

المشكلة و الإشكالية:ما هو الفرق بينهما؟

كتب الأستاذ المرحوم- بإذن الله تعالى- محمد عابد الجابري(1935-2010)..
[...] و الفرق بينهما [ المشكلة و الإشكالية] عندنا، يتلخص في كون المشكلة تتميز بكونها يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها.فـ " المشاكل"[ Les Problèmes] في الحساب تنتهي إلى حل، باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها، أعني التخلص منها بعد البحث و المحاولة، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل.أما المشاكل المالية و الاقتصادية و الاجتماعية عموما، و المشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم الطبيعية بمختلف أنواعها، فهي جميعها إلى نوع من الحل، آجلا أو عاجلا، ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي و يقبل نوعا ما من  التجريب.و في هذا الإطار يصدق قول ماركس :" إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها".لماذا؟ لأن " المشاكل" ،بهذا المعنى، إنما تظهر  من خلال تقدم البحث ،فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق أمام اكتشاف مجاهيل جديدة، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة.
هذا هو تصورنا لمعنى " المشكلة"، و أعتقد أنه من الممكن التعاقد مع القارئ على هذا المعنى.كما يمكن التعاقد على معنى أضيق أو أوسع؛ ففي هذا المجال، مجال الحدود و التعريفات، ليس هناك برهان، و إنما تعاقد بين الباحث و المتلقي ( و قد يكون المتلقي هو الباحث نفسه)!فبدون هذا لا يمكن الوصول إلى برهان، فالبرهان إنما يبنى، من جملة ما يبنى عليه، على الحدود و التعريفات.
هذا عن لفظ " المشكلة"، و أمرها لا يحتاج إلى مزيد بيان.أما " الإشكالية"، فهي شيء آخر.فعلا ، يستعمل كثير من الكتاب و القراء ( عندنا في العالم العربي)- أو يفهمون- هذا اللفظ و نسيبه " المشكلة" من غير تدقيق، و كأنهما من الألفاظ التي يجوز أن ينوب بعضها مناب بعض ( و هل هناك فعلا ألفاظ يجوز فيها ذلك بدون غرض و مبرر؟).
و مهما يكن، فنحن نستعمل هنا لفظ " إشكالية" في معنى محدد - و لو أنه معقد - غير معنى " المشكلة".و فيما يلي تفاصيل عقد (تعريف) نقترحه على القارئ. و لا يخطرن بالبال أن التعريفات و الحدود تصاغ كيف اتفق.كلا.ليس لأحد أن يقترح تعريفا إلا إذا كان هذا التعريف يزيدنا معرفة بالمعرّف به و يفسح المجال أمام لمزيد من المعرفة بالموضوع الذي نبحث فيه...
لقد سبق أن حددنا ما نعنيه بهذا المصطلح منذ أن بدأ يشيع في خطابنا العربي المعاصر [في كتاب](نحن و التراث 1980).لقد كتبنا آنذاك في هذا الموضوع ما يلي:" على الرغم من أن كلمة إشكالية من الكلمات المولدة في اللغة العربية ( و هي ترجمة موفقة لكلمة Problématique )، فإن جذرها العربي يحمل جانبا أساسيا من معناها الاصطلاحي.يقال: أشكل عليه الأمر بمعنى التبس و اختلط.و هذا مظهر من مظاهر المعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة ( و لكنه مظهر فقط).ذلك أن الإشكالية هي،في الاصطلاح المعاصر،منظومة من العلاقات التي تنسجها، داخل فكر معين ( فكر فرد أو فكر جماعة)، مشاكل عديدة مترابطة لا تتوافر إمكانية حلها منفردة و لا تقبل الحل - من الناحية النظرية - إلا في إطار حل عام يشملها جميعا.
و بعبارة أخرى: إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر و نزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري"
***
مثال تطبيقي..
و يسوق لنا الأستاذ الجابري،مثالا للإشكالية فيقول:إلى أي مدى يمكن التحرر من الإيديولوجيا، و البحث في موضوع العولمة و مسألة الهوية، بحثا علميا؟
هذا السؤال، في نظر الأستاذ الجابري، إشكالي..للأسباب التالية:
[...] ذلك أن العلاقة بين العولمة و مسألة الهوية ليست من العلائق البسيطة بل هي فعلا:
- "منظومة من العلاقات"، و ليست مجرد علاقة  بسيطة وحيدة الاتجاه:العلاقة بين العولمة  و مسألة الهوية قائمة في آن واحد بين طرف و طرف آخر داخل الدول المصنّعة، و داخل الدول النامية،و بين هذه الدول و تلك...
- " تنسجها داخل فكر معين":فكر فرد و فكر جماعة و فكر أمة إلخ.هذه العلاقة موضوعية فعلا، لها وجود في الواقع، و لكنها لا تتشكل منها إشكالية إلا بعد نقلها إلى الذهن بوصفها تطرح إشكالا قد يتمثل في كون العولمة تقفز على الهوية أو تلغيها، فيترتب عن ذلك رد فعل معين..و قد يتمثل في شيء آخر!
- " مشاكل عديدة مترابطة"، منها ما يخص ظاهرة العولمة نفسها، و منها ما يخص مسألة الهوية، و منها ما يخص العلاقة بينهما: مشاكل اقتصادية و تكنولوجية و معلوماتية و ثقافية و حضارية عامة.
-  هذه المشاكل " لا تتوفر إمكانية حلها منفردة و لا تقبل الحل- من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا"...
- و من هنا تبدو إشكالية العولمة و مسألة الهوية بمثابة " النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر و نزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري".
و الحق أننا هنا لا نطمع، و يجب أن لا نطمع، في حل نهائي لهذه الإشكالية.كل ما يمكن أن نحصل عليه بعد البحث هو شيء من " الاستقرار الفكري" ، شيء من المصالحة داخل وعينا بين عناصر متصارعة.

المرجع:مواقف:إضاءات و شهادات- العدد 43- دار النشر المغربية/سبريس- سبتمبر 2005- ص ص 7-13.
***

و كتب الأستاذ الدكتور العياشي عنصر، عن :الإشكالية و المشكلة و الإطار النظري:

[...] هناك اعتقاد قوي و راسخ، مفاده أن مهمة علم الاجتماع هي دراسة مشكلات المجتمع، كما يعيشها و يواجهها ، أي كما هي معطاة للإدراك الحسي المباشر.و تكون مهمة الباحث، في هذه الحالة رسم حدود تلك المشكلات، و تحديد طبيعتها ،و أسبابها، وصولا إلى اقتراح طرق معينة لمعالجتها ؛ استنادا إلى المعلومات و المعطيات التي يتحصل عليها، من خلال معاينة الواقع . إن مثل هذا التصور، هو السائد اليوم لدى الطلبة ، بل و لدى قطاع عريض من الأساتذة ،  كما تعبّر عنه أعمالهم.

و لا يخفى أن ذلك الاعتقاد يقوم على أسس و مسلمات ابستيمولوجية وضعية، و يعبر عن موقف نظري امبريقي، حيث يُنظر إلى الواقع باعتباره لا يمثل إشكالا و لا يُبطن سوى ما يُظهر، و بذلك يكون السبيل الوحيد و الفعال لمعرفة ذلك الواقع، هو الإدراك الحسي المباشر، عن طريق المقاربة الأمبريقية و المنهج التجريبي .و تبدو سيطرة هذا التصور واضحة في معظم أعمال و بحوث الطلبة، التي نحن بصدد دراسة عينة منها. يتجلى ذلك في اختيار موضوعات البحث، باعتبارها مشكلات مجتمعية متبلورة في المخيلة الجمعية، و محددة في المعرفة العامية، أو الحس المشترك الذي ينطلق مع مسلمة أساسية مفادها أن لا وجود للإشكال إطلاقا  في علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة.

لذلك فإن الغالبية العظمى من البحوث التي تفحصناها، لا تنطلق من صياغة إشكالية معينة كموضوع للدراسة، بل تقوم بتحديد المشكلة ، بمعنى أنها تنطلق من فكرة أن الباحث يتعامل مع الواقع المعطى للإدراك الحسي المباشر، و ليس من نموذج فكري أو نظري تتم صياغته و بناؤه من خلال عملية تنظير للواقع الملموس.

تجدر الاشارة هنا إلى قاعدة أساسية، أصبحت منسية أو تكاد، و هي ان البحث السوسيولوجي، لا يستغني عن وجود إشكالية تمثل صياغة نظرية و تجريدية للملموس، و هي خطوة جوهرية في عملية البحث العلمي، و إنتاج المعرفة عموما.و لا يمكن صياغة الإشكالية إلا ضمن إطار نظري مرجعي يُعتبر بمثابة المقاربة المعرفية التي يجد فيها الباحث أدوات و وسائل عمله لإنتاج  المعرفة. هذه الوسائل هي مجموعة المفاهيم و المقولات النظرية و الإجرائية التي تساعده على بلورة الإشكالية و تعّين له الطرائق و التقنيات التي بإمكانه الاستعانة بها في إنجاز دراسته ، سواء في مرحلة جمع المعطيات أو مرحلة تحليلها و تفسيرها.

لكن، كيف تبدو بحوث الطلبة بخصوص هذه النقطة؟ هل نجد صياغات محددة و واضحة للإشكاليات المدروسة؟ هل هناك أطر نظرية معينة لتناولها؟ إن أول ما يسترعي انتباهنا  عن تفحص بحوث الطلبة، هو الغياب شبه الكامل لهذه  الخطوة الأساسية .فالبحوث لا تنطلق عموما من صياغة للإشكالية أو بناء أو بناء لموضوع البحث، بل من تحديد للمشكلة، و الفرق بين الاثنين ذو دلالة قوية بخصوص الموقف الإبستيمولوجي، الذي تهيمن عليهن كما أشرنان نزعة حسية قوية و مقاربة امبريقاوية مفرطة.

إن ما نجده في بحوث الطلبة بخصوص هذه النقطة لا يتعدى تحديدا سطحيا و بسيطا لمشكلة ما كما هي مصاغة في المعرفة العامية السائدة. و إذا كان تعبير    " تحديد المشكلة " يتكرر في هذه الأعمال فإن ما يثير الانتباه هو أن ذلك لا يتم ضمن إطار نظري معين، تكون وظيفته مساءلة الواقع و الأدبيات التي تناولته بالدراسة، وصولا إلى تقديم صياغة جديدة أو مغايرة لموضوع البحث، انطلاقا من مقاربة معينة و باستخدام مجموعة من الأفكار و المقولات و المفاهيم التي تشكل إطارا نظريا متماسكا و متجانسا، يكون بمثابة الموجه و المرشد للباحث ، ليس في عملية صياغة الموضوع فحسبن بل و عند تحليل و فهم آليات تشكل الظاهرة و علاقاتها بغيرها  في النسيج الاجتماعي للظواهر.

المرجع:وضعية البحث السوسيولوجي في الجامعة:نموذج مذكرات الليّسانس في جامعة عنابة (1980-1993) -دراسات عربية- دار الطليعة- العدد 1/2- السنة الحادية و الثلاثون- بيروت (تشرين الثاني/كانون الأول- نوفمبر/ديسمبر 1994)- ص ص 60-61( وقدمت هذه الدراسة في الأصل إلى الملتقى المغاربي حول : المجتمعات المغاربية و الممارسات السوسيولوجية- الجزائر 13-15 نوفمبر/تشرين الثاني 1993).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق