الاثنين، 26 ديسمبر 2016

هنري فايول و علم الإدارة

هنري فايول و علم الإدارة  

هنري فايول و علم الإدارة
هنري فايول و علم الإدارة

ولد هنري فايول(Henri Fayol)، في القسطنطينية عام 1841، و درس في مدرسة المناجم (L'Ecole des Mines)، في " سانت إتيان"(Saint-Etiene).ثم التحق بالعمل كمهندس، و هو في التاسعة عشرة من عمره، بإحدى شركات استخراج المعادن (و المناجم)( La compagnie de commentry Fourchambeau-Decazeville)، ليرتقي فيها عام 1888، إلى درجة مدير عام.و بقي في هذا المنصب، إلى أن أحيل  على التقاعد، في سنة 1918.
و في السنوات الأخيرة من عمره، أبدى اهتماما كبيرا بقضايا إدارة و تسيير المصالح الحكومية، و قدم محاضرات كثيرة في هذا الموضوع،ابتداء من سنة 1900،لا سيما في " المدرسة العليا للحرب"(L'Ecole Supérieure de Guerre ).
و توفي "هنري فايول" ،في باريس عام 1925.

أولا:مؤلفاته:

نشر " فايول" بحوثا علمية عديدة ، لها علاقة بمجال عمله الهندسي، في الدوريات المتخصصة، خاصة في (Bulletin de la société de l'Industrie Minérale). و لعل واحد من هذه البحووث على الأقل ،وطيد الصلة بمجال الإدارة و التسيير و الاقتصاد، هو (L'Industrialisation de l'Etat)(1919).
بالإضافة إلى هذه البحوث، نشر " فايول" كتابا هو السبب في شهرته التي طَبَّقت الآفاق، و هو " الإدارة الصناعية و العامة"(Administration industrielle et générale)، و نشره أول مره سنة 1916، في دورية (Bulletin de la société de l'industrie minérale ).ثم نشرته دار (Dunod)، سنة 1919، و أعادت نشره في السنوات 1966،و 1979، و 1999.
و لأهمية الكتاب، فقد ترجم إلى الكثير من اللغات الأوربية، كالإنجليزية، و الألمانية، و النرويجية، و السويدية، و اللتوانية، و البولونية، و التشيكية ، و اليونانية، و الإسبانية، و الإيطالية، و البرتغالية، و الرومانية، و اليابانية غيرها.و لا أعرف ما إن كان قد ترجم إلى العربية أم لا..( لقد تبن لي، من آخر بحث قمت به بواسطة " محرك البحث غوغل"، أنه ليس هناك طبعة عربية لهذا الكتاب، و الله أعلم).
و الجدير بالذكر هنا، أن " هنري فايول"، ظل اسمها مجهولا لدى الكثيرين من المهتمين بالمقاولات و الاقتصاد في فرنسا،و أن ترجمة كتابه إلى الإنجليزية سنة 1929، ثم إعادة طبعه في أمريكا سنة 1949، هي التي جعلت الفرنسيين يلتفتون إلى الرجل( و دليل ذلك، أن دار النشر التي نشرت كتابه، لم تطبع الطبعة الثانية(1966) من كتابه، إلا بعد مرور نصف قرن تقريبا..على الطبعة الأولى(1919)).
هنري فايول و علم الإدارة

ثانيا:هدف و تقسيم الكتاب:

 يرى "فايول" أن الإدارة تلعب دورا حيويا و خطيرا في مختلف الأعمال و الأنشطة الجماعية، صغيرة كانت أم كبيرة، صناعية أو تجارية، أو سياسية، أو دينية، أو غيرها.
و لأجل إبراز هذا الدور و التعريف به، ارتأى " فايول" أن يقدم في كتابه، المتقدم ذكره، أفكاره عن الإدارة، و التي استقاها من خبرته الطويلة و العريضة في مجال التدبير و التسيير.بل هو يقدم لنا هذه الأفكار على أنها تكوّن الطريقة الأمثل،لإدارة المقاولات على اختلاف أنواعها .
فكل الأنشطة التي تقوم بها المقاولات، يمكن تقسيمها إلى ستة أنشطة أو وظائف أساسية، هي:
1- وظائف أو عمليات تقنية:الانتاج، و الصناعة، و التحويل..(Opérations techniques
2- وظائف أو عمليات تجارية:الشراء،و البيع، و التبادل..(Opérations commerciales
3- وظائف أو عمليات مالية: البحث عن المواد المالية(رؤوس الأموال)، و انفاقها(Opérations financières
4- وظائف أو عمليات أمنية: حماية ممتلكات المقاولة، و العاملين فيها(Opérations de sécurité
5- وظائف أو عمليات محاسبية:وضع الميزانيات، و جرد و أحصاء الموجودات (المخزون من السلع المصنعة، و المواد الأولية..)(Opérations de comptabilité
6- وظائف أو عمليات إدارية:وتقوم بالتخطيط(و التوقع و التخمين)، و التنظيم،و القيادة(اصدار التعليمات والتوجيه)، و التنسيق، و المراقبة(Opérations administratives).
هذه الوظائف الأساسية(fonctions essentielles ) الست، توجد في كل المقاولات، الصغيرة و الكبيرة، البسيطة و المعقدة، و مهما كان هدفها أو الغرض من إنشائها، فلابد أن تمارس هذه الوظائف الأساسية.و من هنا عرّف  الإدارة بأنها:" هي التوقع، و التنظيم، و القيادة، و التنسيق و الرقابة"(Administrer ,c'est prévoir ,organiser, commander, coordonner et contrôler).

ثالثا:الإدارة بمفهوميها العام و الخاص

و في الواقع، فإن ّ فايول" يتحدث عن " الوظيفة الإدارية" بمعنيين مختلفين، و لكن غير متناقضين بل متكاملين:بمعنى عام(واسع)، و بمعنى خاص(حصري).
فهو يتحدث عن الإدارة بمعنى عام،و يستعملها كمرادف "للحكم"(Gouverner)،و القيادة: أي حكم و قيادة المقاولة، نحو هدفها ، من خلال استغلال كل إمكانياتها و مواردها أحسن استغلال.و هذا الحكم أو الإدارة، تمارس بوساطة و على مستوى كل الوظائف: ففي كل وظيفة من وظائف المقاولة، تؤدى جميع الوظائف أو العمليات الإدارية( من تخطيط، و تنظيم، و قيادة، و تنسيق، و رقابة)؛ففي وظيفة الإنتاج مثلا، نحتاج إلى تخطيط ، و تنظيم، و قيادة،.. و عملية إدارية.و بهذه الطريقة فإن المقاولة كلها تدار على النحو المرغوب فيه، وتحقق أهدافها [1].
وظائف المقاولة/الوظائف الإدارية
التخطيط(التوقع)
Prévoir
التنظيم
Organiser
القيادة
Commander
التنسيق
Coordonner
الرقابة
Contrôler
الإنتاج، ..
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
الشراء،البيع..
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
التمويل..
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
توفير الحماية
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
المحاسبة..
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
العملية الإدارية
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
في كل وظيفة من وظائف المقاولة، تؤدى جميع وظائف الإدارة
أما الإدارة بمعناها الخاص، و يسميها ( L'Administration)،فهي العمل الذي يقوم به رؤساء المقاولات و مديروها، على مستوى المقاولة كلها.أو هي بتعبير آخر تطبيق الوظيفة السادسة، على مستوى أعلى يشمل المقاولة كلها، و لا يخص كل وظيفة على حدة:فالمديرون، يخططون مثلا، و لكن للمقاولة كلها، و ليس فقط للإنتاج أو البيع، أو الحماية.و ينطمون، على مستوى جميع الوظائف، و ليس على مستوى وظيفة واحدة.
و من هنا، يتجلى لنا أن الإدارة بمفهومها الخاص،و بالنظر إلى المهام المنوطة بها، من جهة، و نوعية المسؤولين الذين يتولون أمر "إدارتها"، فإنها - في الحقيقة- هي الأساس و الأصل و المرجع النهائي لجميع الوظائف الخمس الأخرى، حتى لتبدو الوظائف الأخرى مجرد فروع لها.
بلغة أخرى، إن " فايول"، يعتقد أن "إدارة " المقاولة تتطلب إشراك جميع الوظائف الستة،لبلوغ الأهداف المرسومة، بما فيها الوظيفة الإدارية(السادسة).إلا أن هذه الأخيرة، إذا تولى أمرها رؤساء او مديرو ( أو ملاك) المقاولة أنفسهم،فهي تتحمل عبء ما يمكن تسميته بـ" الإدارة العليا"، و التي تشمل المهام التالية:
1- التخطيط أو التوقع (Prévoyance):فمديرو أو رؤساء المقاولة يتوقعون و يتنبؤون بما ستكون عليه مقاولتهم في المستقبل،و على ضوء ذلك يضعون برامج و خطط العمل لمواجهته، و التعامل معه؛
2- و ينظمون(Organiser ):أي يبنون البناء المادي( الأقسام، و المصالح، و الفروع..) و الاجتماعي ( فرق العمل في كل قسم، و اختصاصاته، و العناصر البشرية العاملة فيه،..) للمقاولة؛
3- القيادة(Commander):أي  خلق الأجواء التي تجعل العمال و المستخدمين، يقومون بأعمالهم(Commander ,c'est -à-dire relier , unir ,harmoniser tous les actes et tous les efforts)..؛
4- التنسيق (Coordonner):أي الربط بين مختلف الوظائف( الأعمال و الجهود)، و العناصر البشرية التي تقوم بها ، و خلق الانسجام و التعاون بينهم..لبلوغ الأهداف.أو في جملة واحدة" ملائمة الوسائل مع الأهداف"؛
5- الرقابة(Contrôler):أي الحرص على أن تتم الأمور حسب القواعد، و التعليمات، و الأهداف المحددة.
و على تعدد هذه المهام التي تقوم بها " الإدارة العليا" للمقاولة،إلا أن" فايول"، مع ذلك، يرى أن الهم الأساسي للوظيفة الإدارية، يجب أن ينصب على " الجسم الاجتماعي"(Le corps sociale)، أو القوى العاملة، و يترك القضايا المتعلقة بالمواد و الآلات إلى الوظائف الأخرى(الإنتاج، و البيع،و الأمن..).فالمدير الجيد هو الذي يحرص على إبقاء هذا " الجسم" معافى ، سالما من الأمراض، متمتعا بصحة جيدة.و ذلك، باحترام مجموعة من المبادئ أو القواعد، المرنة(flexible) و القابلة للتغيير و التطور، لتستجيب للحاجيات المتغيرة و المتطوردة بدورها.يقول "فايول"، في هذا الصدد:" Il n'ya rien de rigide ni absolu en matière administrative ;tout est question de mesure"[2].
إنها مهمة صعبة،تتولاها إدارة المقاولة(الإدارة العليا)، تتطلب منها الكثير من الذكاء، و الحكمة، و بعد النظر، و اللباقة، و الخبرة..أي كل المؤهلات التي يجب استيفاؤها في المدير الجيد، من منظور " فايول"[3].
هذه المبادئ ليست ثابتة أو محددة، في عدد معين، بل إن قائمتها مفتوحة، قد تتسع لإضافات أخرى، فتشتمل كل ما يمكن أن يقوي الجسم الاجتماعي للمقاولة، أو يسهل عملية الإدارة و التسيير.

رابعا:مبادئ الإدارة:

لقد لخص "فايول" مبادئ الإدارة في أربعة عشر مبدأ.و هو يقول أن " قائمة المبادئ" هذه التي يقترحها علينا، ليست إلا قائمة أولية أو مبدئية، أو هي بالأحرى نموذج، يمكن أن تعدل و تستكمل وفق الحاجيات..،و حسب ما يستجد من ظروف.
1- تقسيم العمل (Division du travail):الهدف من تقسيم العمل هو زيادة الإنتاجية، و جودة الإنتاج أيضا، دون زيادة في التكاليف.و يترتب على تقسيم العمل، التخصص المهام و الأعمال، و أيضا فصل السلطات و المسؤوليات ( قارن مع "آدم سميث"( تذكر:معمل الدبابيس)، و " فريدريك تايلور")؛
2- السلطة و المسؤولية (Autorité et responsabilité):السلطة هي الحق في القيادة (C'est le droit de commander)، و القدرة على فرض الطاعة( Le pouvoir de se faire obéir ).و يميز " فايول" ، بين " السلطة القانونية"، المستمدة من المنصب أو الوظيفة( L'autorité statutaire)، و السلطة الشخصية(L'autorité personnelle) التي يستمدها الإنسان من قدراته الشخصية ، كالذكاء، و المعرفة و الخبرة، و القدرة على القيادة ( و كل ما نعبر عنه اليوم بالكاريزما  Charisme).
و السلطة لا ينبغي أن تمارس دون مسؤولية، أي دون جزاء ( ثواب أو عقاب):فالمسؤولية، هي إحدى توابع السلطة.فالناس يسعون إلى امتلاك السلطة، و لكنهم يتهربون من المسؤولية، في حين لا ينبغي الفصل بينهما.
و صاحب السلطة ، ينبغي أن يكون حكما حكيما، و عادلا و صارما في نفس الوقت،و إلا فيخشى أن تؤدي ممارسة السلطات إلى عواقب وخيمة على المقاولة، فالسلطة - كما قال " مونتسكيو"(Monesquieu )(1689-1755) في كتابه " روح القوانين"( De l'esprit des lois)- تغري بالاستبداد؛
3- الانضباط(Discipline):يقصد " فايول" بالانضباط الطاعة  و المواظبة ، و النشاط ، و حسن الهيئة، و غير من المزاهر الخارجية، التي تؤشر على احترام العامل لمكان عمله و لرؤسائه و العاملين معه، وفقا للعقود التي تنظم العلاقات بين المقاولة و مستخدميها و العاملين فيها؛
4- وحدة الرئاسة أو القيادة (Unité de commandement):عندما يكلف العامل أو المستخدم بعمل معين، فلا يجب أن يتلقى الأوامر إلا من رئيس واحد.فإذا كان لرئيسين سلطة على نفس الشخص أو على نفس المصلحة،نصبح أمام ازدواجية للسلطة.و في كل الجماعات أو المجتمعات البشرية، صغيرة كانت أم كبيرة، كالأسرة ، و السفينة،و الجيش، و الإدارات الحكومية، و غيرها، تؤدي القيادة  المزدوجة(La dualité du commandement)، غالبا، حتى لا نقول دائما، إلى نزاعات قد تكون خطيرة أحيانا.و من هنا، ينبغي الحرص على إبقاء القيادة المباشرة، في يد شخص واحد، و ألا يتلقى العامل الأوامر من رئيس مباشر و آخر غير مباشر( متخطيا هذا الأخير،سلطات الأول)، أو أكثر من رئيس(و هو في هذا يعارض " تايلور"، الذي لم ير مانعا من أن يتلقى العامل الأوامر من أكثر من رئيس)؛
5- وحدة التوجيه (Unité de direction): هذا المبدأ يعني تعيين مسؤول واحد و برنامج واحد لكل مجموعة عمليات، ترمي إلى هدف واحد(Un seul chef et un seul programme pour un ensemble d'opérations visant le même but).
و لا ينبغي الخلط بين هذا المبدأ الذي يتعلق بالتنظيم(تقسيم الأعمال إلى مجموعات من الأفراد،و تحديد واجباتهم،و تحديد السلطة المسؤولة عنهم..)، و مبدأ "وحدة الرئاسة" الذي يرتبط بعلاقة الأفراد (احترام التراتبية و الاختصاصات)[4]؛
6- إخضاع المصلحة الخاصة للمصلحة العامة(Subordination de l'intérêt particulier à l'intérêt général):يعني هذا المبدأ ألا يفضل العامل أو الأجير في المقاولة، مهما كانت مكانته فيها، مصالحه الخاصة على مصالح المقاولة، عند تعارضهما؛
7- مكافأة العمال(Rémunération du personnel):إن مكافأة العمال، هو الأجر( الجزاء= الثمن، العوض) الذي يدفع لهم مقابل الخدمات التي يؤدونها للمقاولة. و يجب أن يكون هذا الأجر عادلا، يرضي قدر المستطاع الأجير، دون أن يضر بالمقاولة.
و مقدار هذا الأجر، يخضع لتأثير ظروف لا يتحكم فيها المقاول (أو المقاولون)، مثل غلاء المعيشة (التضخم=ارتفاع الأسعار)، و الوضعية الاقتصادية، و المنافسة بين العمال، و الظروف العامة للعمل، و طريقة أداء الأجر( على أساس وقت العمل أو على أساس انتاج العامل)..إلخ.
و ينصح " فايول"، بأن يراعى في مقدار الأجر، العناصر التالية[5]:
أ- أن يشكل مكافأة عادلة، قدر المستطاع؛
ب- أن يشجع العمال النشطين و المتحمسين؛
ج- ألا يتجاوز الحدود المعقولة.
8- المركزية أو اللامركيزية(Centralisation/décentralisation):يعني بهذا أن لرئيس المقاولة أن يختار بين أن يجمع مقاليد السلطة كلها بيديه، بحيث تكون كل القرارات و التعليمات، مهما كانت أهميتها، صادرة عنه.أو أن يفوض بعض سلطاته، حسب الظروف، و حسب نوعية و كفاءة و مؤهلات الأعوان و المستخدمين الذين يستعينون بهم، و حسب حجم و نشاط المقاولة( و يسهل معرفة ما إذا كان هناك مركزية أو لامركزية، و مستواها ، من خلال أسلوب التنظيم المتبع في المقاولة، و من خلال التنظيم الهيكلي organigramme)؛
9- التراتبية(Hiérarchie):هي الترتيب الهرمي للرؤساء، انطلاقا من أعلى الهرم (أعلى سلطة في الإدارة العليا)، إلى العمال الموجودين في أدنى مستوى عند قاعدة الهرم.
و يقول "فايول" أن هناك طريق تصل الأعلى بالأدنى، هي طريق التسلسل التراتبي (La voie hiérarchique )، و هو الطريق الذي تعبره الاتصالات، مرورا بكل بشتى الرتب، عندما تنطلق من أعلى نحو الأسفل، أو عندما تنطلق من الأدنى نحو الأعلى:هذا الطريق تفرضه حاجيات " ضمان الاتصال و التواصل"، من ناحية، و " وحدة القيادة" من ناحية أخرى.

و" فايول" يقر بأن الأخذ الصارم بهذا المبدأ،قد يبطئ أحيانا من سرعة  توصيل المعلومات من و إلى القيادة،إلاّ أن ذلك لا يعد مبررا- في نظره- لخرق هذا المبدأ؛ بل هذا العيب يمكن إصلاحه، بإيجاد طرق أو إجراءات أخرى،يمكنها أن تُسرّع عملية التواصل؛


المدير



رئيس القسم (2)                                                      رئيس القسم (1)
رئيس المصلحة (2)                                               رئيس المصلحة (1)


حسب مبادئ "فايول"، لا يمكن لرئيس المصلحة(1) أن يتصل برئيس المصلحة(2)، إلا من خلال المرور برئيس القسم (1)، و المدير،ثم من المدير نزولا إلى رئيس القسم(2)..وصولا إلى رئيس المصلحة (2).
صحيح أنه،اقترح أيضا وجود " جسر"(Passerelle)،بين رئيس القسم(1) و رئيس القسم(2)، أو بين رئيس المصلحة(1) و رئيس المصلحة(2)، و لكنه ربط وجود ذلك، بموافقة المديرين و الرؤساء، و بوجود انسجام و تعاون بين المستخدمين(راجع المبدأ:14).
10- النظام (L'Ordre): يتحدث " فايول" عن النظام في بعديه المادي و الاجتماعي، أي النظام الذي يتعلق بالمواد، و الآلات و ماشابه، و النظام الذي يخص العمال و المستخدمين، و من إليهم:
أ- نظام المعدات(L'Ordre matériel): كي يكون هناك نظام على مستوى المعدات و الآلات، يجب أن نخصص مكان لكل شيء، و أن يكون كل شيء في مكانه المخصص له، على أن يتم اختيار هذا المكان بعناية: و تطبيق النظام،على هذا الأساس، سيؤدي إلى تجنب الضياع في المواد و الوقت،و يحافظ على المعدات و الآلات( لاسيما إذا استكمل هذا النظام، بالحفاظ على النظافة)؛
ب- النظام الاجتماعي (L'Ordre social): كي يسود النظام الاجتماعي في المقاولة، يجب أن يحدد موقع(منصب، عمل، مهمة..) لكل أجير أو مستخدم، و أن يتواجد هذا الأجير في المكان الذي حدد له.
و النظام يفترض أيضا، أن يكون هذا الموقع مناسبا للعامل أو المستخدم الذي يشغله، و أن يكون العامل أو المستخدم مناسبا للعمل الذي أسند إليه(" الرجل المناسب في المكان المناسب)(The right man in the right place)؛
11- الانصاف (L'Equité):لتشجيع العمال، و حثهم على بذل جهود كبيرة في أعمالهم،و أدائها بإخلاص و حسن نية؛ لا بد من معاملتهم معاملة حسنة، تصون كرامتهم و تحترم إنسانيتهم؛
12- الاستقرار في العمل (La stabilité du personnel): تتجلى عبقرية "فايول"، و خبرته الواسعة، فإدراج هذا المبدأ في قائمته القصيرة، لأنه في نظري مبدأ هام جدا.و مفاد هذا المبدأ، عند "فايول"؛ أن تتاح للعامل أو المستخدم ،فرصة  للتعرف على طبيعة العمل المسند إليه، و ما هو مطلوب منه بالضبط، حتى يمكنه القيام به على أحسن وجه، هذا على افتراض أنه يملك المؤهلات و المهارات الضرورية المطلوبة لانجاز العمل المنوط به. ذلك أن نقل العامل من موقع(عمل=منصب، أو مهمة..)، إلى موقع آخر، قبل أن يعطى الوقت الكافي لانجاز مهمته أو عمله أو حتى يظهر قدراته و مهاراته،لا يسمح بالحكم على مؤهلاته ..و بالتالي،فلا شك أن ذلك يلحق به به، و بالمقاولة..ضررا كبيرا.
13- المبادرة(L'Initiative):إن إمكانية وضع الخطط و تنفيذها، هي ما يطلق عليه " فايول" المبادرة.و يدرج ضمن هذا المفهوم أيضا ، حرية " الاقتراح"،..و ينصح المديرين بإفساح المجال للمرؤوسين  لكي يشتركوا في التخطيط (أما التنفيذ، فهم مسؤولون عنه طبعا)( قارن مع فريدريك تايلور)؛
14- اتحاد المستخدمين (L'Union du personnel):" الاتحاد قوة"(L'Union fait la force)، هذا المثل،يقول " فايول"، يجب على كل مدير أن يتمعن فيه جيدا..،و يحرص على الاستفادة منه.ذلك أن توفير أجواء الانسجام ، و الاتفاق، و التعاون بين المستخدمين في كل مقاولة، يكون عاملا من عوامل قوتها.و من ثم يجب على كل مدير أن يحرص على ابقاء " الوحدة" بين المستخدمين، و إن لم تكن موجودة فعليه إيجادها، و أن يبتعد عن " سياسة فرق تسد"(diviser pour régner)،فهي لن تفيده في التحكم في العمال، بل على العكس، ستزرع بذور الشقاق و النزاع و الانقسام بين المستخدمين، مما يلحق أضرارا كبيرة بالمقاولة، قد يكون من الصعب معالجتها.
بل إن الثمار الطيبة لسيادة أجواء الانسجام و التعاون بين المستخدمين، يجب أن تغري المديرين، بالحرص على خلقها و توفيرها..،فهي ، على سبيل المثال لا الحصر، تخفف و تحد من الإجراءات الروتينية البيروقراطية ، فيما يتعلق بنقل المعلومات و تبادلها، و بالتالي يكثر الاعتماد على التواصل الشفوي أكثر من التواصل الكتابي، و تكون النتيجة الطيبة لذلك هي الربح في الوقت، و زيادة فعالية التواصل(لأن التواصل الشفهي يكون أكثر تفصيلا و وضوحا).
***
و الحاصل:
 بقي أن نشير، في الختام، إلى ملاحظتين، الأولى أن " فايول" وجه كلامه، من خلال هذه المبادئ،إلى المديرين، فهم الذي سيحرصون على تنفيذها، فهم المعنيون بتطبيق مبادئ النظام، و العدالة، و إنصاف العمال، و توفير الانسجام، و الحرص على الاتحاد..إلخ.
و الأخرى ، أن هذه المبادئ ،هي الأساس الذي أقيم عليه صرح " علم الإدارة" الكبير، كما نعرفه اليوم،..فلا عجب أن أطلق بعضهم على " فايول" اسم " الأب الحقيقي لنظرية الإدارة"(Le véritable père de la théorie du management): فعلى الرغم من من ريادة " فريدريك تايلور"(F.W.Taylor)، في مجال "علم الإدارة"؛إذ وضع حجر الأساس"للإدارة العلمية"، بوساطة كتابه (Principles of Scientific Management)؛إلا أنه كمهندس اهتم بالجوانب التقنية التي يصادفها المهندس أو المشرف على العمال (contremaître)- فلاحظ أهمية التخلص من الفوضى العارمة في مجال الأعمال، نتيجة الوقت و الجهود الضائعة،فاستنبط طرقا " نمطية" لإنجاز الأعمال، اعتبرها هي الطريقة الوحيدة و الأفضل -، في حين أن "فايول"، مارس القيادة من أعلى - كان مديرا عاما-، فرأى الأمور من زاوية المسؤوليات، و اتخاذ القرارات، و القيادة و التوجيه، و هي أعمال يصعب " تنميطها"- على عكس الأعمال التي قد يطلب من العمال القيام بها-، بل هي متغيرة..و تتطلب رؤية شاملة و كاملة للمقاولة[6].
لقد كتب" فايول"،كممارس محترف، فعكس خبرته الطويلة  كمهندس،ثم كمدير شركة ، في تلك المبادئ الأربعة عشرة،و التي بفضلها أصبح يحتل مكانة مرموقة، في تاريخ علم الإدارة. بل إنه منذ أن صاغ تلك المبادئ و إلى اليوم، قليل هو عدد العلماء و الخبراء و المهتمين الذين لم يتأثروا بها أو لم يكتبوا عنها.لا بل إن العناصر التي اعتبرها مكونة للوظيفة الإدارية- الوظيفة السادسة: أعني التخطيط،و التنظيم ، و القيادة،و التنسيق و الرقابة -،أصبحت تدخل في تعريف علم الإدارة كلها أو بعضها،و شكلت نظاما مفاهيميا، استعان و يستعين به المديرون لتكوين رؤية واضحة عن مهامهم و كيفية تنفيذها، و تحمل مسؤولياتها.

المراجع:
أولا- العربية:
1- د.محمد سعيد عبد الفتاح- الإدارة العامة؛
2- د.محمد عبد الوهاب- مقدمة في الإدارة؛
3- د.نبيل الحسيني النجار- الإدارة: أصولها و اتجاهاتها المعاصرة.
ثانيا- الفرنسية و الانجليزية:
1- M.Crener et B.Monteil-Principes de Management;
2-P.Labardin-L'essentiel de l'Histoire de la Gestion;
3-D.A.Wren,A.G.Bedeian and J.D.Beeze-The Foundations of Henri Fayol's administrative theory-in:http://www.emeraldinsight.com;
4- Jean-Louis Peaucelle- Présentation et commentaire du livre d’Henri Fayol Administration Industrielle et Générale-in:http://panoramix.univ.paris1.fr/IAEة
5-Md.Hasebur Rahman-Henry Fayol and Frederick Winslow Taylor's contribution to Management Thought :An Overview-ABC journal of Advanced Research ,Volume 1,N°2(2012)-in:Internet.

الهوامش:

[1][1]  إن " فايول" يرى أن الإدارة تمارس على مستوى كل عامل و كل مستخدم،فلك واحد منهم قد يشارك بنصيب كبير أو صغير في الإدارة، حسب المسؤولية الملقاة على عاتقه، و كلما ارتقى في سلم المسؤولية، كلما أصبحت حصته من الإدارة أكبر.قال في إحدى محاضراته:"Every employee in an undertaking ,then, takes larger or smaler share in the work of administration, and has , therefore , to use and display his administrative facultiesThis is why we often see men ,who are specially gifted, gradually rise from the lowest to the highest level of the industrial hierarchy.": D.A.Wren,A.G.Bedeian and J.D.Beeze-The Foundations of Henri Fayol's administrative theory-p908.                                                                              
[2] cité par: M.Crener et B.Monteil-Principes de Management-p66.
[3] لقد أوضح " فايول" أن الصفات المطلوبة في المديرين ( و غيرهم من العاملين و المستخدمين)، يجب أن تكون متكاملة ، بعضها جسماني و الآخر معنوي (عقلي و ثقافي و أخلاقي):
أ- القدرات الجسدية: يجب أن يكون المدير في صحة جيدة، و يتمتع بحيوية، و نشاط؛ و الاستعداد للعمل، في شتى الظروف..
ب-القدرات الفكرية:يجب أن يتمتع باستعداد للفهم، و التعلم من التجارب ،و التفكير السليم، و اتخاذ المبادرات، إصدار قرارات حكيمة، و وضع الخطط الاستراتيجية و التكتيكية ؛و أن يتمتع بالحيوية الفكرية و المرونة؛و التأقلم مع الظروف بسرعة..
ج- القدرات المعنوية:يجب أن يتمع بالطاقة ، و الجدية و الصرامة، و أن  يتحلى بالشجاعة الأدبية، فيتحمل مسؤولية الأعمال التي يقوم بها، و الإخلاص في العمل و التفاني فيه ، و نكران الذات؛
د-  الثقافة العامة: يجب أن يتوافر على معارف متنوعة، ليس لها بالضرورة علاقة بالعمل أو المهام التي يقوم بها..؛
هـ- الثقافة الخاصة:و من طبيعة الحال، يجب أن يتوافر على ثقافة عميقة في المهنة أو الوظيفة أو العمل الذي يقوم به، سواء كان تقنيا، أو تجاريا، أو إداريا، ..إلخ؛
و- الخبرة:يجب أن يتوافر المدير على خبرة، و هي المعرفة الناتجة عن ممارسة المهنة أو الوظيفة أو العمل..
و لقد أشار"فايول" أيضا، إلى أن الصفات التي يجب توافرها في العامل، هي تقنية (مهنية)، و تزداد الحاجة إلى القدرة الإدرية كلما ارتقى في السلم الإداري( يصعد نحو الإدارة العليا): و كلما كان الإنسان متعلما في المدارس و المعاهد التقنية، كلما سهل عليه ارتقى درجات السلم المؤدي، إلى مواقع صناعة القرار، في الوظيفة الإدارية.

[4]  و لتوضيح الفرق، نقتبس المثال التالي من " كروني و مونتاي"(Crener et Monteil): لنفرض أنه عندنا عملية بيع منتجات، أسندت إلى فريق من المستخدمين، يتكون من 14 فردا.و أنهم عندما نزلوا إلى الساحة،انقسموا بدورهم إلى فريقين، كل فريق من (7) أفراد، و على رأس كل فريق (رئيس).
فكل بائع، سيطيع أوامر رئيسه المباشر (فهناك وحدة في الرئاسة أو القيادة)، و لكن الجميع يتقيد بالبرنامج الذي وضعته السلطة التراتبية الأعلى، التي نظمت العملية أصلا( و إذن هناك وحدة التوجيه).:فوحدة الرئاسة، لا يمكن أن توجد دون وحدة توجيه.
[5]  و العمال، يمكن أن تحسب أجورهم ، بطريقة من الطرق التالية:
1- على أساس اليوم( Le paiement à la journée)، و عيب هذه الطريقة، أنها تؤدي إلى التكاسل و التهاون، و من ثم لا بد من استكمالها بمراقبة أو حراسة مستمرة للعمال؛
2- على أساس العمل المتفق عليه بشكل جزافي( Le paiement à la tâche)- و هو ما نسميه بالدارجة المغربية " العطش"-، و من عيوبه أنه يخفض مردودية العمال النشطاء الجيدين، و يدفعهم إلى التراخي في انجاز العمل(لأن المهم، في هذه الحالة،هو إتمام العمل، أما  متى ؟ و كيف؟ ينجز العمل ،فغالبا، ما تكونان عنصران ثانويان) ؛
3- على أساس القطع(Le paiement aux pièces)،أي عدد القطع التي ينجزها العامل.و من عيوب هذا الأسلوب أن العامل، بكمية ما ينتج، أكثر من اهتمامه بنوعية و جودة هذا الانتاج؛
و هذه الطرق الثلاث، يمكن دمجها و المزج بينها بشتى الأساليب، كما يمكن تحسين فعاليتها، بإضافة الحوافز و المكافآت المادية و العينية إليها:مثل المنح (primes)، أو المشاركة في الأرباح،أو مكافآت عينية أو تشريفية (أوسمة، و شهادات..).
تذكروا هذه الطرق..فسيكون لكم موعد آخر معها، في الفصل الثالث(مادة: قانون الشغل)، إن شاء الله تعالى.
[6] M.Crener et B.Monteil-Principes de Management-P.U.Q-p61 et suivantes.

السبت، 17 ديسمبر 2016

تطور المقاولة الصناعية منذ نشأتها إلى منتصف القرن التاسع عشر

تطور المقاولة الصناعية منذ نشأتها إلى بدايات القرن 19

تطور المقاولة الصناعية
مرت المقاولة الصناعية، بعدة مراحل و تطورات، منذ نشأتها (كمقاولة حرفية)، إلى أن صارت ( مانيفاكتورة)،في القرن 19؛و سنحاول، فيما يلي، التعرف على أهم هذه التحولات، مع الحرص على إبراز أهم الخصائص و التطورات التي ميزتها في كل مرحلة من هذه المراحل..

أولا: المقاولة الحرفية:

ظل الإنتاج الصناعي، و منذ أقدم العصور، يتم في إطار " صناعة الاكتفاء الذاتي"، حيث كانت الأسر( أو حتى العائلات)، تنتج معظم الأشياء التي تحتاجها:كانوا يزرعون أو يصيدون ما يلزم لغذائهم، و يصنعون ملابسهم، و أدواتهم و أوعيتهم البسيطة ( أواني الطبخ، و معدات العمل، و بعض الأثاث، و مواد البناء..إلخ): وبذلك كانت الأسر، تشكل وحدات اقتصادية، مغلقة، أما التبادل فنادرا ما كان يحدث.
و الذين كانوا يقومون بالتبادل (أو التجارة)،كانوا فئة قليلة من الصناع المحترفين، الذين أدركوا أن من مصلحتهم التخصص في بعض الأعمال، و تبادل منتجاتهم الصناعية مع الآخرين، للحصول على حاجياتهم التي لا يستطيعون إنتاجها.
إلا أن عددهم ظل محدودا ، طيلة العصور القديمة،و أغلبهم كان يزاول الصناعة، إلى جانب حرف أخرى كالزراعة،و كانت معظم منتجاتهم الصناعية، تتم تحت الطلب: كان الصانع يعالج المواد الأولية التي يأتي بها الزبون، و ينتج السلع التي يطلبها هذا الأخير، وفق المواصفات التي يحددها. و نادرا ما كان يعمل  من أجل البيع منتجاته في السوق المحلية القريبة من بيته ، لزبائن لا يعرفهم.
 و في نهاية العصور الوسطى، بدأ مبدأ " الاكتفاء الذاتي يتلاشى"رويدا رويدا،في أوربا الغربية بالخصوص.فازداد عدد الصناع،و بدؤوا يلعبون دورا كبيرا في النشاط الاقتصادي الأوربي.و رغم أن الزراعة مازالت تستحوذ على مكانة كبيرة في النشاط الاقتصادي حتى نهاية العصور الوسطى، إلا أن الأنشطة الصناعية و خصوصا التجارية، كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقا عريضا نحو الصدارة، التي ستبلغها بعد حين.
و الصناعة في هذه المرحلة، مازالت صغيرة و منزلية .و مازالت تتميز بنفس مميزات الصناعات القديمة،التي كان يمارسها الحرفيون الأحرار في أثينا أو روما،و أهمها اجتماع عناصر الإنتاج بين يدي شخص واحد، هو مالك المقاولة( مالك الرأس مال)، و هو مديرها، و هو العامل الوحيد أو الأساسي فيها.
و كانت مجالات هذا الاستغلال الحرفي، مازالت محدودة جدا، فأدوات العمل قليلة و بدائية، و لا وجود للآلات. و كان الرأسمال ضعيفا، يكفي لدفع كراء محل صغير لممارسة لعمل، و شراء بعض الأدوات و القليل من المواد الأولية. و كان العاملوون قلة، فالحرفي يعمل بنفسه، أو بمساعدة أسرته( الزوجة و الأبناء) أو عائلته ( الأب و الإخوة و الأصهار)،و بعض المساعدين من المعلمين المتدربين.
و كان الإنتاج الحرفي، في ذلك الوقت، خاضعا لنظام خاص، يحدد شروط الانخراط في المهن و الحرف المختلفة، و العلاقات بين أرباب العمل و العمال؛ و هو النظام التعاوني.و لا يتسع المجال هنا للحديث بالتفصيل عن هذا النظام، إلا أنه لأهميته، بالنسبة لهذه المادة و مادة " قانون الشغل " التي سيدرسها الطلبة في مرحلة لاحقة،نتناول هنا أهم أسسه، و التي يمكن تلخيصها في التالي:
كان جميع المشتغلين بمهنة واحدة في بلد واحد أو أكثر، يتكتلون و يؤلفون لأنفسهم رابطة( طائفة="نقابة") لها نظام قائم على التقاليد و العرف، و يرعى مصالح هذه الرابطة، الحاكم في المنطقة ( اقطاعي صغير أو كبير، أو حتى الملك) مقابل فوائد يجنيها منها (الرابطة).و هكذا،كان باستطاعة الرابطة تمنع- بتأييد من الحاكم في المنطقة- أن ينافسها أحد، أو ينتحل الصنعة من ليسوا من أبنائها. كما كان للرابطة محكمة مؤلفة من كبار معلمي الحرفة المحلفين، سميت (Jurande)،في فرنسا مثلا، وظيفتها: مراقبة أعمال جميع أعضاء الرابطة، و الإشراف على فحص الصناع و الحرفيين الجدد، و وضع القيود الصناعية ليرعاها أبناء المهنة في أعمالهم.
كان القصد من هذا التقييد، حصر العمل بأبناء المهنة فقط لمنع المنافسة، و إنتاج السلع و البضائع المتقنة من نوع واحد و جنس واحد و سعر واحد( و كان في هذا حماية للمستهلك ، من ناحية أخرى).
في هذه المرحلة من تطور الصناعة، كان الانتاج محدودا ، يتناسب مع عدد السكان القليل في القرون الوسطى الأوربية. و لذلك كان الصناع يهتمون بالكيف ( الجودة) أكثر من اهتمامهم بالكم ( و يشهد على ذلك التحف التي خلفتها العصور الوسطى).إلا أن ذلك الكم ،في الواقع،لم يكن كافيا لتلبية كل الحاجيات، و لا لتأمين نمو التبادل، و ازدهار الاسواق.
غير أنه،مع ازدياد عدد السكان،في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر، و تعدد و تنوع مطالبهم،لم يعد الإنتاج المحلي يكفي،كما ازدياد الاقبال على شراء السلع غير الكمالية (الأواني،و الأدوات، و الأقمشة..)، تلعب دورا تجاريا هاما. لا سيما بعد الاكتشافات الجغرافية، و تدفق المعادن النفيسة من  أمريكا على أوربا. و أيضا، مع عودة الاستقرار السياسي،خاصة بعد ظهور الدول القومية "الحديثة النشأة"، و إزالة الحدود التي كان قد وضعها نبلاء الإقطاع، عادت المدن لتزدهر من جديد، بل توسعت أكثر من ذي قبل، و أصبحت مراكز تجارية نشطة، و أسواقا يبيع فيها الحرفيون و المزارعون منتجاتهم.
و هكذا فقد بدأت النهضة التجارية،من الأسواق المحلية،التي كانت تقام قرب أو داخل المدن. والأسباب التي تفسر ذلك كثيرة، منها صعوبة النقل، و بالتالي عدم إمكانية انتقال السلع و الأشخاص، على نطاق واسع.بالإضافة إلى ذلك لم تكن الطرق سالكة و آمنة، و نضيف إلى ذلك أيضا تعدد و اختلاف الأنظمة القانونية، و الأعراف و التقاليد التجارية، من " إقطاعية" إلى أخرى.
و في البداية، لم يكن الحرفيون ينتجون إلا لهذه الأسواق المحلية، و غالبا تحت و حسب الطلب (sur commande)؛ إذ كانوا ينتجون فقط سلعا سبق طلبها و دفع ثمنها أو ضمن تصريفها سريعا،بوساطة تاجر وسيط،مقابل نسبة من ثمن البيع.و لا عجب في ذلك، فقد كان الاقتصاد، لا يزال اقتصاد احتياجات محلية معروفة و محدودة( و كان أغلب الحرفيين يوجدون في المدن، و لكن في الريف أيضا كان هناك حرفيون و صناع ، ينتجون بعض المصنوعات، في أوقات الفراغ فقط،لتحسين دخلهم، أو لتوفير منتوجات لدفع أقساط كراء الأراضي التي يستغلونها في الاقطاعية).
و قد نتج عن ذلك، عدم تخوف من تضخم السوق- (وجود سلع معروضة(عرض)، أكثر من الطلب عليها)-؛ إذ ظل الإنتاج متوافقا مع الاستهلاك، بل أقل من الاستهلاك في الكثير من السلع و الخدمات.و بالتالي فالتوازن الاقتصادي بقي كان متحققا.
إلا أنه لوحظ في نهاية هذه الفترة، أن نفوذ الحرفي، بدأ يتقلص مع توسع الأسواق الحضرية،و تحولها إلى أسواق وطنية، و أحيانا دولية، تجمع باعة و مشترين قادمين من أماكن بعيدة جدا( و أهم هذه الأسواق الدولية، كانت تقام في مقاطعة " شمبانيا"(Champagne) الفرنسية، الواقعة في الشمال الشرقي الفرنسي، عند تقاطع الطرق البرية الآتية من إيطاليا، و الذاهبة إلى هولنذا و بلجيكا الحاليتين).
و قد بدأ هذا التوسع التجاري، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، و السبب الرئيس في ذلك، هو زيادة الاتصال بين الناس ، و بين الحضارات، و يكفي أن نسوق هنا، الحروب الصليبية، التي شجعت التجارة بين أوربا و الشرق الأوسط،و بهذه الطريقة ربطت أوربا نفسها بآسيا و إفريقيا أيضا، بوساطة التجارة الإسلامية. و لقد استفاد الإيطاليون، من هذه العلاقات التجارية،فبنوا أساطيل عظيمة،في أغلب مدنهم الجنوبية مثل جنوة، و بيزا، و البندقية.كما شقوا طرقا برية، نحو شمال أوربا أيضا.فأرسلوا السفن عبر البحر، و القوافل عبر البر، تحمل السلع الأسيوية و الإفريقية و العربية و الأوربية، من منطقة أوربية إلى أخرى.
ثم ما لبث هذا التوسع التجاري المتصاعد و المتمدد عبر القارات، أن عرف دفعة "جبارة" أخرى ، بل غير مسبوقة،نتيجة الاكتشافات الجغرافية لما وراء البحار في القرن الخامس عشر. و نتيجت لهذه الاكتشافات أقيمت طرق دولية أخرى للتجارة، بين أوربا و افريقيا و الهند و جنوب الشرق الأسيوي، مباشرة، و دون الحاجة إلى الوسيطين الإسلامي و الإيطالي:و بذلك تحول مركز التجارة الدولية من البحر الأبيض المتوسط( الشرق العربي و إيطاليا)، إلى الدول الأوربية المطلة على المحيط الأطلسي ( إسبانيا، و البرتغال، و فرنسا، و انجلترا، و هولندا)[1].
و نتيجة لهذا التوسع، منافس قوي للحرفي هو التاجر الوسيط.في الواقع لقد كان هذا التاجر موجودا، و لكن إمكانياته المالية(رأسماله)، و مجال عمله كان محدودا، فقد كان يحصر نشاطه في المجال المحلي.أما الآن، فنحن أمام وسيط من نوع آخر، له إمكانيات أكبر، و مجال نشاطه يشمل الوطن كله، بل يمتد إلى الأسواق الأجنبية أيضا:يشتري كميات كبيرة من المنتجات المحلية و الوطنية، و يعيد بيعها في أسواق أخرى وطنية أو أجنبية.
و من هنا،و كي يستفيد من الإمكانيات التي يتيحها له هؤلاء الوسطاء، في بيع منتجاته بكميات أكبر؛ انتقل الحرفي،ليوسع نشاطه هو الآخر و ينميه، من الورشة او " المصنع المنزلي"، إلى محل أو ورشة أكبر، يستطيع أن يمارس فيه أنشطة أكثر، و يجمع فيه عدد أكبر من العمال و المساعدين، و المواد الأولية،..إلى غير ذلك مما يحتاجه في عمله.
و هكذا، توافرت الظروف للانتقال من الانتاج الحرفي الضئيل،الذي كان يتم تحت الطلب، لتلبية حاجيات الجيران أو الاصدقاء أو العائلة..أو غيرهم من الزبائن المعروفين، إلى الإنتاج الضخم، الموجه للأسواق الكبيرة( بمقاييس ذلك الزمن طبعا).غير أن الحرفي، أصبح تحت " رحمة " التاجر الوسيط.ثم ما لبث هذا المقاول في التجارة أن تحول إلى "مقاول في الصناعة أيضا"، فأثبت أنه منافس قوي للحرفي الصانع، و سرعان ماقضى على استقلاله، و حوله إلى " أجير عنده"، كما سنرى فيما يلي.هذا من جهة.و من جهة أخرى؛فقد نتج عن هذا التطور الذي طرأ على "حجم الصناعة الحرفية" و توجهها نحو "الأسواق الوطنية و الدولية" ، إشكالية عويصة، تمثلت في أن المنتج لم يعد يعرف هوية الزبون، و لا حاجياته الحقيقية:و بالتالي، استعصى عليه أن يعرف ماذا ينتج؟ و كم ينتج؟ و متى ينتج؟
و هي أسئلة، سيتصدى علماء الاقتصاد للإجابة عنها، ابتداء من " المركنتيليين"، و مرورا بالكلاسيكيين ، و وصولا إلى الكلاسيكيين الجدد ( النيو كلاسيكيون= الحديون)، و سنرى كيف فعلوا ذلك في المحاضرات( و في هذا العرض أيضا، سنرى كيف أجاب الكلاسيكيون، على هذه الأسئلة).
و مهما يكن الأمر، فإن هذا التحول الذي طرأ على المقاولة الصناعية الحرفية،يعتبره معظم مؤرخي الاقتصاد، "ثورة حقيقية"، دفعت بالصناعة الحرفية خطوة كبيرة إلى الأمام،و جعلتها تصل إلى تحقيق ثورة أخرى، هي الثورة الصناعية الكبرى، في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر.
و الجدير بالذكر هنا، أن المؤرخين الماركسيين، يرون أن هذا التطور الذي حدث ، لم يحصل نتيجة الدور الذي قام به التاجر الوسيط فقط، بل شارك فيه الحرفيون أنفسهم، إن لم يكونوا هم الذين تحملوا العبء الأكبر منه. ذلك أنهم بفضل ما استطاعوا مراكمته من رأسمال،اتجهوا نحو التجارة، ليستفيدوا من توسع الأسواق، فبدأوا بتنظيم نشاطهم على أسس رأسمالية -(تأجير العمال، والإنتاج للسوق، من أجل تحقيق الربح، و إعادة استثمار الأرباح في الانتاج..)- متحررين بذلك من قيود الطوائف (الرابطات الحرفية، التي تحدثنا عنها أعلاه).
إن هذه العملية التي وصفها " كارل ماركس"، بـ " الطريق الثوري حقا"، هي التي أدت، في نظره، إلى نشأة الرأسمالية التجارية ( الماركنتيلية)، فكانت بذلك هي " جنين العلاقات الانتاجية الرأسمالية"، التي ظهرت ضمن المجتمع الإقطاعي، و التي ستستغرق سنوات طويلة- عدة قرون في إنجلترا مثلا- حتى تنضج..و تعطينا الثورة الصناعية..و بالتالي الرأسمالية الصناعية.
و لو حاولنا، أن نلخص أهم مميزات المقاولة الحرفية، التي امتدت من بداية العصور الوسطى إلى ما قبيل الثورة الصناعية، ماذا يمكن أن نقول؟
خلال العصور الوسطى، بدأت تتشكل المعالم الأولى للمقاولة الحرفية الصناعية، و التي كانت تهدف في البداية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي: المهم هو تدبير الحاجيات اليومية،أما فكرة البحث عن زيادة الثروة، بتحقيق الأرباح، فلم تكن مطروحة ، في هذه المرحلة من تطور المقاولة الحرفية الصناعية.
و لقد ارتبط هذا النوع من المقاولة، بالصناعات التقليدية المنزلية، التي تنتج المنتجات الضرورية للأسرة أو العائلة ( أو الجيران )، تحت إشراف رب الأسرة ، الذي كان هو رئيس العمل( المُعلم =  Le maitre ) ، و هو المسير، و هو صاحب رأس المال.
و رغم أن هؤلاء الحرفيين، كانوا في معظمهم "هواة"،و أعني بالضبط الحرفيين الذين كانوا يمارسون أعمالهم في الأرياف. إلا أن المحترفين منهم، و الذي كانوا يزاولون نشاطهم في المدن، توافروا على مؤهلات و مهارات و خبرات تؤهلهم للعمل، إذ كانت هناك "طوائف أو نقابات"، تنظم المهن، و تحرص على حسن سير العمل، و تتقاضى منهم "إتاوات و ضرائب"، لحمايتهم،يؤدى جزء منها للملك أو النبيل الإقطاعي، و تحتفظ النقابة المهنية التي ينتمي إليها الحرفي ، بالباقي.

أ- تنظيم المقاولة الحرفية:

كانت المقاولة الحرفية، صغيرة الحجم، و لا تتطلب فضاء أو مساحة كبيرة :كانت غرفة كبيرة في المنزل، أو جناح منه، يكفي لهذا الغرض.
و كان المقاول الحرفي ، يملك المكان، في الغالب، و يملك كل ما فيه من أدوات و معدات و مواد أولية، كما أن كل العاملين فيه، كانوا يعتبرون " ملكا له"، باعتبارهم أفراد أسرته: لقد كانت الفكرة السائدة عند هؤلاء الحرفيين، هي أن يكون المشروع مملوكا للأسرة وحدها،و يجب أن يبقى منحصرا فيها. و لذلك لم يلجؤوا إلى اقتراض الأموال من خارج الأسرة،بل لم يستعينوا بالعمال من خارج العائلة ، و إن فعلوا فسرعان ما يعملوا على إدماجهم في الأسرة، بطريقة أو أخرى(  و يشجع على ذلك، العلاقة الأبوية التي تنشأ بين المعلم و العمال الذين يتدربون عنده،فيبقى ولاؤهم دائما لمعلمهم، و يصعب عليهم الانفصال عنه ).

ب- تنظيم العمل فيها:

إن تنظيم العمل،كان يعتمد على تراتبية (هرمية)، من ثلاث مستويات أو درجات، تكاد تكون نسخة طبقة الأصل من النظام الاقطاعي (الفيودالي):في أعلى الهرم، يتربع المعلم، بسلطاته الواسعة، التي لا يحد منها، إلا سلطات النقابة، و الإقطاعي.بعده، في الدرجة الثانية، يأتي الرفيق أو الزميل( Le compagnon)، ثم في الرتبة أو الدرجة الأخير نجد المتعلم (L' apprenti ).
فلقد كان المتعلم يلتحق بالحرفة، و هو صغير السن،فيربى و يتعلم في أحضان أسرة المعلم، كما لو كان واحدا منها، فيتلقى تكوينا حرفيا، يتعرف من خلاله على أسرار المهنة، و قد يستغرق ذلك مدة عشر سنوات.و بعدما يصبح مؤهلا للمارسة الحرفة، يصعد إلى الرتبة الأعلى، أي يصبح "رفيقا" للمعلم، فيصير بإمكانه امتلاك أدوات العمل الخاصة به، و لكن انتاجه يحسب في مصلحة المعلم.و لا يسمح له بأن يصبح" معلما" مستقلا بعمله ، و له أن ينشيء مقاولته الخاصة ، إلا بعد ان يجتازا امتحانا،يثبت فيه مهاراته و قدراته،قد يتمل في الغالب في انجاز عملا " استثنائيا" أو " تحفة"( Chef- d'oeuvre )[2].

ج- صناعة القرار فيها:

لست في حاجة إلى القول، بعدما عرفنا المكانة الخاصة التي يتمتع بها " المعلم"، أن كل قرارات الإنتاج تعود إليه: فكل العمليات تنطلق من المعلم، و تتم تحت مسؤوليته، ابتداء من  تسلم الطلبيات -و التي قد تكون كثيرة و متميزة جدا[3]، إذا كان هذا المعلم قد نال شهر واسعة في مجال عمله-،إلى وضع التصورات الأولى لتنفيذها، مرورا باقتناء المواد الأولية،و وضع التطورات موضع التنفيذ، و انتهاء بتسليم البضاعة إلى طالبها[4].

ثانيا:المانفكتورات

في ظل نظام الصناعة المنزلية، كان الحرفي مازال يملك أدواته التي يستعملها في العمل ( وسائل الإنتاج)، و يعمل بنوع من الحرية في ورشته الصغيرة أو الكبيرة نسبيا، و ينظم عمله باستقلال نسبي عن التاجر الوسيط( الذي كانت إمكانياته محدودة، و مجال نشاطه محليا، بالأساس).
كل هذا الكلام ، ليس إلا تذكير بما قلنا أعلاه..و قلنا أيضا، أنه مع توسع الأسواق التجارية، و ازدياد الطلب على السلع- مع ظهور الدول الوطنية، و استقرار الأوضاع، و أيضا نتيجة الاكتشافات الجغرافية..إلخ-،سيفقد هذا الحرفي استقلاله، و سوف ينتقل من وضعية المقاول ( الصغير) إلى وضعية المقاول "الأجير"، الذي يتلقى أجرا من التاجر الوسيط، و يتلقى منه أوامر عن العمل:كيف و متى يعمل..و ماذا و كيف ينتج..و ربما يمده بأدوات العمل..و بالمواد الأولية خصوصا.
و بالفعل، فإن التاجر الوسيط، أو فلنقل المقاول التاجر- و هو الأصح- ، الذي كان يمضي جزءا من وقته متنقلا بين المنازل، حتى ينظم و ينسق عمليات الإنتاج، ثم يتسلم المنتجات، ليعمل على تسويقها؛وجد أنه من الأفضل بالنسبة له، أن يجمع كل المتعاملين - حتى لا نقول العاملين معه- في مكان واحد.فالمقاول التاجر، الذي كان يحترف بيع الملابس الصوفية مثلا، و كانت تصنع باليد غالبا حتى منتصف القرن الثامن عشر، كان يشتري الصوف من أصحاب الماشية، ثم يعهد به إلى رجال في قرية معينة لينظفونه، و آخرين - في نفس القرية أو غيرها- أن يغزلونه،و آخرين ينسجونه، و آخرين يهذبونه، و يصبغونه..ثم يحمل الملابس الصوفية،بعدما اكتملت صناعتها، ليبيعها إلى أصحاب المحلات في المدينة، أو التجار الدوليين..
إن هذا المقاول التاجر، مالبث أن أدرك أن من مصلحته أن يؤسس - يبني أو يشتري أو يكتري- ورشة كبيرة (مانيفاكتورة)(manufactures)، يجمع فيها كل الحرفيين الذين يحتاجهم.و لأن العقارات في المدن، كانت مرتفعة الثمن،هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، كان أغلب العمال من الريف، كما أن معظم المواد الأولية كانت تأتي من الريف؛ فقد خرج هذا المقاول بصناعته اليدوية، من المدن الإنجليزية إلى الريف.
و مع هذه المانيفاكتورات الكبيرة نسبيا، ظهرت الحاجة إلى الاستعانة برؤوس الأموال الضخمة، نسبيا.فتمت الاستعانة بنظام الشركات، إذ بدون ذلك كان سيصعب تجميع الأموال الكافية لشراء الآلات، و الأراضي التي ستقام عليها ورشات العمل، و دفع أثمنة المواد الولية، و أجور العمال..إلخ، في المراحل الأولى من الإنتاج ( أي قبل بيع المنتجات)، أي قبل أن تصبح الناعة قادرة على تمويل نفسها بنفسها.
و يعتقد كثير من المؤرخين، أن هذا النظام في التمويل- الشركات- ، قد حصل ابتداء من  القرن السادس عشر على الأقل،و امتد بعد ذلك، بشكل تصاعدي، لاسيما بعيد بدأ الثورة الصناعية( على تفاوت بين المناطق و الدول).
و لقد كانت المانيفاكتورات، حتى في هذا الوقت المبكر نسبيا، تتوافر على كل الخصائص التي طبعت لاحقا المقاولات الحديثة،بل و المعاصرة أيضا، على الأقل إذا نظرنا إليها من ناحية ملكية رأس المال:لقد أصبح هناك فصل بين رب العمل و العمال، فلم يعد رب العمل هو ذلك الشخص الطبيعي الذي يعرفه العمال عن كثب، بل أصبح شخصا معنويا، هو الشركة. و رأيسهم في العمل، مجرد أجير مثلهم..، و إن كانت مصالحه مختلفة، في الكثير من الحالات، عن مصالح العمال و عن مصالح الشركة أيضا..
بالإضافة إلى ذلك، بل قبل ذلك، لقد أدى تحول المقاولة " الحرفية" من العمل تحت الطلب، إلى العمل الموجه للسوق، أن أصبحت خاضعة لنظام السوق، و قوانين العرض و الطلب..
و بالفعل، فلقد أصبحت المقاولة الآن رأسمالية، لا تعمل لتلبية حاجيات " المقاول الفليلة"،بل من أجل تحقيق الربح..و لتحقيق أرباح كثيرة ، يجب عليها أن تنتج كميات كبيرة. و لكن السؤال الذي أصبح يفرض نفسه على المقاول التاجر الرأسمالي هو: كيف يمكن التوفيق بين الانتاج مع احتياجات السوق؟ و من يعرف بالضبط احتياجات السوق؟ من سيشتري منتجاتنا؟ و كيف نحدد أسعارها؟ كيف نتغلب على المنافسين؟..؟
ففي ظل الاقتصاد الطبيعي  المغلق، في أزمنة ملاك العبيد، أو في العهد الإقطاعي، كانت المشكلة منحلة؛ إذ كان الحرفي الحر ينتج وفق الطلب، و لزبائن معروفين: فكان الحرفي العبد، في العهدين اليوناني و الروماني، ينتج لتلبية حاجيات مالكه.و كان القِن(عبد الأرض) ينتج لأسرته و للسيد الإقطاعي، في العهد الإقطاعي( الفيودالي).
أما، في ظل اقتصاد رأسمالي، يعتمد على السوق، فقد أصبح الانتاج يوجه إلى زبائن افتراضيين، و مجهولين لدى المقاول التجاري، في الكثير من الحالات.فلو طرح عليه سؤالا من نوع: كم من البضائع تنتج؟ و ما هو الثمن الذي سيدفع لك مقابلها؟ ..لما أمكنه الجواب، بشكل دقيق..
هنا، جاء علماء الاقتصاد، ابتداء من أمثال "آدم سميث"، ليقولوا  بأن الجواب على هذه النوعية من الأسئلة، لا تتوافر عند المنتج، بل السوق هو الذي يحددها.كيف؟
يقول "آدم سميث" ، مثلا، و تابعه على ذلك الكلاسيكيون و حتى الكلاسيكيون الجدد،أن السوق- و هو عبارة عن مجموعة من المتعاملين في سلعة واحدة، وحداتها متماثلة كل التماثل- هو الذي يتيح التقاء العرض (عرض السلع ) بالطلب (طلب تلك السلع)،وفق "قوانين" السوق، أو وفق قوانين العرض و الطلب.
فما هي أهم مقتضيات هذه "القوانين"؟( و بالمناسبة،فالكلاسيكيون، يعتبرون هذه القوانين جزء من النظام الطبيعي (L'ordre naturel)، الذي خلقه الله، و بالتالي فهي قواعد " أزلية"..لا تتغير).
تقضي هذه القوانين، بأنه إذا كان حجم الانتاج من البضائع و السلع غير كاف،مثلا من الملابس الصوفية، لتلبية حاجيات الطلب (عليها)، ارتفع ثمنها، نتيجة التنافس بين الناس و رغبتهم الشديدة في الحصول عليها(غير أن هذا الطلب، لا يحسب إلا إذا كان أصحابه قادرون على دفع الثمن الذي يحدده السوق).و عندما يرتفع الثمن، ترتفع أرباح المنتج (صاحب العرض= الذي يصنع هذه الملابس الصوفية).هذا الربح، سرعان ما يحمل مقاولين آخرين على الدخول إلى هذه السوق(إنتاج الملابس الصوفية)، لعرض بضاعتهم. و بدخول هؤلاء المنتجين، و أيضا نتيجة تزايد الطلب على سلع المنتج أو المنتجين الموجودين أصلا في السوق،يزداد الطلب على اليد العاملة (لاسيما الماهرة في غزل و نسج الصوف..)، و على الرأسمال للتوسع في الانتاج (شراء آلات، و شراء مباني و عقارات..). و يزداد كذلك الطلب على المواد الأولية التي تستعمل في هذه السوق الرائجة،..فيتم جذب كل هذه العناصر من حرف و أنشطة أخرى( أي أسواق أخرى).و تكون النتيجة ..هي انخفاض أسعار الملابس الصوفية.
و عندما تنخفض أسعار الملابس الصوفية، فإن أرباح منتجي هذه السلعة، تنخفض، مما يجعلهم يخفضون من إنتاجهم ( العرض)، بل إن بعضهم قد ينسحب من السوق، فيتجه إلى انتاج سلع أخر؛ فتكون النتيجة هي تقلص العرض من الملابس الصوفية، قياسا إلى الطلب عليها،فتعود أثمانها للارتفاع من جديد.
و هكذا،فإن أسعار أي سلعة، تميل في السوق الحرة- المطبوعة بالتنافس- ، تميل إلى التذبذب حول القيمة الحقيقة للسلعة- و هي تكلفة الإنتاج في المدرسة الكلاسيكية-، إلى أن تستقر على وضع يتحقق فيه الثمن المناسب( الطبيعي)، الذي يرتضيه الجميع.
و هكذا،فإن السوق الحرة،و عن طريق آليات المنافسة الحرة هي الأخرى، تعمل على تخصيص و توزيع الموارد الاقتصادية( الموارد الطبيعية، و اليد العاملة، و الرأسمال)على مختلف المجالات، بما يخدم مصلحة الاقتصاد.





[1]   " في القرن الخامس عشر و السادس عشر سيطرت إسبانيا و البرتغال على التجارة العالمية،ثم إنهما فقدتا هذه السيطرة في القرن السابع عشر، فخَلَفهم الهولنديون في هذا الميدان.و في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت الثورة الصناعية في إنكلترا ثم امتدت إلى فرنسا ( بعد عام 1830)، فانتقل زمام التجارة العالمية إلى بريطانيا و فرنسا، و اشتد الصراع التجاري بين الدولتين، فكُتبت الغلبة آخر الأمر للبريطانيين..": موسوعة المورد- المجلد الثالث- مادة " التجارة"- ص 64.
[2]  "..و كان النظام الطائفي في أول الأمر يفسح أمام جميع الرفقاء باب الارتقاء إلى رتبة معلم حيث يرتقي إليها من يثبت جدارته. إلا أنه ابتداء من القرن السادس عشر، أصبح الارتقاء إلى رتبة معلم يزداد صعوبة إذ أصبحت هذه المرتبة محتكرة بين أيدي بعض العائلات التي تتوارثها ابنا عن أب...":د.موسى عبود- دروس في القانون الاجتماعي- ص 19.
[3]  فقد يكون صاحب الطلبية أميرا أو ملكا..أو شخصا له نفوذ و سلطان.
[4]  هذا النوع من المقاولات الفردية، أو التي يحتكر فيها شخص واحد كل المهام، مازلنا نعثر عليها إلى يومنا هذا، و تتمثل ، على سبيل المثال، في المحلات التجارية الصغيرة، و بعض الحرف التقليدة ( إسكافي ، حداد، بائع الخضر و الفواكه..).