الثلاثاء، 24 مارس 2020








المبحث الخامس:حدود التشريع الجبائي
تملك السلطة التشريعية - سواء كانت ممثلة للمجتمع كله، أو لبعضه فقط - ،سلطة واسعة في سن الضرائب، من حيث المبدأ العام.غير أنه من الخطأ الاعتقاد أن هذه السلطة مطلقة؛ بل هي مقيدة بقيود كثيرة، تفرضها على المشرع الجبائي بعض الظروف و الملابسات التي تجتازها الدولة، أو الأحوال التي يمر منها المجتمع، أو بعض الحسابات التي تفرضها توازنات القوى السياسية أو الاجتماعية الداخلية، أو حتى القوى الأجنبية.
 و إذن؛ فالمشرع الجبائي، يجد نفسه مطالبا بمراعاة ، مجموعة من المعطيات، و أخذ مصالح الكثير من الفئات بعين الاعتبار، عند سن أي قانون جبائي جديد أو تعديله.و بتعبير آخر، فالسلطة المخولة للمشرع الجبائي، مقيدة بحدود، لا يمكنه تجاوزها، دون أن يثير اعتراض أو احتجاج، أو حتى تمرد فئة أو فئات اجتماعية متضررة، من تلك التجاوزات[1].هذه الحدود و القيود، هي ما سنحاول التعرض لأهمها،فيما يلي:
1- إن المشرع الجبائي، هو في حقيقته حامل إيديولوجيا سياسية(= حزب سياسي )، يسعى لتطبيقها، بما يقوي موقعه السياسي، و مواقع حلفائه،و إضعاف خصومه(=السياسيين). و من طبيعة الحال، فهو يعمل على تغطية كل أهدافه (الخاصة)، بغطاء المصلحة العامة، حتي يسهل عليه " تسويقها" لدى الرأي العام.و قد تكون أهداف المشرع الجبائي مطابقة للمصلحة العامة، و قد لا تكون،فهو يجد نفسه في الكثير من الأوقات حائرا بين خيارين:  ترجيح كفة المصلحة العامة أم مصلحة الحزب ( و الحلفاء)؟(هذا ان كان يفكر اصلا،و إلا فهو في الغالب، يتبع طريق مصلحته الخاصة..دون تفكير).
و عموما، فالمشرع الجبائي، عندما يريد سن قانون جبائي، يجري حسابات كثيرة، و يحاول أن يرضي أكثر من طرف، حتى و إن كانت له الأغلبية داخل البرلمان، فالحكم لا يعتمد على الشرعية( Légalité=الحكم وفقا للقانون) فقط، بل على المشروعية ( = Légitimité رضى المحكومين) أيضا. من هنا، يلاحظ أنه في الكثير من الأحيان، تمضي الحكومات الديمقراطية، قدما في مشاريعها، غير ملتفة إلى المعارضة،  عندما تكون واثقة من أن مشاريعها تخدم المصلحة العامة، أو مصالح الأغلبية العظمى من المواطنين.
 و لكن ، عندما يكون موقع المشرع الجبائي ضعيفا داخل البرلمان، أو يكون مشروعه الجبائي ضعيفا ، و لا يحظى بتأييد الرأي العام ( تنقصه المشروعية)،فإنه يضطر إلى الدخول في مساومات و مفاوضات ، مع المعارضين داخل البرلمان و خارجه[2]. و غالبا ما تتدخل الحكومة- الذراع التنفيذي للمشرع الجبائي، بل و صاحب المشروع الحقيقي- في هذه العمليات؛ فتستعمل مختلف أساليب الوعيد و التهديد، و الشد و الجذب، لتمرير مشروعها بسلام[3]، و تحويله من مجرد إيديولوجيا سياسية(مجرد فكرة) إلى قانون(واقع..ينفع و يضر). و في معظم الأحيان، تنتهي العمليات التفاوضية، بصفقات من نوع "رابح- رابح"،يتم من خلالها الحفاظ على مصالح الحكومة(صاحبة مشروع القانون الجبائي)، و مصالح الأطراف الأخرى( اللوبيات الاقتصادية و الاجتماعية، و الأحزاب، و النقابات،..إلخ)؛
2- و من الحدود التي تقيد المشرع، هناك القيود المتعلقة بالشروط الاقتصادية، التي يفرضها على المشرع الجبائي، طبيعة النظام الاقتصادي، الذي ينتمي إليه النظام الجبائي(و هذه قضية، ناقشنا جانبا منها، في مبحث سابق).ففي النظام الرأسمالي، الذي يستند على الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج و إلى النشاط الاقتصادي الخاص، و إلى البحث عن الربح..إلخ، لا يمكن للمشرع أن يسن من الضرائب إلا ما يتلاءم مع هذا النظام،فالضرائب التي تسن في ظل هذا النظام،إذن، يجب أن تترك للخواص القدرة اللازمة لإشباع حاجياتهم الشخصية و العائلية، و تترك لهم أيضا القدرة و الحرية على اتخاذ المبادرات لتمويل مشاريعهم الاستثمارية،كما لا يجب أن تضر بالباعث على الادخار..و عموما، يجب أن تترك لهم قدرا من الأرباح لتحريك كل بواعث الاستهلاك و الادخار و الاستثمار؛
3- و مما يرتبط بهذا، و ينتج عنه، حد آخر يتمثل في عدم قدرة المشرع على اختيار ما يشاء من التقنيات الجبائية:فقد يرسم خطة سياسية،و يحاول أن يستعين بالضريبة لتحقيقها، ثم لا يلبث أن يكتشف بأنه مقيد بقيود تقنية، قد تهدد سياسته بالفشل.فقد يسعى ، مثلا ، للحد من الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية ، عن طريق الضرائب ذات الأسعار التصاعدية،إلا أنه سرعان ما يكتشف أنه لا يمكنه فرض أسعار عالية جدا؛لأنه إن فعل، قد تعتبر خطوته تلك- من طرف خصومه السياسيين، و من طرف الملزمين أنفسهم- مجرد مصادرة للثروات و الدخول، و من ثم تصبح عائقا أمام الاستثمارات الخاصة، و قد ينتج عن ذلك بطالة، و تزداد بالتالي أوضاع الطبقات الاجتماعية الهشة- التي كان المشرع يريد حمايتها-،سوءا؛
4- و من أهم الحدود التي نصادفها في بعض النظم الدستورية،أن البرلمان لا يملك إلا صلاحيات محدودة في مجال التشريع عامة، و التشريع المالي و الجبائي خاصة ؛و ذلك بمبررات منها أن الضرائب تسن لتغطية النفقات العامة، أو بتعبير آخر، للإنفاق على البرامج الحكومية، و من ثم فإن الحكومات هي الأعرف بحاجياتها. كما أنها ،بحكم تحكمها في الإدارة و معرفتها بظروف المجتمع، و ملابسات تطبيق القوانين ؛ هي الأقدر على جباية الضرائب و تحصيلها ، كرها أو طوعا :من هنا، منحت الحكومات ، في هذه النظم الدستورية كالنظامين الفرنسي و المغربي، امتيازات خاصة فيما يتعلق بتقديم مشاريع القوانين الجبائية و تعديلها( و لقد تحدثنا عن هذه القضية الهامة في المحاضرات، و لن نكرر ما قلناه هنا[4]
5- هناك حد آخر، يتمثل في حدود " السيادة التشريعية"، على الملزمين:فكل برلمان له من حيث المبدأ، سيادة كاملة في التشريع ، تجاه جميع المقيمين على إقليمه ، و على المواطنين الذين يحملون جنسيته ، حتى و إن كانوا خارج الإقليم.إلا أن المبدأ، يخضع لحدود، عندما يتعلق الأمر بالتشريع في المجال الجبائي.و لتنظيم هذه الحدود، تم الاتفاق- بين المشرعين و القضاة و الفقهاء، عبر العالم- على وضع معيارين ، لتحديد" نطاق تطبيق القانون الضريبي":
أ- المعيار الأول،هو معيار إقليمية الضريبة(و يسمى أيضا معيار الإقامة الدائمة)[5]:فبعض الدول ترى أن من حقها تضريب جميع المداخيل التي تحقق داخل حدود إقليمها، مهما كانت جنسية الشخص ( الطبيعي أو المعنوي)، الذي يستفيد من ذلك الدخل،مادام مقر إقامته أو مركزه الرئيسي(بالنسبة للشخص المعنوي)، يوجد داخل حدود  البلد[6]؛
ب- المعيار الآخر، هو معيار جنسية الملزم:فبعض الدول تفرض الضرائب على مواطنيها (الذين يحملون جنسيتها)، بغض النظر عن مكان إقامتهم .
و لأن الأخذ بهذين المعيارين في نفس الوقت ، يؤدي إلى الازدواج الضريبي،الذي تحرص الدول على تجنبه و التغلب عليه- بواسطة الاتفقيات الثنائية، و المتعددة الأطراف، عندما يكون دوليا-؛فإن المشرع الجبائي يأخذ إما بمعيار الإقامة أو معيار الجنسية(راجع المدونة العامة للضرائب: المواد 5 و 23 على سبيل المثال)[7]،كما يحرص على ملاءمة تشريعاته الجبائية، مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة؛
6-إن القوانين الجبائية نفسها، التي يصدرها المشرع الجبائي، قد تصبح أول القيود التي تحد من صلاحياته في المستقبل:فهي  تكتسب حصانة بمجرد إصدارها؛ فتصبح واجبة التنفيذ،و لا يمكن تعطيلها أو التضييق على تنفيذها،بطرق مباشرة(كإلغائها)، أو غير مباشرة كتعديلها بقرارات للسلطة التنفيذية أو القضائية، بدعوى أنها مخالفة للدستور مثلا[8].إلا أنه، قد يصعب على المشرع الجبائي نفسه إصلاحها:فخبراء الضرائب يؤكدون أنه من الصعب القيام بإجراء إصلاح شامل للنظام الجبائي؛لأن الممارسات الجبائية إذا ترسخت يصعب اقتلاعها، و إحلال ممارسات جديدة محلها[9]؛
7- و مجموع القوانين الجبائية ، التي تطبق في زمان و مكان معينين ، تشكل فيما بينها نظاما جبائيا، أو هندسة جبائية،لا بد من أن يأخذها المشرع الجبائي بعين الاعتبار ، عندما يريد أن يفرض أي ضريبة جديدة أو يعدل ضريبة قديمة: فلا بد له من مراعاة انسجام  و تكامل الضريبة الجديدة، مثلا، مع باقي عناصر النظام  (القديمة)، بحيث لا تشكل عبئا إضافيا على نفس الأوعية. كما يجب أن تربط معها صلات  على شكل شبكة بعيون صغيرة ،بدون أي ثغرات جبائية،حتى تمنع التهرب الضريبي؛فإذا كان المشرع يرغب في تضريب استهلاك مادة  معينة(الشاي مثلا) ،فعليه أن يقوم بضرف لاب بديلها أيضا (القهوة)،حتى لا يتحول المستهلكون إلى القهوة، للتهرب من أداء الضرائب المفروضة على الشاي.و إذا أراد أن يستعمل الضريبة لتقليل استهلاك البن و الشاي معا، فيمكنه أن يقوم بتضريب السكر مثلا، و لكن ذلك قد يؤثر على استهلاك سلع أخرى كالمشروبات الغازية و الحلويات،التي سترتفع أسعارها..و قس على ذلك؛
8- و المشرع الجبائي ليس حرا، في فرض ما يشاء من ضرائب، دون الأخذ بعين الاعتبار الحالة التي توجد عليها الإدارة الجبائية في بلده، و ما بلغته من تطور تنظيمي ، و خبرة و فعالية إدارية، و ما تتوافر عليه من إمكانيات و قدرات مادية، و علمية و تكنولوجية، و صلاحيات قانونية.فالضرائب التي تعتمد على التصريحات و الإقرارات، من الملزمين أنفسهم أو من أطراف أخرى(كأرباب العمل)،لا يمكن دمجها في نظام جبائي معين ، إلا  إذا كانت الادارة الجبائية، تتوافر على الإمكانيات المادية و البشرية و غيرها، التي تمكنها من مراقبة صحة تلك الإقرارات، و التحقق مما جاء فيها من معلومات صحيحة و أخرى زائفة[10]؛
9- و يرتبط بهذا الحد السابق، حد آخر، يتمثل في المستوى التعليمي و الثقافي، المشترك بين أغلبية الملزمين في الدولة التي ستفرض فيها ضريبة معينة.فإغفال هذا الحد يفسر لنا كيف و لماذا تفشل الكثير من المشاريع و الخطط الجبائية  في بلوغ أهدافها.فكيف يمكن للمشرع الجبائي أن يقر قانونا يلزم المكلفين بالضرائب على الدخل، أن يقدموا تصريحات بمداخيلهم، دون أن يكلف نفسه عناء التحقق مما إذا كان هؤلاء الملزمون قادرون على ملء الإقرارات الجبائية، أو فك "طلاسم " نماذج التصريحات التي تقدمها لهم الإدارات الجبائية؟!!؟ و كيف لمشرع يريد الأخذ بنظام الإقرارات هذا، دون أن يكون متأكدا بأن الملزمين ينظمون سجلاتهم و دفاترهم و وثائقهم المحاسبية و غيرها، بطريقة مقبولة من الإدارات الجبائية ؛ مما يسهل عليهاإجراء المراقبة على التصريحات؟؟!!و كيف لمشرع جبائي، يريد أن يحارب التهرب و الغش الضريبيين،و ينظم حملة دعائية ترشيدي و تحسيسية للتعريف بمضار التهرب، دون أن يضع نصب عينيه  قدرات الملزمين على فهم و إدراك مرامي خطته و خطابه، و أهدافهما " النبيلة"؟؟!!..و قس على هذا؛
و في الواقع ،إن الحدود التي تقيد يدي المشرع الجبائي، كثيرة و متنوعة، و قد يطول بنا الحديث لو حاولنا استعراض أهمها، ناهيك عن ذكرها جميعها،و لكن بعضها لا تحتاج إلا إلى القليل من التمعن من الطالب ليدركها، من ذلك على سبيل المثال:
10- أن القاعدة القانونية الجبائية، على غرار جميع القواعد القانونية، لا يمكن أن تطبق بأثر رجعي، إلا في حالات قليلة( مثل الحالة، التي فرضت فيها بعض الدول الأوربية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأخيرة، على الأرباح و المداخيل، و الثروات ، التي اكتسبت خلال الحرب)[11]؛
11- و أنه لا يحق للمشرع، أن يميز بين المكلفين، فيما يخص توزيع الأعباء العامة عليهم. بل يجب عليه أن يعامل جميع المكلفين على قدم المساواة:يخضع لمبدأ المساواة أمام الضريبة، جميع الأشخاص(و هذا من المبادئ الدستورية الأساسية..و القديمة أيضا،إذ أشار إليه الإعلان الفرنسي لسنة 1789 )[12].
و لا يعني هذا المبدأ أن يدفع جميع المكلفين نفس مقدار الضريبة، بل يجب أن يتناسب مقدار ما يدفعه كل واحد منهم، و قدرته على الأداء[13].بالإضافة إلى ذلك؛فإنه لا يجوز التمييز بين الأفراد استنادا إلى أي سبب آخر لا يرجع إلى المصلحة العامة:و بناء على ذلك، لا يجوز للمشرع الجبائي، إخضاع فئة لضريبة معينة،و عدم إخضاع فئة أخرى لنفس الضريبة، طالما تحققت في الفئتين نفس الواقعة المنشئة للضريبة[14]) لقد بحثنا هذه الأمور في المحاضرات، فارجع إليها، تجد تفاصيل أكثر حول هذه الجزئية).
و لكن هناك، حدود أخرى تحتاج من الطالب بعض التفكير، و الثقافة القانونية و السياسية،ليفقه كنهها، من ذلك..
11- الحدود التي تفرضها الالتزامات الدولية على الدول:فالدول لا تستطيع أن تعيش في عزلة، و هي منخرطة شاءت أم أبت في العلاقات الدولية، و تضطر إلى الانتماء إلى عدد من المنظمات الدولية. و من هنا، يجد المشرع الجبائي، في كل دولة، نفسه مقيدا بالاتفاقيات الدولية و المواثيق الدولية التي صادق عليها بلده ، كتلك التي تشرف على إبرامها منظمة التجارة الدولية، في مجالات جبائية كثيرة، كالازدواج الضريبي الدولي- و قد أشرنا إليه -، و الرسوم الجمركية.أو مثل الإعفاءات الجبائية التي تمنح للدبلوماسيين و القناصلة، و أعضاء البعثات الثقافية،أو الخبراء العسكريين،و بعض الموظفين الممثلين للمنظمات الدولية..،بناء على العرف الدولي أو المعاملة بالمثل، أو المعاهدات الدولية؛
12- و من ذلك أيضا، أنه في الدول البسيطة، مثل المغرب، لا يحق للمجالس المحلية، مثلا، أن تفرض الضرائب المحلية بأسعار أعلى أو أقل من تلك التي تطبقها المجالس الأخرى، و المحددة حدودها ( سقفها الأعلى و قاعدتها الأدنى، بمقتضى القانون)[15]، و مبرر ذلك هو تحقيق المساواة بين المواطنين أمام التشريعات الجبائية."..هذا التقييد تم تكريسه في الإصلاح الجبائي لسنة 1989؛ فبالرجوع للمادة السادسة من هذا القانون، نجدها تنص على أنه في حالة عدم تحديد أسعار أو تعريفات ثابتة للضرائب و الرسوم، بمقتضى هذا القانون؛ فإنه تعود للآمرين بالصرف صلاحية هذا التحديد[...] لأن الصلاحية المقررة لفائدة الجماعات على هذا المستوى؛ تبقى محدودة جدا، باعتبار أن ما يزيد عن نصف الرسوم يتم تحديد أسعارها بشكل دقيق .."[16]؛
12- و هناك مسألة أخرى، أظن أنه يجب بحثتها، في ختام هذا المبحث، ألا وهي اقتباس القوانين الجبائية الأجنبية، و غرسها في المجتمع المغربي:إن القاعدة القانونية، من حيث المبدأ هي افراز اجتماعي، و من ثم فلكل مجتمع قوانينه الخاصة به، التي تناسبه.و لذلك، فأي قانون يسنه المشرع، يجب أن يراعي فيه مجموعة خصائص، تعكس طبيعة المجتمع المقصود بذلك التشريع.ذلك أنه قد تكون هناك قواعد قانونية، ناجحة في مجتمع معين، و لكنها تفشل، عند نقلها، إلى مجتمع آخر.و لهذا ينبغي أن تؤخذ مسألة نقل المؤسسات القانونية، من مجتمع لآخر، بمنتهى الحرص و الحيطة.فقد تكون المؤسسات المأخوذة غير متكاملة مع الهيكل الاجتماعي و الاقتصادي للمجتمع المستعير، أو قد تكون أكثر تقدما بالنسبة له.










[1]  لقد مضى ذلك الزمن الذي يسن فيه المشرع الجبائي ما يشاء؛فيفرض القيصر الروسي" بطرس الأكبر"(1682-1725)، ضرائب على اللِّحي، و يفرض فيه" وليم بت الابن "(Pitt)،رئيس الحكومة البريطانية(1783-1801)، ضرائب على الساعات الدقاقة(Pendules)،سنة 1797؛ و يقترح فيه أحد النواب الفرنسيين ، في أحد برلمانات الثورة الفرنسية، ضريبة على " العقل"(L'esprit)( فرد عليه أحد خصومه السياسيين،ساخرا، بأن صاحب الاقتراح لا شك سيعفى من هذه الضريبة).انظر:
P.M.Gaudemet et J.Molinier- Finances publiques-5e éd-Montchrestien-Paris1992-t2-p60.               
[2] "..و يترتب على الحكومة البرلمانية أن تمارس مهمة الوساطة الدائمة بين الدولة المنظمة مع ما يكتنفها من مهام و متطلبات، و بين الرأي العام صاحب السيادة بما يرافقه من أهواء و انقسامات و تحركات.فالوزراء الذين يتولون الحكم ينتمون في الوقت نفسه إلى الأحزاب و تعد مسؤوليتهم مزدوجة من حيث الإدارات التي يسيرون شؤونها و الحركات التي يوجهونها..":دوفابر- الدولة- م.س-ص 18.
[3]" L'exécutif , assiégé par des intérêts contradictoires aura tendance à faire des compromis , à conclure un " armistice " fiscal pour satisfaire telle ou telle revendication catégorielle , en introduisant parfois une réforme réclamée par l'opinion publique ":A.Fikri- Le parlement Marocain et Les Finances de L'Etat-Afrique Orient-Casablanca1988- p71.
[4]  راجع على سبيل المثال الفصل (77) من الدستور:" يسهر البرلمان و الحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة.
" و للحكومة أن ترفض، بعد بيان الأسباب، المقترحات و التعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود".
[5]   و هي الإقامة التي يعتد بها في المفهوم الجبائي، و تحدد غالبا في 183 يوما ، متصلة أو متقطعة.تنص المادة (23) من المدونة العامة للضرائب المغربية، على :"..يعتبر الشخص الطبيعي متوفرا على موطن ضريبي في المغرب حسب مدلول هذه المدونة إذا كان له فيه محل سكنى دائم أو مركز أو مصالحه الاقتصادية أو كانت المدة المتصلة أو غير المتصلة لمقامه بالمغرب تزيد على 183 يوما في كل فترة 365 يوما[ سنة]".
[6]  المشرع المغربي، يأخذ بمعيار الإقامة ، كما يفهم من المادة (23) من المدونة، و الخاصة بالضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين.قارن مع المادة (5) من المدونة، و المتعلقة بالضريبة على الشركات.
[7] و مشكل الآزدواج الضريبي، في الواقع، يطرح عندما يتعلق الأمر بالضرائب المباشرة،و بعض الضرائب غير المباشرة كضريبة التسجيل و التمبر، أما عندما يتعلق الأمر بأغلب الضرائب غير المباشرة الأخرى ،فإن الإدارات الجبائية تضطر إلى الأخذ بمبدأ الإقامة، أو إقليمية الضريبة، فتضرب الضرائب على كل السلع و الخدمات، التي تستهلك أو تنتج أو هما معا،فوق التراب الوطني.
[8]  اللّهم إلا في الدول التي تسمح قوانينها، للمحاكم بالنظر في دستورية الضرائب، و إلغائها، لعدم دستوريتها، كما هو الشأن في الولايات المتحدة.
[9]  و صعوبة إصلاح النظم الجبائية، تفسر أيضا، بأن الضرائب القديمة ، تكون مقبولة أكثر من الجديدة؛ إذ يألفها الناس، و يعيدون تنظيم حياتهم على أساس القبول بها، فيدمجونها في "حساباتهم"، و مع مرور الوقت ينسونها؛ فهي ، كما قال أحدهم، كالأحذية ؛ القديمة منها تسبب آلاما أقل (Les impôts sont comme les chaussures :Ce sont les plus vieux qui font le moins de mal).انظر: P.M.Gaudemet et J.Molinier- Finances publiques-5e éd-Montchrestien-Paris1992-t2-p64 et suivantes.
[10]  و الأمر، هنا، فيما يتعلق بمراقبة صحة التصريحات، قد لا يقتصر على الإدارة الجبائية وحدها، بل يمتد إلى إدارات أخرى، التي قد تستعين بها الأولى( الإدارة الجبائية)، في إطار ما يعرف بـ " حق التواصل" (Droit de communication): فهذا  التوصل لا يكون فعالا  و مفيدا للإدارة الجبائية، إلا إذا كانت هذه الإدارات- ( مثل إدارات الضمان الاجتماعي لمراقبة تصريحات الأطباء، و الشركات و الأبناك لمراقبة الأرباح التجارية و مداخيل رؤوس الأموال المنقولة..)-، تتوافر على نظم و تجهيزات و مصالح إدارية ( مثل مصلحة الأرشيف و حفظ الوثائق..)، بشكل دقيق و محيَّن، يمكنها من إعطاء المعلومات التي تطلب منها، بدون تأخير .
و قد لا يتوقف الأمر هنا، إذ لكي نطالب الملزمين( من الأشخاص الطبيعيين) بالضرائب على الدخل بملء التصريحات، لا بد أن نتأكد أن المستويات التعليمية، لأغلبية الملزمين، تسمح لهم بالتعامل مع نماذج التصريحات.
[11] " و تطبيق هذه القاعدة في المجال الضريبي مؤداه أن التشريع الضريبي يسري من وقت إصداره أو في تاريخ لا حق، فلا يسري بأثر رجعي، فلا يمتد إلى الوقائع التي تمت قبل صدوره..": الضمانات الدستوري..- م. س- ص179.و أضاف مؤلف هذا الكتاب(ص183) ،بأنه مما لا شك فيه؛  أن من شأن تطبيق الضريبة بأثر رجعي، أن يؤثر في استقرار المعاملات، و يزرع الخوف في قلوب الناس، فيضعف روح الادخار و الاستثمار. و مع ذلك،فهناك من الفقهاء و القضاة، من رأى بأن "مبدأ عدم الرجعية خارج المجال الجنائي ليس مبدأ دستوريا،و إنما يعد مبدأ تشريعيا، أي له قيمة تشريعية فقط،فيجوز للمشرع مخالفته، بينما لا يجوز للسلطة التنفيذية مخالفته ،فلا يحق لها أن تطبق قانونا جبائيا بأثر رجعي، إلا إذا رخص لها المشرع بذلك".
[12]  و اشار إليه النظام الجبائي الإسلامي، قبل ذلك بقرون و قرون.
[13] "..إن الخطوة الأولى لتحقيق المساواة هي تقسيم الممولين إلى "طوائف"، و التقسيم الشائع هو تقسيم الممولين بحسب إمكانياتهم المالية، و يقسم الممولون عادة إلى صغار الممولين و كبار الممولين(...)و أخيرا يوجد تقسيم للممولين بحسب الضرائب التي يخضعون لها، إذ يوجد ممولون يخضعون للضرائب على الدخل؛ بينما يخضع آخرون للضريبة على القيمة المضافة، و يخضع آخرون للضريبة على الشركات..إلخ..""الضمانات الدستورية في المجال الضريبي- ص ص 135-36.
[14]  الضمانات الدستورية في المجال الضريبي..- م.س - ص ص 115-16؛ و ص 134. إلا أن هذا المبدأ يتعرض لخروقات عديدة، نتيجة الضغوطات التي تمارسها بعض اللوبيات؛ مما يضطر المشرع إلى أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح بعض الفئات على حساب مصالح فئات أخرى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مستهل هذا الحديث عن حدود التشريع الجبائي. كتب أستاذنا الدكتور عبد الكبير فكري- حفظه الله- في مؤلفه عن البرلمان المغربي و مالية الدولة:"Le principe le l'égalité fiscale heurte certains intérêts socioprofessionnels et politiques .Le consensus fiscal, expression du consentement à l'impôt n'est ni général , ni absolu": Le حParlement Marocain et Les Finances de L'Etat-Afrique Orient-Casablanca 69.1988- p
و لمن يريد، من الطلبة الأعزاء التوسع أكثر في هذا الموضوع، و معرفة كيف أثرت بعض اللوبيات ، في  بعض  التشريعات الجبائية المغربية، فليرجع إلى هذا الكتاب . و الجدير بالذكر،أنه  في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون، قدمت تحت عنوان(Le Parlement marocain et les finances , recherche sur le pouvoir financier)، و نوقشت في كلية الحقوق بالدار البيضاء.
[15]  فالمبدأ العام في الضرائب المحلية، أنها تنشأ بقوانين،إذ أن اختصاص المجالس المحلية- و هي مجرد سلطات إدارية و ليست سلطات سياسية كما في الدول الفدرالية- ، يقتصر على  تطبيق الضرائب المحلية التي أنشأها القانون، و حدد أوعيتها و أسعارها،كما أن الإدارة المركزية هي التي تتكلف بتحصيل معظمها.و صحيح أن المشرع الجبائي- و هو المشرع الوطني- قد يترك للسلطات المحلية هامشا من الحرية، على ضوئه تستطيع أن تزيد بنسب ضئيلة في اسعار بعض " الضرائب و الرسوم"، و لكن شريطة ألا يؤثر ذلك على مبدأ مساواة جميع المواطنين- في كل اقاليم الدولة- أمام الأعباء العامة.
[16]  حسن بريح و المصطفى الخطاب- مسلسل الإصلاح الجبائي المحلي و إشكالية الاستقلال المالي للجماعات المحلية-  الشركة المغربية لتوزيع الكتاب- الدار البيضاء 2014- ص ص 56-57. و أضاف مؤلفا هذا الكتاب (ص 57):"..في حين أن باقي الرسوم التي يحق للآمرين بالصرف اتخاذ قرارات جبائية بشأنها هي على نوعين:
" النوع الاول، و يشمل إحدى عشر (11) رسما، قيد فيه المشرع [ الوطني] سلطة المجالس التداولية[ المحلية] بأسعار قصوى لا يجوز تجاوزها، بأي حال من الأحوال؛
" أما النوع الثاني، فيخضع للسلطة التقديرية للمجالس، و هي سلطة مقيدة بدورها بمعايير الموضوعية، و يخص سبعة(7) رسوم(..) و عليه يمكن القول أنه حتى مع ترك حرية للجماعات الترابية في تحديد أسعار بعض الضرائب و الرسوم- في حدود معينة-فإن ذلك لن يجعل من الهيئات المنتخبة أجهزة تقود سياسة ضريبية حقيقية.كما لا تجعلها قادرة على توزيع العبء الضريبي بين مختلف الضرائب، وفق سياستها الضريبية، و بالتالي يحرمها من أهم وسائل التدخل الاقتصادي و الاجتماعي لتطبيق مخططاتها التنموية".
 و يجدر بي الإشارة، هنا، إلى أن أصل هذا الكتاب،(مسلسل الإصلاح الجبائي..)؛هو بحث التخرج ، لنيل الأجازة  في الحقوق، أنجز تحت إشرافي، بالكلية متعددة التخصصات بآسفي؛أذكر هذا حتى يكون ذلك حافزا للطلبة على العمل الجاد..فالعمل الجاد مثمر.و لقد أخبرني الأستاذ بريح، مؤخرا أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب نفذت ، بعدما لقي الكتاب استحسان المهتمين ، و الناشر يعد لنشر طبعة ثانية. و بالله التوفيق.

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019


مشكلة البحث و التصميم
في البحوث و الدراسات القانونية
أولا:اختيار موضوع البحث
يمكن اختيار موضوع البحث، من عدة وقائع أو نوازل أو ظواهر أو  أحكام أو قواعد أو أفكار قانونية..، فكل هذه قد تكون مصادر توحي للباحث (ة) بالموضوع الذي يختاره ليبحث فيه..
1- الأحكام القانونية الجديدة، المرتبطة بصدور قانون جديد؛
2- التعديلات التي تطرأ على القوانين القديمة؛
3- الظواهر القانونية الجديدة، و مثال ذلك شيوع استعمال، عقود التجارة الإلكتروني؛
4- الاتفاقيات الدولية: يمكن دائما البحث في الاتفاقيات الدولية، سواء المصادق عليها من قبل الدولة أو لا. و تكمن أهمية هذه الدراسات في مقارنة أحكامها مع القانون الوطني و تقدير مدى التعارض أو الانسجام فيما بينهما، و قد ينتهي الباحث إلى نتيجة مهمة في بحثه مفادها ضرورة انضمام دولته إلى اتفاقية معينة نظرا لأهميتها؛
5- تطبيق القواعد العامة على حالة خاصة، أي التأصيل لفكرة معينة(...)  ولكن يجب على الباحث أن يطبق هذه القواعد العامة و يستعملها بالقدر الضروري الخدمة الحالة الخاصة التي يتعامل معها، لا أن يتوسع فيها مهدرا الحالة الخاصة، مما يستنتج عنه انفصال عن الموضوع و حشو و تزيد لا مبرر، له.
ثانيا: خطة (تصميم) البحث
تعتبر خطة (= تصميم= Plan) البحث، و بحق، أدق مرحلة في الكتابة القانونية، و قد يقال بأن الخطة إذا كانت محكمة ، من حيث التقسيم و العناوين، كتب البحث نفسه [ بنفسه] ؛ بمعنى أن مهمة الباحث تسهل. و على العكس تماما، فمتى كانت الخطة معيبة، ستكون الكتابة معيبة أيضا، و ستصبح مهمة الباحث معقدة و شاقة.
1- خصائص الخطة(التصميم):
تمتاز الخطة الناجحة بعدة خصائص، نجملها في الآتي:
1- الخطة محددة بحدود الموضوع، و هذا يعني عدم تطرق الخطة لمسائل لا يحتملها موضوع البحث؛
2- يتم ترتيب محتويات الخطة وفقا للتسلسل المنطقي، فعلى سبيل المثال، عند دراسة عقد معين، يحتاج الأمر لتناول الانعقاد ثم الانقضاء، و لا يمكن تناول انعقاد العقد بعد الآثار ( الحقوق و الالتزامات). و عادة ما يتم في الجزء الأول تناول التعريف بالموضوع، أهميته، طبيعته، القانونية، خصائصه، التمييز بينه و بين غيره، ثم يتم الانتقال إلى الشروط و الأحكام و أخيرا الجزاءات أو الآثار القانونية.
3- يجب أن تغطي مفردات[ أجزاء، أقسام] الخطة كل جوانب الموضوع المطروح،و هذا الأمر إنما يتعلق بالعلاقة فيما بين عنوان البحث و مفردات الخطة. فالخطة إنما تعبر عن موضوع البحث و تعالج كافة جوانبه.
4- على الباحث أن يعد خطة واضحة لا تثير لبسا، و لا يكتنفها غموض. و من مظاهر اللبس و الغموض في الخطة، تكرار العناوين، و لو باستعمال مصطلحات أخرى؛
5- يجب أن تكون الخطة متوازنة، و يمكن الحديث عن هذا التوازن من ناحيتين: أما الناحية الأولى فهي  توازن عدد المباحث في الفصول، و عدد المطالب في المباحث.و هنا نتحدث عن التوازن و ليس[ بالضرورة] التساوي، فلا يقبل أن يتضمن المبحث الأول مطلبين، و يتضمن المبحث الثاني خمسة، و لكن يقبل أن يتضمن ثلاث بدلا من اثنين.فالتوازن لا زال موجودا.أما الناحية الأخرى، التي يجب تحري التوازن بها عند إعداد الخطة، فيتعلق بعدد الصفحات المحتملة التي ستنتج عن تنفيذ هذه الخطة، حيث يجب على الباحث التأكد من أن المادة العلمية التي ستتم كتابتها ستحتل عدد صفحات متقاربة في المباحث و المطالب.فلا يقبل مثلا أن يكون المطلب الأول في المبحث الأول صفحة واحدة، و المطلب الثاني بنفس المبحث عشر صفحات.و لكن من المقبول، أن يكون أحد المطالب ثلاث  صفحات، و المطلب الآخر خمس صفحات.فإن اكتشف الباحث، و هو بصدد إعداد الخطة، بأن خللا في توازن المادة العلمية سيواجهه، فإن عليه التعديل في الخطة، كأن يدمج بعض المطالب، أو تجزئتها للتغلب على مشكلة عدم التوازن.
6- يجب أن تعكس الخطة فكر و رؤية الباحث، فلا تكون نسخا عن فهارس الكتب أو أبحاث مشابهة.إن الباحث العاجز عن وضع خطة لبحثه ، عاجز أيضا عن الولوج في موضوع البحث.ولا يمكن للباحث أن يكتب على أساس خطة جاهزة وضعها و صممها غيره، فالخطة لا تأتي في يوم وليلة، و إنما تستغرق وقتا و جهدا، و هي حجر الأساس في البحث، فإذا صلحت الخطة صلح البحث، و إن فسدت الخطة فسد البحث كله.
ثانيا:وضع الخطة(أو مصدرها)
بعد الانتهاء من عملية القراءة، يقوم الباحث بكتابة مجموعة من الأفكار الرئيسية بناء على قراءته ، و دون الرجوع  إلى الكتب التي قرأ منها، أي أنه يعتمد كليا على ذاكرته.
و تكتب هذه الأفكار بدون مراعاة ترتيب أو تسلسل منطقي أو ارتباط فيما بينها.بعد ذلك، يصار إلى قراءة هذه الأفكار، و ربطها ، و حذف مالا يصلح منها، و إضافة ما نقص، و ترتيبها ترتيبا منطقيا.
الطريقة الثانية: بعد الانتهاء من عملية القراءة، يقوم الباحث بوضع المراجع التي قرأ منها جانبا، و يكتب صفحتين أو ثلاثة، لكل ما رسخ في ذهنه عن موضو البحث، و ذلك بدون مراعاة لأي تسلسل أو توثيق أو ترابط.ثم بعد ذلك، يعيد قراءة ما كتب، و يستخلص الخطة من الأفكار التي كتبها، و التي يفترض أن تتضمن أهم المسائل التي يطرحها الموضوع.و كل ما كتبه الباحث، في هذه المرحلة لا يعتد به، و يجب إتلافه،فهو إنما كان لاستنساخ الخطة فقط، و لهذا تسمى هذه النسخة، بالنسخة صفر.
ثالثا: تقسيم الخطة
يمكن الحديث عن مدرستين، في تقسيم خطة البحث؛الأولى المدرسة اللاتينية[ و عنها تتفرع عدة مدارس، كالمدرسة الفرنسية]،و الثانية المدرسة الأنجلوسكسونية[ و عنها تتفرع المدارس الأمريكية، و الإنجليزية و غيرها].و فيما يلي، نبذة عن كل منهما ، مع بيان الإيجابيات و السلبيات.
1- المدرسة اللاتينية:
يقوم نظام التقسيم، في هذه المدرسة، على أساس التقسيم الثنائي،حيث يمكن البدء[ في تقسيم البحث] من القسم ثم الكتاب، فالباب، فالفصل، فالمبحث، فالمطلب، فالفرع[ و هناك من يضيف الفقرة أيضا].ثم باستعمال "أولا" [ ثانيا..خامسا]، ثم بالتعبير رقميا [1..4..7..] أو بالأحرف بعد ذلك [أ..ب..ج..].و غالبا ما يعتمد تقسيم الرسائل الجامعية، على الفصول، أما الكتب الكبيرة، فيمكن أن تقسم على أساس الكتاب أو القسم و الباب.أما الأبحاث الصغيرة [كالمقالات،.]،فغالبا ما تعتمد التقسيم ابتداء من المبحث.أما في الأوراق البحثية القصيرة جدا، فيمكن البدء من المطلب، و هكذا.و المهم في نظام التقسيم هذا أنه ثنائي،و ذلك على النحو التالي:
الفصل الأول
  المبحث الأول
            المطلب الأول
            المطلب الآخر
  المبحث الآخر
          المطلب الأول
          المطلب الآخر
الفصل الآخر
  المبحث الأول
            المطلب الأول
           المطلب الآخر 
المبحث الآخر
         المطلب الأول
         المطلب الآخر
 و من عيوب ها النوع من التقسيم:
أ- تقييد الباحث بمبحثين، و مطلبين فرعين، قد يؤدي إلى حذف جزئية مهمة أو دمجها في موقع غير مناسب للمحافظة على قدسية التقسيم؛
ب- قد تصف حالات يحتاج الباحث فيها الخروج، عن التقسيم الثنائي و لا يفعل، مما يؤثر سلبا على مستوى جودة البحث.
و بناء على هذا النقد بدأت المدرسة الفرنسية تخفف من تشددها في التقسيم الثنائي، حيث أجازت الخروج عن ثنائية التقسيم في حالات الضرورة، على أن الباحث يجب أن يبرر خروجه هذا، و يقنع المتلقي به [ و للأسف أن بعض "المدارس" التابعة لفرنسا في عالمنا العربي، كالمدرسة المغربية، مازالت تتشبث بحرفية هذا التقسيم أو بالأحرى بعض المنتمين إليها يفعلون ذلك].
2- المدرسة الأنجلوسكسونية:
لا تقيم هذه المدرسة،أية قيود على التقسيم، فالباحث حر تماما في عدد الفصول و المباحث، حيث يؤمن هذا النظام بأن حرية الباحث هي التي تقود إلى الإبداع، و هذه الحرية يجب أن تبدأ من التقسيم.و مثال هذا التقسيم:
1:( الفصل الأول)
1:1 ( المبحث الأول، من الفصل الأول)
1:1:1( المطلب الأول من المبحث الأول من الفصل الأول)
1:1  )2:المطلب الثاني من المبحث الأول من الفصل الأول)
1:1:2:1( الفرع الأول من المطلب الثاني من المبحث الأول من الفصل الأول)
و هكذا.مع ملاحظة ان الكتابة لا تظهر بالتقسيم، و إنما تظهر فقط الأرقام، يليها العنوان.
من و مزايا هذا النظام، إطلاق العنان لحرية الباحث.و إعطاء الأفكار حقها في التقسيم دون قيود.
إلا أن له عيوب أيضا، نذكر منها:
أ- الفوضى الناتجة عن كثرة استخدام الأرقام،و عن العدد اللامحدود من المباحث التي يمكن أن يقسم لها الباحث بحثه؛
ب-عدم مقدرة القارئ على تحديد نسب [ انتماء] العنوان بسهولة، فكلما كثرت الأرقام للدلالة على ذلك، كثر احتمال نسيان المتلقي تحت أي مبحث أو مطلب جاء تقسيم هذا العنوان.
يجب ، في نهاية الحديث عن هذا الموضوع، ملاحظة أنه لا مكان في أي نظام تقسيم معروف في العالم لما يمكن تسميته بالتقسيم الأحادي، فلا مجال لأن يكون البحث مبحثا واحدا و لا أن ينضوي تحت أحد المباحث، مطلب واحد، فوجود مبحث أول، يتطلب بالضرورة وجود مبحث آخر[ على الأقل]، و وجود مطلب أول في أحد المباحث، يتطلب بالضرورة وجود مطلب آخر [ على الأقل]، و هكذا.
***
المصدر:الأستاذة الدكتورة نسرين سلامة محاسنة- مهارات البحث و الكتابة القانونية- دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة- عمان1432/2011- ص ص 99-107 ( مع بعض التصرف).

الأحد، 22 ديسمبر 2019

ما هي مشكلة البحث( الإشكالية)؟في بحوث العلوم الإدارية و الاقتصاد و المحاسبة؟ كيف نختارها؟ و كيف يتم تكوينها و تحديدها؟ و ما هي خصائصها؟

ما هي مشكلة البحث( الإشكالية)؟في بحوث العلوم الإدارية و الاقتصاد و المحاسبة؟ كيف نختارها؟ و كيف يتم تكوينها و تحديدها؟ و ما هي خصائصها؟


مشكلة البحث في العلوم الإدارية
(و الاقتصاد، و المحاسبة)
لا بد أن يتضمن مشروع البحث " مشكلة" .و مشكلة البحث هي شيء يحيط به الغموض، أو ظاهرة تحتاج إلى تفسير، أو أمر موضع خلاف.فهي في كل الأحوال، موضع نقص في المعرفة، و تعبير عن حالة عدم التأكد بالنسبة لأمر معين.
و الشعور بوجود المشكلة، هو الحافز الأساسي لحلها، و كل ما حققه الإنسان من اختراعات، و ابتكارات، و اكتشافات، هو نتاج طبيعي للشعور بمشكلة تحتاج حلا.
و يخلط البعض بين مشكلة البحث ، و مفهوم المشكلة  الإدارية، على الرغم مما بينهما من اختلاف كبير.فالمشكلة الإدارية موقف مركب يتطلب اتخاذ إجراءات إصلاحية، و هي تعبير عن جوانب مَرَضية سيئة في حياة المنظمة[ المقاولة] أو أفرادها، و هي تنجم عن ظروف المنظمة ذاتها و علاقتها بالمجتمع.فالقصور الإداري بما يتضمنه من مشكلات عديدة هو مشكلة المنظمة و ليس مشكلة البحث.أما مشكلة البحث ذاته، فقد تتناول جانبا مَرَضيا- تقصير- في المنظمة، و قد تتناول جانبا إيجابيا، و كلاهما في حاجة إلى تفسير، و هي أوسع مدلولا ، و أكثر شمولا من المشكلة الإدارية.

أولا:اختيار مشكلة البحث:

كيف يختار الباحث موضوع بحثه؟ أو من أي يستقي الباحث موضوع بحثه؟
يختار أو يستقي بإحدى الطرق/ أو من أحد المصادر التالية..
1- اطلاع الباحث و إلمامه بالتراث الفكري في فروع تخصصه العام ( إدارة الأعمال مثلا)، و كذلك في تخصصه الفرعي ( تسويق أفراد، إنتاج، بحوث عمليات..)..إلخ؛
2- الاطلاع على الدراسات و البحوث السابقة المتعلقة بالموضوع، أو بموضوعات مشابهة، اعتمادا على القضايا و المشكلات و النتائج التي توصلت إليها الدراسات؛
3- بالاحتكاك بذوي العلم و الخبرة و حضور المناقشات العلمية، و حلقات الدراسة المختلفة، و تدوين الملاحظات، و ما يدور فيها من وجهات نظر و آراء؛
4- من مشاكل  الساعة التي تحدث في المجتمع، و يهتم بها الرأي العام، أو من بعض الظواهر أو الأزمات التي تحدث في المجتمع و تثير رأي المواطنين، و تؤثر في اتجاهاتهم ( آثار سياسية الانفتاح، مشكلة المواصلات و اختناق المرور و تأثيرها على التنمية، دور القوات المسلحة في مجال الخدمات، تنمية سيناء اجتماعيا و اقتصاديا..، عدم وصول مياه الشرب للأدوار العليا..إلخ)، فهي تعتبر مصدرا خصبا يلهم الباحثين لاختيار موضوعاتهم البحثية؛
5- من الموضوعات و المشاكل التي تبحثها مراكز البحوث و الهيئات و المؤسسات العلمية المتخصصة، و يجب الاطلاع على ما تم دراسته بالفعل، و ما هو جاري دراسته وفقا لخطة البحوث فيها، و ما هو مدرج لدراسته في المستقبل كذلك؛
6- يستقي الباحث مشكلة بحثه من تحقيق أو رفض نظرية أو قانون سابق،أو حينما يريد التأكد من صحة بحث أو فرض معين؛
7- من فكرة مفاجئة أتت إليه بشكل مباشر، كأن يعاني من اختناق المرور في يوم حار و يقرر دراسة أثر مشكلة المواصلات على التنمية في المجتمع..؛
8- من الاطلاع على ما يرد في التراث الشعبي أو السير الشعبية، أو بعض الحكم و الأمثال المأثورة، أو حتى الاطلاع على مسرحية أو فيلم سينمائي، أو قراءة رواية أو قصة..إلخ؛
9- حينما يقرأ مقالا يختلف فيه مع مؤلفه اختلافا بينا، أو من مناقشة أو حوار تم مع غيره ، و استلفت نظره؛
10- من الخبرات اليومية التي يعيشها الفرد.
و عموما،يجب قبل البدء في إجراء الدراسة، أن يسأل الباحث نفسه، عدة أسئلة تتعلق بمشكلة البحث، و تساعده في تقرير مدى أهميتها، مثل: هل مشكلة البحث، جديرة بالدراسة؟ و هل تستحوذ على اهتماماته و رغباته؟ و هل هي مشكلة جديدة؟ و هل تضيف جديدا للتراث العلمي أو للمجال التطبيقي؟ و هل هي صالحة للدراسة من مختلف النواحي؟ و هل يستطيع الباحث القيام بها، من حيث الوقت و المال و الخبرة و الأدوات و المهارات و توافر البيانات..إلخ؟
كما يجب على الباحث أن يضع في اعتباره أهمية الدراسة و أهدافها، و الدافع الذي دفعه إلى دفعه إلى دراسة تلك الظاهرة بوجه خاص؟ و الجوانب التي يحاول توضيحها و كشفي أبعادها؟ ..إلخ.

ثانيا: طرق تكوين المشكلة

هناك طرق منظمة ، و أخرى غير منظمة، لتكوين المشكلات، و من هذه الطرق:

أ- الطرق المنظمة في تحديد المشاكل:

1- الاستنباط و الاستقراء: كثير من البحوث السابقة تقود إلى بحوث جديدة، و من هنا تأتي أهمية البحوث الاستنباطية و الاستقرائية، حيث يمكن تحديد اتجاهات بحوث جديدة ، سواء لاختبار فروض معينة، و التي تبرزها البحوث الاستقرائية، أو لإجراء مزيد من البحث و جمع المعلومات، الأمر الذي تظهره البحوث الاستنباطية.

2- التناظر أو القياس بالتشابه:و تعتمد هذه الطريقة على استخدام المعلومات المتاحة عن مشاكل في مجال معين، في تكوين مشكلة بحثية مناظرة، و لكن في مجال آخر، بشرط وجود وضع مقارن بين المجالين، في كل الجوانب الهامة،و مثال ذلك محاولة إجراء بحث عن كيفية قياس كفاءة أجهزة العلاقات العامة في قطاع خدمي كالبنوك ، بالقياس إلى دراسة سابقة عن نفس الموضوع، و لكن بالتطبيق على قطاع آخر( خدمي أيضا)، و ليكن النقل مثلا أو السياحة.

3- التحديث:يستخدم هذا المدخل في تحديد المشاكل عن طريق فحص المفاهيم و النظريات الحالية و الكلاسيكية، في ضوء التطورات الحديثة، سواء في نفس المجال، أو مجالات مرتبطة، و ذات تأثير عليه، لتحديد مواطن الضعف في الوضع الحالي، و تحديد المشكلة البحثية على أساس محاولة دراسة إمكانية معالجة هذه المَوَاطِنْ.أو بمعنى آخر، تطبيق اتجاهات علمية حديثة لتطوير النظريات القديمة، مثال ذلك دراسة أثر نظم المعلومات.

4- النظرة الانتقادية ( الدياليكتيك):و تقوم هذه الطريقة، في تحديد المشاكل، على أسلوب إثارة النقد باستمرار في الأشياء لاختيار جدواها و ملاءمتها و صحتها، بحيث يكون السؤال المطروح دائما هل هناك شيء أفضل؟ أو هل هذا أفضل شيء؟ و يتطلب البحث بهذا الأسلوب التعرف دائما على نتائج تطبيق النظريات و الأساليب أو الأدوات أو غيرها، من خلال تقارير المتابعة التي تعطي نقطة الانطلاق للباحث في طرح الأسئلة الإنتقادية عن أفضلية الوضع الحالي.

5- التوقع أو النظرة المستقبلية:أي دراسة الوضع المستقبلي في مجال من المجالات و فحص ما إذا كانت هناك مشاكل متوقعة لبلورتها و دراستها، و مثال ذلك وضع الخطة المادية لخمس سنوات المشروع ما، ثم استنتاج مشاكل التمويل التي يلزم دراستها و بحثها من الآن، أو دراسة و بحث خطط المشروع لمواجهة المشاكل المالية المرتقبة، و التي تستخلص من الخطة المالية التي يعدها المشروع.

6- طريقة مورفي:و هي طريقة حديثة تعتمد على الاحتمالات المترابطة في المشاكل المعقدة، مثال ذلك إعداد خريطة مقسمة على أحد المحورين ، بعدد الأطراف المعنية بتحليل ما في تقارير معينة ، و على المحور الآخر تقسيم على حسب المهمة في التقارير من ناحية حجمها، دورية إصدارها،  دقتها و أساس تقييم العناصر الواردة..إلخ، مما يظهر لدينا شبكة من العلاقات المتداخلة عن أفضل شكل للتقرير التحليلي.و تفيد هذه الطريقة في أنها تحصر كافة البدائل الممكنة بالنسبة لنوع معين من المشاكل و نظرا لضخامة عدد الاحتمالات الناتجة فإنه يتعين ترشيد اختيار البدائل التي تخضع للدراسة.

7- تقسيم أو تجزئة المشاكل:أي تقسيم المشكلة الرئيسية الواحدة،إلى أجزاء متعددة يمكن أن يكون كل جزء منها بمثابة مشكلة مستقلة،ثم فحص الجوانب التي تم تغطيتها بالبحث فيها و حصر الجوانب الأخرى التي لم تبحث بعد.

8- التجميع:و هو اتجاه عكسي للطريقة السابقة مباشرة، و في هذه الطريقة يتم محاولة تجميع نتائج البحوث السابقة و النظريات المتاحة و محاولة تطبيقها في معالجة مشاكل أخرى أكثر تعقيدا، و مثال ذلك بحث إمكانية استخدام النظرية الحديثة في التنظيم الإداري. بشركات القطاع العام، أو إمكانية تطبيق نظام التقرير الشخصي في تقييم أداء الإدارة العليا.

ب- الطرق غير المنظمة في تكوين المشاكل:

1- التخمين: و يحدث ذلك بالنسبة للأفراد الذين يتيح لهم مجال عملهم إمكانية توقع حدوث مشكلة معينة مثل: رجال البيع بالنسبة لتوقعات الأسواق، أو مديري شؤون العاملين بالنسبة لاتجاهات التوظف، أو خبراء الأسواق المالية بالنسبة لسوق الأسهم،..إلخ.و بالرغم من الدور الرئيسي الذي يلعبه هذا الأسلوب في تحديد المشاكل،فإنه يجب الحذر فيه، و إلا إتجه الباحث في اتجاه لا أساس له من الصحة.

2- الظواهر: كثير من البحوث التي تراها تعتبر مسايرة لظواهر معينة كأن تبدأ مجموعة من البحوث تالية لظاهرة استخدام الكمبيوتر، عن إمكانية استخدامه في مجال معين، و يليها دراسات عن متطلبات التطبيق ثم اقتصاديات تشغيليه، ثم أثره على القدرات الإدارية، و هكذا.

3- الاتفاق الجماعي في الرأي: أيضا يمكن تحديد مشاكل بحثية معينة، إذا اجتمع رأي مجموعة من الأفراد عليها، و لو بشكل لا إرادي، كأن يتفق مجلس إدارة إحدى الشركات على مشكلة معينة يلزم بحثها.

4- التجربة: من الطبيعي أنه من خلال التجربة تتضح كثير من المشاكل التي يلزم علاجها، كأن تواجه شركة ما مشاكل في العمالة أو مشاكل في النقل و خلافه.

ثالثا- خصائص مشكلة البحث:

و بصرف النظر عن طريقة البحث عن المشكلة و تكوينها، فإنه يجب أن يتوافر عدد من الخصائص في المشكلة لكي تكون صالحة للبحث، و هي الخصائص التالية:
1- توصيف المشكلة بدقة، سواء المشكلة العامة، أو المشاكل الفرعية التي تجزأ إليها المشكلة العامة؛
2- تلافي الصياغات العمومية في تحديد المشكلة؛
3- ترتبط المشكلة منطقيا بالفترة التي نشأت خلالها، و من ثم فإن الحل الذي يتوصل إليه الباحث، يطبق في ظل تلك الظروف؛
4- إن المشكلة لم يسبق دراستها و تحليلها و معالجتها؛
5- أن يمثل حل المشكلة إضافة إلى المعرفة، أي أن تكون المشكلة ذات أهمية.
***
المصدر:د.طاهر مرسي عطية-  إعداد رسائل الماجستير و الدكتوراه في العلوم الإدارية ( إدارة الأعمال، المحاسبة، الاقتصاد)- دار النهضة العربية- دون مكان الناشر- 1994- ص ص 66-73( مع بعض التصرف).

الأربعاء، 25 سبتمبر 2019

كيف تكتب أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟ ما هي أهمية أطروحة الدكتوراه؟ كيف تختار موضوع الأطروحة في التاريخ؟ ما هي العوامل التي قد تؤثر في اختيارك له؟ كيف تختار الفترة التاريخية موضوع البحث؟ كيف تختار مصادر و مراجع البحث؟ كيف تقيّمها؟ كيف تصيغ إشكالية البحث؟ كيف تضع تصميمه؟


كيف تكتب أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟ ما هي أهمية أطروحة الدكتوراه؟ كيف تختار موضوع الأطروحة في التاريخ؟ ما هي العوامل التي قد تؤثر في اختيارك له؟ كيف تختار الفترة التاريخية موضوع البحث؟ كيف تختار مصادر و مراجع البحث؟ كيف تقيّمها؟ كيف تصيغ إشكالية البحث؟ كيف تضع تصميمه؟

الكثير من  طلبة العلم يحلمون بإعداد أطروحات لنيل الدكتوراه، في أحد  ميادين المعرفة العلمية.ذلك أن إنجاز هذا النوع من البحوث، و إتمامه، بطريقة مرضية، يعتبر أفضل تتويج للمسار الجامعي لكل طالب و طالبة،هذا من ناحية، و من ناحية أخرى-ربما أكثر أهمية-،فالنجاح في هذا المشروع،يعد أكبر دليل على توافر صاحبه أو صاحبته،على قدرات و مهارات علمية و تنظيمية،  تؤهله لأن يدلي "باجتهادات ذات قيمة و وزن" في مجال تخصصه،و من ناحية ثالثة،فالدكتوراه،كشهادة علمية،تؤهل حاملها أو حاملتها،في الكثير من الدول المحترمة، لتولي أعلى و أسمى  المناصب القيادية، لاسيما في المجالات التي لها علاقة بالإنتاج العلمي و الفكري و التبربوي و الثقافي.
ما يهمنا ، هنا و الآن،من كل هذا، أن أطروحة الدكتوراه، هي بإجماع آراء ذوي الاختصاص، أكثر البحوث الجامعية أهمية و جدية، و أكثرها صعوبة أيضا.ذلك أن لها ميزة أساسية تميزها عن سائر البحوث الجامعية؛وهي أنها عمل إبداعي،في المضمون على الأقل.ففي أبسط تعريف لها من الناحية الأكاديمة،تعتبر الأطروحة "بحث عميق، يضيف حقيقة إلى المعرفة البشرية"، حقيقة جديدة في ميدان من الميادين.فهي إذن، ليست طريقة لتجميع " الحقائق المكتسبة"، و إعادة تنظيمها و عرضها بطريقة من الطرق.فالأطروحة، قد يكون لها من القوة و التأثير ، أحيانا، أن تحدث "ثورة" في التفكير العلمي، أو على الأقل ، تغير الكثير من المفاهيم الراسخة، و تكرّس مكانها، مفاهيم جديدة، لمدة طويلة من الزمن.
و لذلك،فقلة من الباحثين، هم الذين ينجحون في إعداد أطروحات ممتازة.و في معظم الحالات،يحتاج طلبة الدكتوراه إلى من يساعدهم و يرشدهم، إلى أفضل الطرق و أكثرها فعالية و نجاعة، لإعداد الأطروحات الجيدة.
و علم التاريخ، مثله مثل جميع العلوم الأخرى، يحتاج في دراسته و بحثه إلى المنهجية العلمية.في الفقرات التالية،يحاول الأستاذ الدكتور طارق الخالدي،أن يأخذ بأيدي الطلبة الذين يعدون أطروحات لنيل الدكتوراه في هذا الميدان، و يمشي معهم في مسار الإعداد، خطوة خطوة، ابتداء من اختيار فكرة الأطروحة، مرورا بصياغة إشكاليتها، إلى أن يكملوا كتابتها. 
***
كيف تعد أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟

[...] نستعرض في هذا الباب المختصر، بعض المسائل العملية التي تواجه طلاب الدراسات العليا، عندما يحين الوقت لكتابة الأطروحة أو الدراسة المطولة في التاريخ.و في أيامنا هذه[بداية ثمانينات القرن الماضي] تتراوح الفترة التي تستغرقها كتابة الأطروحات الجامعية بين سنتين إلى خمس سنين في الغالب.و هذه السنوات يصرفها الطالب في البحث و التفكير، يقتطعها من عمره و نشاطه، و قد تكون من أصعب سنوات حياته ماديا و نفسيا و فكريا.لذا فإن اختيار موضوع الدراسة بدقة، و تصميم البحث بعناية، يوفر على الطالب إضاعة الوقت الناتج عن الانتقال بين موضوع و آخر، إذ كثيرا ما يصرف الشهور الطوال في التنقيب عن موضوع معين ليكتشف في النهاية أنه ليس الموضوع الملائم، لسبب من الأسباب.
من هنا، فإن التمهل في انتقاء الموضوع، أسلم من الإسراع في ذلك، فلا بأس إن أمضى الطالب بضعة شهور في استعراض المشاكل المتعلقة بالمواضيع المختلفة ، قبل أن ينتقي موضوعه النهائي، فذلك أنفع له من إضاعة الوقت في القفز من موضوع إلى موضوع على غير هدى.
و انتقاء الموضوع يتم في الغالب لأسباب عديدة ، و يكون البعض منها ، أحيانا، ذي صلة بالموضوعية ، كأن تستهوينا فترة معينة أو شخصية معينة، فنتجه إليها ، كمن يتجه إلى صديق قديم أو إلى أرض مألوفة.
لكن، بالرغم من وجود العوامل النفسية المعقدة في اختيار الموضوع، فإن هناك بعض العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.ففي المقام الأول، هناك الخبرة السابقة.فإذا كان الطالب قد أظهر ميلا نحو علم الاقتصاد في حياته الجامعية، فقد يحسن صنعا إذا اختار موضوعا في التاريخ الاقتصادي، و قد يتشجع أكثر إذا عرف أن التاريخ الاقتصادي العربي لا يزال إلى الآن حقلا يحتاج إلى العديد من العاملين فيه.و هكذا، طبعا، بالنسبة إلى العلوم الأخرى، كالزراعة أو الطب أو علم الاجتماع أو الفلسفة أو ما شابه.و هذا الانتقاء للصنف التاريخي الملائم يمثل في الواقع الخطوة الأولى و الأهم نحو الهدف.
و هناك في المقام الثاني، الفترة التاريخية: هل يتجه إلى الوسيط أم إلى الحديث؟ و هذا الاختيار له أيضا، ملابسات هامة.ففيما يتعلق بالتاريخ العربي، فإن انتقاء الفترة الوسيطة يعني أن على الطالب أن يقرأ العديد من المصادر العربية القديمة النثرية و الشعرية، و هو أمر لا يعرف صعوبته إلا من عاناها.كذلك، فإن بعض المؤرخين يرى، و رأيهم جدير بالاعتبار، أن التاريخ الوسيط ينفصل عن الحديث انفصالا عظيما، و ذلك بسبب هوة اسمها الثورة الصناعية.فالعالم الصناعي، في رأيهم، يختلف اختلافا جذريا عن العالم ما قبل الصناعي، ليس فقط في أنماط الحياة بل و في الطبيعة البشرية كذلك.من هنا، فإن التاريخ الوسيط يتطلب خيالا أوسع، أو على الأقل، خيالا مختلفا عن الخيال الذي يستخدمه المؤرخ في الكتابة في العصور الحديثة.
و مع اختيار الحقل و الفترة ، يكون الطالب قد وصل إلى منتصف الطريق أو يكاد، نحو تحديد الموضوع نهائيا. و هذا التحديد يجري، في رأيي، حسب بعض المبادئ العملية، فهناك مثلا الاختيار بين موضوع واسع و موضوع ضيق.فإذا افترضنا على سبيل المثال أن الاختيار قد وقع على موضوع نشوء القومية العربية، فمن المستحسن أن يقتطع الباحث جزءا صغيرا من هذا الموضوع، لكي يركز البحث في الزمان و المكان، فالتركيز على قطر واحد ، و في زمن قصير، يكسب البحث عمقا و دقة.القاعدة إذاً هي تركيز الموضوع و تضييقه ما أمكن[ راجع ما كتب عن إشكالية البحث، في هذا الموقع]، و هذا ينطبق على الأخص على الأطروحات الجامعية، فالمؤرخ عليه أن يحسن استعمال المجهر قبل أن ينتقل إلى المرصد.
و بعد تحديد الموضوع، ينتقل الطالب أولا إلى المصدر الثانوية، أي الدراسات الحديثة و المعاصرة، و ذلك لتكوين فكرة عامة عن الموضوع.و يستحسن، في هذا الصدد، أن يقرأ الطالب بعض الكتب الهامة التي تعالج مواضيع مشابهة لموضوعه، بدون أن تكون حول موضوعه مباشرة، و ذلك للاطلاع على مناهج مختلفة في معالجة موضوع مشابه.فإذا افترضنا المثال الوارد أعلاه، أي أن الطالب قد اختار موضوع " نشوء القومية العربية"، فمن المفيد أن يطلع على كتب مشهورة تعالج موضوع نشوء القومية الإيطالية و الألمانية مثلان و ذلك لاستيحاء الطريقة التي يعالج فيها المؤرخون البارزون موضوع نشوء القوميات عموما.
و عندما يبدأ الموضوع بالاختمار في الذهن من خلال دراسة المصادر الثانوية، يحين الوقت لوضع تصميم للبحث[ راجع ما كتب في هذا الموقع، عن التصميم و أنواعه].و هذا التصميم ليس بالشيء الثابت، لأنه يتطور مع تطور البحث و سير الدراسة، لكنه أمر ضروري حتى يتسنى للطالب أن يتلمس طريقه عند الدخول إلى المصادر الأولية،أي المصادر و الوثائق التي تنتمي إلى نفس الفترة الزمنية التي هي موضوع البحث.و تصميم البحث هو في الواقع فهرس المحتويات، هو الهيكل العظمي الذي تبنى عليه الأطروحة، هو تقسيم أجزاء البحث بحسب أهمية كل جزء من هذه الأجزاء.لذا ،فإن البحث المتزن يجب أن يكون متزنا لا في مضمونه فحسب، بل و في شكله أيضا.
التصميم الجيد إذا يطال الكيف و الكم معا، فإن شيطان النقد لا يرحم المؤرخ الذي يسمح لجزء من أجزاء الموضوع أن يطغى على الكل.فإن كنا نكتب عن السلاجقة في الشام في مئة صفحة، فلا يمكن لنا أن نكرس ثلاثين صفحة منها لتاريخ السلاجقة على وجه العموم. و إن كنا نكتب سيرة صلاح الدين الأيوبي، فلا يمكن أن نكرس بابا واحدا لحروبه مع الصليبيين ، و تسعة أبواب لحروبه مع أمراء المسلمين الآخرين، كما فعل أحد المستشرقين في كتاب صدر حديثا[ راجع ما كتبناه عن مبدئي التوازن و التوازي، في كتابة البحوث..].
و حين يكتمل التصميم استنادا إلى دراسة الموضوع من مصادره الثانوية، تأتي أخيرا مرحلة الولوج في المصادر الأولية، بعد أن يكون الباحث قد هيأ نفسه لذلك.و إذا كان موضوع البحث يقع في التاريخ العربي الوسيط، و وصل الطالب إلى أن يضع لائحة بأسماء المؤرخين و كتبهم التي تهمه، من المفيد بادئ ذي بدء أن يتعرف إلى سيرة هؤلاء من خلال تراجمهم في كتب الطبقات، كإرشاد الأريب ( المعروف بمعجم الأدباء) لياقوت الحموي، و وفيات الأعيان لابن خلكان، للاطلاع على حياة المؤرخ و أساتذته و تلاميذه و محيطه و كتبه الأخرى و المنهج الذي اتبعه في الكتابة و إلى ما هنالك.و دراسة التأريخ و المؤرخين في الفترة المختارة هي في الغالب المدخل الأفضل لفهم الفترة بشكل شامل و عميق، كما أن العديد من الأطروحات التاريخية، تعقد فصلها الأول لدراسة المصادر، و هذا أمر مستحب و ضروري لتعميم الفائدة.
و هكذا يسير البحث عبر مراحل ثلاث: مرحلة المصادر الثانوية، ثم مرحلة تصميم البحث، ثم مرحلة المصادر الأولية.و تتلاشى المرحلة الأولى تدريجيا أما التصميم ،فإنه يلازم البحث حتى النهاية، متأرجحا في شكله و في نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، حسبما توحي به المصادر الأولية، و إلى أن يكتمل البحث نهائيا.و الأطروحة الجامعية الجيدة، تكون في العادة نتاج تفاعل فكري بين المشرف و الطالب، فلا يجوز أن يفرض الأول موضوعا معينا على الثاني، و العكس.كما أن دور المشرف ينحصر في توجيه الطالب نحو المصادر الثانوية و الأولية، و من ثم الإشراف على تصميم الأطروحة و اتزانها و منطقها.أما المضمون، فإن الطالب هو المسؤول الأول و الأخير عنه، كما أن من المفترض أن يصبح في النهاية" خبيرا" في موضوع بحثه.
و الآن، و قد اقتربنا من نهاية هذه الملاحظات حول التاريخ، فقد يكون من المناسب أن نختتم بالكلام عن المصادر و الهوامش في التاريخ [ راجع ما كتبناه، في هذا الموقع، عن أنواع المصادر و المراجع، و كيفية تقييمها..].
إن المصادر و الهوامش تشكل الجانب التمحيصي ( إذا صح اللفظ) من العمل التاريخي.فقد اعتاد بعض المؤرخين، و أنا منهم، أن ينظروا في بادئ الأمر إلى الهوامش و المصادر عندما يقع بين أيديهم كتاب جديد.و ليس في الأمر غرابة، لأن المصادر و الهوامش في العمل التاريخي، تشبه اللمسات الأخيرة التي ننظر إليها أولا عندما نشتري سلعة ما.العديد منا، ينظر إلى اللمسات الأخيرة، و من ثم ينظر إلى السلعة ككل، قبل أن يعطي رأيه النهائي فيها.لذا فإن الكلام في موضوع الهوامش و المصادر هو من قبيل " أخيرا لا آخرا".فربّ عمل تاريخي جيد شوهته مصادره و هوامشه، لأن المؤلف أرسل به إلى الطبع دون أن يكلف نفسه مشقة الانتباه الدقيق إلى لمسات عمله الأخيرة.و ربّ عمل تاريخي سيء، غفرت له بعض ذنوبه المصادر و الهوامش التي صاغها المؤرخ بدقة فأفادنا على الأقل بأسماء بعض ما قد غاب عنا من أسماء المصادر.
و فيما يختص بالمصادر الثانوية، فإن الطالب يستقيها في البدء من الأستاذ المشرف، لكن كشاف المصادر في الكتب التاريخية الجيدة، كثيرا ما يرشدنا إلى مصادر أخرى ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع البحث.و حتى لا يضيع الوقت في قراءة مصادر ثانوية، لا قيمة لها، على الطالب أن يحسن تقييم الكتاب الذي يقع بين يديه، قبل أن يبدأ بقراءته، و ذلك بإلقاء نظرة سريعة عليه في شكله و مضمونه: من المؤلف؟ من الناشر؟ ما تاريخ النشر؟ هل فيه قائمة بالمصادر المستعملة؟هل فيه هوامش؟ هل هو مفهرس جيدا؟ هل له تصميم منطقي واضح من خلال دراسة فهرس محتوياته؟ هل الأسلوب رصين و علمي أم هو عاطفي متحيّز؟ أما فيما يختص بالمصادر الأولية، فمن الضروري الاعتماد على الطبعة الموثوقة عند الباحثين، دون سواها،مخافة إضاعة الوقت في الاعتماد على طبعات غير علمية. و لا بد لكل طبعة علمية أو تحقيق علمي من مقدمة يصف فيها المحقق المخطوطات التي اعتمدها و لابد لها من هوامش توضح الاختلافات بين المخطوطات، كما لا بد لها من فهارس للأعلام و الأماكن و إلى ما هنالك.
هذه بعض الإشارات التي تساعد على التمييز بين الصالح و الطالح من المصادر.أما فيما يختص بالهوامش فعلى الطالب أن يحدد وظيفة الهوامش بدقة.فالهوامش هي الاستشهاد أو الإيضاح أو الإضافة، و ليست أبدا للتبجح أو الحشو.و الاستشهاد يكون غما بنص أو برأي، أما الإيضاح و الإضافة فنعني بهما تلك الأمور الهامة التي لا مجال لإيرادها في النص، و لكنها قد تهم الباحثين في مواضيع لها صلة بالموضوع الأساسي.أما التواريخ المعروفة و الحوادث المتواترة ، فلا حاجة للدلالة عليها في الهامش.و لا يوجد أي مقياس يحدد لنا بالضبط كمية الهوامش اللازمة ،فإذا أكثرنا من الاستشهاد بدت الأطروحة و كأنها فسيفساء من آراء الآخرين، أما إذا كان الاستشهاد قليلا، فإن الأطروحة قد تبدو و كأنها معلقة في الهواء الطلق.
الدكتور طريف الخالدي- بحث في مفهوم التاريخ و منهجه- دار الطليعة- بيروت 1982- ص ص 83-88.