السبت، 17 ديسمبر 2016

تطور المقاولة الصناعية منذ نشأتها إلى منتصف القرن التاسع عشر

تطور المقاولة الصناعية منذ نشأتها إلى بدايات القرن 19

تطور المقاولة الصناعية
مرت المقاولة الصناعية، بعدة مراحل و تطورات، منذ نشأتها (كمقاولة حرفية)، إلى أن صارت ( مانيفاكتورة)،في القرن 19؛و سنحاول، فيما يلي، التعرف على أهم هذه التحولات، مع الحرص على إبراز أهم الخصائص و التطورات التي ميزتها في كل مرحلة من هذه المراحل..

أولا: المقاولة الحرفية:

ظل الإنتاج الصناعي، و منذ أقدم العصور، يتم في إطار " صناعة الاكتفاء الذاتي"، حيث كانت الأسر( أو حتى العائلات)، تنتج معظم الأشياء التي تحتاجها:كانوا يزرعون أو يصيدون ما يلزم لغذائهم، و يصنعون ملابسهم، و أدواتهم و أوعيتهم البسيطة ( أواني الطبخ، و معدات العمل، و بعض الأثاث، و مواد البناء..إلخ): وبذلك كانت الأسر، تشكل وحدات اقتصادية، مغلقة، أما التبادل فنادرا ما كان يحدث.
و الذين كانوا يقومون بالتبادل (أو التجارة)،كانوا فئة قليلة من الصناع المحترفين، الذين أدركوا أن من مصلحتهم التخصص في بعض الأعمال، و تبادل منتجاتهم الصناعية مع الآخرين، للحصول على حاجياتهم التي لا يستطيعون إنتاجها.
إلا أن عددهم ظل محدودا ، طيلة العصور القديمة،و أغلبهم كان يزاول الصناعة، إلى جانب حرف أخرى كالزراعة،و كانت معظم منتجاتهم الصناعية، تتم تحت الطلب: كان الصانع يعالج المواد الأولية التي يأتي بها الزبون، و ينتج السلع التي يطلبها هذا الأخير، وفق المواصفات التي يحددها. و نادرا ما كان يعمل  من أجل البيع منتجاته في السوق المحلية القريبة من بيته ، لزبائن لا يعرفهم.
 و في نهاية العصور الوسطى، بدأ مبدأ " الاكتفاء الذاتي يتلاشى"رويدا رويدا،في أوربا الغربية بالخصوص.فازداد عدد الصناع،و بدؤوا يلعبون دورا كبيرا في النشاط الاقتصادي الأوربي.و رغم أن الزراعة مازالت تستحوذ على مكانة كبيرة في النشاط الاقتصادي حتى نهاية العصور الوسطى، إلا أن الأنشطة الصناعية و خصوصا التجارية، كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقا عريضا نحو الصدارة، التي ستبلغها بعد حين.
و الصناعة في هذه المرحلة، مازالت صغيرة و منزلية .و مازالت تتميز بنفس مميزات الصناعات القديمة،التي كان يمارسها الحرفيون الأحرار في أثينا أو روما،و أهمها اجتماع عناصر الإنتاج بين يدي شخص واحد، هو مالك المقاولة( مالك الرأس مال)، و هو مديرها، و هو العامل الوحيد أو الأساسي فيها.
و كانت مجالات هذا الاستغلال الحرفي، مازالت محدودة جدا، فأدوات العمل قليلة و بدائية، و لا وجود للآلات. و كان الرأسمال ضعيفا، يكفي لدفع كراء محل صغير لممارسة لعمل، و شراء بعض الأدوات و القليل من المواد الأولية. و كان العاملوون قلة، فالحرفي يعمل بنفسه، أو بمساعدة أسرته( الزوجة و الأبناء) أو عائلته ( الأب و الإخوة و الأصهار)،و بعض المساعدين من المعلمين المتدربين.
و كان الإنتاج الحرفي، في ذلك الوقت، خاضعا لنظام خاص، يحدد شروط الانخراط في المهن و الحرف المختلفة، و العلاقات بين أرباب العمل و العمال؛ و هو النظام التعاوني.و لا يتسع المجال هنا للحديث بالتفصيل عن هذا النظام، إلا أنه لأهميته، بالنسبة لهذه المادة و مادة " قانون الشغل " التي سيدرسها الطلبة في مرحلة لاحقة،نتناول هنا أهم أسسه، و التي يمكن تلخيصها في التالي:
كان جميع المشتغلين بمهنة واحدة في بلد واحد أو أكثر، يتكتلون و يؤلفون لأنفسهم رابطة( طائفة="نقابة") لها نظام قائم على التقاليد و العرف، و يرعى مصالح هذه الرابطة، الحاكم في المنطقة ( اقطاعي صغير أو كبير، أو حتى الملك) مقابل فوائد يجنيها منها (الرابطة).و هكذا،كان باستطاعة الرابطة تمنع- بتأييد من الحاكم في المنطقة- أن ينافسها أحد، أو ينتحل الصنعة من ليسوا من أبنائها. كما كان للرابطة محكمة مؤلفة من كبار معلمي الحرفة المحلفين، سميت (Jurande)،في فرنسا مثلا، وظيفتها: مراقبة أعمال جميع أعضاء الرابطة، و الإشراف على فحص الصناع و الحرفيين الجدد، و وضع القيود الصناعية ليرعاها أبناء المهنة في أعمالهم.
كان القصد من هذا التقييد، حصر العمل بأبناء المهنة فقط لمنع المنافسة، و إنتاج السلع و البضائع المتقنة من نوع واحد و جنس واحد و سعر واحد( و كان في هذا حماية للمستهلك ، من ناحية أخرى).
في هذه المرحلة من تطور الصناعة، كان الانتاج محدودا ، يتناسب مع عدد السكان القليل في القرون الوسطى الأوربية. و لذلك كان الصناع يهتمون بالكيف ( الجودة) أكثر من اهتمامهم بالكم ( و يشهد على ذلك التحف التي خلفتها العصور الوسطى).إلا أن ذلك الكم ،في الواقع،لم يكن كافيا لتلبية كل الحاجيات، و لا لتأمين نمو التبادل، و ازدهار الاسواق.
غير أنه،مع ازدياد عدد السكان،في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر، و تعدد و تنوع مطالبهم،لم يعد الإنتاج المحلي يكفي،كما ازدياد الاقبال على شراء السلع غير الكمالية (الأواني،و الأدوات، و الأقمشة..)، تلعب دورا تجاريا هاما. لا سيما بعد الاكتشافات الجغرافية، و تدفق المعادن النفيسة من  أمريكا على أوربا. و أيضا، مع عودة الاستقرار السياسي،خاصة بعد ظهور الدول القومية "الحديثة النشأة"، و إزالة الحدود التي كان قد وضعها نبلاء الإقطاع، عادت المدن لتزدهر من جديد، بل توسعت أكثر من ذي قبل، و أصبحت مراكز تجارية نشطة، و أسواقا يبيع فيها الحرفيون و المزارعون منتجاتهم.
و هكذا فقد بدأت النهضة التجارية،من الأسواق المحلية،التي كانت تقام قرب أو داخل المدن. والأسباب التي تفسر ذلك كثيرة، منها صعوبة النقل، و بالتالي عدم إمكانية انتقال السلع و الأشخاص، على نطاق واسع.بالإضافة إلى ذلك لم تكن الطرق سالكة و آمنة، و نضيف إلى ذلك أيضا تعدد و اختلاف الأنظمة القانونية، و الأعراف و التقاليد التجارية، من " إقطاعية" إلى أخرى.
و في البداية، لم يكن الحرفيون ينتجون إلا لهذه الأسواق المحلية، و غالبا تحت و حسب الطلب (sur commande)؛ إذ كانوا ينتجون فقط سلعا سبق طلبها و دفع ثمنها أو ضمن تصريفها سريعا،بوساطة تاجر وسيط،مقابل نسبة من ثمن البيع.و لا عجب في ذلك، فقد كان الاقتصاد، لا يزال اقتصاد احتياجات محلية معروفة و محدودة( و كان أغلب الحرفيين يوجدون في المدن، و لكن في الريف أيضا كان هناك حرفيون و صناع ، ينتجون بعض المصنوعات، في أوقات الفراغ فقط،لتحسين دخلهم، أو لتوفير منتوجات لدفع أقساط كراء الأراضي التي يستغلونها في الاقطاعية).
و قد نتج عن ذلك، عدم تخوف من تضخم السوق- (وجود سلع معروضة(عرض)، أكثر من الطلب عليها)-؛ إذ ظل الإنتاج متوافقا مع الاستهلاك، بل أقل من الاستهلاك في الكثير من السلع و الخدمات.و بالتالي فالتوازن الاقتصادي بقي كان متحققا.
إلا أنه لوحظ في نهاية هذه الفترة، أن نفوذ الحرفي، بدأ يتقلص مع توسع الأسواق الحضرية،و تحولها إلى أسواق وطنية، و أحيانا دولية، تجمع باعة و مشترين قادمين من أماكن بعيدة جدا( و أهم هذه الأسواق الدولية، كانت تقام في مقاطعة " شمبانيا"(Champagne) الفرنسية، الواقعة في الشمال الشرقي الفرنسي، عند تقاطع الطرق البرية الآتية من إيطاليا، و الذاهبة إلى هولنذا و بلجيكا الحاليتين).
و قد بدأ هذا التوسع التجاري، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، و السبب الرئيس في ذلك، هو زيادة الاتصال بين الناس ، و بين الحضارات، و يكفي أن نسوق هنا، الحروب الصليبية، التي شجعت التجارة بين أوربا و الشرق الأوسط،و بهذه الطريقة ربطت أوربا نفسها بآسيا و إفريقيا أيضا، بوساطة التجارة الإسلامية. و لقد استفاد الإيطاليون، من هذه العلاقات التجارية،فبنوا أساطيل عظيمة،في أغلب مدنهم الجنوبية مثل جنوة، و بيزا، و البندقية.كما شقوا طرقا برية، نحو شمال أوربا أيضا.فأرسلوا السفن عبر البحر، و القوافل عبر البر، تحمل السلع الأسيوية و الإفريقية و العربية و الأوربية، من منطقة أوربية إلى أخرى.
ثم ما لبث هذا التوسع التجاري المتصاعد و المتمدد عبر القارات، أن عرف دفعة "جبارة" أخرى ، بل غير مسبوقة،نتيجة الاكتشافات الجغرافية لما وراء البحار في القرن الخامس عشر. و نتيجت لهذه الاكتشافات أقيمت طرق دولية أخرى للتجارة، بين أوربا و افريقيا و الهند و جنوب الشرق الأسيوي، مباشرة، و دون الحاجة إلى الوسيطين الإسلامي و الإيطالي:و بذلك تحول مركز التجارة الدولية من البحر الأبيض المتوسط( الشرق العربي و إيطاليا)، إلى الدول الأوربية المطلة على المحيط الأطلسي ( إسبانيا، و البرتغال، و فرنسا، و انجلترا، و هولندا)[1].
و نتيجة لهذا التوسع، منافس قوي للحرفي هو التاجر الوسيط.في الواقع لقد كان هذا التاجر موجودا، و لكن إمكانياته المالية(رأسماله)، و مجال عمله كان محدودا، فقد كان يحصر نشاطه في المجال المحلي.أما الآن، فنحن أمام وسيط من نوع آخر، له إمكانيات أكبر، و مجال نشاطه يشمل الوطن كله، بل يمتد إلى الأسواق الأجنبية أيضا:يشتري كميات كبيرة من المنتجات المحلية و الوطنية، و يعيد بيعها في أسواق أخرى وطنية أو أجنبية.
و من هنا،و كي يستفيد من الإمكانيات التي يتيحها له هؤلاء الوسطاء، في بيع منتجاته بكميات أكبر؛ انتقل الحرفي،ليوسع نشاطه هو الآخر و ينميه، من الورشة او " المصنع المنزلي"، إلى محل أو ورشة أكبر، يستطيع أن يمارس فيه أنشطة أكثر، و يجمع فيه عدد أكبر من العمال و المساعدين، و المواد الأولية،..إلى غير ذلك مما يحتاجه في عمله.
و هكذا، توافرت الظروف للانتقال من الانتاج الحرفي الضئيل،الذي كان يتم تحت الطلب، لتلبية حاجيات الجيران أو الاصدقاء أو العائلة..أو غيرهم من الزبائن المعروفين، إلى الإنتاج الضخم، الموجه للأسواق الكبيرة( بمقاييس ذلك الزمن طبعا).غير أن الحرفي، أصبح تحت " رحمة " التاجر الوسيط.ثم ما لبث هذا المقاول في التجارة أن تحول إلى "مقاول في الصناعة أيضا"، فأثبت أنه منافس قوي للحرفي الصانع، و سرعان ماقضى على استقلاله، و حوله إلى " أجير عنده"، كما سنرى فيما يلي.هذا من جهة.و من جهة أخرى؛فقد نتج عن هذا التطور الذي طرأ على "حجم الصناعة الحرفية" و توجهها نحو "الأسواق الوطنية و الدولية" ، إشكالية عويصة، تمثلت في أن المنتج لم يعد يعرف هوية الزبون، و لا حاجياته الحقيقية:و بالتالي، استعصى عليه أن يعرف ماذا ينتج؟ و كم ينتج؟ و متى ينتج؟
و هي أسئلة، سيتصدى علماء الاقتصاد للإجابة عنها، ابتداء من " المركنتيليين"، و مرورا بالكلاسيكيين ، و وصولا إلى الكلاسيكيين الجدد ( النيو كلاسيكيون= الحديون)، و سنرى كيف فعلوا ذلك في المحاضرات( و في هذا العرض أيضا، سنرى كيف أجاب الكلاسيكيون، على هذه الأسئلة).
و مهما يكن الأمر، فإن هذا التحول الذي طرأ على المقاولة الصناعية الحرفية،يعتبره معظم مؤرخي الاقتصاد، "ثورة حقيقية"، دفعت بالصناعة الحرفية خطوة كبيرة إلى الأمام،و جعلتها تصل إلى تحقيق ثورة أخرى، هي الثورة الصناعية الكبرى، في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر.
و الجدير بالذكر هنا، أن المؤرخين الماركسيين، يرون أن هذا التطور الذي حدث ، لم يحصل نتيجة الدور الذي قام به التاجر الوسيط فقط، بل شارك فيه الحرفيون أنفسهم، إن لم يكونوا هم الذين تحملوا العبء الأكبر منه. ذلك أنهم بفضل ما استطاعوا مراكمته من رأسمال،اتجهوا نحو التجارة، ليستفيدوا من توسع الأسواق، فبدأوا بتنظيم نشاطهم على أسس رأسمالية -(تأجير العمال، والإنتاج للسوق، من أجل تحقيق الربح، و إعادة استثمار الأرباح في الانتاج..)- متحررين بذلك من قيود الطوائف (الرابطات الحرفية، التي تحدثنا عنها أعلاه).
إن هذه العملية التي وصفها " كارل ماركس"، بـ " الطريق الثوري حقا"، هي التي أدت، في نظره، إلى نشأة الرأسمالية التجارية ( الماركنتيلية)، فكانت بذلك هي " جنين العلاقات الانتاجية الرأسمالية"، التي ظهرت ضمن المجتمع الإقطاعي، و التي ستستغرق سنوات طويلة- عدة قرون في إنجلترا مثلا- حتى تنضج..و تعطينا الثورة الصناعية..و بالتالي الرأسمالية الصناعية.
و لو حاولنا، أن نلخص أهم مميزات المقاولة الحرفية، التي امتدت من بداية العصور الوسطى إلى ما قبيل الثورة الصناعية، ماذا يمكن أن نقول؟
خلال العصور الوسطى، بدأت تتشكل المعالم الأولى للمقاولة الحرفية الصناعية، و التي كانت تهدف في البداية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي: المهم هو تدبير الحاجيات اليومية،أما فكرة البحث عن زيادة الثروة، بتحقيق الأرباح، فلم تكن مطروحة ، في هذه المرحلة من تطور المقاولة الحرفية الصناعية.
و لقد ارتبط هذا النوع من المقاولة، بالصناعات التقليدية المنزلية، التي تنتج المنتجات الضرورية للأسرة أو العائلة ( أو الجيران )، تحت إشراف رب الأسرة ، الذي كان هو رئيس العمل( المُعلم =  Le maitre ) ، و هو المسير، و هو صاحب رأس المال.
و رغم أن هؤلاء الحرفيين، كانوا في معظمهم "هواة"،و أعني بالضبط الحرفيين الذين كانوا يمارسون أعمالهم في الأرياف. إلا أن المحترفين منهم، و الذي كانوا يزاولون نشاطهم في المدن، توافروا على مؤهلات و مهارات و خبرات تؤهلهم للعمل، إذ كانت هناك "طوائف أو نقابات"، تنظم المهن، و تحرص على حسن سير العمل، و تتقاضى منهم "إتاوات و ضرائب"، لحمايتهم،يؤدى جزء منها للملك أو النبيل الإقطاعي، و تحتفظ النقابة المهنية التي ينتمي إليها الحرفي ، بالباقي.

أ- تنظيم المقاولة الحرفية:

كانت المقاولة الحرفية، صغيرة الحجم، و لا تتطلب فضاء أو مساحة كبيرة :كانت غرفة كبيرة في المنزل، أو جناح منه، يكفي لهذا الغرض.
و كان المقاول الحرفي ، يملك المكان، في الغالب، و يملك كل ما فيه من أدوات و معدات و مواد أولية، كما أن كل العاملين فيه، كانوا يعتبرون " ملكا له"، باعتبارهم أفراد أسرته: لقد كانت الفكرة السائدة عند هؤلاء الحرفيين، هي أن يكون المشروع مملوكا للأسرة وحدها،و يجب أن يبقى منحصرا فيها. و لذلك لم يلجؤوا إلى اقتراض الأموال من خارج الأسرة،بل لم يستعينوا بالعمال من خارج العائلة ، و إن فعلوا فسرعان ما يعملوا على إدماجهم في الأسرة، بطريقة أو أخرى(  و يشجع على ذلك، العلاقة الأبوية التي تنشأ بين المعلم و العمال الذين يتدربون عنده،فيبقى ولاؤهم دائما لمعلمهم، و يصعب عليهم الانفصال عنه ).

ب- تنظيم العمل فيها:

إن تنظيم العمل،كان يعتمد على تراتبية (هرمية)، من ثلاث مستويات أو درجات، تكاد تكون نسخة طبقة الأصل من النظام الاقطاعي (الفيودالي):في أعلى الهرم، يتربع المعلم، بسلطاته الواسعة، التي لا يحد منها، إلا سلطات النقابة، و الإقطاعي.بعده، في الدرجة الثانية، يأتي الرفيق أو الزميل( Le compagnon)، ثم في الرتبة أو الدرجة الأخير نجد المتعلم (L' apprenti ).
فلقد كان المتعلم يلتحق بالحرفة، و هو صغير السن،فيربى و يتعلم في أحضان أسرة المعلم، كما لو كان واحدا منها، فيتلقى تكوينا حرفيا، يتعرف من خلاله على أسرار المهنة، و قد يستغرق ذلك مدة عشر سنوات.و بعدما يصبح مؤهلا للمارسة الحرفة، يصعد إلى الرتبة الأعلى، أي يصبح "رفيقا" للمعلم، فيصير بإمكانه امتلاك أدوات العمل الخاصة به، و لكن انتاجه يحسب في مصلحة المعلم.و لا يسمح له بأن يصبح" معلما" مستقلا بعمله ، و له أن ينشيء مقاولته الخاصة ، إلا بعد ان يجتازا امتحانا،يثبت فيه مهاراته و قدراته،قد يتمل في الغالب في انجاز عملا " استثنائيا" أو " تحفة"( Chef- d'oeuvre )[2].

ج- صناعة القرار فيها:

لست في حاجة إلى القول، بعدما عرفنا المكانة الخاصة التي يتمتع بها " المعلم"، أن كل قرارات الإنتاج تعود إليه: فكل العمليات تنطلق من المعلم، و تتم تحت مسؤوليته، ابتداء من  تسلم الطلبيات -و التي قد تكون كثيرة و متميزة جدا[3]، إذا كان هذا المعلم قد نال شهر واسعة في مجال عمله-،إلى وضع التصورات الأولى لتنفيذها، مرورا باقتناء المواد الأولية،و وضع التطورات موضع التنفيذ، و انتهاء بتسليم البضاعة إلى طالبها[4].

ثانيا:المانفكتورات

في ظل نظام الصناعة المنزلية، كان الحرفي مازال يملك أدواته التي يستعملها في العمل ( وسائل الإنتاج)، و يعمل بنوع من الحرية في ورشته الصغيرة أو الكبيرة نسبيا، و ينظم عمله باستقلال نسبي عن التاجر الوسيط( الذي كانت إمكانياته محدودة، و مجال نشاطه محليا، بالأساس).
كل هذا الكلام ، ليس إلا تذكير بما قلنا أعلاه..و قلنا أيضا، أنه مع توسع الأسواق التجارية، و ازدياد الطلب على السلع- مع ظهور الدول الوطنية، و استقرار الأوضاع، و أيضا نتيجة الاكتشافات الجغرافية..إلخ-،سيفقد هذا الحرفي استقلاله، و سوف ينتقل من وضعية المقاول ( الصغير) إلى وضعية المقاول "الأجير"، الذي يتلقى أجرا من التاجر الوسيط، و يتلقى منه أوامر عن العمل:كيف و متى يعمل..و ماذا و كيف ينتج..و ربما يمده بأدوات العمل..و بالمواد الأولية خصوصا.
و بالفعل، فإن التاجر الوسيط، أو فلنقل المقاول التاجر- و هو الأصح- ، الذي كان يمضي جزءا من وقته متنقلا بين المنازل، حتى ينظم و ينسق عمليات الإنتاج، ثم يتسلم المنتجات، ليعمل على تسويقها؛وجد أنه من الأفضل بالنسبة له، أن يجمع كل المتعاملين - حتى لا نقول العاملين معه- في مكان واحد.فالمقاول التاجر، الذي كان يحترف بيع الملابس الصوفية مثلا، و كانت تصنع باليد غالبا حتى منتصف القرن الثامن عشر، كان يشتري الصوف من أصحاب الماشية، ثم يعهد به إلى رجال في قرية معينة لينظفونه، و آخرين - في نفس القرية أو غيرها- أن يغزلونه،و آخرين ينسجونه، و آخرين يهذبونه، و يصبغونه..ثم يحمل الملابس الصوفية،بعدما اكتملت صناعتها، ليبيعها إلى أصحاب المحلات في المدينة، أو التجار الدوليين..
إن هذا المقاول التاجر، مالبث أن أدرك أن من مصلحته أن يؤسس - يبني أو يشتري أو يكتري- ورشة كبيرة (مانيفاكتورة)(manufactures)، يجمع فيها كل الحرفيين الذين يحتاجهم.و لأن العقارات في المدن، كانت مرتفعة الثمن،هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، كان أغلب العمال من الريف، كما أن معظم المواد الأولية كانت تأتي من الريف؛ فقد خرج هذا المقاول بصناعته اليدوية، من المدن الإنجليزية إلى الريف.
و مع هذه المانيفاكتورات الكبيرة نسبيا، ظهرت الحاجة إلى الاستعانة برؤوس الأموال الضخمة، نسبيا.فتمت الاستعانة بنظام الشركات، إذ بدون ذلك كان سيصعب تجميع الأموال الكافية لشراء الآلات، و الأراضي التي ستقام عليها ورشات العمل، و دفع أثمنة المواد الولية، و أجور العمال..إلخ، في المراحل الأولى من الإنتاج ( أي قبل بيع المنتجات)، أي قبل أن تصبح الناعة قادرة على تمويل نفسها بنفسها.
و يعتقد كثير من المؤرخين، أن هذا النظام في التمويل- الشركات- ، قد حصل ابتداء من  القرن السادس عشر على الأقل،و امتد بعد ذلك، بشكل تصاعدي، لاسيما بعيد بدأ الثورة الصناعية( على تفاوت بين المناطق و الدول).
و لقد كانت المانيفاكتورات، حتى في هذا الوقت المبكر نسبيا، تتوافر على كل الخصائص التي طبعت لاحقا المقاولات الحديثة،بل و المعاصرة أيضا، على الأقل إذا نظرنا إليها من ناحية ملكية رأس المال:لقد أصبح هناك فصل بين رب العمل و العمال، فلم يعد رب العمل هو ذلك الشخص الطبيعي الذي يعرفه العمال عن كثب، بل أصبح شخصا معنويا، هو الشركة. و رأيسهم في العمل، مجرد أجير مثلهم..، و إن كانت مصالحه مختلفة، في الكثير من الحالات، عن مصالح العمال و عن مصالح الشركة أيضا..
بالإضافة إلى ذلك، بل قبل ذلك، لقد أدى تحول المقاولة " الحرفية" من العمل تحت الطلب، إلى العمل الموجه للسوق، أن أصبحت خاضعة لنظام السوق، و قوانين العرض و الطلب..
و بالفعل، فلقد أصبحت المقاولة الآن رأسمالية، لا تعمل لتلبية حاجيات " المقاول الفليلة"،بل من أجل تحقيق الربح..و لتحقيق أرباح كثيرة ، يجب عليها أن تنتج كميات كبيرة. و لكن السؤال الذي أصبح يفرض نفسه على المقاول التاجر الرأسمالي هو: كيف يمكن التوفيق بين الانتاج مع احتياجات السوق؟ و من يعرف بالضبط احتياجات السوق؟ من سيشتري منتجاتنا؟ و كيف نحدد أسعارها؟ كيف نتغلب على المنافسين؟..؟
ففي ظل الاقتصاد الطبيعي  المغلق، في أزمنة ملاك العبيد، أو في العهد الإقطاعي، كانت المشكلة منحلة؛ إذ كان الحرفي الحر ينتج وفق الطلب، و لزبائن معروفين: فكان الحرفي العبد، في العهدين اليوناني و الروماني، ينتج لتلبية حاجيات مالكه.و كان القِن(عبد الأرض) ينتج لأسرته و للسيد الإقطاعي، في العهد الإقطاعي( الفيودالي).
أما، في ظل اقتصاد رأسمالي، يعتمد على السوق، فقد أصبح الانتاج يوجه إلى زبائن افتراضيين، و مجهولين لدى المقاول التجاري، في الكثير من الحالات.فلو طرح عليه سؤالا من نوع: كم من البضائع تنتج؟ و ما هو الثمن الذي سيدفع لك مقابلها؟ ..لما أمكنه الجواب، بشكل دقيق..
هنا، جاء علماء الاقتصاد، ابتداء من أمثال "آدم سميث"، ليقولوا  بأن الجواب على هذه النوعية من الأسئلة، لا تتوافر عند المنتج، بل السوق هو الذي يحددها.كيف؟
يقول "آدم سميث" ، مثلا، و تابعه على ذلك الكلاسيكيون و حتى الكلاسيكيون الجدد،أن السوق- و هو عبارة عن مجموعة من المتعاملين في سلعة واحدة، وحداتها متماثلة كل التماثل- هو الذي يتيح التقاء العرض (عرض السلع ) بالطلب (طلب تلك السلع)،وفق "قوانين" السوق، أو وفق قوانين العرض و الطلب.
فما هي أهم مقتضيات هذه "القوانين"؟( و بالمناسبة،فالكلاسيكيون، يعتبرون هذه القوانين جزء من النظام الطبيعي (L'ordre naturel)، الذي خلقه الله، و بالتالي فهي قواعد " أزلية"..لا تتغير).
تقضي هذه القوانين، بأنه إذا كان حجم الانتاج من البضائع و السلع غير كاف،مثلا من الملابس الصوفية، لتلبية حاجيات الطلب (عليها)، ارتفع ثمنها، نتيجة التنافس بين الناس و رغبتهم الشديدة في الحصول عليها(غير أن هذا الطلب، لا يحسب إلا إذا كان أصحابه قادرون على دفع الثمن الذي يحدده السوق).و عندما يرتفع الثمن، ترتفع أرباح المنتج (صاحب العرض= الذي يصنع هذه الملابس الصوفية).هذا الربح، سرعان ما يحمل مقاولين آخرين على الدخول إلى هذه السوق(إنتاج الملابس الصوفية)، لعرض بضاعتهم. و بدخول هؤلاء المنتجين، و أيضا نتيجة تزايد الطلب على سلع المنتج أو المنتجين الموجودين أصلا في السوق،يزداد الطلب على اليد العاملة (لاسيما الماهرة في غزل و نسج الصوف..)، و على الرأسمال للتوسع في الانتاج (شراء آلات، و شراء مباني و عقارات..). و يزداد كذلك الطلب على المواد الأولية التي تستعمل في هذه السوق الرائجة،..فيتم جذب كل هذه العناصر من حرف و أنشطة أخرى( أي أسواق أخرى).و تكون النتيجة ..هي انخفاض أسعار الملابس الصوفية.
و عندما تنخفض أسعار الملابس الصوفية، فإن أرباح منتجي هذه السلعة، تنخفض، مما يجعلهم يخفضون من إنتاجهم ( العرض)، بل إن بعضهم قد ينسحب من السوق، فيتجه إلى انتاج سلع أخر؛ فتكون النتيجة هي تقلص العرض من الملابس الصوفية، قياسا إلى الطلب عليها،فتعود أثمانها للارتفاع من جديد.
و هكذا،فإن أسعار أي سلعة، تميل في السوق الحرة- المطبوعة بالتنافس- ، تميل إلى التذبذب حول القيمة الحقيقة للسلعة- و هي تكلفة الإنتاج في المدرسة الكلاسيكية-، إلى أن تستقر على وضع يتحقق فيه الثمن المناسب( الطبيعي)، الذي يرتضيه الجميع.
و هكذا،فإن السوق الحرة،و عن طريق آليات المنافسة الحرة هي الأخرى، تعمل على تخصيص و توزيع الموارد الاقتصادية( الموارد الطبيعية، و اليد العاملة، و الرأسمال)على مختلف المجالات، بما يخدم مصلحة الاقتصاد.





[1]   " في القرن الخامس عشر و السادس عشر سيطرت إسبانيا و البرتغال على التجارة العالمية،ثم إنهما فقدتا هذه السيطرة في القرن السابع عشر، فخَلَفهم الهولنديون في هذا الميدان.و في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت الثورة الصناعية في إنكلترا ثم امتدت إلى فرنسا ( بعد عام 1830)، فانتقل زمام التجارة العالمية إلى بريطانيا و فرنسا، و اشتد الصراع التجاري بين الدولتين، فكُتبت الغلبة آخر الأمر للبريطانيين..": موسوعة المورد- المجلد الثالث- مادة " التجارة"- ص 64.
[2]  "..و كان النظام الطائفي في أول الأمر يفسح أمام جميع الرفقاء باب الارتقاء إلى رتبة معلم حيث يرتقي إليها من يثبت جدارته. إلا أنه ابتداء من القرن السادس عشر، أصبح الارتقاء إلى رتبة معلم يزداد صعوبة إذ أصبحت هذه المرتبة محتكرة بين أيدي بعض العائلات التي تتوارثها ابنا عن أب...":د.موسى عبود- دروس في القانون الاجتماعي- ص 19.
[3]  فقد يكون صاحب الطلبية أميرا أو ملكا..أو شخصا له نفوذ و سلطان.
[4]  هذا النوع من المقاولات الفردية، أو التي يحتكر فيها شخص واحد كل المهام، مازلنا نعثر عليها إلى يومنا هذا، و تتمثل ، على سبيل المثال، في المحلات التجارية الصغيرة، و بعض الحرف التقليدة ( إسكافي ، حداد، بائع الخضر و الفواكه..).

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

المحاضرة

تعتبر طريقة المحاضرة (Lecture Method)، من أقدم و أفضل وسائل التدريس المستخدمة على مستوى التعليم الجامعي، في كل أنحاء العالم.لأنها مناسبة جدا،  لتزويد الجماهير العريضة و الكبيرة من الطلاب ،بالمعلومات و المعارف العامة ، التي لا تحتاج إلى تفاصيل و شروح دقيقة و عملية (المبحث الأول).
و هي أيضا، من أفضل السبل لترسيخ المعلومات في عقول الطلاب، إذ تتيح لهم أكثر من فرصة لاستيعاب مضامين المقررات الدراسية: عند الاستعداد للمحاضرة، و أثناء إلقائها، و بعد الانتهاء منها. إلا أن كل هذه المزايا، لن تتم أو تتحقق واقعيا ؛ إلا إذا تعامل الطالب مع المحاضرة وفق خطة محكمة، أو فلنقل وفق منهجية علمية(المبحث الآخر).

المبحث الأول: المحاضرة..ماهيتها و أهميتها:

إن منهجية التعليم بواسطة المحاضرة، هي واحدة من أهم وسائل التدريس المستخدمة   في الجامعات،و هي وسيلة فعالة عندما يتعلق الأمر بالطلبة المبتدئين الذين ليست لهم خبرة بالحوار و النقاش؛بل عندهم فقط رغبة في الاستماع و التلقي و التعلم،كما هو الحال بالنسبة للطلبة الجدد (المطلب الأول) ، الذين يقتصر دورهم على الإصغاء و تسجيل الملاحظات (المطلب الآخر).

المطلب الأول: ماهية المحاضرة:

المحاضرة في اللغة هي المحادثة و المناقشة، يقال:".. مُحاضرة المُحاضرة، هي المجاوبة بين الحاضرين يُجيب كل منهم بما يحضره من الجواب[...] و يقال: فلان حسن المحاضرة،أي حسن المكالمة و المجالسة مع الناس [...]"(حسن الكرمي- قاموس الهادي إلى لغة العرب).و من كتب التراث " نشوار المحاضرة و أخبار المذاكرة"، من تأليف القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي.و قدم كتابه للقراء بأنه " كتاب يشتمل على ما تناثر من أفواه الرجال و ما دار بينهم في المجالس"، و سماه نشوار المحاضرة، لأن النشوار ما يظهر من كلام حسن.
أما في الاصطلاح ،فيمكن تعريفها ، لو شئنا التبسيط غير المخل،بأنها:"  الدرس الذي يلقيه الأستاذ في الكلية على طلابه،و يتناول فيه موضوعا أو قضية من القضايا، بالتحليل و الشرح و التبسيط،ليجعل موضوع المحاضرة قريبا إلى فهم الطلاب، و في متناول عقولهم.فهي تقابل  lecture   في الإنكليزية و conférence  في الفرنسية ".
و رغم أن المحاضرة كانت في الأصل، كما يدل على ذلك اسمها في اللغة، مجرد مناقشة و محادثة،يشارك فيها الكثير من الناس؛إلا أنها اليوم، لم تعد تفسح المجال لأي نقاش أو مشاركة،فهي تكاد تقتصر ، في الغالب الأعم ،على حديث الأستاذ( و لا يفتح باب النقاش إلا بعد انتهاء المحاضرة).
و رغم الانتقادات التي توجه للمحاضرة،من حيث كونها- من ناحية- طريقة مباشرة و رسمية في تزويد الطلاب بالمعلومات،وكأنها تنطلق من فرضية أن المحاضر يعلم الكثير عن موضوع المحاضرة، و الحضور لا يعرفون إلا القليل أو لا يعرفون شيئا يساهمون به.كما أنها- من ناحية أخرى-، و من  منظور علم التواصل بالضبط، لا تعتبر طريقة فعالة للتواصل و الاتصال، لأنها "طريقة أحادية الاتجاه (a one –way method):
1- فالرسالة تذهب من المحاضر(المُرسل) إلى الجمهور(المرسل إليه)، أما الاتجاه الآخر المعاكس فغير سالك أو مغلق تماما ؛
2- و بالتالي لا تسمح المحاضرة بتفاعل المستمعين مع المحاضر، و لا تمكنهم من مناقشة الكثير من التفاصيل التي ترد في المحاضرة:و قد يبعث هذا السأم و الملل في نفوس الحاضرين ؛
3- لا يمكن الكشف عن مدى استيعاب الحاضرين لموضوع المحاضرة،إلا بعد أن يفرغ المحاضر من إلقائها.
ومن الانتقادات الأخرى التي توجه إلى طريقة المحاضرة،أنها أقل نفعا و فائدة لتعليم المهارات،و حل المسائل العملية،و دراسة الرسوم البيانية أو الجداول أو المعادلات الرياضية، ..إلخ، خاصة عندما تلقى هذه المحاضرات في المدرجات أو القاعات الكبيرة الغاصة بالطلبة، التي تفتقر إلى التجهيزات (ربما باستثناء السبورة و الطباشير). ففي مثل هذه الظروف يقصر الأستاذ المحاضر حديثه - في الغالب- على الجوانب الأكثر أهمية، على  أمل أن يتمم الطلبة النقص في المعلومات و المعارف التفصيلية أو العملية ،من خلال الدروس التوجيهية و / أو التطبيقية و/ أو المراجع و الكتب و الأنترنيت.
و  قد تكون هذه كل الانتقادات أو بعضها صحيحة،مما يعني أن المحاضرة ليست طريقة مثالية و مطلقة للتعليم و نقل الثقافة و المعرفة. إلاّ أنّها مع ذلك، مازالت تعتبر في كل جامعات العالم، الطريقة الأكثر قبولا و استعمالا ؛لأنها فعالة في تعليم الأعداد الكبيرة من الطلبة،خاصة إذ كان الأستاذ المحاضر متمكنا من الموضوع الذي يحاضر فيه، وقادرا على استرعاء انتباه المستمعين و الاستحواذ على اهتمامهم،و ناجحا في التفاعل معهم إيجابيا طوال فترة المحاضرة.
 و من هنا يرى بعض الباحثين،أن "النقص الكبير" الذي  يلاحظ  في الثقافتين العامة و المتخصصة للطلبة،إنما نتج بالأساس عن ضعف مستوى الأساتذة المحاضرين أو تقصيرهم في إعداد المحاضرات الجيدة أو تحيينها، من جهة.و عدم مداومة الطلبة على حضور محاضرات الأساتذة، من جهة أخرى.

المطلب الآخر: أهميتها:

و من هنا، لن أمل من تكرار النصح للطلبة ، بضرورة المواظبة على حضور المحاضرات، مهما بدت مملة أو تبعث السأم،فلا ينبغي لهم تركها حتى ينتهي البرنامج الدراسي ؛لأن الحضور سيساعدهم على اكتشاف الكثير من الحقائق عن المادة (موضوع المحاضرة) و عن الأستاذ(المحاضر) معا، و عن ما ينتظره الأستاذ من الطلبة يوم الامتحان. و يكفي أن يفتحوا  عيونهم و عقولهم، ليتأكدوا بأنفسهم، بأن فوائد المحاضرات قد تكون كثيرة:
1- فستتاح لهم الفرصة لمعرفة ، بل و دراسة، طريقة الأستاذ في تقديم المادة الدراسية،و مفهومه لها: هل يفصل و يستفيض في الشرح؟ أم يقتصر على ما قلّ و دل؟ هل يكون سعيدا/غاضبا عندما يتناول بعض الأفكار أو الأسماء؟ هل يكرر الإشارة أو الحديث إلى بعض الأسماء أو الأحداث أو الأفكار؟ هل يتفاعل مع الطلبة عندما يفتحون النقاش أو يطرحون الأسئلة حول بعض المواضيع؟ هل يظهر إعجابه/امتعاضه من الأفكار التي يعبر عنها الطلبة؟..؟
2- و أثناء المحاضرة، قد يتناول المحاضرة الموضوع المطروح للدرس أو مواضيع أخرى مفيدة، بالكثير من الشرح و التبسيط و التفصيل، أحيانا، مما قد لا يتاح للطالب في أي مرجع آخر؛
3- كما قد تتاح للطلبة، خلال المحاضرات، فرصا ثمينة جدا، للاستفادة من ثقافة الأستاذ و"زبدة " أفكاره و خبراته،و هما شيئان قد لا يمكن للطالب أن يحصل عليهما بطريق أخرى غير حضور المحاضرات؛
4- كما أن الحضور يمكِّن الطلاب من طرح الأسئلة بعد انتهاء المحاضرة أو أثناءها إذا سُمح لهم بذلك- أو الاستماع إلى إجابات الأستاذ عن أسئلة زملائهم؛
5- وهناك سبب آخر، يجب أن يدعوا الطلبة إلى الإصرار على حضور المحاضرات، هو أنه لا ينبغي التعويل كثيرا على الملاحظات التي يدونها زملاؤهم عن المحاضرات. فكل طالب ، إنما يسجل من المحاضرة بقدر فهمه لها و حاجته منها.و ما يدريك أن زميلك الذي تعول عليه كثيرا؛ يهتم أصلا بالمحاضرة؟ أو فهم ما جاء فيها؟و لو كنت مكانك ، لتذكرت قول النبي صلى الله عليه و سلم:" ليسَ الخبَر كالمُعاينةِ"؛
6- ثم ليست الغاية من حضور المحاضرة، هي  الفائدة العلمية فقط، بل هناك فوائد أخرى يستفيدها الحضور الذين يتابعون المحاضرات، منها على سبيل المثال: النظر إلى الأستاذ و التعلم من طريقته في الكلام، و الشرح،..و التأسي بأخلاقه ،إن كان له اخلاق حميدة، بل و التأسي بأخلاق بعض الحاضرين من طلبة العلم أيضا؛
 7- و نصيحتي للطلبة الذين لا يتمكنون من المداومة على الحضور،لأسباب مهنية أو أسرية أو غيرها، أن يحرصوا مهما كلفهم الأمر على حضور المحاضرة الأولى و الأخيرة على الأقل من كل برنامج دراسي:ففي هاتين المحاضرتين، أو إحداهما ، سيتحدث الأستاذ المحاضر-على الأرجح- عن الامتحانات، و منهجيته الخاصة في التعاطي معها.
و "زبدة القول "، لا تعوّل كثيرا،عزيزي الطالب، على الكتب و المراجع ،حتى ولو كانت من تأليف المحاضر نفسه،لأنه كثيرا ما يعدِّل الأستاذ من أفكاره،و يصححها أو يطورها، تماشيا مع تطور البحث العلمي . هذا ناهيك عن أن الكثير من الطلبة، لاسيما الجدد، يصعب عليهم فهم ما يقرءون،بدون معونة الأستاذ. و لقد قال  أحد المربين في هذا الصدد  " ..العالم لا يكون عالما إلا إذا جالس العلماء و أخذ عنهم، و لقّح فكره بفكرهم، و لا يكفي أخذه عن الكتب من غير أستاذ يرشده،لاحتمال أن يفهم منها غير المراد لقصور في تعبير المؤلف أو لكلالة ذهن من القارئ، و لذلك كان علماؤنا يطلقون على من استغنى عن الأساتذة بالكتب اسم " الوراقين"، و نصوا على عدم جواز أخذ الفتوى منهم".
و المقصود هنا، هو أهمية الحرص على حضور الدروس و المحاضرات بشكل دائم،دون كسل و فتور أو ملل، عسى ألا يأتي يوم على الطلبة يندمون فيه على تفريطهم في حضورها، و عدم الاستفادة من أساتذتهم بشكل مباشر.و لعل احسن ما نلخص به فوائد حضور المحاضرات،هو هذه المقولة للشيخ عبد العزيز بن محمد السرحان:" فهذه الحلقات [المحاضرات]لو لم يكن فيها إلا : ان السكينة تنزل على حاضريها، و الرحمة تغشاهم، و الملائكة تحفهم، و قبل ذلك يذكرهم الله فيمن عنده؛ لكان ذلك كافيا في حضورها،فكيف إذا كان صاحب الحلقة سيحظى إن شاء الله  بفوزين:بالتحصيل العلمي و بالأجر الأخروي؟ " 

المبحث الآخر:منهجيات التعامل مع المحاضرة:

إن الاستفادة من المحاضرة، عملية غاية في  التعقيد، بل هي عمليات كثيرة و ليست عملا واحدا : فهي تتطلب من الطالب أن يسمع و ينصت، و أن يفهم ما يسمع، و يحلّله، ثم يتخذ قرار التسجيل من عدمه:فهو يستخدم عقله للتفكير في كل صغيرة و كبيرة ترد  أثناء المحاضرة،و يربط الأفكار الجديدة مع ما لديه من أفكار سابقة عن الموضوع، و على ضوء ذلك ينتقي ما يراه جديرا بالتسجيل.
لهذا،فإن الكثير من الطلبة الجدد، يواجهون صعوبات حقيقية في التعامل مع المحاضرات، فلا يعرفون أهميتها،و لا دورها في تعليم و تكوين الطالب(ماذا يأخذون منها؟)،و لا كيفية الجمع بين تسجيل الملاحظات و تتبع شرح الأستاذ؟..؟
وفي الواقع،فإن كل عمل في بدايته يكون صعبا،ثم بمرور الوقت تزول الصعوبات.و لتيسير العمل على الطلبة الجدد،و تقوية فرصهم في الاستفادة من المحاضرات ، ننصحهم بإتباع المنهجية التالية:
1-فقبل المحاضرة، يجب على الطالب أن يقوم ببعض البحوث التمهيدية، لمعرفة موضوع الدرس اللاحق.كما يجب عليه أن يراجع المحاضرات السابقة، استعدادا للمحاضرة المقبلة(المطلب الأول).
2-و أثناء المحاضرة،عليه أن يقوم بسجيل الملاحظات عن المحاضرة و المحاضر،مما يبقيه مشدودا إلى الدرس،الأمر الذي  يساعده على فهم و استيعاب ما جاء في الدرس أو المحاضرة(المطلب الثاني).
3-و بعد المحاضرة، قد يضطر إلى إكمال ما في ملاحظاته من نقص و تنقيحها و تصحيحها،أو قد يقوم بإعداد تلخيص لها ، بالاعتماد على الملاحظات المسجلة، مما يساعد الذاكرة على تثبيت المعلومات و ترسيخها  و حفرها في الذاكرة( المطلب الثالث).

المطلب الأول:الاستعداد للمحاضرة:

  يجب  على الطالب أن يعد نفسه جيدا قبل حضور المحاضرة، من ثلاث نواح: من الناحية  الصحية و النفسية، و من ناحية العلم بموضوع المحاضرة و المحاضر، و من ناحية المعرفة بالمحاضرة  كوسيلة للتواصل.فإذا أعد الطالب نفسه للمحاضرة قبل حضورها، على هذه المستويات الثلاث، وجد نفسه مهيئة لاستقبال كل أو جل ما يرد فيها،لأنه يكون على علم مسبق بما سيواجهه.
1-أول شرط يجب توفره فيمن يريد متابعة أية محاضرة، فضلا عن الرغبة ،هو الاستعداد الجسدي و النفسي: فيجب أن يكون طالب العلم متمتعا بصحة جيدة، و لا يعاني من مرض أو إرهاق أو أرق أو جوع، أو مشاكل نفسية أو عاطفية،أو أي شيء آخر مما قد ينغص عليه، أو يلهيه عن تتبع المحاضرة؛
2- يفترض أن يكون عند الطالب(ة) علم  سابق  ،قليل أو كثير،بموضوع المحاضرة،و بطريقة الأستاذ في إلقائها ؛ حتى يعرف بالضبط ماذا يسجل؟ و متى يسجل؟ و كيف و أين يسجل؟.و في سبيل تحقيق هذا الهدف،يجب أن يقوم بقراءات عن موضوع المحاضرة المقبلة، أو مناقشته مع زملائه في الفصل. وليحفِّز نفسه و يستحثها و يوقظها لمتابعة المحاضرة المقبلة، يمكنه أن يقوم ببعض " الحركات التسخينية" لذاكرته-كما يفعل الرياضيون- ، ، كأن يحاول مراجعة المحاضرات السابقة، ؛فذلك يساعده على استيعاب ما سبق، و يمكنه من تحديد مواطن الضعف و الخلل في تحصيله من المحاضرات السابقة، أو تحديد ما يرغب في معرفته من خلال المحاضرة القادمة؛
3- و من المهم بالنسبة للطلبة أن يعلموا ما إذا كان للأستاذ المحاضر كتاب "مقرر" أو " اختياري" في المادة موضوع المحاضرات:فقد تكون هناك طبعات ،من الكتاب الذي ألفه الأستاذ،أوسع و أكثر تفصيلا مما يحاضر به أو أقل شمولا،و يمكنهم بالتالي أن يقابلوا عليه ساعة التدريس و الإلقاء، أو يرجعوا إليه (الكتاب) بعد الاستماع للمحاضرة؛
4- ضع قائمة بالمصطلحات و المفاهيم و الأسئلة..إلخ، التي تتوقع أن الأستاذ المحاضر سيتناولها في محاضرته(ثم تأكد بعد ذلك من صحة توقعاتك، و حاول ان تعرف لماذا جاءت تلك التوقعات مخالفة للواقع)؛
5- و أخيرا، و ليس آخرا، لا ينبغي للطالب أن يذهب إلى "الهيجاء من غير سلاح".أجل، فأبسط ما ينبغي أن يتوفر عليه الطالب هو أدواته(من دفاتر، و أقلام متعددة الألوان..إلخ)، فهي عدته التي يعول عليها في تسجيل المحاضرات.

المطلب الثاني: تسجيل الملاحظات و المعلومات:

 لكي،تستثمر الفرص التي تتيحها المحاضرة، يجب أن تسجل المعلومات التي تدرك و تفهم أهميتها و قيمتها،بطريقة منظمة و منسقة وفق منهجية واضحة. حتى لا تصبح مجرد تراكم للمصطلحات و الأرقام..إلخ. كما عليك، أن تختار بعناية فائقة طريقة تخزينها و الحفاظ عليها، حتى يمكنك الوصول إليها و استخدامها عن الحاجة إليها.
و عليه،و لتحقيق كل هذه الأهداف، أنصحك بإتباع التقنيات و الإرشادات التالية:يجب على الطلبة أن يوفروا الأجواء المناسبة لتلقي العلم.فمن شروط مجالس العلم،أن تحفها السكينة و تغشاها الرحمة،و لا ينبغي التشاغل أثناءها بمشاغل تتنافى و طلب العلم ، أو تحط من هيبة العلم في النفوس:
1- يجب أن تعلم، عزيزي الطالب(ة)، أن المحاضرة،تحتاج إلى الكثير من التركيز و الفهم:فهي غالبا ما تلقى في مدرجات أو قاعات كبيرة، يكثر فيها لغط الطلبة و صخبهم، مما يفوت فرص الاستماع الجيد لما يلقيه الأستاذ المحاضر.و لكن ليس كل ما يلقيه الأستاذ، يستحق التسجيل، من هنا فانك في حاجة إلى فهم المادة،حتى يسهل عليك تمييز "اللب" من "القشور".
لذلك احرص على أن تستمع، بانتباه شديد، إلى ما يُفيدك، لا ما يلهيك مما يلذ لبعض الطلبة الجهال و المشاغبين.و من الأمور التي ينبغي الانتباه إليها : الكلمات و معانيها، و كيف تنطق، و كيف تستعمل. و لقد علمنا القرآن الكريم، أن الاستماع وحده لا يكفي، إلا إذا كان مصحوبا بالتركيز و الإصرار على الفهم، و هو ما يعبر عنه الق رآن بالإنصات:﴿ وَ إذا قُرئَ القُرآنُ فاستمعوا لهُ، و أَنْصِتُوا لعَلكُمْ تُرْحَمُونْ (الأعراف: 204
2-غير أنه يجب أن تدرك بأن هناك أفعال كثيرة تصدر عن الأستاذ-مثل تغير نبرة الصوت، أو تكرار بعض الكلمات، أو تجنب بعض المصطلحات..-، تدخل في إطار ما يسمى بالتواصل اللاشفهي(La communication non-verbale و فيها رسائل ، ينبغي أن تتعلم كيف تفك شفرتها؛ لتستفيد منها.لأنها قد تكون، أحيانا ، أهم بكثير من آلاف الكلمات.و قديما كانت العرب تقول بأنه قد يقع الإيماء(الإشارة الخفيفة) إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه:قال أبو العباس المبرّد(ت286هـ/900م): "من كلام العرب الاختصارُ المُفَهّم و الإِطنابُ المُفَخّم.و قد يقعُ الإيماء إلى الشيء فيُغْني عند ذَوي الألباب عن كَشْفه، كما قيل، لَمْحَةٌ دالَّةٌ "؛
3- ينبغي أن تخصص دفترا لكل مادة و ترقمه ،و تدوّن على إحدى الصفحتين(اليمنى أو اليسرى) الملاحظات المتعلقة بالمحاضرة، أو أمالي الأستاذ (إن كان يملي محاضراته و دروسه)).و في الأخرى تسجل الملاحظات و  الشروح، أو الاقتباسات من المراجع..أو  غير ذلك. و ذلك بخط واضح، يبقى واضحا و قابلا للقراءة و إن طال العهد (لأنه كثيرا ما يصعب على الطالب أن يقرأ في نهاية المحاضرة ، ما كتبه في بدايتها)؛
4- لا تبالغ في حشو صفحاتك، اترك مساحات بين السطور (لأنك ستضيف إليها لاحقا التعليقات و الملاحظات و الكلام المتمم، و التعديلات و الاستدراكات؛
5- و لأنه لا يمكنك أن تسجل كل شيء، فسجل الأفكار الرئيسية:مثل التصميم، و العناوين الرئيسية و الفرعية،و أسماء المراجع ،و النصوص القانونية،و الأمثلة،و ما شابه هذا.و  من الأفكار المهمة أيضا، الجديرة بالتسجيل تلك التي تبدو جديدة بالنسبة إليك، أو غامضة، أو ترى أن الأستاذ قد توقف عندها طويلا لشرحها؛
5- ضاعف من تركيزك ، عندما يصل الأستاذ إلى نقط أساسية: أساسية بالنسبة لك أو بالنسبة للأستاذ(و خاصة الإشكالية، و التصميم، و الأمثلة، و النصوص القانونية و الإستشهادات الأخرى، و الخلاصة؛
6- و احرص على إبراز الأفكار المهمة بشكل يساعد على استيعابها و فهمها:كأن تستعمل الألوان(الأقلام الفوسفورية مثلا)، أو العلامات التي تساعدك على تحديد مواقع الأفكار التي يجدر بك التوقف عندها؛
7- إذا عجزت عن التمييز بين الأساسي و الثانوي، من الأفكار الواردة في المحاضرة،لعدم علمك بموضوعها سلفا،أو لعدم قدرتك على تقييم مضامينها،و اهمية الأفكار الواردة فيها بالنسبة للمادة الدراسية التي تنتمي إليها المحاضرة،أو بالنسبة لتخصصك؛ فليس أمامك إلا أن تعمل على تسجيل أكبر قدر من الأفكار ، حتى و لو بدت غير مفهومة،أو غير متسلسلة  و مترابطة، إذ يمكنك تنسيقها و الربط بينها بشكل متسلسل فيما بعد،مما يساعدك على فهمها؛
9-عند متابعة المحاضرة أو الدرس يفضل عدم التوقف عن تسجيل الملاحظات، لاستدراك بعض النقط التي فاتتك، أو للتحقق من فكرة أو طريقة كتابة كلمة أو مصطلح.و يستحسن في هذه الحالة ترك المكان فارغا ، و الاستمرار في متابعة التدوين . و لا تتردد في كتابة الأفكار التي تعتقد أنها تحتاج إلى التفسير ،لأن كل ما يسجل سيخضع فيما بعد لإعادة النظر.

المطلب الثالث: تصحيح التسجيلات و تنظيمها :

بعد الانتهاء من المحاضرة، يمكنك أن تبدأ فورا، أي ما دامت الذاكرة " طرية"،في عملية تنقيح و تصحيح الأخطاء، سواء في اللغة أو المعلومات، و ملء الفراغات. فلقد ثبت أن عدم تدوين المعلومات وقت سماعها أو فور الانتهاء من المحاضرة، يؤدي إلى نسيان الكثير منها، أو تشويهه عند التسجيل.بل اجعل هذه فرصتك الثمينة لاستيعاب و مراجعة ما قمت بدراسته للتو،ذلك أن المراجعة تكون أكثر فعالية إذا قمنا بها في أعقاب كل محاولة من محاولات التعلم.
1- و لا تتردد في أن تطلب من أساتذتك إعادة شرح موضوع أو جزئية من المحاضرة (أو المادة) لم تفهمها جيدا، فهم لن يبخلوا عليك إذا كان وقتهم يتسع لذلك ( و لكن لا يعني هذا أن تطلب إليهم إعادة المحاضرة بأكملها).كما يمكنك، مراجعة زملائك الطلبة؛و لا تستح من أن تسال من تلمس فيه الذكاء و المعرفة ، ودع عنك الحياء و التكبر، فقد قال الإمام مجاهد رحمه الله :" لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر".و إياك و التنطع و التكلف،..بل احرص على تجنب الأسئلة التي لا يراد منها إلا إظهار أو استعراض المعرفة و العلم، أو الرغبة في إحراج أو إفحام الأستاذ..فهذا يدخل في إطار إساءة الأدب مع الأستاذ.و النبي صلى الله عليه و سلم أدبنا و علمنا توقير العلماء و احترامهم،فقال:" ليسَ منّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كبيرناَ و يرحمَ صَغِيرناَ و يَعْرِفَ لِعالِمناَ حَقَّهُ"؛
3- و عموما، يجب أن تكون الملاحظات متكاملة مضمونا و شكلا:
*من حيث المضمون: يجب أن يكون لها بناء تام و واضح؛
*  و من حيث الشكل: يجب مراعاة الوضوح ..و ملء الفراغ.
بمعنى، أنه يجب أن تكون الملاحظات التي سجلتها كافية، و مستوعبة لأهم ما جاء في المحاضرة أو الدرس.حتى يستطيع كل من يراجعها؛ أخذ فكرة واضحة و شاملة عن ما جاء فيها من معلومات و أفكار، أو ما دار فيها من نقاش. بل، إن أمكن،يجب أن تساعدنا الملاحظات على تتبع طريق البرهنة و الاستدلال و الاستنتاج التي استعملها الأستاذ لشرح و تبسيط مضامين المحاضرة للطلبة.بمعنى يجب أن تساعدك التسجيلات على معرفة: كيف كان الأستاذ يتناول الأفكار الرئيسية ؟، و كيف شرح المصطلحات الهامة؟ ، و كيف كان ينتقل من فكرة إلى أخرى؟..؟
4-غير أن،هذا لا يعني أنك ملزم بالتقيد حرفيا، بأسلوب و طريقة الأستاذ في تناول موضوع المحاضرة،إذ بإمكانك ،إذا رأيت ذلك ضروريا،أن تعيد صياغة الملاحظات،بمنهجك الخاص مادام لا يتعارض مع منهجية الأستاذ أو يتصادم معها؛
5- بل أكثر من هذا و أفضل منه، أن تقوم بكتابة ملخص لها. و لقد كشفت الدراسات العلمية، أن القيام بأعمال التلخيص ، وفقا لمبادئ معينة، يفوق إعادة القراءة.و السر في ذلك، أن الطالب، كي يقوم بتلخيص جيد،  يكون مضطرا إلى إعادة تنظيم المعلومات الواردة في المحاضرة ،و صياغتها بأسلوبه الخاص، و هو الأمر الذي يساعده على سرعة استيعابها و تعلمها..و من ثم تذكرها ساعة الحاجة إليها؛
6-واظب على إعادة قراءة و مراجعة هذه الملاحظات، و الملخصات و استكمالها( مما يسهل عليك الاستيعاب، و الاستعداد للامتحان..أو تنظيم بحثك بسهولة)؛
7-  ثم بعد كل هذا، يمكنك أن تقوم بدراسة تقيمية للمحاضرة، من وجهة نظرك الخاصة:راجع  الأسئلة التي توقعت أن المحاضرة ستجيب عنها.و قارنها بتلك التي تمت الإجابة عنها؟، م ضع قائمة جديدة، بالأسئلة التي ترى أنها في حاجة إلى أجوبة؛
8-و كرر عملية التقييم هذه ، بعد كل محاضرة،..و إذا وجدت أن  المحاضرات ، لم تساعدك على الإجابة على جميع الأسئلة، فعليك أن تفكر باستعمال الوسائل الأخرى ، التي قد تساعدك على الإجابة عن تلك الأسئلة.فالعمل في الجامعة يعتمد على البحث، و على الطالب أن يبحث في المكتبة أو الأنترنيت ،عن كل التفاصيل أو المعلومات الإضافية ،التي يعتقد أنها قد تفيده في فهم الدروس و المحاضرات.و يستحسن أن تبدأ بطلب العون أولا من أستاذ المادة ،ليساعدك على فهم ما تراه غامضا في المحاضرات. ثم بعد ذلك، قد تلجأ إلى المقررات التي كتبها هذا الأخير،  أو المراجع التي أحال عليها.كما يمكن أن تطلب إلى أستاذ الدروس التوجيهية/التطبيقية أن يساعدك، و أخيرا قد تطلب العون من  زملائك في الصف، كما قد تستنجد، في نهاية المطاف، بالأنترنيت.
وبعد..فلعل أفضل، ما نختم به هذا الدرس عن المحاضرة،هو التمعن جيدا في " الصور " التالية، من ألبوم العالم العربي الكبير الدكتور أحمد زكي"(1894-1975)  ،عن أيام دراسته الجامعية ، في لندن في الربع الأول من القرن العشرين(1919-1928):
كنت طالبا في بلد من بلاد الغرب..فذكرت شيئا عجبا.
ذكرت أنّا، نحن الطلبة،كنا نحضر المحاضرة، و نستمع إلى المحاضر و نلتقط و نملأ الأوراق البيض نقاطا. و يؤكد لنا الأستاذ أن محاضرته هذه ليست إلا تمهيدا لما سوف نقرأ في كتبنا ليلا.إنه في محاضرته إنما يبيّن لنا الخطوط العريضة للموضوع الذي يتحدث فيه.يرسم لنا الطريق السلطاني، و يدع الشوارع التي تتفرع عنه للكتب تتحدث عنها.إن ساعة واحدة لا تكفي.إن النهار للإجمال،و الليل بيننا و بين الكتب للتفاصيل.
و يأتي الليل، فأراني قاعدا، و على الطاولة أمامي كتابان كبيران، كل منهما عُمدة..و أمامي لقطاتٌ لقطتها من لفظ الأستاذ تهديني إلى تعرّفي طريقي في هذين الكتابين.ثم كراسة ، هي كراستي لهذا الفرع من العلم،أنقل إليها المحاضرة التي أجمعها لنفسي بنفسي، من مصادر ثلاثة ، لسان الأستاذ صباحا، و حديث هذين الأستاذين المؤلفين الكبيرين ليلا.
و احتفظت بكراستي هذه، مثلا،للنظافة، و الكفاية، و أساسا للمراجعة كلما حان امتحان. و احتفظت بكراساتي هذه فأريتها لتلاميذي بعد ذلك في الجامعة، لأقول لهم على هذا النهج الذي تعلمناه سيروا.