إن المعلومات التي يجمعها الباحث، على أهميتها، لا تفيد
ما لم يتم تنظيمها و عرضها، وفق خطة معينة، أو أطروحة معينة،أو وجهة نظر معينة، أو
فرضية معينة، أو فكرة ضابطة معينة، أو إشكالية معينة: تتعدد الأسماء و المسمى
واحد.
ذلك أن هذه الإشكالية هي التي تفسر للقارئ موقف الباحث/الكاتب أو وجهة نظره من الموضوع المبحوث ، و طريقته في
مناقشته ،و كذا الخطة التي سيتبعها في الدفاع عنها و إقناع القارئ بها.
و بتعبير آخر،فإن الإشكالية، هي "البرنامج"
الذي يدخل النظام على حصيلة البحث؛ فهي التي تحول ركام المعلومات و المعطيات التي
تم تجميعها إلى عمل له "رأس وجسد و ذيل".كما أنها تتضمن دائما ، بشكل واضح أو خفي، المعالم
الكبرى للتصميم الذي يجب وضعه لعرض الموضوع.و كذا الطريقة التي يجب إتباعها في
معالجة الموضوع.
فما هو مفهوم
الإشكالية في البحث العلمي؟ (المبحث الأول) و كيف يمكن صياغتها (المبحث
الثاني)؟
المبحث الأول:الإشكالية و شروطها:
مهما يكن شكل
البحث أو الموضوع الذي ستكتب فيه، فأنت في حاجة إلى فكرة مركزية ضابطة، تنظم
تفكيرك حول الموضوع و تضبطه.فهده الفكرة ، هي التي تبين فهمك الخاص لحقيقة المشكلة
(أو السؤال) موضوع البحث. و هي التي تجمع أفكارك و معلوماتك عنها، و تقودك في
النهاية إلى اقتراح الحل أو العلاج المناسب لها(المطلب الأول).
و من طبيعة الحال، فهذه الفكرة يجب أن تستوفي بعض
الشروط، حتى تكون علمية و فعالة،و إلا فسيكون ضررها أكبر من نفعها(المطلب الآخر).
المطلب الأول:تعريف الإشكالية:
أصل الإشكالية في اللغة، لفظة "إشكال"أي
"التباس"، و منها "أشكلَ الأمرُ أي التبس"..و منها أيضا قولهم
"تشاكل الأمر" أي تشابه،إلى درجة الاختلاط.و منه كذلك "شَكَلَ زيدٌ
الكتابَ،إذا قيَّدَهُ ب[حركات]الإعراب"؛..فكأنه أزال بذلك ما به من إشكال و
التباس[1].
و إذن، فمن الناحية اللغوية، تدل الإشكالية على القضية
أو الأمر الملتبس،الذي تشابكت فروعه - مثل الشجرة التي كثرت أغصانها و
التفّت-،فاستعصى بالتالي الوصول إلى حله:و لعل أقرب مرادف يدل على معناها،هو لفظة
" معضلة".
أما من حيث الإصطلاح الفني ،فمن الصعب إيراد تعريف متفق
عليه للإشكالية(The Research Problem=Problématique) ،أو المشكلة البحثية أو
الإشكالية( Problématique)(من الكلمة اليونانية=Problematikus).
و قد نستطيع أن نقرّب
مفهومها، من خلال التعريفين التاليين:
1-
يقول الدكتور
رشدي فكار(1928-2000):" ..حينما نقول "مسألة" نعني بها مجرد تساؤلات
مطروحة.هذه التساؤلات المطروحة حينما تتطلب حكما أو حلا فهي قضية، و حينما تصعب
القضايا أو تطرح بهدف الحل أو الحكم من خلال البحث العلمي تصبح ( مشكلة معمقة) و
بدورها القضايا و المشاكل حينما لا يصعب فقط حلها، و إنما يشك فيه لتعدده أو
استحالته أو يطرح فلسفيا، هنا تصبح إشكالية"[2].
2-
و يقول الدكتور
محمد عابد الجابري(1936-2010) عن السؤال او الموضوع الإشكالي:"..لا يبدأ المرء في فحص
عناصره حتى يجد نفسه، لا أمام مشاكل يمكن عزل كل منها عن الباقي قصد التغلب عليها
بالتجزئة و التصنيف و التحليل، بل أمام إشكالية، اعني امام منظومة من العلاقات
تنسجها، داخل فكر معين( فكر فرد أو فكر جماعة) مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر
إمكانية حلها منفردة و لا تقبل الحل إلا في إطار حل عام يشملها جميعا"[3].
محمد عابد الجابري |
3- و إذا انتقلنا من البعد الفلسفي إلى البعد المنهجي للإشكالية، يعرفها لنا الدكتور مصباح كالتالي:" فالإشكالية هي تحديد استفهامي لأبعاد الموضوع الذي يريد أن يبحثه الباحث.و تكون هذه الأسئلة موجهة في المقام الأول إلى ذات الباحث، و كأنه يسأل نفسه:ماذا يريد أن يبحث؟"[4].
و إذن، في القضايا الإشكالية، لا يطمح الباحث أن يعثر
لها على الإجابة الشافية التي ترضي جميع الناس، أو الوصول إلى حلها النهائي، أو
قول كلمة الفصل في القضية-الإشكالية المطروحة للبحث.بل كل ما يطمح إلى بلوغه ، هو
إيجاد "توليفة من عناصر الموضوع المتناقضة ( في الظاهر)، ليقول: إن حل هذا
الإشكال ، حسب المعطيات المتوفرة لدي، و حسب فهمي و رؤيتي،هو التالي( و يقترح حلا
، يحاول أن يقنع الناس بأنه هو الحل الذي يحيط
بأكبر قدر من عناصر الموضوع، او يحل أكبر عدد من عقده).
و من هنا، نستطيع القول بأن الإشكالية، على وجه التبسيط
غير المخل، هي:" التساؤل البحثي الرئيس، الذي يسعى الباحث من خلال الإجابة عنه، إلى حل معظم القضايا و
التساؤلات التي يطرحها موضوع البحث".
غير انه لا يجب الخلط بين " موضوع البحث " و
إشكاليته".و تقول الأستاذة الدكتورة وداد بدران ، بقولها:" [ الإشكالية]..هي
التساؤل البحثي الرئيس الذي يسعى الباحث إلى الإجابة عنه، و يجب عدم الخلط بينها و
بين موضوع البحث(The research topic) و الذي يمثل مجالا عاما يتعلق بأحد أبعاد الظاهرة
..، فالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ، على سبيل المثال ، تعد
موضوعا للبحث، و قد يختار الباحث في إطار هذا الموضوع أن يركز بحثه على تساؤل
رئيسي مثل :ماهو الدور الأمريكي كوسيط في النزاع(...) أو دور جماعات الضغط الصهيونية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه
إسرائيل.."[5].
و الحاصل،أن الإشكالية، هي السؤال المركزي الذي يخلص
إليه الباحث، بعد طرح أسئلة من نوع: كيف يمكن حل مشكلة البحث؟ أو:ما هي المعلومات
التي يجب التوفر عليها لحل هذه المشكلة ؟أو: لماذا يمثل "هذا الموضوع "
(موضوع البحث) مشكلة؟[6]..؟
و يمكن أن نعبر عنها بالمعادلة التالية:
موضوع الدراسة
+ وجهة نظر الباحث(بعد البحث و الـتفكير
في موضوع البحث ) = الإشكالية
|
المطلب الأخر: شروط الإشكالية الجيدة:
إذا كان البحث
عن الحل لأية مشكلة، يبدأ بالشعور بها، و التعرف على أبعادها ، إلا أن البداية الحقيقة تبدأ عندما
يتم حصر هذه المشكلة و تحديدها.لأن المشكلات العامة الواسعة، غير المحصورة و لا
المحدودة، يصعب حلها[7]. و لذلك، ينصح الباحث العلمي – داخل الجامعة أو خارجها – بتحديد المشكلة
تحديدا دقيقا( من حيث الزمان، و المكان، و الموضوع)[8]؛بطريقة تبين معالمها وحدودها.و بذلك يستطيع التعرف على مختلف الأسئلة و
الفرضيات و القضايا..إلخ، التي تتعلق بها.فيختار منها سؤالا أو فرضية أو فكرة
(مركزية) يعتبرها هي السرّ أو الأصل الذي يكمن فيه الحل[9].و عند ذلك فقط، يمكن الحديث عن نشأة الإشكالية في عقل الباحث أو الدارس.
و هناك عدة عوامل قد تساعد الباحث/الدارس على تحديد
إشكاليته،منها: نوعية و حجم المعلومات المتاحة أو التي يمكنه الوصول إليها، إذ أن
مراجعة المؤلفات و الكتب و الدراسات السابقة(من خلال دراسة استطلاعية)، و التعرف
على النظريات، المتعلقة بموضوع البحث/الدراسة،
قد توجهه إلى البحث عن حل للإشكالية،بالاستعانة بإحدى تلك النظريات. كما و أن المراجعة النقدية للبحوث و
الدراسات السابقة، يمكن أن تساعده في تحديد( أو تجديد) إشكالية، قد يكون هدفها تحدي
نتائج بعض البحوث السابقة ، أو توضيح بعض
النقاط الغامضة فيها. أو تكرار دراسة سبق إنجازها لفحص ما إذا كانت النتائج نفسها
تتحقق في فترة زمنية مختلفة. كما قد يجد الباحث أن بحثه يمكن أن يركز على تفسير
أسباب توصل الأبحاث السابقة إلى نتائج غير متوقعة...إلخ.
![]() |
الأبحاث السابقة |
و يعترف الدكتور محمد علي محمد،بأنه :" ..لا توجد
قاعدة ثابتة يمكن الاحتكام إليها في اختيار مشكلات[ إشكاليات][10] البحوث، و إنما توجد بعض المبادئ العامة ، التي تحدد للباحث الاتجاه
الصحيح الذي يجب أن يسير عليه عند اختياره لمشكلة بحثه، من ذلك الغرض أو الهدف من
البحث، و طبيعة الفلسفة أو السياسة السائدة في المجتمع، و قيام بعض الأفراد أو
الهيئات بالإنفاق على البحث ، و مدى توافر الإمكانات اللازمة"[11].
و عموما، لتحديد الباحث للمشكلة البحثية، يجب أن يراعي
ما يأتي:
1- إن المشكلة البحثية(الإشكالية) ، يجب ألا تكون عامة
لدرجة يستحيل دراستها بتعمق ، كما و أنه يجب عدم تضييق المشكلة إلى الحد الذي يقلل
أهميتها[12].
2- إن الإشكالية يجب أن تكون واضحة، فالمفاهيم المستخدمة
في صياغتها، يجب ألا يكتنفها أي نوع من
أنواع الغموض.
3- يجب أن تكون
الإشكالية، قابلة للدراسة في حدود الوقت و الإمكانيات المتاحة للباحث.
و بالإضافة إلى هذه العوامل أو الدوافع، هناك العوامل
الشخصية، النابعة من اهتمامات أو ثقافة الباحث.أو اهتمامات و هموم البيئة الأسرية أو بيئة المهنية أو العلمية
التي يعيش أو يعمل فيها الباحث(أي طبيعة المشاكل التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه).
و من الصعب، أن يعرف الباحث مدى فعالية إشكاليته، قبل أن
يجربها ، أو قبل أن يجمع المعطيات التي تؤكدها أو تدحضها(و هذا الإحساس ينتاب
بالخصوص الطلبة الذين يجتازون الامتحان، و ليس أمامهم الوقت الكافي لاختبار أكثر
من إشكالية).
المبحث الثاني: الإشكالية صياغتها و قيمتها المنهجية:
إن الطالب أو الباحث أو أي دارس ( بصفة عامة)، لا يمكنه
أن يصوغ إشكالية جيدة،إلا إذا كانت معرفته بالموضوع قيد البحث عميقة. و اطلاعه على
مختلف جوانبه واسعا.لأن ذلك، يسهل له عمليات
تجميع المعلومات ، التي لها علاقة
بالمشكلة موضوع البحث.و من ثَم فرزها و غربلتها و تصنيفها، و الترجيح بينها ،
لمعرفة أصلحها لحل المشكلة (المطلب الآخر).
و هذه الصياغة، في الحقيقة، هي الخطة التي ستوجه البحث
كله،فهي التي ستوجه الباحث إلى الطريقة الأنسب لدراسة الموضوع قيد البحث (المطلب
الأول).
المطلب الأول: القيمة المنهجية
للإشكالية:
إن الأسئلة و المواضيع التي يطلب منا الإجابة عنها أو
دراستها ، في ميدان العلوم الاجتماعية و الإنسانية، غالبا ما تتسم بالغموض و
الضخامة و التشعب، مما يجعل دراستها و معالجتها ، و التوصل إلى حلول لها ، في
الحيز المتاح من الزمن، و بالعمل الفردي (كما في الامتحانات)،أمرا صعبا إن لم نقل
مستحيلا.لذلك،فإن المنهجية تساعدنا على سلوك الطريق الآمن، الذي لا تعترضه
العقبات.
و المنهجية، المتعارف عليها هنا، هي أنه لدراسة القضايا
الشائكة ، التي تتسم بالغموض و الإشكال، يحتاج الباحث إلى معطيات جديدة، أو تنظيم( منهج=مقترب) جديد للمعلومات القديمة، لاقتراح حل أو تصور أو إشكالية.
أجل ،لا بد للباحث/الطالب من أن يختار لنفسه إشكالية، أي أطروحة ( رؤية معينة/أو فرضية/موقف/إدعاء/فكرة..)، يطرحها في مسألة أو قضية معينة(موضوع البحث)،و يجب عليه أن يثبت ( من خلال نقاش علمي و مجادلة موضوعية)،صحة إدعائه/موقفه أو أطروحته.فكأن الباحث عندما يقترح أطروحته يقول: هذه هي إشكاليتي، بمعنى هذا هو تصوري لسبب الإشكال و حله، أو أن حل الإشكال يكمن في كذا أو كذا،أي فيما يقترحه هو من حل يعتبره هو الأصل في الإشكال(أي الأصل الذي تسبب في المشاكل المتشابكة=الإشكالية).
و من هنا، ندرك أن الإشكالية، تساعد الباحث/ الطالب، على الإمساك بموضوع بحثه، و جعله في متناول اليد، و من ثم قابلا للبحث و الدراسة، حسب ظروفه و الإمكانيات المتاحة له(التمويل،و الزمن، و المعلومات..إلخ)؛ بفضل توافرها على المزايا المنهجية التالية:
أجل ،لا بد للباحث/الطالب من أن يختار لنفسه إشكالية، أي أطروحة ( رؤية معينة/أو فرضية/موقف/إدعاء/فكرة..)، يطرحها في مسألة أو قضية معينة(موضوع البحث)،و يجب عليه أن يثبت ( من خلال نقاش علمي و مجادلة موضوعية)،صحة إدعائه/موقفه أو أطروحته.فكأن الباحث عندما يقترح أطروحته يقول: هذه هي إشكاليتي، بمعنى هذا هو تصوري لسبب الإشكال و حله، أو أن حل الإشكال يكمن في كذا أو كذا،أي فيما يقترحه هو من حل يعتبره هو الأصل في الإشكال(أي الأصل الذي تسبب في المشاكل المتشابكة=الإشكالية).
و من هنا، ندرك أن الإشكالية، تساعد الباحث/ الطالب، على الإمساك بموضوع بحثه، و جعله في متناول اليد، و من ثم قابلا للبحث و الدراسة، حسب ظروفه و الإمكانيات المتاحة له(التمويل،و الزمن، و المعلومات..إلخ)؛ بفضل توافرها على المزايا المنهجية التالية:
1- إن الإشكالية، تساعد الباحث على تحديد القضية موضوع
البحث من حيث الزمان و المكان و الموضوع؛
2- إنها تساعد على تجزئة الهدف(حل الإشكالية المركزية )، إلى عدد من الأهداف الصغرى(الإشكاليات الفرعية)؛
3- و هذا التجزيء مهم فهو يسهل العمل من جهة، كما أن تراكم
الخبرات من خلال الإجابة عن الإشكاليات الفرعية، يسهل الإجابة عن الإشكالية
المركزية على أفضل وجه؛
4- إن الإشكالية تحمي الباحث من أن يضل طريقه، أو أن يتبع
طرقا أخرى تبعده عن الهدف الذي يسعى إليه، فتشتت انتباهه و تبدد جهده، و تمنعه من
تركيز جهده؛
![]() |
الإشكالية ترشد إلى الطريق السليم |
5- غير أن الباحث يحتاج إلى المرونة، لتغيير إشكاليته كلما
دعت الضرورة إلى ذلك، دون التخلي أو التنازل عن الهدف الأصلي؛
6- و يحتاج الباحث إلى قدر من الموضوعية، حتى يحافظ على
مسافة من الموضوع قيد الدرس، و لا يستسلم لأحكامه المسبقة؛
7- و الأهم من كل هذا، أن نتذكر دائما أن الإشكالية هي العمود الفقري لكل بحث/مقال/كتاب؛إذ هي التي توجه عمل الباحث/الكاتب/الطالب من بدايته إلى نهايته.و من ثم فكل جزء بل كل فقرة من فقرات البحث، يجب أن تستهدف الإجابة عن الإشكالية.لا بل إن كل فكرة و كل جملة إنما تكتسب مشروعية التواجد في تقرير البحث/المقال/ الكتاب من خلال علاقاتها مع الإشكالية:فهي تخدم الإشكالة و تدافع عنها، من المقدمة إلى الخاتمة.
7- و الأهم من كل هذا، أن نتذكر دائما أن الإشكالية هي العمود الفقري لكل بحث/مقال/كتاب؛إذ هي التي توجه عمل الباحث/الكاتب/الطالب من بدايته إلى نهايته.و من ثم فكل جزء بل كل فقرة من فقرات البحث، يجب أن تستهدف الإجابة عن الإشكالية.لا بل إن كل فكرة و كل جملة إنما تكتسب مشروعية التواجد في تقرير البحث/المقال/ الكتاب من خلال علاقاتها مع الإشكالية:فهي تخدم الإشكالة و تدافع عنها، من المقدمة إلى الخاتمة.
المطلب الآخر:صياغة الإشكالية:
إذا اخترت موضوعا للبحث، أو فرض عليك موضوع في الامتحان
..،أو أي موضوع علمي آخر..قد تطرح على نفسك السؤال التالي: كيف يمكنني صياغة
إشكالية هذا البحث ؟أو هذا الموضوع؟
لتسهيل مهمتك، نقترح عليك إتباع المنهجية التالية،
للتوصل إلى وضع إشكالية الموضوع الذي تكون بصدد الإجابة عنه:
1-
ابدأ بمسح
المعلومات المتوفرة لديك عن الموضوع( أفرغ الذاكرة)..فستجد أنه قد اجتمع لديك
الكثير من المعطيات (معلومات ، و بيانات، و أمثلة، و استشهادات ،و تواريخ،و حقائق
من كل نوع)؛
2- قم بعد ذلك بترتيب تلك المعلومات/ البطاقات،و
تصنيفها(تقسيمها إلى أنواع و تقسيم هذه الأنواع إلى فصائل) حسب مضامينها(قربها أو
بعدها من الموضوع)،و لتؤلف منها عناوين كبرى؛
3-
من خلال هذه العملية السابقة، تكون قد
بدأت في تحديد(وضع حدود) المشكلة قيد الدرس(من حيث الزمان و المكان و الموضوع):أي
تكون، في الحقيقة، قد اخترت فرضية معينة- إشكالية أولية- لمعالجة السؤال.وهذه
الإشكالية هي التي ستوجهك إلى نوعية المعلومات التي يتعين عليك الإبقاء عليها و تلك التي يجب عليك استبعادها(
حسب فهمك لجوهر الموضوع قيد البحث)[13]؛
4-
بمعنى أنه يصبح
عندك،في نهاية المرحلة السابقة، معيار على أساسه تغربل و تفرز المعلومات المتوفرة
لديك، و المقارنة بينها،على أساس علاقاتها المباشرة/ أو غير المباشرة بالموضوع
المطروح للبحث(من زاوية الفرضية أو الإشكالية التي اخترتها)؛
![]() |
معيار |
5-
و بعد استبعاد الأفكار و المعلومات و المعطيات
التي تعتقد أنك لست بحاجة إليها؛ يتبقى لك مجموعة
من المعطيات الأخرى-( أفكار،و
أرقام، و معلومات، و تواريخ..) -التي لها علاقة وثيقة و وطيدة بالموضوع المدروس؛أي
التي لا يمكنك الاستغناء عنها.هذه الأفكار المتبقية، هي التي ستصبح الوعاء، الذي
ستستخرج منه الإشكالية المركزية و الإشكاليات الفرعية.كيف؟
6-
يتم ذلك بوضع
ما بقي من أفكار و معلومات..، في قوائم( تحت عناوين معينة)؛ و ذلك حسب مدى اتفاقها
في سمة من السمات الملائمة للبحث.و لا يشترط في محتويات القائمة أن تكون متماثلة
أو متشابهة في الظاهر،إذ أن الباحث الناجح ، هو الذي يستطيع الجمع في إطار واحد
متسق ما بين معلومات متنوعة و متفرقة، مع إعطائها تفسيرا موحدا.
7-
ثم يتم
اختزال(اختصار) كل قائمة إلى فكرة واحدة : و تتمثل هذه الخطوة، في البحث داخل
مكونات كل قائمة، عن الفكرة الأم/الأصل ؛ التي يُعتقد أو تعتقد أنت أنها هي
الأصل( أو على الأقل العنصر) المشترك،
الذي يجمع بين مكونات القائمة. و ذلك باستخدام أدوات الاستفهام "لماذا؟"
و "هل؟" و "كيف؟"؛محاولا إيجاد الأسباب التي تبرر أو تفسر؛
إدماج و اختزال عناصر كل قائمة في فكرة واحدة؛باستعمال العلاقات السببية
بينها(إدماج الخاص في العام، و الشبيه في الشبيه، و التخلص من الشاذ ..).و بذلك ،
نستطيع الوصول إلى الفكرة الرئيسية ( الأصل) في كل قائمة؛
![]() |
إستخراج الفكرة المركزية من الأفكار الفرعية و الثانوية |
8- و نكرر هذه العملية ، مع باقي القوائم..إلى أن نصل إلى أربعة أفكار رئيسية(هذه الأفكار هي الإشكاليات الفرعية)؛
9-
بعد ذلك، عليك
أن تبحث عن الفكرة التي تجمع بين كل الأفكار أو الإشكاليات الفرعية( بحيث تعتبر
تلك الفكرة هي الأصل، و الأفكار الفرعية مجرد تفاصيل لها، تدعمها و لا تتناقض
معها):فإذا عثرت على هذه الفكرة "الأم"، تكون قد وضعت يدك على الإشكالية
المركزية..[14]، التي تجمع الأفكار و المعلومات على كثرتها و تنوعها، و توفِق بينها،
و تدرجها كحبات اللؤلؤ في سِلْك جامع يلم ما تشتّت منها؛
10-
إن عملية
الاختيار أو الكشف عن هذه الفكرة المركزية أو الإشكالية ،من مجموع الأفكار
الرئيسية(الأصلية)، ليست سهلة،إذ تتطلب القيام بتقييم و تقدير موضوعي لكل إشكالية
فرعية.فإذا أثبتت أي واحدة منها، قدرتها على تفسير الظاهرة قيد الدرس، بمنهجية أقوى
و أعمق من الإشكاليات الفرعية الأخرى[15]،تصبح هي الإشكالية المركزية (النهائية).
بمعنى أنه، كي تتحول أي فكرة (أو فرضية)، إلى إشكالية
مركزية، لا بد من أن تستوفي شرط أساسي، ألا و هو القدرة على الإجابة عن معظم( و
ليس كل) الأسئلة التي يطرحها الموضوع المبحوث، أو تنطوي عليها الفرضيات و الأفكار
الأخرى( خاصة الأصلية) المرتبطة بالموضوع.أي أن تكون قادرة على نَظْم أهم
الأفكار و الفرضيات المتعلقة بالموضوع في خيط واحد أو سلك ناظم(fil
conducteur) قوي و
متماسك،دون تكلف أو اصطناع.
7- و في الحقيقة،نادرا ما يتفق الناس حول هذه
الإشكاليات.اللهم، إلا إذا كانوا ينتمون إلى نفس الثقافة( بمفهومها الضيق جدا:كـأن
يكونوا من نفس الكلية، أو المهنة).و إلا فإنه من الطبيعي أن يظهر الاختلاف و
التباين بين الباحثين، فكل واحد منهم، يعود بالمشكل المبحوث، إلى إشكالية معينة،
حسب معطيات ذاتية و أخرى موضوعية.
8- بهذه الطريقة المنهجية، يستطيع الطالب الذكي أن يضع
يده على الفكرة الرئيسية التي ستقوده بأمان و طمأنينة ، إلى الخطوة التالية،أعني
بها تقديم هذه الفكرة بتفاصيلها-إشكالياتها الفرعية[16]-
في شكل مرتب و منظم..على شكل تصميم.
[1] الإمام
الرازي- الصّحاح-عني بترتيبه: محمود خاطر-الطبعة الثانية- دار الحداثة – بيروت
1993- مادة " شكل"(ص 273).
و لعل أقرب
كلمة عربية فصيحة، تدل على معاني الإشكالية، هي كلمة "المعضلة"،أي
القضية الشديدة ، التي يستعصي على الناس الاهتداء إلى حلها أو علاجها.و منها
"اعضأَلَّت الشجرةُ كثرت أغصانها و التفَت":انظر:مادة "عضل "
في الصحاح( ص 345)، و مادة "العَضَلة" في :الفيروز آبادي- القاموس
المحيط- دار إحياء التراث العربي- بيروت 1991-ج4مادة " العَضلة" (ص 25).
[4] المرجع السابق- ص 27.و يضيف في نفس
المكان:" و قد شاع في البحوث الجامعية أن نحدد أسئلة الإشكالية في أربعة
أسئلة:ماذا؟ و أين؟ و كيف؟ و متى؟ أي ماذا أريد أن أبحث؟ و ما هو مكان دراسة
البحث؟ و ما هي الطريقة المنهجية التي أبحث بها الموضوع؟ و في أي زمن أجري الدراسة؟".
[5] المشكلة البحثية – موسوعة العلوم السياسية-
جامعة الكويت/ مؤسسة الكويت للتقدم العلمي/ وزارة الإعلام- الكويت 1994/1995- ج1 ص
44.
[6]
فيما يلي، بعض الأسئلة التي يمكنك طرحها و بالإجابة عنها، قد يصبح من السهل عليك
تحديد إشكالية الموضوع الذي تكون بصدد معالجته:
-
ما هو "الشيء" أو "الأشياء"
التي تمثل مشكل في هذا الموضوع؟ ما لذي يبدو لي غامضا..أو متناقضا؟أو غريبا..؟ أو مهما ..؟أو جديدا أو
مستفزا..؟؟ في هذا الموضوع(سجل كل الأفكار التي قد ترد على ذهنك كأجوبة على هذه
الأسئلة).
-
لماذا يفترض في هذا الموضوع أو السؤال أن يكون
مهما؟هل هو مهم من وجهة نظر المادة التي أدرسها ؟ أو البحث الذي أنجزه؟ و ما معنى
أن أفشل في الإجابة عنه؟ هل سيفسر ذلك بأني لم أفهم حقيقة الموضوع الذي أدرسه
/أحاول الإجابة عنه؟
-
ما هي جوانب هذا المشكل، التي يفترض بي الاهتمام
بها..و التركيز عليها..للإحاطة و الإلمام بأهم أبعاد الموضوع؟
[7] نحن نحتاج
إلى تحديد المشكلة، ليكون حجمها- أي حجم ما سندرسه منها- متناسبا مع الوقت المحدد
لإنجاز البحث، و الإمكانات المادية، و
سهولة أو صعوبة الحصول على المادة العلمية اللازمة، و الوسائل المطلوبة.
فالبحث الذي يستغرق ثلاثة أسابيع ، ليس كالبحث الذي يتطلب عدة سنوات.و البحث الذي
توجد المعلومات المتعلقة به ، في أقرب مكتبة، ليس كالبحث الذي يتطلب من الباحث
الانتقال إلى عدة مدن، و مقابلة عدة أشخاص. و هكذا.
[8] يقصد بهذه
المحددات حصر اهتمام الباحث في إطار زمكاني لا تخرج عنه.و حصرها في موضوع(أو جزء
من موضوع)، لا يمكنها الخروج عنها:فالتحديد الذي يختاره الباحث، يصبح ملزما له،
طيلة البحث.و يراد بالمحددات أيضا ، تحديد مفاهيم الدراسة و مصطلحاتها.
[9]
د.سعيد إسماعيل صيني- قواعد أساسية في البحث العلمي-مؤسسة الرسالة-بيروت
1415/1994- ص 137 و ما يليها.و تحديد الإشكالية، قد يأتي ، من حيث الصياغة، على ثلاثة
أنواع:
أ- صيغة الجملة الخبرية:هذا البحث،يدرس آراء الشارع
المغربي،في العلاقة الموجودة بين الديمقراطية و التنمية المستدامة.
ب- صيغة السؤال:كيف يرى الشارع المغربي العلاقة بين
الديمقراطية و التنمية المستدامة؟
ج- صيغة الفرضية:هناك رأي(أو دراسة علمية..) يقول بأن
المغاربة ، يرون أن السبيل الوحيد لتحقيق التنمية المستدامة ، هو الأخذ
بالديمقراطية.للمزيد من التفاصيل:انظر قواعد أساسية في البحث العلمي- م.س- ص 141 و
ما يليها.
[12] فلا يمكنك، مثلا، أن تدرس أسباب البطالة في العالم، أو حتى أسباب البطالة
في صفوف الشباب العرب، إلا بطريقة خالية من العمق . و لكنك إذا ضيّقت الإشكالية ،
بحيث حصرتها في دراسة البطالة في صفوف الجامعيين المغاربة مثلا، أو البطالة في صفوف الحاصلين على الدكتوراه في
القانون أو الجغرافيا،فستكون دراستك أهم بكثير. ذلك أنه كلما اتسعت الإشكالية كلما
كان البحث سطحيا، و كلما ضاقت كان البحث
عميقا، و بالتالي يخرج بنتائج دقيقة.
غير أنه
إذا ضاقت الإشكالية، حتى انحصرت في الحاصلين على الدكتوراه في قانون الشغل أو في دراسة المناخ مثلا ، أصبح البحث أقل
أهمية.
[13] و هذا من
مزايا الإشكالية،إذ بهذا التوجيه ؛ توفر على الباحث الكثير من الوقت و الجهد و
المال، الذي كان سينفقه في الحصول على معلومات عديمة القيمة أو محدودة الأهمية،
بخصوص المشكل قيد الدرس.
[14] و هناك
طريقة أخرى مختصرة، و لكنها غير دقيقة:أن تختزل الأفكار الرئيسية إلى فكرة واحدة،
ثم تقوم بتفريعها إلى فرعين أو إشكاليتين فرعيتين، على أساسهما يتم وضع التصميم.
[15] و من المهم، أن نلفت الانتباه هنا،إلى أنه من المهم جدا، أن تنبثق الإشكالية عن البحث ،
لا من الأفكار السابقة التي كانت لدى الباحث..أي الدين أو الإيديولوجيا..أو غيرها.
[16] أجل، إن الإشكالية، تتضمن ، بشكل أو آخر، الطريقة التي
يجب إتباعها لعرض نتائج البحث؛ و ذلك بواسطة الإشكاليات الفرعية.ذلك، أن أهمية هذه
الإشكاليات ، تظهر من زاويتين:
أ- الأولى، هي
أن الإجابة عنها تمكن و تؤدي، في نهاية المطاف ، إلى الإجابة عن الإشكالية
المركزية، فهي ليست مستقلة بعضها عن بعض ، بل هي متكاملة، أو يجب أن تتكامل في
خطة منهجية واحدة،للإجابة عن الإشكالية المركزية.و
كأنها روافد بالنسبة لنهر الإشكالية الكبير.
ب- و الأخرى، أنها تشكل الأساس الذي ينسج منه
التصميم:فالتصميم ، يتمحور حول الإشكاليات الفرعية، فنجد به من الأقسام الرئيسية و
الفرعية بقدر أو عدد الإشكاليات الفرعية.
لاستخراج هذا التصميم، بشكل واضح جلي، يجب تفكيك
الإشكالية ،أو إعادتها بالأحرى إلى أصولها،أي الأفكار الفرعية الكامنة فيها، و
المكونة لها.