الجمعة، 17 يناير 2014

الخطاب العلمي العربي

في ما يلي، مقال بالغ الأهمية، كتبه المفكر العربي الأستاذ الدكتور الرميحي، رئيس تحرير مجلة العربي الأسبق، حفظه الله.و لأهميته، قررت إعادة نشره هنا، للتذكير بمحتواه،مصداقا لقوله تعالى:" فذكّر إن الذكرى تنفع المؤمنين"، صدق الله العظيم..
***

الخطاب العلمي العربي*

بقلم الدكتور محمد الرميحي
في ندوة عقدت بالكويت في ربيع 1981 عن الإبداع العلمي العربي الإسلامي – شارك فيها مجموعة كبيرة من ا لعلماء العرب و المسلمين الأجانب – وقف العالم الباكستاني المسلم الأستاذ محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 1979.وقف ليقول:" لقد كان عليَّ أن أختار في الخمسينات بين أن أبقى في باكستان أو أبقى في دراسة الفيزياء، و اخترت الأخيرة".
الخطاب العلمي العربي
عالم الفيزياء الباكستاني محمد عبد السلام(1926-1979)
 و كانت الإشارة واضحة، فهذه الكلمات القليلة تمثل أزمة العلماء و المشتغلين بالعلم في العالم الثالث اليوم، لأن هناك أسبابا كثيرة، و كثيرة جدا، تدفع العلماء في العالم الثالث طائعين أو مجبرين أن يتركوا بلادهم حتى يستطيعوا أن يشبعوا رغباتهم في الانجاز .لقد أردف وقتها، ذاك العالم الشهير بالقول:" لقد جئت هنا أتوسل إليكم أن تعطوا الأولوية القصوى للإبداع العلمي، و هي الخطوة الأولى و الأساسية إن أردتم اللحاق بركب التقدم العلمي".
قبل ذلك بعشر سنوات سمعنا نداء مشابها في قالب تعبيري مختلف في مؤتمر عقد بالقاهرة لتدريب العلميين، و يومذاك قال نائب مدير اليونسكو "مالكو أديشيا"- و هو هندي -:" إن أمريكا أنزلت رجلا على القمر على حساب إفقار دول نامية كثيرة من العلميين".
و لقد تكاثرت الكتابات و النداءات للاهتمام بالعلم و البحث العلمي، و بالعلميين في الوطن العربي و في دول كثيرة من العالم الثالث، ذهب جلها أدراج الرياح مع الأسف، دول محدودة فقط في العالم الثالث التفتت إلى هذه القضية و أولتها اهتماما خاصا في إطار خططها التنموية.
و الوطن العربي اليوم يقف أما تغيرات هائلة تستوجب إعادة طرح السؤال من جديد: و ماذا عن العلم و البيئة العلمية و البحث العلمي بالمعنى الواسع الشامل؟
العرب المسلمون و العلم !
لعل من نافلة القول ترديد ما كان للعرب و المسلمين في تراثهم من باع طويل في رعاية العلم و البحث العلمي شهد بها المنصفون من علماء الغرب قبل الشرق، و لعلنا نذكر على وجه التخصيص موسوعة جورج سارتون[(G.Sarton)(1884-1956) ] في تاريخ العلوم، و الذي اختار أن يقسم فيها تاريخ العلم إلى فترات تبلغ الخمسين سنة لكل فترة و يربطها بإحدى الشخصيات العلمية البارزة في ميقاتها، فعلى سبيل المثال ربط سارتون فترة 450-400 قبل الميلاد - و ما بعدها بأرسطو و العلماء الإغريق من بعده، ثم أورد الفترة الصينية.أما الفترة من سنة 750 م إلى 1100 ميلادية- " 350 سنة متواصلة " فكانت للعلماء المسلمين دون منازع، و تبرز فيها أسماء مثل :جابر بن حيان، الخوارزمي، الرازي، المسعودي، البيروني، ابن سينا، ابن الهيثم..إلخ، من مستوى هؤلاء العلماء.و بعد 1100 سنة ميلادية فقط يظهر أول الأسماء الغربية في موسوعة جورج سارتون- و لكن لقرنين و نصف يظل الشرف العلمي في الغرب شركة مع علماء مسلمين مثل ابن رشد و الطوسي و ابن النفيس.

الخطاب العلمي العربي
لفد كان الاهتمام بالعلم و المعرفة جزءا من فطرة المجتمع العربي الإسلامي و سمة لتقاليده، حتى أنه روى عن المعلم أبي الريحان البيروني (ت 442ه/1048 أو 1050م) على لسان أحد تلاميذه أنه قال:" لقد بلغني أن البيروني كان في حضرة الموت، فأسرعت إلى منزله أملا في أن أراه للمرة الأخيرة، و سرعان ما تحققت أنه لن يعيش طويلا ، و عندما بلغه قدومي فتح عينيه و قال: ألست فلانا؟ فأجبت بالإيجاب و عندها قال: بلغني أنك قد توصلت إلى حل مشكلة معقدة في قوانين الإرث في الإسلام، ثم أشار إلى مسألة معروفة استعصى حلها لزمن طويل، فلم أتمالك نفسي و قلت: و لكن في هذه الظروف يا أبا الريحان ! و كان جوابه: " ألا ترى أنه خير لي أن أموت عالما بالأمر من أن أموت جاهلا به؟". و بقلب مملوء بالأسى، أخبرته بكل ما عندي ثم استأذنته و انصرفت، و لم أكد أبرح باب داره حتى سمعت صائحا من داخل الدار يقول: إلى رحمة الله يا أبا الريحان ".
الخطاب العلمي العربي

 أبو الريحان البيروني،يعد من أكبر العلماء في تاريخ البشرية.
احتفل العالم بذكراه الألفية احتفالا مهيبا،فتعددت المؤتمرات ة الندوات التي عقدت لتكريمه،لاسيما 
 في البلدان التي اعتقد أنه ولد أو نشأ فيها:أفغانستان، و إيران، و باكستان، و الاتحاد السوفياتي   
لعل هذه القصة- و من أمثالها الكثير في تراثنا العربي الإسلامي – تؤكد حقيقة أثبتتها الدراسات الكثيرة ، و هي حرص هؤلاء الأجلاء على متابعة البحث العلمي دون كلل أو ملل.
و لعل القضية الأخرى اللصيقة باحتضان العلم و البحث العلمي في تراثنا، أن علمائنا الأوائل لم يكونوا فقط ناقلين، بل أضافوا و جددوا و نقدوا ما جاء إليهم من علم حضارات سبقتهم- و تلك حقيقة لا تقبل الجدل – فقد أصبح اقتران العلم العربي الإسلامي بتاريخ العلوم شرطا لضمان موضوعية هذا التاريخ، و كذلك لفهم أفضل للفترات التي أعقبت النهضة العلمية العربية.

الانقطاع و التواصل:

ما غاب عنا حتى الآن، و مازالت كتاباتنا تمر عليه مرور الكرام – هو الإجابة المنطقية العلمية عن هذا السؤال: لماذا انقطع التراث العلمي العربي الإسلامي و ضعفت جذوته ثم اختفت خلال فترة القرون الطويلة التي لحقت القرن الحادي عشر الميلاد؟
هناك بعض الاجتهادات، و لكن لم يتقدم أحد – حسب علمي حتى الآن[ 1986]- بتفسير منطقي واضح للأسباب الداخلية التي شلت النشاط العربي الإسلامي العلمي.
لقد تنبه العالم الإسلامي و الأمة العربية في القرن التاسع عشر و ما بعده على حقيقة مفادها أن الهوة العلمية و التقنية تزداد في الاتساع بيننا و بين الغرب إلى درجة أن تلك الهوة أوقعت كثيرا من بلادنا في قبضة السيطرة الغربية، و لكن الجهود العديدة في تخطي تلك الهوة و مجاوزتها كانت تبوء بالفشل مرة تلو الأخرى، فالسلاطين العثمانيون و محمد علي و حكام آخرون اكتشفوا بشكل أو بآخر أن المعادلة في طرفي الهوة هي في ضعفنا العسكري و الاقتصادي، كما تكن أيضا في حقيقة التخلف العلمي و التقني. و عرفوا أيضا أن القوة التي يواجهونها هي قوة العلم في شكل سلاح و تنظيم و تدريب.كذلك اكتشفوا أن العلم و التقنية ليسا في توفير الوسائل العسكرية للدفاع فقط، و لكن كذلك في الغذاء و الزراعة و الإسكان و الصحة و الصناعة و التربية، أي في كل مناشط الحياة.
منذ ذلك الوقت، و لقرن و حتى اليوم، أصبحت صيحة العلم و البحث العلمي تطرح بشدة أحيانا أو بضعف في أحيان اخرى على الساحة العربية الإسلامية، و كذلك في العالم الثالث. و لكن- كما يبدو- دون تقدم كبير في هذا المجال.
الخطاب العلمي العربي
السلاح= الحرية، و السيادة، و الكرامة..و أشياء أخرى

و منذ الحرب العالمية الثانية، حتى يومنا هذا، و قضية العلم و المعرفة العلمية تطرح في وطننا العربي، لقد اقتنعت أقطار عربية عديدة بأهمية البحث العلمي و ما يحققه من فوائد جمة عندما يتضح أثرها في الواقع الملموس، و أن العلم يمكن تسخيره في التنمية و الإعمار، و قد شغلت معظم هذه الأقطار العربية بإنشاء مراكز العلوم و مجالسها..و لكن ما نتيجة كل تلك الجهود؟
في بداية الثمانينات نجد تعليقا لأحد المختصين و المتابعين لهذا المجال هو الدكتور أسامة الخولي[1923-2002] ، يجيب فيه إجابة واضحة عن التساؤل الأخير فيقول:" لم ينجح قطر عربي واحد في إرساء دعائم وطيدة لنموذج بناء القدرة الذاتية و تسخير العلم لخدمة التنمية مثلما فعلت دول في العالم الثالث مثل :كوريا أو تايوان أو المكسيك أو بلغاريا على سبيل المثال"[1].

فالجهود المبذولة كلها أو جلها قد اعتورها القصور فبانت إما معطلة أو مبتورة بحيث لا تصل إلى نتائجها الحاسمة.تلك الخلاصة طبعت تساؤلا مهما:لماذا لا ننهض من جديد بمسيرة علمية حقيقية و شاملة؟
***
و ما زالت هناك أسئلة تطرح حتى الآن:
ما هي أولوياتنا في العلم و التقنية؟
كيف نهيئ الإنسان العربي للعطاء العلمي؟
من المسئول عن تمويل البحث العلمي و إعداد الكوادر المؤهلة لذلك؟
و بعض الأسئلة القديمة مازالت تطرح أيضا:
هل العلم ضروري إلى هذه الدرجة؟
و إذا كان باستطاعتنا الحصول على نتائج التقنية من العالم المتقدم فلماذا نبحث من جديد في اكتشافات علمية؟
بل مازال بعضنا يشكك في أن التفكير العلمي مناقض لبعض القوانين في تراثنا.يريدون بهذا الطرح أن يثبطوا همتنا مرة تلو أخرى و كأن الحقائق العلمية المتغيرة و المتطورة تهدد ما ورثناه من ثوابت. و تلك لعمري مقولة مسيطرة عليهم،و لا تمت إلى العلم بصلة، بل تتناقض تماما مع روح دعوتنا الحضارية.
و لكن تبقى الحقيقة المرة بارزة مهما حاولنا طمسها:هي أن افتقادنا للأمن الوطني و القومي نابع من إغفالنا للعلم، و أنه بغير الالتزام بمخطط واضح و صريح، و طويل الأمد،و قومي يحتضن قضية العلم، فليس هناك اطمئنان قريب يضفي على مشاعرنا السكينة و يكفل لنا الأمن العسكري و الغذائي و الثقافي..إلخ.

طبيعة التفكير العلمي:

لعل من الأخطاء الشاسعة بشأن الفكر العلمي أن نسِمه بأنه " مطلق"، فالفكر العلمي نسبي، و ما هو حقيقة اليوم قد لا يكون كذلك بعد فترة من الزمن، فهو نظام فكري يقر النظرة النقدية و التجربة و الملاحظة. و تاريخ العلوم، ليس مجرد تاريخ الاكتشافات العلمية و تطور مفاهيمها، بل إنه تاريخ حرية التفكير و السعي الدائم للتخلص من المطلقات الفكرية عندما تصبح تلك المطلقات عوائق أمام التقدم !
 و العلم هو جهد إنساني منظم يحاول فهم ما يجري حول الإنسان في بيئته الطبيعية و الإنسانية.و كان تطور العلم في الاتجاهين الطبيعي و الإنساني متداخلا يرفد بعضه بعضا.هذا الجهد الإنساني متواصل تسلمه حضارة لحضارة، و جيل لجيل، و أيضا ليس هناك من شك بأن القرنين الماضيين شهدا مسيرة منتظمة و صاعدة في تخليص العلم بمعناه الدقيق من العبث و الخرافة حتى تطورت مناهجه. و لقد شهد العلم الطبيعي أيضا- بمعنى العلوم الأساسية و التطبيقية – تطورا بشكل أسرع مما شهده الشق الثاني من العلم، و هو العلوم الاجتماعية ( دراسة الإنسان في نفسه أو في علاقاته و تنظيماته).
إلا أننا اليوم يمكن لنا أن نقرر بارتياح أن العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، قد اكتسبت احتراما و تقبلا نسبيا بعد أن تقاربت في مناهجها و مباحثها مع العلوم الطبيعية.و لكن، لعل كثيرا منا عندما يتحدث عن العلم دون تحديد ينصرف الذهن مع هذا الحديث إلى العلم الطبيعي[ الفيزياء، و الكيمياء، و الجيولوجيا..إلخ] و تطبيقاته [ التكنولوجيا] فقط.
و من المفارقات الطريفة بين العلم الطبيعي و العلم الاجتماعي، أن أهم العوائق و العقبات في مجتمعنا العربي اليوم أمام تقدم العلم الطبيعي و تطبيقاته هي عقبات مجتمعية !
فما زالت بيننا فئات اجتماعية لم تسلِّم بعد بالأركان الأساسية لمتطلبات التفكير العلمي، حيث تتبنى مواقف شديدة الضرر للتقدم العلمي مثل التطير و التشاؤم و الاعتقاد بالخرافات، و أقلها ضررا الاستخفاف بما يمكن أن يقدمه العلم من حلول إيجابية لمشكلاتنا.تلك قضية مجتمعية في وطننا العربي على اختلاف درجاتها في أقطاره.و لعل مؤرخي العلوم يذكرون لنا مثلا آخر في التاريخ حيث توقف النمو العلمي في الصين، و كانت في فترة من فترات التاريخ؛ قمة التقدم العلمي و التقني؛لأن الطلب الاجتماعي على العلم قد تضاءل ثم انكمش لعوامل داخلية و خارجية، حينما تفشت الخرافات، و استشرى داء الجهالة، و خبت جذوة العلم و الفكر.
و مسئولتنا اليوم جميعا، هي حفز الجماهير و استثارة إقبالها على خوض مجالات العلم، لا من أجل مكانة أفضل في المجتمع أو دخل أعلى، و إنما من أجل النهوض العام بهيكل البناء على جميع مستوياته.

البعد الاجتماعي و الثقافي:

ما هي تفاصيل البعد الاجتماعي و الثقافي التي تنشط الإقبال الاجتماعي على العلم و التقنية أو تضعفه؟
إن الخوض في التفاصيل لا شك سوف يؤدي بنا إلى تفريعات كثيرة، إلا أن الحلقات الرئيسية يمكن إجمالها في القول بأن التاريخ قد برهن لنا أكثر من مرة أن العلم يمكن أن يقدم إلى مجتمعات تأخذ باجتهادات اقتصادية و سياسية مختلفة.. و في بعض الأوقات متناقضة، فقد ازدهر العلم في مجتمعات شمولية ، كما ازدهر في مجتمعات ليبرالية،كما ازدهر في مجتمعات تأخذ خطا وسطا بين هذه و تلك.
كذلك  في المقابل نجد أن كثيرا من الاكتشافات العلمية ظلت مهملة لسنوات طويلة قبل أن تتحول إلى التطبيق في تقنيات محددة،لأن الحاجة غليها لم تنشط.
كما أن العلم و التطبيقات العلمية، لم يكن ينظر إليها حتى في عصر النهضة الأوروبية نظرة اجتماعية إيجابية، إلى درجة أن الجامعات المحترمة- في بعض دول أوروبا – لم تكن تقبل تخريج ( مهندسين) على أساس أنهم مجرد وسطاء لتطبيق نتائج العلم و تحويله إلى تقنية ![2]
ما أريد أن أقول إن تنشيط الطلب الاجتماعي على العلم و التقنية، لا بد أن يسبقهما خلق وعي عام بأهميتهما في تقدم الحياة و ازدهارها ، و تحقيق الاستقلال الوطني و القومي.
ما مجالات تنشيط هذا الوعي؟
في تقديري المبدئيح أن خلق هذا الوعي يجب ان يتكرس لدى القيادات الفكرية و السياسية، و أن يترسخ في أذهانها إيمان كامل بأهمية بناء القدرات الوطنية و العلمية و التقنية، و أن هذا البناء يحتاج إلى مال و وقت وجهد أيضا.
هناك عزلة حقيقية بين القيادات الفكرية من مثقفين من غير رجال العلم  و بين ما يجري في دنيا العلم على أيدي المقتصرين عليه، و بعضهم لا يقدرون أثره في حياتهم و حياة مجتمعهم و عالمهم.فهناك من الناس من هم منصرفون عنه، و البعض مبهور به بغير دراية، و البعض الآخر خليط بين هذا و ذاك، و هذا ينسحب على معظم مراتب القيادات السياسية.
هذه العزلة تتمثل في ظواهر عديدة منها على سبيل المثال الأوضاع الشاذة لتدريس العلوم في أنظمتنا التعليمية، و أذكر – و لعل غيري يذكر معي – كيف كان مدرس الطبيعة في المدرسة الثانوية التي تعلمنا فيها يقدم لنا التجارب العلمية على أنها نوع من السحر أكثر منها قوانين طبيعية.
و في جامعاتنا مازال التعليم العلمي غريبا عن لغتنا و يلبس أثوابا غريبة عن مجتمعنا، و يعالج مشكلات ليس لنا بها علاقة !
و يضاف إلى ذلك ما يثور بين العشيرة العلمية العربية من وجوه النزاع و الخلاف بعضهم مع البعض الآخر، حتى دخلت العلاقات بينهم في نطاق " ما صنع الحداد"، كما يقول المثل.
و الحلقة الأخرى في البعد الاجتماعي الثقافي و علاقته بالنمو العلمي ما اصطلح على تسميته بالتنشئة الاجتماعية، فما زالت هناك علامات استفهام كثيرة.
إن ما يغرس في نفس الطفل من المحيطين به " الوالدان أو أحدهما أو أحد الأقارب المحتكين بالطفل أو أحد المدرسين" في هذه المرحلة المبكرة من طفولته هو ما يبقى و يظهر بعد ذلك في علاقاته مع الناس و المجتمع.
و التناقض الذي يواجه الصغير في معظم مجتمعاتنا العربية من تسامح مطلق في السنوات الأولى من الحياة، و أوامر بالانضباط ترقى إلى التسلط في الطفولة المتأخرة، يشكل في الغالب شخصية ليس لديها الاطمئنان الوجداني ؛ فيشب الولد أو البنت مترددا خجولا يخاف ولوج غير المألوف الذي هو أساس الإبداع مع التنمية العلمية.
و قد عبّر عن هذا المعنى أستاذ الاجتماع العربي "د.سعد الدين إبراهيم"ن حيث قال:" فالمبدع الذي يجهر بإبداعه في مجتمع سلطوي محافظ- مثل المجتمع العربي – هو في الواقع شهيد أو لابد أن يهيئ نفسه للاستشهاد !".

الصحوة العلمية العربية:

المسيرة العلمية العربية خلال الأربعين سنة الماضية، فيها من النجاحات بقدر الإخفاقات، و فيها من الإيجابيات بمثل المثبطات.
فـ"عادل ثابت" في الكتاب الرائع الذي أصدره " مركز دراسات الوحدة العربية" حول تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي يلخص لنا التجربة المصرية فيقول:" لقد وضعت الخطط تلو الخطط – في مصر خلال الأربعين سنة الماضية – و تواصلت الجهود دون تحقيق الكثير من النتائج التي تسهم في حل المشكلات الملحة للمجتمع.
" إن التجربة المصرية توصلت لضرورة النظر إلى التقنية بشكل جاد و موضوعي وفقا للدراسة المتأنية الشاملة التي تشترك فيها كل جهات الاختصاص و المسؤولين عن سوق العرض و الطلب من علميين و تقنيين اقتصاديين و تشريعيين".
إذا كان هذا ملخص تجربة أكبر قطر عربي و أقدمها في تاريخ التعليم، فالصورة في بقية اقطار الوطن العربي على اختلاف قدراتها أكثر تواضعا.
إلا أن للصورة وجها آخر، فهذا د. أنطوان زحلان الرجل الذي اهتم لفترة طويلة بتتبع العلم و السياسة العلمية في الوطن العربي حتى اصبح أحد الثقات في الموضوع يقول:إنه إذا استمرت الجهود في الإنتاج العلمي التي سادت في الوطن العربي في العقود الثلاثة الماضية كما هي حتى نهاية القرن، فإن ذلك قد " يخرج الأقطار العربية من موضعها في العالم الثالث".
و يعتمد زحلان على مجموعة من المؤشرات من بينها الإنتاج العلمي المحكم المنشور في مجلات دورية، و كذلك على أعداد الخريجين و الخريجات من الجامعات العربية و التي يقدر أنها ستبلغ اثني عشر مليون خريج في نهاية القرن الحالي.
و بعيدا عن الإحصائيات تقول لنا دراسات متفائلة أخرى بكلمات قاطعة أن الإنسان العربي قادر و صالح تماما للعطاء العلمي.
تلك الدراسات تعيد الثقة إلى النفس،إلا أن النجاحات التي نصادفها في الوطن العربي – كما يقول بعض النقاد – هي في حقيقتها جزر منعزلة، و ما زالت بعيدة عن التأصيل في المجتمع.


الخطاب العلمي العربي
بواعث..الأمل و التفاؤل
و إذا آن لنا أن نختم هذا الحديث فلنختمه بملحوظات الدكتور محمد كامل رئيس "المركز القومي للبحوث" بمصر،إذ يقول عن التقنية:" إن الدراسات التي أجريت في البلدان الصناعية المتقدمة أثبتت أن من 60% إلى 80% من التحسن في مستوى المعيشة يعود إلى التقدم التقني، و أن 20% فقط يعزى إلى تراكم رأس المال".
لقد تعودنا في العقدين الأخيرين – على الأقل – أن نستهين برأس المال على أساس أنه متوافر بشكل أو بآخر في الوطن العربي، و لقد بدأت السنوات القليلة الأخيرة تثبت لنا أنه حتى هذا – توافر رأس المال – لم يعد على الأقل كما كان.
لقد كان هناك استثمار لا بأس به على مستوى الوطن العربي في الإنسان، و قد آن لنا أن ننظم هذا الاستثمار و ننميه بالاعتماد على العلم بشقيه الطبيعي و الاجتماعي،لإيجاد حلول لمشكلاتنا العربية المتزاحمة التي أصبح تزاحمها مشكلة جديدة أيضا !!
المصدر:العربي- العدد 330- مايو 1986- ص ص 8- 15.
* الصور المرفقة بهذا المقال ، و كذا التعليقات عليها ، هي من إضافة صاحب المدونة ( و لم تنشر مع أصل المقال،في العربي).

[1]  لاحظ بأن مثقفينا،في تلك الفترة، لم يكونوا على علم بالتقدم الذي كانت تحرزه تركيا في المجالين العلمي و التقني، في ذلك الوقت: فلقد كانت تعمل ببط و بصمت و بسرية،حتى إذا جاءت الحكومات الإسلامية، استطاعت أن تستثمر جهود كل الحكومات السابقة، و تضيف إليها الكثير، فتحققت المعجزة الاقتصادية التركية، كما نعرفها اليوم.
هذه المعجزة جديرة بأن تحظى باهتمام الباحثين العرب و المسلمين،لأننا نتقاسم مع الأتراك أشياء كثيرة مشتركة( دين، و تاريخ و و حضارة و  تقاليد..إلخ): و من ثم ، فهي الأقرب إلى النموذج الذي يمكن أن نطمح إليه.
[2] و اليوم انقلبت الآية، و أصبحت الجامعات تفتخر بعدد خريجيها من المهندسين، في كل فروع الهندسة.لا بل يلاحظ في فرنسا و الدول التي أخذت بنظامها التعليمي، أن المدارس العليا و مدارس أو معاهد تكوين المهندسين تحظى باهتمام السلطات الحاكمة، أكبر من ذاك الذي يمنح للجامعات، و يتمثل ذلك بالخصوص في الميزانيات التي تخصص لها، و التي تفوق بكثير الميزانيات التي تخصص للإنفاق على الجامعات( يحدث هذا في فرنسا، و المغرب، و الجزائر، و تونس على سبيل المثال لا الحصر..في حدود علمي، و الله أعلم ).

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

المنهجيات الجامعية:
 لقد خلصنا في درس السابق، إلى توضيح حقيقة هامة، هي أن المنهجية ظاهرة اجتماعية،تكاد تكون لصيقة بكل الجماعات الاجتماعية.ففي كل ميدان أو نشاط اجتماعي نجد منهجية غالبة؛ تمثل بالنسبة للمنتمين لذلك الميدان دليلا أو مرشدا مشتركا،ينطلقون منه و يعودون إليه،لمعرفة  الكيفيات التي ينبغي عليهم استعمالها لتحقيق أهدافهم( بحكم انتمائهم لجماعة واحدة).
 و من هنا ، يقال بأن المنهجية، هي "القَيِّم أو الحارس" على المناهج المتبعة في  كل ميدان من الميادين؛ فتمارس الرقابة عليها(المناهج) و تقيِّمها؛ لتقوّمها أو لتنتقي منها ما تراه مناسبا أو ملائما، حسب الأحوال و حسب ميادين العمل الفكري أو اليدوي. و من هنا، فالمنهجية الجامعية،بحكم انتمائها إلى  مجتمع معين- (= بمعنى  نموذج معرفي /ثقافي معين) -، تمثل مجموع المعايير التي يتم على ضوئها؛ اختيار المناهج التي تتفق مع مفهوم " العلم الحقيقي ..أو المعرفة الصحيحة..أو الطريقة السليمة.."، في حقل علمي معين، أو نشاط مهني معين من أنشطة الحياة[1](المطلب الأول).
و لأن الجامعات تتكون من عدد من الكليات ( و المعاهد و المدارس)، من جهة.و لأن كل مؤسسة من هذه المؤسسات، تميل لأسباب موضوعية و ذاتية، إلى الاستقلال بمنهجيتها الخاصة،من جهة أخرى،فإنه غالبا ما تظهر إلى جانب المنهجيات الجامعية العامة، منهجيات جامعية فرعية (المطلب الآخر).

المطلب الأول: المنهجيات الجامعية العامة:

إن المنهجية كما مرّ معنا أعلاه، هي الرؤية العامة،أي مجموع "الحقائق و القواعد و المبادئ و طرق التفكير..إلخ"، التي تؤمن بها جماعة صغيرة - كجماعة الأطباء أو صناع الخزف مثلا-، أو جماعة أكبر هي المجتمع ( و ما تؤمن به الجماعة الصغيرة، ينبثق بشكل مباشر أو غير مباشر، من ثقافة الجماعة الأكبر):في الحالة الأولى نسميها منهجية، و في الحالة الأخيرة(عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الكلي=الدولة) نسميها ثقافة أو حضارة أو  إيديولوجيا عامة،أو حتى رأي عام..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية

دليل كتب لطلبة غير فرنسيين ،لتعريفهم بالمنهجية الجامعية الفرنسية

و بالتالي، يمكن القول أن المنهجية الجامعية هي الرؤية العامة، التي تهتدي بها كل جامعة جامعة، عندما تحدد الأهداف التي تريد بلوغها،أو تختار الوسائل أو المناهج التي تريد الاستعانة بها.ذلك أن المنهجية ، ذات طبيعة مزدوجة؛ فهي تعني من ناحية؛ مجموع الأهداف التي ينبغي تحقيقها،و هي ( أي الأهداف) مستمدة من "الفلسفة" أو "الإيديولوجيا" العامة التي يتبناها المجتمع(و بالأخص الأيديولوجيا التي تعتنقها القوى الاجتماعية المسيطرة عليه). و من ناحية أخرى تعني؛ مجموع الطرق(المناهج ) و الوسائل التي تستخدم(أو ينبغي استعمالها) لبلوغ أو  انجاز تلك الأهداف.
و عليه، فالمنهجية الجامعية، هي  مجموع الأهداف و الوسائل( و ما يرتبط بها من قواعد و تعاليم و نصائح و إرشادات عامة..)، القابلة للتطبيق في الحياة الجامعية.فهي إذن، خلاصة المناهج المنتقاة – أي التي ثبتت صحتها من وجهة نظر "مجتمع"  الجامعة: في التعليم، و البحث،و إلقاء الدروس،و إجراء الامتحانات،و أسماء و نوعية الشهادات الجامعية و الدرجات العلمية..إلخ.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
 و بالتالي،فالمنهجية الجامعية، تتضمن مجموع القواعد و المبادئ و القيم..إلخ،التي يتم على أساسها انتقاء المواضيع التي ينبغي أن تعلّم للطلاب.و  هي التي تحدد مفهوم العلم الحقيقي و الصالح، الذي يستحق الدعم و المساندة.و هي التي تضع المعايير، التي على أساسها يتم اختيار الأساتذة.و هي التي تحدد المبادئ و القيم التي يعتز بها المجتمع، و يعتبرها أهلا لأن تلقن للطلاب( أي أنها هي التي تحدد مواصفات المواطن الصالح)،و هي المعايير التي على أساسها نوزع شواهد النجاح..إلخ.
لا بل إن المجتمع- أعني الفئة الغالبة عليه- هو الذي يحدد للجامعة أهدافها و وسائلها و أسماء و أنواع "دبلوماتها".ألم نقل بأن المنهجية ليست إلا انعكاسا للنموذج المعرفي السائد في المجتمع؟ بلغة أخرى، فالمنهجية الجامعية، في كل جامعة، تبني الجسور، بين  ما يريده المجتمع ،أو أهم و أقوى مكوناته ، و ما (يجب) أن تحققه الجامعة.
غير أن الجامعة ليست جماعة أو مجتمعا أو" مدينة صغيرة ، متجانسة في قيمها و متماثلة في سلوكها". بل على العكس من ذلك،فهي تتكون في الغالب من مجموعة من "الثقافات الفرعية" المتعددة و المتنوعة؛ثقافات الكليات، و المعاهد..،و الأساتذة و الطلاب،و الإداريين[2]. مما يؤدي إلى وجود مستويات من المنهجية الجامعية:المنهجية الجامعية العامة،التي تشترك فيها كل فروع الجامعة الواحدة، و المنهجيات الجامعية الفرعية؛ الخاصة بكل فرع أو وحدة أو مؤسسة أو كلية أو معهد.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
الجامعة..مجموعة من الثقافات الفرعية

المطلب الآخر:المنهجيات الجامعية  الخاصة:

تستمد كل جامعة ، منهجيتها العامة، من قيم، و قوانين، و أخلاق، و عادات، و تقاليد، و أهداف..إلخ، المجتمع الذي تنتمي إليه.بكلمة و احدة، تستقي الجامعة، منهجيتها العامة، من الحضارة التي تنتمي إليها، أو من الإيديولوجية التي تعتنقها النخب الحاكمة في المجتمع[3].ولأن النخبة الحاكمة، تتأثر بروح العصر الذي تنتمي إليه، أو تربطها علاقات بالفئات أو المصالح المهيمنة على ذلك العصر،فمن الطبيعي أن تكون تعكس ثقافتها- و منهجيتها- الآراء السائدة في عصرها أيضا.
هذا ما يتجلى مثلا في القانون المتعلق بتنظيم التعليم العالي في المغرب[4]، فهو يعكس إلى حد كبير رؤية المشرع المغربي لآمال و هموم،قسم كبير من المغاربة. و لقد حدد في مادته (3) من الفصل الأول (الخاص بالجامعات)،مهام الجامعات المغربية التي لا تختلف كثيرا عن المهام المسندة لأي جامعة أخرى  من جامعات  العالم":فتحت تأثير منهجيات التعليم الأوربية، أصبحت كل الجامعات تصدر عن رؤية واحدة موحدة تقريبا،تعبر عنها منظمة "اليونسكو" على النحو التالي:"..ففي الجامعات تلتقي، في المقام الأول،مجمل الوظائف التقليدية المرتبطة بتقدم المعارف و نقلها، و البحث،و التجديد، و التعليم و التدريب، و التعليم المستمر. و يمكن أن نضيف إلى هذه الوظائف وظيفة أخرى تزداد أهميتها باستمرار منذ بضع سنوات، ألا وهي التعاون الدولي"[5]
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
و هكذا، فلقد  صار من أهداف الجامعة المغربية مثلا،إشراك الطلاب الجامعيين ،على تنوع و تعدد تخصصاتهم، في ثقافة عامة واحدة، مغربية و عالمية ، حتى يتخرجوا جميعا: أبناء جامعة واحدة، و أبناء وطن واحد، و أبناء إنسانية واحدة[6]، و أبناء زمن واحد (بكل ما فيه من خير و شر).و بذلك يتعمق في وجدان الطالب الإحساس بالانتماء الإنساني،و الحس الوطني،و الولاء لبلاده و أهله، و الفخر بدينه و لغته،و يتكون لديه الثراء الروحي و الثقة بالنفس،و تقوى شخصيته.و كل هذه مؤهلات و مهارات و أخلاق..عامة، يحتاجها كل الطلاب في كل الجامعات، و في كل الكليات و المعاهد، بل و في كل التخصصات.
غير أنه، و رغم أن الكليات و المعاهد التي تنتمي إلى جامعة واحدة، تشترك في هذه الأهداف(المنهجية) العامة و في وسائل تحقيقها أيضا.إلا أن كل كلية و كل معهد أو كل مدرسة في تلك الجامعة، تنزع إلى أن تكون لها منهجيتها الخاصة،في حدود المتاح لها من استقلال .و لقد أظهرت الملاحظات الأمبريقية و الدراسات السوسيولوجية، أنه كلما وجدت مجموعات فرعية، اتجه أفرادها إلى أن تكون لهم طرقهم الخاصة و أساليبهم و أهدافهم المتميزة.و يضاف إلى ذلك، و يدعمه، عوامل أخرى هي أن الاختلاف في المهام المسندة لكل كلية ،و كذا ظروف نشأتها أو تطورها، قد تؤدي إلى تفرد كل منها بمنهجيتها الخاصة،حتى لو كانت جميعها تنتمي لمنهجية عامة واحدة: فلكل تخصص، و لكل متخصص، و لكل بيئة خاصة.. خصائصها المنهجية.
و في الواقع،فإن هذه الاختلافات لا تعود لعوامل موضوعية وحدها،بل نجدها قد تنتج عن عوامل مرتبطة برغبات و أهواء و طموح بعض الفاعلين الاجتماعيين ، داخل كل كلية على حدة ، و لاسيما الأساتذة. يقول الأستاذ السعيدي في هذا الصدد:
..فالأساتذة الجامعيون، بحكم اختلاف مشاربهم الفكرية و المعرفية و الإيديولوجية، و باختلاف مكانتهم الجامعية و العلمية و مواقفهم الثقافية، الاجتماعية و السياسية؛ غالبا ما تختلف أيضا أهدافهم المعرفية و العلمية و الإيديولوجية،عن الأهداف التي تحددها المؤسسة داخل التنظيم الجامعي؛ و يتجلى ذلك بوضوح في الأهداف المعرفية داخل المقررات ، و في نفس المادة المدروسة، و نفس التخصص بالنسبة لكل أستاذ جامعي.فكل أستاذ جامعي يضيف للدروس المقررة ، دروسا أخرى مكملة وفق هواجسه و همومه المعرفية و العلمية. هذا الوضع الذي يختلف عن الأهداف الديداكتيكية في المقررات الوزارية المدروسة داخل التعليم ما قبل الجامعي[7].
 لهذا، لا ينبغي أن نستغرب إذا وجدنا المناهج، المستعملة في كل كلية ، أو حتى في كل تخصص، بل و في الكثير من  المواد الدراسية أحيانا[8]، مختلفة  بعضها عن بعض،مع ادعائها جميعها بالانتماء إلى نفس المنهجية الجامعية العامة:فهذا أحد مميزات الجامعة، و أحد ثمار الحرية الأكاديمية.
المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية
كتاب عن منهجية دراسة القانون في فرنسا
كما أنها إحدى الضروريات التي يمليها التخصص.فمع أن كل الكليات،التي تنتمي إلى منهجية عامة واحدة ( مجتمع واحد)، تعلم طلابها مجموعة من المهارات العامة المشتركة أو المتشابهة،التي يحتاجونها للقيام بأعمالهم الدراسية العادية،مهما كانت تخصصاتهم.إلا أننا نجد إلى جانب ذلك،بل أهم من ذلك، منهجيات أخرى خاصة في كل كلية و معهد، يجب على المنتمي إليها(الكلية أو المعهد) أن يتعلمها؛لأنها ترتبط بالمهن التي سيمارسونها بعد التخرج .مثل المهارات التي يحتاجها الأطباء ، و المهندسون، و المحامون، و الباحثون العلميون..و غيرهم.

المفهوم الحقيقي للمنهجية الجامعية من الناحية العملية



[1]  فحتى في الاستعمال الدارج و العادي، عندما يستعمل الناس المنهج أو المنهجية، يستعملهما بمعنى التخطيط لهدف، أو الوسيلة و الغاية معا:فيقال هذا الرجل يعمل وفق منهجية معينة، أي أنه قد رسم لنفسه هدفا، و سخر الوسائل المتاحة له  لتحقيقه . فالمنهجية تعني هنا الإجرائية أو المسطرة أو الإستراتيجية.
[2]  هيربرت جاكوب-بعض نتائج تقدم العلوم و العلوم الاجتماعية – في:دور الجامعات في عالم متغير – م.س – ص 148.
[3]  فجامعة القرويين ،على سبيل المثال،كانت تتمتع بالاستقلال التربوي (لأنها على الأرجح كانت مستقلة ماليا، ينفق عليها من الأحباس )، طيلة العصور الوسطى.و لكن ابتداء من الثامن عشر، فرض المخزن المغربي، على الجامعات المغربية تلقين تخصصات معينة، و منع على علمائها تدريس مجموعة من العلوم العقلية. و هذا ما نجده في الظهير الذي أصدره السلطان سيدي محمد بن عبد الله ( 1757-1790 )،الذي حدد بدقة المواد التي يجب تدريسها و تلك الممنوعة و الكتب التي ينبغي الاعتماد عليها.ثم أصبح هذا الظهير، لاحقا، هو الأساس الذي ينظم العلاقات بين مؤسسة الخزن و المؤسسات الجامعية. و بعد وضع الدستور الأول (1962)،انتقل هذا الاختصاص من المخزن ، بمفهومه التقليدي،إلى الوزير الأول، الذي أصبح  يحدد التخصصات  و لوائح الشهادات..و غيرها من مهام الجامعة، بمقتضى مراسيم،يصدرها بعد دراستها في المجلس الوزاري. انظر:د.حسين العمراني-إدارة التعليم العالي و البحث العلمي بالمغرب(الجزء الأول:ضرورة عقلنة اتخاذ القرار)- دون إشارة لمكان الطبع-1999- ص 156.
من ذلك على سبيل المثال، المرسوم 2.04.89 الصادر بتاريخ 18 ربيع الآخر 1425 (7 يونيو 2004)، بتحديد اختصاص المؤسسات الجامعية و أسلاك الدراسات العليا، و كذا الشهادات الوطنية المطابقة.
[4]  انظر:الظهير شريف رقم 1.00.199، الصادر في 15 صفر 1421(19 ماي 2000)، بتنفيذ القانون رقم 01.00.
[5] التعليم ذلك الكنز المكنون – تقرير قدمته إلى اليونسكو اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي و العشرين- اليونسكو/مركز الكتب الأردني- عمان 1997- ص 114.
و هذا ما أكده بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته منظمة اليونسكو في  باريس ( ما بين 5-8 يوليوز 2009).
[6]  جاء في بيان المؤتمر العالمي للتعليم العالي لعام 2009، الذي نظمته اليونسكو( و المنشور في موقع اليونسكو):
المادة3:و ينبغي لمؤسسات التعليم العالي أن تعمل، من خلال مهامها الأساسية ( البحث و التعليم و خدمة المجتمع)، التي تضطلع بها في سياق الاستقلال المؤسسي و الحرية الأكاديمية، على تعزيز توجهها الجامع بين التخصصات، و تشجيع التفكير النقدي و تعزيز المواطنة النشطة.فمن شأن ذلك الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة و السلم و الرفاهية، و في تطبيق حقوق الإنسان، و منها المساواة بين الجنسين.
المادة 4:ينبغي ألا يقتصر التعليم العالي على تطوير مهارات عالية لخدمة العالم الراهن و المقبل فحسب،و إنما يجب ان يسهم أيضا في تهيئة مواطنين ذوي مبادئ أخلاقية و ملتزمين ببناء السلام و الدفاع عن حقوق الإنسان و القيم الديمقراطية.
[7]  السعيدي – ص 135.
[8] "إن مادة المنهجية ليست مادة موحدة إذ ليس هنالك من منهجية واحدة و إنما هنالك منهجيات و تقنيات مختلفة باختلاف موضوعها.و لكن رغم هذا الاختلاف في المنهجيات إلاّ أن فكرة واحدة تنتظمها..": المنهجية القانونية – م.س- ص11.

في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟

في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟

في المنهج و المنهجية : 

المنهجية ليست مفهوما بسيطا،بل هي متعددة المعاني و الدلالات؛ و لإيفائها  حقها من البحث و التمحيص، نجد أنفسنا مضطرين لإتباع المنهج التالي:في البداية، سنحاول تحديد معناها اللغوي و الاصطلاحي ( العلمي) ،حتى يسهل علينا تمييزها عن مفهوم المنهج الذي يلتبس معها أحيانا( المبحث الأول).
و بعد ذلك سيصبح الطريق ممهدا أمامنا للاهتمام  بالمنهجية وحدها، ماهيتها؟ و أهميتها؟ و وظائفها؟ و كيف تصاغ؟ و علاقاتها بالزمان و المكان اللذين تنتمي إليهما( المبحث الآخر).

المبحث الأول:تعريف المنهج و المنهجية:

 كثيرا ما  يخلط الناس ، بين ما اصطلح العلماء على تسميته بالمنهجية، و بين ما يعرف باسم المنهج، و يضعون أحدهما موضع الآخر[1]. على الرغم من أن هناك فرق كبير بينهما.
فما هو المنهج إذن؟ (المطلب الأول) .و ما هي المنهجية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: المنهج:

المنهج ، في اللغة، هو الطريق الواضح( الفرع الأول).و يستعمل اصطلاحا،في الجامعة، للدلالة على الطريقة العلمية، التي يتبعها الدارسون في دراسة موضوع معين، للوصول إلى نتيجة/نتائج معينة (الفرع الاخر).

الفرع الأول: المنهج في اللغة و الاصطلاح الفلسفي:

المَنْهج و المِنْهَج، في اللغة العربية- و يقال أيضا "مِنهاج و الجمع مناهيج"-؛ هو:"..  أسلوب يجري العمل بموجبه و على غراره(...) و منهج العمل أسلوبه، مثل procédure  و الجمع مناهج". و يأتي النهج أيضا، بمعنى:"..الأسلوب الواضح المستقيم "[2]، و يستشهد لذلك بقوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً (المائدة:48).
و الراجح أن لفظة " المنهج" مشتقة من النَّهج، بمعنى  الطريق أو "الطريق الواضح المستقيم"، مثل"الشارع المستقيم ". و في هذا الصدد يقال:".. طريقٌ نَهْجٌ:واسعٌ واضحٌ..و نهَجَ الأمرُ :وضُح.و مِنْهَجُ الطريق:وَضَحُه.و المِنهاج:الطريق"[3]. و ليس في معاجمنا العربية القديمة،مصطلح المنهج، بمعنى "طريقة البحث العلمي"؛ فهذا المفهوم محدث في اللغة العربية[4].
و يقابل أو يطابق كلمة " المنهج" العربي في اللغات الأوروبية؛ كلمة (méthode) الفرنسية و نظائرها في اللغات الأوروبية الأخرى(مثل=method الإنجليزية) . و كلها تعود إلى أصل واحد هو الكلمة اليونانية (methodos) المركبة من مقطعين: (odos) بمعنى الطريق، و (méta) التي لها معاني متعددة منها: الاتجاه، و المتابعة، و البحث، و الأسلوب، و النظام، و الدراسة،و المعرفة.و لقد استعمل مصطلح (méhtode) في العهود القديمة و الوسطى الأوروبية، بكل المفاهيم المذكورة سابقا[5]. و لم يأخذ معناه أو مفهومه الحالي- بمعنى " مجموعة القواعد المتبعة في البحث عن الحقيقة و المعرفة العلمية"-، إلا ابتداء من القرن السابع عشر، مع كل من"فرنسيس بيكون"( Bacon )(1561-1626) و "روني ديكارت"( Descartes)(1650-1596) و من تبعهما[6].
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
فرنسيس بيكون
وهكذا، و منذ هذا التاريخ، تقريبا، انتشر استخدام هذا المصطلح في كل ميادين الحياة، ليدل  في أعم معانيه على "..وسيلة لتحقيق هدف ، و طريقة محددة لتنظيم النشاط.و بالمعنى الفلسفي الخاص، كوسيلة للمعرفة.."[7]، أو على " كل طريقة تؤدي إلى غرض معلوم نريد تحصيله "[8].و " بصفة عامة هو الطريقة،بمعنى الطريق الواضح الذي يفضي إلى غاية مقصودة، فيكون المنهج طريقا محددا لتنظيم النشاط من أجل تحقيق الهدف المنشود"[9].
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
رونيه ديكارت

الفرع الآخر:المنهج في التربية و التعليم:

و لكن مصطلح المنهج، يستعمل اليوم، في ميدان التربية و التعليم، ليدل على معنيين اثنين أكثر من غيرهما:
أ‌-      الأول: استعمل رجال التربية و التعليم ( في الماضي) و يستعملون(اليوم أيضا) ، المنهج بمعنى " ما يقدم من مواد مختلفة للتلاميذ و الطلاب بالمدارس و الجامعات".فهو يعني في هذه الحالة؛ مجموع المقررات(المواد) الدراسية التي يفرض على الطلاب دراستها في فصل معين أو سنة دراسية معينة أو أكثر؛ فتدرس مستقلة أو مترابطة مع بعضها البعض، و يعبر عنها أحيانا بالبرنامج الدراسي[10].و يعتبر هذا المنهج في الغالب،التطبيق العملي لفلسفة المجتمع في الحياة، فيشمل نظرته للحياة و القيم التي يؤمن بها و الأهداف التي يعمل لتحقيقها[11].
ب‌-   المعنى الآخر، هو المنهج بمعنى".. مجموع الإجراءات و العمليات الضرورية التي يحتاجها العالم أو الباحث في التعامل مع موضوع للوصول إلى الأغراض المستهدفة"[12]. و بالتالي فالمناهج حسب هذا المعنى هي:".. الوسائل و الطرائق التي تستخدم للوصول إلى الحقيقة و يسلكها العقل البشري لكشف غوامض الوجود و فك أسراره و الاقتراب من حقائقه.و من ثم فهي أدوات للتفكير، و لجمع الحقائق و تحليلها و تفسيرها و فهمها"[13].
و "المنهج"، يستعمل في الجامعة اليوم بالمعنيين الأول و الأخير معا، و لكنه يستعمل بالمعنى الأخير أكثر. و بهذا المعنى تستخدم في الجامعات اليوم مناهج متعددة، في الدراسة و البحث و الكتابة و التدريس..و التفسير و الشرح..و التحليل..إلخ.  هدفها جميعا مساعدة الدارسين و الباحثين على ضبط خطواتهم، في التعامل مع المواضيع و القضايا المدروسة أو المبحوثة؛ للوصول إلى الأهداف المحددة سلفا للبحث المراد إنجازه[14].

المبحث الآخر:المنهجية:

يتكون مصطلح المنهجية( "الميثودولوجي")( Methodology/Methodologie)[15]، من لفظين "ميثود"(الواردة أعلاه)، و (logie) بمعنى العلم، أي أنها تعني علم المنهج.
 هذا من ناحية الاشتقاق اللغوي، أما من ناحية الاصطلاح ،فالمنهجية هي  العلم الذي يدرس الأسس الفلسفية لكل منهج في كل علم( بالمعنى العام الواسع للعلم).و من هنا تسمى المنهجية؛ علم مناهج العلوم(science des méthodes des sciences)؛و هي تندرج ضمن موضوعات "فلسفة العلم" أو الإبستيمولوجيا(Epistémologie)[16]، كما سبق القول أعلاه. و من هنا؛  تعرّف المنهجية عادة  بأنها:"..هي العلم الذي يدرس كيفية بناء المناهج و اختبارها و تشغيلها و تعديلها و نقضها و إعادة بنائها، يبحث في كلياتها و مسلماتها و أطرها العامة.."، بهدف الوصول إلى المنهج الأفضل في كل علم[17] (المطلب الأول).
و المنهجية، عندما تبلغ هذا الهدف، تستطيع أن تؤدي الكثير من الوظائف الإيجابية؛ الفكرية، و الإيديولوجية، و التنظيمية و الاجتماعية، و غيرها (المطلب الآخر).

المطلب الأول:صياغة المنهجية:

من  الطبيعي جدا أن تكون قضية المنهجية قد أثيرت منذ أقدم العصور ،إذ من البديهي جدا أن يتساءل الناس، منذ فجر البشرية،حول الطرق التي يتم بها التعلم و اكتساب المعرفة النظرية و المهارات العملية.و لاشك أن كل هذه التساؤلات ، انتهت ببعض العقلاء و الأذكياء،الذين عرفوا كيف يلاحظوا و يدرسوا تجارب الآخرين و يستفيدوا منها؛ إلى الاهتداء إلى أن التعلم و انتقال المعرفة و تطويرها، تتحقق باستعمال طرق منطقية و منظمة..و ممنهجة.. في ..التفكير و العمل:و بذلك نشأت المنهجية.
و كي نجعل هذه الفكرة أكثر وضوحا، نعيد صياغتها بلغة أخرى؛ فنقول: إن الانتقال من المنهج إلى المنهجية،هو الانتقال من أسلوب العالم، إلى أسلوب الفيلسوف[18]:
1.      فالعلماء قد يتبعون مناهج متعددة و متنوعة في دراسة شتى المواضيع التي تعرض لهم .متبعين في ذلك طرقا (مناهجا) ، يعتقدون أنها هي الطرق التي يفرضها حكم العقل أو طبيعة المواضيع قيد البحث. أو، بكل بساطة،لأن تلك الطرق هي المناهج التقليدية(المرسومة)،التي سار عليها السلف الصالح؛
2.      على إثر هؤلاء العلماء، يأتي الفيلسوف- و قد يكون عالما متخصصا في تلك المواضيع - ، فيدرسها من جميع الجوانب، و يقارن بينها، ليكتشف العوامل التي تيسّر النجاح لبعضها، و تسبب  الفشل لبعضها الآخر.و من ثم يحاول رد كل المناهج التي استخدمت إلى أصولها المنطقية و العقلية؛ التي انبثقت منها أو استندت عليها.أي أنه  يحاول استخراج أو استنباط القواعد المشتركة( و الكلية، بمعنى الجوهرية) بين تلك المناهج الجزئية: و النتيجة التي يتوصل إليها، هي ما نسميه " المنهجية".
و بعد استنباط المنهجية، يقوم العالم الذي استنبطها بتطبيقها في عمله، و قد يدعو آخرين من المنتمين إلى جماعته(أو النشاط الاجتماعي الذي يمارسه)، إلى العمل بها  و اتباعها،.باعتبار أنها تؤدي – على الأرجح – إلى النتائج المرجوة[19].
و يستفاد من هذا، أن المنهجية ليست قوانين أو مبادئ عامة كلية، يجب على المتخصصين في ميدان من الميادين العلمية، إتباعها و التقيد بها حرفيا أثناء بحوثهم و دراساتهم؛ بل هي مجرد نصائح و إرشادات ، يمكن الأخذ بها كما يمكن تعديلها أو تجاهلها، فهي ليست ملزمة لأحد،من حيث المبدأ.
غير أنه من الناحية الواقعية، قد تكتسي المنهجية طابعا إلزاميا في معظم الأحيان،لأنها  تنبع من الثقافة السائدة، أو الإيديولوجية المهيمنة على ميدان من الميادين. و لقد أكد "توماس صامويل كون")(T.S.Kuhn)1922-1996) [20] ، مؤرخ العلم الشهير،هذه الحقيقة، عندما أكد أن  الكثير من العلماء و الباحثين، يجدون أنفسهم منجرين وراء الآراء السائدة في  "المجتمع العلمي" الذي ينتمون إليه،و يتقبلونها دون مناقشة،و يعتبرونها بمنزلة "نموذج مثالي"(paradigme)  مخافة الحكم عليهم بالإقصاء و الإهمال[21]:و ليس هذا النموذج المثالي، إلا منهجية.
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
صمويل كون

المطلب الآخر:وظائف المنهجية:

انتهينا، في الفقرات السابقة، إلى  أن المنهج،هو طريقة من الطرق التي تستعمل للوصول إلى هدف معين في ميدان من الميادين.و أن المنهجية هي الطريقة الصحيحة،التي استنبطت من مختلف هذه الطرق ، و من ثم حظيت بقبول المشتغلين/المنتمين إلى ذلك الميدان، أو أغلبيتهم. و بالتالي، تصبح المنهجية بالنسبة لهؤلاء هي فلسفتهم العامة أو طريقتهم (المفضلة) في التفكير و العمل[22]،لا يجرؤ أحد منهم على الخروج عليها أو الانحراف عنها،خوفا من ردود الأفعال السلبية ،التي قد يتعرض لها،و أقلها السخرية و الإقصاء.
و بتعبير آخر، فالمنهج هو طريقة الفرد، في حين أن المنهجية هي طريقة الجماعة.
 و من هنا ندرك أن للمنهجية وظائف كثيرة فكرية و مهنية،و إيديولوجية و تنظيمية و اجتماعية،و أخلاقية..إلخ. فالقبول بوجود منهجية في ميدان معين، يعني القبول بمرجعية مشتركة،في التفكير و السلوك و العمل، تيسر حل الخلافات و الاختلافات في الآراء و الأعمال،بين أهل الجماعة المعنية بتلك المنهجية.و بفضلها يستطيع العاملون في كل نشاط من الأنشطة الاجتماعية ، التفاهم بينهم،و التعاون و الاتفاق على الوسائل و الغايات،و في هذا ما يديم المودة و المحبة بينهم.
 كما أن وجود المنهجية، يسهل على المنخرطين أو المنتمين الجدد ، الاندماج في النشاط المعرفي أو المهني ، الذي التحقوا به، دون مشقة او عناء:فالمبتدئ في كل ميدان- المتعلم الجديد مثلا– يبدأ باستعمال المنهجية العامة ( ما يسمى بمرحلة التقليد=مرحلة القرد). و قد يستمر "قردا" طوال حياته، كما يمكنه أنأان يثري ثقافته المنهجية و خبرته،  و يبتعد عن المنهجية(العامة)،ليبني لنفسه منهجيته الخاصة،عندما يستطيع أن يجد أتباعا و أنصارا يقلدونه: و بهذه الطريقة، يتحول المنهج إلى منهجية.
و لتوضيح هذه الفكرة، نسوق المثالين التاليين:
1-الأول نقتبسه من تراثنا الإسلامي:كلنا نعرف كيف نشأت المذاهب الفقهية؛فالأئمة الأربعة (مالك (ت 179ه/795م)، و أبو حنيفة(150ه/767م)، و الشافعي(204ه/820م)، و ابن حنبل(241ه/855م)، رحمهم الله جميعا)،اعتمدوا في بداية حياتهم الفقهية على المنهجية العامة-( في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم و السنة النبوية..إلخ)-؛ الموروثة عن الصحابة و التابعين،ثم ما لبث كل واحد منهم أن اتبع منهجه الخاص في الاجتهاد. و لما صار لكل واحد منهم أتباع يتبعونه على منهجه، تحول هذا المنهج إلى منهجية ( ملزمة) بالنسبة لأتباعه(معتنقي المذهب)؛
2- المثل الثاني نقتبسه من تاريخ أوربا  و العالم:من المعلوم أن كارل ماركس(K.Marx)(1818-1883)،اتبع في بداية حياته العلمية المنهجيات المعاصرة له،و المتبعة في كل ميدان درسه. ففي الاقتصاد، على سبيل المثال، اتبع منهجية علماء "الاقتصاد السياسي"، لاسيما "آدم سميث"(A.Smith)(1723-1790) و "ديفيد ريكاردو"(D.Ricardo)(1772-1823).ثم ما لبث أن أسس منهجه الخاص، المسمى " المادية التاريخية".و لما تبعه، في منهجه هذا، عدد من الماركسيين، تحول منهجه إلى منهجية بالنسبة لهؤلاء( يتبعونها و يتقيدون بها).
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
كارل ماركس

و الحاصل هنا، أن المنهجية هي الفلسفة أو الرؤية أو الإيديولوجية أو المدرسة التي تنتمي إليها جماعة معينة، و تتقيد بطريقتها فكرا و ممارسة (مثل المدارس الأدبية أو الفنية، كالرومانسية و الواقعية،و المذاهب الدينية، و الإيديولوجيات السياسية كالماركسية و الليبرالية..)[23].و هي، لا تكاد تنفصل عن الإيديولوجية أو "الفلسفة" العامة للمجتمع أو ثقافته(أو حضارته). و لقد أصاب من عبّر عن هذه العلاقات المتشابكة، بالقول أن: المنهجية هي الواسطة أو الواصلة، التي تصل  بين النموذج المعرفي( أو المجتمع) و المناهج[24].
و الحاصل:
 إن المنهج هو الطريق الذي يمكن اتباعه، للوصول إلى هدف معين:إنجاز عمل معين على سبيل المثال.و قد يختلف هذا المنهج من عمل لآخر، و من بيئة لأخرى، بل و من شخص لآخر.
اما المنهجية، فهي الطريق الأفضل لإنجاز عمل(نشاط) معين، من منظور الجماعة المعنية أو الممارسة لذلك العمل، أو من وجهة نظر نسبة كبيرة و مؤثرة منها (الجماعة)، على الأقل.
و إذن، يمكن لكل إنسان أن يتبع المنهج الذي يراه مناسبا ،لانجاز الأعمال التي يريدها، طالما أنه غير مقيد بشروط معينة، تلزمه باتباع منهج بعينه.
و لكن،عندما يكون هناك منهج خاص لإنجاز عمل معين، تتبناه جماعة معية، و تلزم أتباعها بإتباعه،و قد تعاقبهم إذا خالفوه، يصبح هذا المنهج، إذن، منهجية.
 من هنا،فالمنهجية الجامعية، هي المنهج الذي تتبناه الجامعة، أو بالأحرى تتبناه جامعة من الجامعات؛إذ لكل جامعة منهجيتها الخاصة ، المستقاة من حضارة المجتمع الذي تنتمي إليه ، و من إيديولوجية النخب الحاكمة في هذا المجتمع، أو المؤثرة فيه (نخب سياسية، و دينية، و اقتصادية، و ثقافية،..إلخ).
و على كل طالب، ينتمي إلى هذه الجامعة أو تلك، أن يبذل قصارى جهذه، لفهم و استيعاب منهجية الجامعة، بل و أيضا منهجية الكلية التي ينتمي إليها، و إلا عرض نفسه إلى العقاب، الذي قد يتمثل في الفشل و السقوط...
و هذا هو موضوع الفصل التالي عن المنهجيات الجامعية،..بإذن الله تعالى.




[1]  انظر على سبيل المثال: مصباح- منهجية إعداد البحوث العلمية - ص 23؛ عُلبي- في المنهجية و المنهج...و المنهج المقارن- ص ص46-47.
[2]   الفراهيدي- كتاب العين-تحقيق: د.مهدي المخزومي و د.إبراهيم السامرائي- انتشارات أسوه/باقري-قم 1414هـ.ق-ج3ص1845-46(مادة:نهج).
[3]  قاموس الهادي إلى لغة العرب- م.س- مواد:"نَهج النَّهج"، و "مَنْهج المَنْهَج"،و "مِنهاج المِنْهاج"- الجزء الرابع- ص 370..
[4]  جاء في الجزء الثاني من المجلد الحادي و الخمسين،من مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ( أبريل 1976)، ما يأتي:"..كان مجلس المجمع وافق على قرار لجنة الألفاظ و الأساليب المتضمن"يقال مَنْهَج الباحث بحثه:رسم له طريقا معينةً"..":معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة – ص 681-الفقرة 1957(المَنْهَجة)
[5]  و لقد استعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة،كما وجدت عند أرسطو أحيانا كثيرة بمعنى "بحث".انظر:عبد الرحمن بدوي – مناهج البحث العلمي – الطبعة الثالثة –وكالة المطبوعات –الكويت 1977 –  ص3.
[6] Voir : art « Méthode »-in :Dictionnaire des sciences humaines- op.cit-p p 553-4 ;art « Méthode » :in Le petit Robert.و انظر أيضا:بدوي-نفس المكان                              
و في القرن السابع عشر،كما ذكرنا في المتن، ظهرت المحاولات الأولى الجادة لإرساء أسس المنهج العلمي، بالمعنى المتعارف عليه اليوم، مع "فرنسيس بيكون"(  Sir Francis Bacon )(1561-1626)،و كتابه "الأورغانون الجديد"(Novum Organum) (0162)، الذي صاغ فيه قواعد المنهج التجريبي بكل وضوح.ثم جاء من بعده الفيلسوف الفرنسي "روني ديكارت"(R.Descartes)(1650-1596)،فكان من أوائل المفكرين الذين اهتموا بوضع قواعد المنهج العلمي، ففي كتابه الشهير" مقال في المنهج"(Discours de la méthode) (1637)،حاول أن يكتشف السبب الذي جعل الآراء تختلف و تتعدد بين العلماء و الفلاسفة و علماء اللاهوت..إلخ. و اتضح له أن السبب الرئيس في ذلك، أنهم يتخبطون في بحوثهم، و لا يعتمدون على خطط مرس المنهج المؤدي إلى حسومة محددة و واضحة تهديهم .و تبين له أن أول ما يلزم الإنسان للبحث في أي موضوع، هو ضرورة الاعتماد على منهج. و المنهج عنده هو :" جملة قواعد مؤكدة، تعصم مراعاتها ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، و تمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته،دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"انظر:بدوي- المرجع السابق-ص 4؛د.عثمان أمين – ديكارت إمام الفلسفة الحديثة- العربي- العدد 90- المحرم 1386/مايو 1966- ص 21.و انظر أيضا، المرجع الأساسي البالغ الأهمية:
Madeleine Grawitz-Méthodes des Sciences Sociales-4éd-Dalloz –Paris 1979-p39 et pp44-45.                                
[7]  الموسوعة الفلسفية- م.س- ص 502(مادو: المنهج).
[8]  بدوي – المرجع السابق – ص 6.
[9]  د.يمنى طريف الخولي- فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد- ألافاق المستقبلية-عالم المعرفة- العدد 264- ديسمبر 2000- ص 129.
« Une méthode répond d’abord à une question pratique :Comment faire , quoi entreprendre ,afin d’atteindre un but donné » :J.Largeault-Méthode-Universalis-V15-p12.
[10] يقابل المنهج هنا، في اللغتين الانلجيزية و الفرنسية ( على التوالي)، مصطلحي  syllabus  وprogramme. انظر:د.خليفة عبد السميع خليفة- المناهج- مكتبة الأنجلو مصرية- القاهرة 1989- ص 8.و انظر أيضا :قاموس الهادي مادة "المنهج"- م.س. و  لقد تغير هذا عند علماء التربية، انظر خليفة-نفس المكان،و أيضا:د.سعيد إسماعيل علي- فلسفات تربوية معاصرة- عالم المعرفة- العدد 198-  المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت(يونيو 1995)- ص 127.
[11]  كنث رتشموند (W.K.Richmond)- من مقدمة كتاب" المناهج المدرسية"- ترجمة: محمد حسن التيتي- العربي – العدد 165- أغسطس 1972- ص77.
[12]  مناهج التفكير و قواعد البحث- ص17.
[13]  عارف- مقدمة كتاب : قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية و الاجتماعية- ص8.
[14] من هنا، نرى مادلين غرافيتز تمييز بين عدة معاني أو مفاهيم لمصطلح " الميثود":
1.      فهناك المنهج بالمعنى الفلسفي العام،أي مجموع العمليات الفكرية التي بواسطتها يسعى علم معين إلى التوصل إلى الحقيقة؛
2.      و المنهج كموقف إزاء موضوع من المواضيع(attitude concrète vis-à-vis de l’objet)، أي طريقة في التعامل مع الموضوع المبحوث،كالمنهج التجريبي؛
3.      و المنهج كمحاولة للتفسير(une tentative d’explication)،كالمنهج الأمبيريقي، أو المنهج الجدلي؛
4.      و المنهج الخاص المرتبط بميدان خاص (La méthode liée à un domaine particulier)،كالمنهج التاريخي.
Voir :Mèthodes des Sciences Sociales-op.cit-pp343-345.                                                                       
[15]  و يعتبر الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت"( Immanuel Kant)(1724-1804)،هو مبدع هذا المصطلح.لقد قسم المنطق إلى قسمين:مذهب المبادئ،و موضوعه شروط المعرفة الصحيحة،و علم المناهج الذي يحدد الشكل العام لكل علم، و الطريقة التي بها تكوّن أي علم كان.انظر: بدوي – ص 7.
[16]  هي نظرية العلوم أو فلسفة العلوم؛ و هي قسم هام من النظرية الفلسفية، تهتم بمقدرة الإنسان على معرفة الواقع،و مصادر و أشكال و مناهج المعرفة  و الحقيقة، و وسائل بلوغها.الموسوعة الفلسفية –مادة "مبحث المعرفة (الابستيمولوجي)"- ص 447.
[17]  نصر محمد عارف- م.س-ص 8.
[18] و ربما يكون العالم نفسه فيلسوفا ، مثل فيثاغوراس(Pythagoras)(ت 459 ق.م)،و ابن خلدون (ت 808ه/1406م) ، و برتراند راسل(B.Russell)(1872-1970)، و بيتر مدوّر(P.Medawar)(1915-1978) هو طبيب بريطاني ، من أصل لبناني.نال جائزة نوبل للطب عام 1960..).انظر:شيا-م.س- ص 77.
[19]  شيا- م.س – ص 77.
[20] Voir :Kuhn (T.S)-in :Le Dictionnaire des sciences humaines- sous la direction de :Jean –François Dortier - Editions Sciences Humaines(Paris)/Delta (Beyrouth)2007-pp389-90.
و للمزيد من التفاصيل ، انظر:توماس كون- بنية الثورات العلمية- ترجمة :شوقي جلال- سلسلة عالم المعرفة- العدد 168- ديسمبر 1992.
[21] خيري عبد الغني محمود – العلماء و البحث العلمي- الفيصل- العدد 281- ذو  القعدة 1420/ فبراير 2000- ص 27.و لهذا ،فا لاكتشافات الجديدة غير المتوائمة مع هذه النماذج القياسية للعلم تحظى بمعارضة هائلة.كتب  "فريدرك سانجر" F.Sanger  ، العالم البريطاني ، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء مرتين ،الأولى سنة 1958 و الأخرى سنة 1980.كتب في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تسلمه للجائزة الأولى :" لقد علمنا المثاليون أن الفكرة الجديدة تهزم عندما لا يقرها العارفون أو الذين يدعون المعرفة. و لكن تجاربي علمتني أن العكس هو الصحيح، فكم من أفكار جديدة و قضايا كثيرة كانت الهزيمة نصيبها، ثم اكتشف هؤلاء الذين تسببوا في موتها، أن هذه الأفكار كان من الممكن أن تنقذ العالم لو أنها خرجت إلى حيّز الوجود.. إن في قصة ألكسندر فلمنج[A.Fleming] ، مكتشف البنسيلين[1928]، درس لكل صاحب فكرة جديدة آمن بها..فقد خذلوه ، و بقي اكتشافه ميتا سنوات طويلة ، ثم إذا بهم يعودون إليه فجأة لينقذ الملايين من الجرحى و المرضى في العرب العالمية الثانية".انظر: العربي- العدد 200- يوليوز 1975- ص 107.
[22]  شيا- م.س- ص 83.
[23] يقول الأستاذ عباس محمود العقاد : " قد يكون لكل كاتب منهجا قائما بنفسه لا يدخل مع غيره في زمرة " منهجية" واحدة.خلافا للمدارس الفنية و الأدبية ، فهي معدودة محدودة يجتمع المئات من الكتاب و الفنانين في زمرة منها.على أن التقاء الكتاب و الفنانين في مدرسة جامعة؛ تقسيم يأتي لاحقا و لا يصح أن يأتي سابقا إلا في حالة واحدة، و هي حالة التقليد و التكلف و الاصطناع.
" و نريد بالتقسيم اللاحق أن الكاتب يكتب و الفنان يبتدع ثم ياتي النقاد و القراء فيجمعون طوائف الكتاب و الفنانين في هذه المدرسة أو تلك حسب التقارب في الأمزجة و القرائح و الموضوعات. و ليس من المعهود في أساطين الأدب و الفن أن يبتدئ أحدهم قائلا:ها انذا سأكتب على أسلوب هذه المدرسة و ألحق نفسي بزمرتها..فإن الذي يقول ذلك إنما يوطن نفسه على التقليد و الاتباع..:المناهج في فن القصة –في: بين الكتب و الناس- دار الفكر- القاهرة 1978- ص ص 203-4.
[24]  نصر محمد عارف- م.س-ص 8.