الجمعة، 25 أكتوبر 2013

منهجيات الإشكالية

إن المعلومات التي يجمعها الباحث، على أهميتها، لا تفيد ما لم يتم تنظيمها و عرضها، وفق خطة معينة، أو أطروحة معينة،أو وجهة نظر معينة، أو فرضية معينة، أو فكرة ضابطة معينة، أو إشكالية معينة: تتعدد الأسماء و المسمى واحد.
ذلك أن هذه الإشكالية هي  التي تفسر للقارئ موقف الباحث/الكاتب  أو وجهة نظره من الموضوع المبحوث ، و طريقته في مناقشته ،و كذا الخطة التي سيتبعها في الدفاع عنها و إقناع القارئ بها.
و بتعبير آخر،فإن الإشكالية، هي "البرنامج" الذي يدخل النظام على حصيلة البحث؛ فهي التي تحول ركام المعلومات و المعطيات التي تم تجميعها إلى عمل له "رأس وجسد و ذيل".كما  أنها تتضمن دائما ، بشكل واضح أو خفي، المعالم الكبرى للتصميم الذي يجب وضعه لعرض الموضوع.و كذا الطريقة التي يجب إتباعها في معالجة الموضوع.
فما هو مفهوم  الإشكالية في البحث العلمي؟ (المبحث الأول) و كيف يمكن صياغتها (المبحث الثاني)؟

المبحث الأول:الإشكالية و شروطها:

 مهما يكن شكل البحث أو الموضوع الذي ستكتب فيه، فأنت في حاجة إلى فكرة مركزية ضابطة، تنظم تفكيرك حول الموضوع و تضبطه.فهده الفكرة ، هي التي تبين فهمك الخاص لحقيقة المشكلة (أو السؤال) موضوع البحث. و هي التي تجمع أفكارك و معلوماتك عنها، و تقودك في النهاية إلى اقتراح الحل أو العلاج المناسب لها(المطلب الأول).
و من طبيعة الحال، فهذه الفكرة يجب أن تستوفي بعض الشروط، حتى تكون علمية و فعالة،و إلا فسيكون ضررها أكبر من نفعها(المطلب الآخر).

المطلب الأول:تعريف الإشكالية:

أصل الإشكالية في اللغة، لفظة "إشكال"أي "التباس"، و منها "أشكلَ الأمرُ أي التبس"..و منها أيضا قولهم "تشاكل الأمر" أي تشابه،إلى درجة الاختلاط.و منه كذلك "شَكَلَ زيدٌ الكتابَ،إذا قيَّدَهُ ب[حركات]الإعراب"؛..فكأنه أزال بذلك ما به من إشكال و التباس[1].
و إذن، فمن الناحية اللغوية، تدل الإشكالية على القضية أو الأمر الملتبس،الذي تشابكت فروعه - مثل الشجرة التي كثرت أغصانها و التفّت-،فاستعصى بالتالي الوصول إلى حله:و لعل أقرب مرادف يدل على معناها،هو لفظة " معضلة".
أما من حيث الإصطلاح الفني ،فمن الصعب إيراد تعريف متفق عليه للإشكالية(The Research Problem=Problématique) ،أو المشكلة البحثية أو الإشكالية( Problématique)(من الكلمة اليونانية=Problematikus).
 و قد نستطيع أن  نقرّب مفهومها، من خلال التعريفين التاليين:
1-    يقول الدكتور رشدي فكار(1928-2000):" ..حينما نقول "مسألة" نعني بها مجرد تساؤلات مطروحة.هذه التساؤلات المطروحة حينما تتطلب حكما أو حلا فهي قضية، و حينما تصعب القضايا أو تطرح بهدف الحل أو الحكم من خلال البحث العلمي تصبح ( مشكلة معمقة) و بدورها القضايا و المشاكل حينما لا يصعب فقط حلها، و إنما يشك فيه لتعدده أو استحالته أو يطرح فلسفيا، هنا تصبح إشكالية"[2].
2-    و يقول الدكتور محمد عابد الجابري(1936-2010) عن السؤال او الموضوع الإشكالي:"..لا يبدأ المرء في فحص عناصره حتى يجد نفسه، لا أمام مشاكل يمكن عزل كل منها عن الباقي قصد التغلب عليها بالتجزئة و التصنيف و التحليل، بل أمام إشكالية، اعني امام منظومة من العلاقات تنسجها، داخل فكر معين( فكر فرد أو فكر جماعة) مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة و لا تقبل الحل إلا في إطار حل عام يشملها جميعا"[3].

منهجيات الإشكالية

محمد عابد الجابري


3-    و إذا انتقلنا من البعد الفلسفي إلى البعد المنهجي للإشكالية، يعرفها لنا الدكتور مصباح كالتالي:" فالإشكالية هي تحديد استفهامي لأبعاد الموضوع الذي يريد أن يبحثه الباحث.و تكون هذه الأسئلة موجهة في المقام الأول إلى ذات الباحث، و كأنه يسأل نفسه:ماذا يريد أن يبحث؟"[4].
و إذن، في القضايا الإشكالية، لا يطمح الباحث أن يعثر لها على الإجابة الشافية التي ترضي جميع الناس، أو الوصول إلى حلها النهائي، أو قول كلمة الفصل في القضية-الإشكالية المطروحة للبحث.بل كل ما يطمح إلى بلوغه ، هو إيجاد "توليفة من عناصر الموضوع المتناقضة ( في الظاهر)، ليقول: إن حل هذا الإشكال ، حسب المعطيات المتوفرة لدي، و حسب فهمي و رؤيتي،هو التالي( و يقترح حلا ، يحاول أن يقنع الناس بأنه هو الحل الذي يحيط  بأكبر قدر من عناصر الموضوع، او يحل أكبر عدد من عقده).
و من هنا، نستطيع القول بأن الإشكالية، على وجه التبسيط غير المخل، هي:" التساؤل البحثي الرئيس، الذي يسعى الباحث  من خلال الإجابة عنه، إلى حل معظم القضايا و التساؤلات التي يطرحها موضوع البحث".
غير انه لا يجب الخلط بين " موضوع البحث " و إشكاليته".و تقول الأستاذة الدكتورة وداد بدران ، بقولها:" [ الإشكالية]..هي التساؤل البحثي الرئيس الذي يسعى الباحث إلى الإجابة عنه، و يجب عدم الخلط بينها و بين موضوع البحث(The research topic) و الذي يمثل مجالا عاما يتعلق بأحد أبعاد الظاهرة ..، فالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ، على سبيل المثال ، تعد موضوعا للبحث، و قد يختار الباحث في إطار هذا الموضوع أن يركز بحثه على تساؤل رئيسي مثل :ماهو الدور الأمريكي كوسيط في النزاع(...) أو دور جماعات الضغط  الصهيونية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل.."[5].
و الحاصل،أن الإشكالية، هي السؤال المركزي الذي يخلص إليه الباحث، بعد طرح أسئلة من نوع: كيف يمكن حل مشكلة البحث؟ أو:ما هي المعلومات التي يجب التوفر عليها لحل هذه المشكلة ؟أو: لماذا يمثل "هذا الموضوع " (موضوع البحث) مشكلة؟[6]..؟
و يمكن أن نعبر عنها بالمعادلة التالية:
موضوع الدراسة  +  وجهة نظر الباحث(بعد البحث و الـتفكير في موضوع البحث )    =    الإشكالية  

المطلب الأخر: شروط الإشكالية الجيدة:

 إذا كان البحث عن الحل لأية مشكلة، يبدأ بالشعور بها، و التعرف على  أبعادها ، إلا أن البداية الحقيقة تبدأ عندما يتم حصر هذه المشكلة و تحديدها.لأن المشكلات العامة الواسعة، غير المحصورة و لا المحدودة، يصعب حلها[7]. و لذلك، ينصح الباحث العلمي – داخل الجامعة أو خارجها – بتحديد المشكلة تحديدا دقيقا( من حيث الزمان، و المكان، و الموضوع)[8]؛بطريقة تبين معالمها وحدودها.و بذلك يستطيع التعرف على مختلف الأسئلة و الفرضيات و القضايا..إلخ، التي تتعلق بها.فيختار منها سؤالا أو فرضية أو فكرة (مركزية) يعتبرها هي السرّ أو الأصل الذي يكمن فيه الحل[9].و عند ذلك فقط، يمكن الحديث عن نشأة الإشكالية في عقل الباحث أو الدارس.
و هناك عدة عوامل قد تساعد الباحث/الدارس على تحديد إشكاليته،منها: نوعية و حجم المعلومات المتاحة أو التي يمكنه الوصول إليها، إذ أن مراجعة المؤلفات و الكتب و الدراسات السابقة(من خلال دراسة استطلاعية)، و التعرف على  النظريات، المتعلقة بموضوع البحث/الدراسة، قد توجهه إلى البحث عن حل للإشكالية،بالاستعانة بإحدى تلك  النظريات. كما و أن المراجعة النقدية للبحوث و الدراسات السابقة، يمكن أن تساعده في تحديد( أو تجديد) إشكالية، قد يكون هدفها تحدي نتائج  بعض البحوث السابقة ، أو توضيح بعض النقاط الغامضة فيها. أو تكرار دراسة سبق إنجازها لفحص ما إذا كانت النتائج نفسها تتحقق في فترة زمنية مختلفة. كما قد يجد الباحث أن بحثه يمكن أن يركز على تفسير أسباب توصل الأبحاث السابقة إلى نتائج غير متوقعة...إلخ.
منهجيات الإشكالية
الأبحاث السابقة
و يعترف الدكتور محمد علي محمد،بأنه :" ..لا توجد قاعدة ثابتة يمكن الاحتكام إليها في اختيار مشكلات[ إشكاليات][10] البحوث، و إنما توجد بعض المبادئ العامة ، التي تحدد للباحث الاتجاه الصحيح الذي يجب أن يسير عليه عند اختياره لمشكلة بحثه، من ذلك الغرض أو الهدف من البحث، و طبيعة الفلسفة أو السياسة السائدة في المجتمع، و قيام بعض الأفراد أو الهيئات بالإنفاق على البحث ، و مدى توافر الإمكانات اللازمة"[11].
و عموما، لتحديد الباحث للمشكلة البحثية، يجب أن يراعي ما يأتي:
1- إن المشكلة البحثية(الإشكالية) ، يجب ألا تكون عامة لدرجة يستحيل دراستها بتعمق ، كما و أنه يجب عدم تضييق المشكلة إلى الحد الذي يقلل أهميتها[12].
2- إن الإشكالية يجب أن تكون واضحة، فالمفاهيم المستخدمة في صياغتها، يجب ألا  يكتنفها أي نوع من أنواع الغموض.
3-  يجب أن تكون الإشكالية، قابلة للدراسة في حدود الوقت و الإمكانيات المتاحة للباحث.
و بالإضافة إلى هذه العوامل أو الدوافع، هناك العوامل الشخصية، النابعة من اهتمامات أو ثقافة الباحث.أو اهتمامات و هموم  البيئة الأسرية أو بيئة المهنية أو العلمية التي يعيش أو يعمل فيها الباحث(أي طبيعة المشاكل التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه).
و من الصعب، أن يعرف الباحث مدى فعالية إشكاليته، قبل أن يجربها ، أو قبل أن يجمع المعطيات التي تؤكدها أو تدحضها(و هذا الإحساس ينتاب بالخصوص الطلبة الذين يجتازون الامتحان، و ليس أمامهم الوقت الكافي لاختبار أكثر من إشكالية).

المبحث الثاني: الإشكالية صياغتها و قيمتها المنهجية:

إن الطالب أو الباحث أو أي دارس ( بصفة عامة)، لا يمكنه أن يصوغ إشكالية جيدة،إلا إذا كانت معرفته بالموضوع قيد البحث عميقة. و اطلاعه على مختلف جوانبه واسعا.لأن ذلك، يسهل له عمليات  تجميع المعلومات ، التي  لها علاقة بالمشكلة موضوع البحث.و من ثَم فرزها و غربلتها و تصنيفها، و الترجيح بينها ، لمعرفة أصلحها لحل المشكلة (المطلب الآخر).
و هذه الصياغة، في الحقيقة، هي الخطة التي ستوجه البحث كله،فهي التي ستوجه الباحث إلى الطريقة الأنسب لدراسة الموضوع قيد البحث (المطلب الأول).

المطلب الأول: القيمة المنهجية للإشكالية:

إن الأسئلة و المواضيع التي يطلب منا الإجابة عنها أو دراستها ، في ميدان العلوم الاجتماعية و الإنسانية، غالبا ما تتسم بالغموض و الضخامة و التشعب، مما يجعل دراستها و معالجتها ، و التوصل إلى حلول لها ، في الحيز المتاح من الزمن، و بالعمل الفردي (كما في الامتحانات)،أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا.لذلك،فإن المنهجية تساعدنا على سلوك الطريق الآمن، الذي لا تعترضه العقبات.
و المنهجية، المتعارف عليها هنا، هي أنه لدراسة القضايا الشائكة ، التي تتسم بالغموض و الإشكال، يحتاج الباحث إلى معطيات جديدة، أو تنظيم( منهج=مقترب) جديد للمعلومات القديمة، لاقتراح حل أو تصور أو  إشكالية.
أجل ،لا بد للباحث/الطالب من أن يختار لنفسه إشكالية، أي أطروحة ( رؤية معينة/أو فرضية/موقف/إدعاء/فكرة..)، يطرحها  في مسألة أو قضية معينة(موضوع البحث)،و يجب عليه أن يثبت ( من خلال نقاش علمي و مجادلة موضوعية)،صحة إدعائه/موقفه أو أطروحته.فكأن الباحث عندما يقترح أطروحته يقول: هذه هي إشكاليتي، بمعنى هذا هو تصوري لسبب الإشكال و حله، أو أن حل الإشكال يكمن في كذا أو كذا،أي فيما يقترحه هو من حل يعتبره هو الأصل في الإشكال(أي الأصل الذي تسبب في المشاكل المتشابكة=الإشكالية).
 و من هنا، ندرك أن الإشكالية، تساعد الباحث/ الطالب، على الإمساك بموضوع بحثه، و جعله في متناول اليد، و من ثم قابلا للبحث و الدراسة، حسب ظروفه و الإمكانيات  المتاحة له(التمويل،و الزمن، و المعلومات..إلخ)؛ بفضل توافرها على المزايا المنهجية التالية:
1-  إن الإشكالية، تساعد الباحث على تحديد القضية موضوع البحث من حيث الزمان و المكان و الموضوع؛
2-  إنها تساعد على تجزئة الهدف(حل الإشكالية المركزية )، إلى عدد من الأهداف الصغرى(الإشكاليات الفرعية)؛
3-  و هذا التجزيء مهم فهو يسهل العمل من جهة، كما أن تراكم الخبرات من خلال الإجابة عن الإشكاليات الفرعية، يسهل الإجابة عن الإشكالية المركزية على أفضل وجه؛
4-  إن الإشكالية تحمي الباحث من أن يضل طريقه، أو أن يتبع طرقا أخرى تبعده عن الهدف الذي يسعى إليه، فتشتت انتباهه و تبدد جهده، و تمنعه من تركيز جهده؛
منهجيات الإشكالية
الإشكالية ترشد إلى الطريق السليم
5-  غير أن الباحث يحتاج إلى المرونة، لتغيير إشكاليته كلما دعت الضرورة إلى ذلك، دون التخلي أو التنازل عن الهدف الأصلي؛
6-  و يحتاج الباحث إلى قدر من الموضوعية، حتى يحافظ على مسافة من الموضوع قيد الدرس، و لا يستسلم لأحكامه المسبقة؛
7- و الأهم من كل هذا، أن نتذكر دائما أن الإشكالية هي العمود الفقري لكل بحث/مقال/كتاب؛إذ هي التي توجه عمل الباحث/الكاتب/الطالب من بدايته إلى نهايته.و من ثم فكل جزء بل كل فقرة من فقرات البحث، يجب أن تستهدف الإجابة عن الإشكالية.لا بل إن كل فكرة و كل جملة إنما تكتسب مشروعية التواجد في تقرير البحث/المقال/ الكتاب من خلال علاقاتها مع الإشكالية:فهي تخدم الإشكالة و تدافع عنها، من المقدمة إلى الخاتمة.

المطلب الآخر:صياغة الإشكالية:

إذا اخترت موضوعا للبحث، أو فرض عليك موضوع في الامتحان ..،أو أي موضوع علمي آخر..قد تطرح على نفسك السؤال التالي: كيف يمكنني صياغة إشكالية هذا البحث ؟أو هذا الموضوع؟
لتسهيل مهمتك، نقترح عليك إتباع المنهجية التالية، للتوصل إلى وضع إشكالية الموضوع الذي تكون بصدد الإجابة عنه:
1-    ابدأ بمسح المعلومات المتوفرة لديك عن الموضوع( أفرغ الذاكرة)..فستجد أنه قد اجتمع لديك الكثير من المعطيات (معلومات ، و بيانات، و أمثلة، و استشهادات ،و تواريخ،و حقائق من كل نوع)؛
2-     قم بعد ذلك بترتيب تلك المعلومات/ البطاقات،و تصنيفها(تقسيمها إلى أنواع و تقسيم هذه الأنواع إلى فصائل) حسب مضامينها(قربها أو بعدها من الموضوع)،و لتؤلف منها عناوين كبرى؛
3-    من خلال هذه العملية السابقة، تكون قد بدأت في تحديد(وضع حدود) المشكلة قيد الدرس(من حيث الزمان و المكان و الموضوع):أي تكون، في الحقيقة، قد اخترت فرضية معينة- إشكالية أولية- لمعالجة السؤال.وهذه الإشكالية هي التي ستوجهك إلى نوعية المعلومات التي يتعين عليك  الإبقاء عليها و تلك التي يجب عليك استبعادها( حسب فهمك لجوهر الموضوع قيد البحث)[13]؛
4-    بمعنى أنه يصبح عندك،في نهاية المرحلة السابقة، معيار على أساسه تغربل و تفرز المعلومات المتوفرة لديك، و المقارنة بينها،على أساس علاقاتها المباشرة/ أو غير المباشرة بالموضوع المطروح للبحث(من زاوية الفرضية أو الإشكالية التي اخترتها)؛
منهجيات الإشكالية
معيار
5-     و بعد استبعاد الأفكار و المعلومات و المعطيات التي تعتقد أنك لست بحاجة إليها؛ يتبقى لك مجموعة  من  المعطيات الأخرى-( أفكار،و أرقام، و معلومات، و تواريخ..) -التي لها علاقة وثيقة و وطيدة بالموضوع المدروس؛أي التي لا يمكنك الاستغناء عنها.هذه الأفكار المتبقية، هي التي ستصبح الوعاء، الذي ستستخرج منه الإشكالية المركزية و الإشكاليات الفرعية.كيف؟
6-    يتم ذلك بوضع ما بقي من أفكار و معلومات..، في قوائم( تحت عناوين معينة)؛ و ذلك حسب مدى اتفاقها في سمة من السمات الملائمة للبحث.و لا يشترط في محتويات القائمة أن تكون متماثلة أو متشابهة في الظاهر،إذ أن الباحث الناجح ، هو الذي يستطيع الجمع في إطار واحد متسق ما بين معلومات متنوعة و متفرقة، مع إعطائها تفسيرا موحدا. 
7-    ثم يتم اختزال(اختصار) كل قائمة إلى فكرة واحدة : و تتمثل هذه الخطوة، في البحث  داخل  مكونات كل قائمة، عن الفكرة الأم/الأصل ؛ التي يُعتقد أو تعتقد أنت أنها هي الأصل( أو على الأقل العنصر)  المشترك، الذي يجمع بين مكونات القائمة. و ذلك باستخدام أدوات الاستفهام "لماذا؟" و "هل؟" و "كيف؟"؛محاولا إيجاد الأسباب التي تبرر أو تفسر؛ إدماج و اختزال عناصر كل قائمة في فكرة واحدة؛باستعمال العلاقات السببية بينها(إدماج الخاص في العام، و الشبيه في الشبيه، و التخلص من الشاذ ..).و بذلك ، نستطيع الوصول إلى الفكرة الرئيسية ( الأصل) في كل قائمة؛
منهجيات الإشكالية
إستخراج الفكرة المركزية من الأفكار الفرعية و الثانوية

8-    و نكرر هذه العملية ، مع باقي القوائم..إلى أن نصل إلى أربعة أفكار رئيسية(هذه الأفكار هي الإشكاليات الفرعية)؛
9-    بعد ذلك، عليك أن تبحث عن الفكرة التي تجمع بين كل الأفكار أو الإشكاليات الفرعية( بحيث تعتبر تلك الفكرة هي الأصل، و الأفكار الفرعية مجرد تفاصيل لها، تدعمها و لا تتناقض معها):فإذا عثرت على هذه الفكرة "الأم"، تكون قد وضعت يدك على الإشكالية المركزية..[14]، التي تجمع الأفكار و المعلومات على كثرتها و تنوعها، و توفِق  بينها، و تدرجها  كحبات اللؤلؤ  في سِلْك جامع يلم ما تشتّت منها؛

10-                        إن عملية الاختيار أو الكشف عن هذه الفكرة المركزية أو الإشكالية ،من مجموع الأفكار الرئيسية(الأصلية)، ليست سهلة،إذ تتطلب القيام بتقييم و تقدير موضوعي لكل إشكالية فرعية.فإذا أثبتت أي واحدة منها، قدرتها على تفسير الظاهرة قيد الدرس، بمنهجية أقوى و أعمق من الإشكاليات الفرعية الأخرى[15]،تصبح هي الإشكالية المركزية (النهائية).
بمعنى أنه، كي تتحول أي فكرة (أو فرضية)، إلى إشكالية مركزية، لا بد من أن تستوفي شرط أساسي، ألا و هو القدرة على الإجابة عن معظم( و ليس كل) الأسئلة التي يطرحها الموضوع المبحوث، أو تنطوي عليها الفرضيات و الأفكار الأخرى( خاصة الأصلية) المرتبطة بالموضوع.أي أن تكون قادرة على نَظْم أهم الأفكار و الفرضيات المتعلقة بالموضوع في خيط واحد أو سلك ناظم(fil conducteur) قوي و متماسك،دون تكلف أو اصطناع.
7- و في الحقيقة،نادرا ما يتفق الناس حول هذه الإشكاليات.اللهم، إلا إذا كانوا ينتمون إلى نفس الثقافة( بمفهومها الضيق جدا:كـأن يكونوا من نفس الكلية، أو المهنة).و إلا فإنه من الطبيعي أن يظهر الاختلاف و التباين بين الباحثين، فكل واحد منهم، يعود بالمشكل المبحوث، إلى إشكالية معينة، حسب معطيات ذاتية و أخرى موضوعية.
8- بهذه الطريقة المنهجية، يستطيع الطالب الذكي أن يضع يده على الفكرة الرئيسية التي ستقوده بأمان و طمأنينة ، إلى الخطوة التالية،أعني بها تقديم هذه الفكرة بتفاصيلها-إشكالياتها الفرعية[16]- في شكل مرتب و منظم..على شكل تصميم.




[1]  الإمام الرازي- الصّحاح-عني بترتيبه: محمود خاطر-الطبعة الثانية- دار الحداثة – بيروت 1993- مادة " شكل"(ص 273).
و لعل أقرب كلمة عربية فصيحة، تدل على معاني الإشكالية، هي كلمة "المعضلة"،أي القضية الشديدة ، التي يستعصي على الناس الاهتداء إلى حلها أو علاجها.و منها "اعضأَلَّت الشجرةُ كثرت أغصانها و التفَت":انظر:مادة "عضل " في الصحاح( ص 345)، و مادة "العَضَلة" في :الفيروز آبادي- القاموس المحيط- دار إحياء التراث العربي- بيروت 1991-ج4مادة " العَضلة" (ص 25).
[2]  مرجع سابق- ص 19.
[3]  مرجع سابق- ص 48.
[4]  المرجع السابق- ص 27.و يضيف في نفس المكان:" و قد شاع في البحوث الجامعية أن نحدد أسئلة الإشكالية في أربعة أسئلة:ماذا؟ و أين؟ و كيف؟ و متى؟ أي ماذا أريد أن أبحث؟ و ما هو مكان دراسة البحث؟ و ما هي الطريقة المنهجية التي أبحث بها الموضوع؟ و في أي زمن أجري الدراسة؟".

[5]  المشكلة البحثية – موسوعة العلوم السياسية- جامعة الكويت/ مؤسسة الكويت للتقدم العلمي/ وزارة الإعلام- الكويت 1994/1995- ج1 ص 44.
[6] فيما يلي، بعض الأسئلة التي يمكنك طرحها و بالإجابة عنها، قد يصبح من السهل عليك تحديد إشكالية الموضوع الذي تكون بصدد معالجته:
-          ما هو "الشيء" أو "الأشياء" التي تمثل مشكل في هذا الموضوع؟ ما لذي يبدو لي غامضا..أو  متناقضا؟أو غريبا..؟ أو مهما ..؟أو جديدا أو مستفزا..؟؟ في هذا الموضوع(سجل كل الأفكار التي قد ترد على ذهنك كأجوبة على هذه الأسئلة).
-          لماذا يفترض في هذا الموضوع أو السؤال أن يكون مهما؟هل هو مهم من وجهة نظر المادة التي أدرسها ؟ أو البحث الذي أنجزه؟ و ما معنى أن أفشل في الإجابة عنه؟ هل سيفسر ذلك بأني لم أفهم حقيقة الموضوع الذي أدرسه /أحاول الإجابة عنه؟
-          ما هي جوانب هذا المشكل، التي يفترض بي الاهتمام بها..و التركيز عليها..للإحاطة و الإلمام بأهم أبعاد الموضوع؟
[7]  نحن نحتاج إلى تحديد المشكلة، ليكون حجمها- أي حجم ما سندرسه منها- متناسبا مع الوقت المحدد لإنجاز البحث، و الإمكانات المادية، و  سهولة أو صعوبة الحصول على المادة العلمية اللازمة، و الوسائل المطلوبة. فالبحث الذي يستغرق ثلاثة أسابيع ، ليس كالبحث الذي يتطلب عدة سنوات.و البحث الذي توجد المعلومات المتعلقة به ، في أقرب مكتبة، ليس كالبحث الذي يتطلب من الباحث الانتقال إلى عدة مدن، و مقابلة عدة أشخاص. و هكذا.
[8]  يقصد بهذه المحددات حصر اهتمام الباحث في إطار زمكاني لا تخرج عنه.و حصرها في موضوع(أو جزء من موضوع)، لا يمكنها الخروج عنها:فالتحديد الذي يختاره الباحث، يصبح ملزما له، طيلة البحث.و يراد بالمحددات أيضا ، تحديد مفاهيم الدراسة و مصطلحاتها.
[9] د.سعيد إسماعيل صيني- قواعد أساسية في البحث العلمي-مؤسسة الرسالة-بيروت 1415/1994- ص 137 و ما يليها.و تحديد الإشكالية، قد يأتي ، من حيث الصياغة، على ثلاثة أنواع:
أ- صيغة الجملة الخبرية:هذا البحث،يدرس آراء الشارع المغربي،في العلاقة الموجودة بين الديمقراطية و التنمية المستدامة.
ب- صيغة السؤال:كيف يرى الشارع المغربي العلاقة بين الديمقراطية و التنمية المستدامة؟
ج- صيغة الفرضية:هناك رأي(أو دراسة علمية..) يقول بأن المغاربة ، يرون أن السبيل الوحيد لتحقيق التنمية المستدامة ، هو الأخذ بالديمقراطية.للمزيد من التفاصيل:انظر قواعد أساسية في البحث العلمي- م.س- ص 141 و ما يليها.
[10]  يستعمل المؤلفون في الشرق العربي مصطلحي "مشكلة" أو "مشكلة بحثية" للتعبير عن الإشكالية.
[11]  مناهج البحث الاجتماعي و أدواته- ص106.
[12]  فلا يمكنك، مثلا، أن تدرس أسباب البطالة في العالم، أو حتى أسباب البطالة في صفوف الشباب العرب، إلا بطريقة خالية من العمق . و لكنك إذا ضيّقت الإشكالية ، بحيث حصرتها في دراسة البطالة في صفوف الجامعيين المغاربة مثلا، أو  البطالة في صفوف الحاصلين على الدكتوراه في القانون أو الجغرافيا،فستكون دراستك أهم بكثير. ذلك أنه كلما اتسعت الإشكالية كلما كان البحث سطحيا، و كلما ضاقت  كان البحث عميقا، و بالتالي يخرج بنتائج دقيقة.
غير أنه إذا ضاقت الإشكالية، حتى انحصرت في الحاصلين على الدكتوراه في قانون الشغل  أو في دراسة المناخ مثلا ، أصبح البحث أقل أهمية.
[13]  و هذا من مزايا الإشكالية،إذ بهذا التوجيه ؛ توفر على الباحث الكثير من الوقت و الجهد و المال، الذي كان سينفقه في الحصول على معلومات عديمة القيمة أو محدودة الأهمية، بخصوص المشكل قيد الدرس.
[14]   و هناك طريقة أخرى مختصرة، و لكنها غير دقيقة:أن تختزل الأفكار الرئيسية إلى فكرة واحدة، ثم تقوم بتفريعها إلى فرعين أو إشكاليتين فرعيتين، على أساسهما يتم وضع التصميم.
[15] و من المهم، أن نلفت الانتباه هنا،إلى أنه  من المهم جدا، أن تنبثق الإشكالية عن البحث ، لا من الأفكار السابقة التي كانت لدى الباحث..أي الدين أو الإيديولوجيا..أو غيرها.
[16] أجل، إن الإشكالية، تتضمن ، بشكل أو آخر، الطريقة التي يجب إتباعها لعرض نتائج البحث؛ و ذلك بواسطة الإشكاليات الفرعية.ذلك، أن أهمية هذه الإشكاليات ، تظهر من زاويتين:
أ- الأولى، هي أن الإجابة عنها تمكن و تؤدي، في نهاية المطاف ، إلى الإجابة عن الإشكالية المركزية، فهي ليست مستقلة بعضها عن بعض ، بل هي متكاملة، أو يجب أن تتكامل في خطة  منهجية واحدة،للإجابة عن الإشكالية المركزية.و كأنها روافد بالنسبة لنهر الإشكالية الكبير.
ب‌-    و الأخرى، أنها تشكل الأساس الذي ينسج منه التصميم:فالتصميم ، يتمحور حول الإشكاليات الفرعية، فنجد به من الأقسام الرئيسية و الفرعية بقدر أو عدد الإشكاليات الفرعية.
لاستخراج هذا التصميم، بشكل واضح جلي، يجب تفكيك الإشكالية ،أو إعادتها بالأحرى إلى أصولها،أي الأفكار الفرعية الكامنة فيها، و المكونة لها.

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

في التعلم:بين الأستاذ و الكتاب:

في التعلم:بين الأستاذ و الكتاب:

من حيث المبدأ العام،يعتمد التعليم الجامعي على الجهود التي يبذلها الطالب في التعلم و اكتساب المعرفة؛إذ أن الأستاذ لا يوفر للطلبة إلا معلومات قليلة في المحاضرة التي يلقيها.
إلا أن المحاضرات ، لا تغني عن الكتب، و أغلب الطلبة لا يستفيدون استفادة كبيرة منها، و يشعرون دائما، أن المحاضرة تغني عن عشرات، بل مئات من الكتب؛ و ذلك أمر مفهوم؛إذ أن الأستاذ يقدم في المحاضرة ، عصارة فكره و معلوماته و تجاربه.و هذه حقيقة، لم نكتشفها اليوم، و ليست من التراث الذي ورثناه عن " الغرب المتقدم" فقط، بل هي أيضا، حقيقة قال بها العلماء و الكتاب العرب و المسلمون،مئات السنين.. قبل عصر النهضة الأوربي.
و 
في التعلم:بين الأستاذ و الكتاب:
هل يغني الكتاب عن الأستاذ؟؟
كتب عبد اللطيف البغدادي(ت 629هـ/1231م):

أُوصِيكَ ألاّ تأخُذَ العلومَ من الكتبِ و إِنْ وَثِقْتَ من نفسِكَ بالفهم.و عليكَ بالأُستاذِينَ[الأساتذة] في كلِّ علمٍ تطلُبُ اكتسابَه؛ و إن كان الأستاذُ ناقصاً فخُذْ عنه ما عِنْده حتّى تَجِدَ أكملَ منه. و عليك بتعظيمهِ و ترجيبهِ [تعظيمه]، و إن قدِرْتَ (على ) أن تُفيدَه من دُنياكَ فافْعَلْ، و إِلاّ فبلسانِكَ و ثنائك.و إذا قرأتَ كِتابا فاحْرِصْ كلَّ الحِرْصِ على أن تستَظْهِرَهُ و تَمْلِكَ معناه، و تَوَهّمْ أن الكِتابَ قد عُدِمَ و أنّك مُسْتغنٍ عنه، و لا تحزَنْ لِفَقْدِه.و إذا كنت مُكِبّاً على دِراسة كتاب فإيّاك أن تشتغلَ بآخرَ معه (بلِ احرِصْ على ) صَرْفِ الزمانِ الذي تُريدُ صَرْفَهُ في غيره إليه.و إيّاكَ أن تشتغلَ بِعِلْمينِ دُفعةً واحدةً، و واظِبْ على العلمِ الواحدِ سنَةَ أو سنتين أو ما شاء اللهُ، فإذا قَضَيتَ منه وَطَرَكَ فانتقِلْ إلى علمٍ آخرَ.
و لا تظُنَّ أنّك إذا حَصَّلْتَ عِلْماً فقدِ اكتفيتَ،بلُ تحتاجُ إلى مراعاته لِينمى [يزداد] و لا ينقُصَ؛ و مُراعاتُه تكونُ بالمذاكرةِ و التفكّر و اشتغال المُبْتدئ بالتحفُّظِ و التعلّم و مُباحثة الأقرانِ و باشتغال العالمِ بالتعليمِ و التَصنيف[التأليف=البحث العلمي].....و من لم يَعْرَقْ جبينُه إلى أبوابِ العُلماء لم يُعْرِقْ في الفضيلة، و من لم يُخْجِلوه لم يُبَجِّلْهُ[التعظيم] الناسُ، و من لم يُبَكِّتُوه[يوبخوه]لم يُسَوّدْ[يصبح سيدا]، و من لم يحتملْ ألَمْ التعليمِ لم يَذُقْ لَذّةَ العلمِ..
***
اقتبسه د.عمر فروخ- تاريخ الأدب العربي-ج3ص ص506-7).
في التعلم:بين الأستاذ و الكتاب:
أوصيك أن تأخذ العلم من الأستاذ مباشرة..و بالله التوفيق

إن الشروح بين الأقواس العادية،من وضع المرحوم الأستاذ فروخ (1906-1987).أما الشروح بين الأقواس المعقوفة ، فمن إضافاتي( أنا ع.السويلمي).

الجمعة، 18 أكتوبر 2013

منهجية نظم القصيدة عند العرب

منهجية نظم القصيدة عند العرب

كان أبو الحسن محمد بن طباطبا العلوي ( ت 322هـ/934م)، شاعرا و ناقدا مشهورا، من أشهر مؤلفاته كتابه "عيار الشعر"، الذي جعل فيه مقدمة في نقد الشعر، بين فيه "..أهمية استكمال عُدة الشعر قبل نظمه، و على ترديد النظر فيه بالتنقيح بعد نظمه.."[1].
منهجية نظم القصيدة عند العرب
و نقتبس فيما يلي، جزءا من هذه المقدمة، لعلاقته بالمنهجية..
قال ابن طباطبا العلوي،في الطبع و أدوات الشعر
...فمَن صحّ طَبْعُه و ذوقُه لم يَحْتَجْ إلى الاستعانةِ على نَظْمِ الشعر بالعَروضِ التي هي ميزانه، و من اضْطَرَبَ عليه الذوقُ لم يَسْتَغْن من تصحيحه و تقويمه بمعْرِفةِ العروض و الحذق به[في علم الشعر].
و للشعر أدواتٌ يجب إعدادُها قبل مِراسِه و تكلّف نظمه: فمن تعَصّتْ عليه أداة من أدواته لم يَكْمُلْ له ما يتكلّفه منه، و بان الخللُ في ما يَنْظِمهُ، و لَحِقَتْه العُيوبُ من كل جهة.
فمنها التوسّع في علم اللغة و البراعة في فَهْم الإعراب و الروايةُ لفنون الآداب و المعرفة بأيام الناس و مناقِبِهمْ و مَثالبهم و الوقوفُ على مذاهب العرب في تأسيس الشعر و التصرّف في معانيه – في كلّ فنّ قالته العرب فيه – و سلوكُ مناهجها في صِفاتها[الأوصاف، أحد فنون الشعر] و مخاطباتها.... و إطالتها و إيجازها....  و عُذوبة ألفاظِها و جَزالةِ معانيها و حسنِ مباديها و حلاوة مقاطعها و إيفاء كلّ معنىً حظّه من العبارة و إلباسه ما يُشاكله من الألفاظ حتّى يَبْرُزَ(الشعر) في أحسنِ زيٍّ و أبهى صورة (و) حتّى لا يكونَ مُتفاوتاُ مَرْقوعاً، بل يكونُ كالسبيكة المُفْرَغة[2] و الوَشْيِ [ التطريز] المُنَمْنَمِ [ المزخرف،زخرفا دقيقا على نظام معلوم] و العِقْد المنظّم و اللباس الرائق فتُسابقُ معانِيه ألفاظَه فيلتذّ الفهم بحسن معانيه كالتذاذِ السمِع بمُونِقِ[3] كلامه....
فإذا أراد الشاعرُ بناء قصيدةٍ مَخَضَ[4] المَعْنى الذي يريدُ بناء الشعر عليه في فكرهِ نثراً و أعدّ له ما يُلْبِسُه إياه من الألفاظ التي تُطابقه و القوافي التي توافقه و الوزنِ الذي يَسْلَسُ[ يلين و يسهل ] القولُ عليه.فإذا اتّفق له بيتٌ يُشاكل[ يشابه، يوافق] المعنى الذي يَرُومُه[يطلبه] أثبتَه و أعملَ فِكْرَهُ في شَغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تَنْسيقٍ للشعر و ترتيب لفنون القول فيه، بل يُعَلّق [ يُثبت،يدوّن] كل بيتٍ يتّفق له نظمُه على ( ما يمكن أن يكونَ من) تفاوت[ تباين] بينَه و بينَ ما قبله.فإذا كَمُلَتْ له المعاني و كَثُرت الأبياتُ وَفّق بينها بأبياتٍ تكون نِظاماً لها و سِلْكاً جامعاً لما تشتّت منها[5].ثم يتأمّل ما قد أدّاه إليه طبعه و نتيجةَ فكرته فيستقصي انتقاده و يَرِمّ[ يصلح] ما وَهَى [ضعف] منه و يُبَدّل بكل لفظةٍ مُسْتَكْرَهة لفظةً سهلةً نقيّة. و إن اتّفقتْ له قافيةٌ قد شَغَلها في معْنًى من المعاني و اتّفق له معنًى آخرُ مضادٌّ للمعنى الآخر – و كانت تلك القافيةُ أوقعَ [أكثر موافقة] في المعنى الثاني منها في المعنى الأوّل – نقَلَها إلى المعنى المُخْتار الذي هو أحسنُ و أَبْطَلَ ذلك البيتَ أو نقَضَ [هدم] بعضه  و طَلَبَ لمعناه قافيةً تشاكله...




[1]  عمر فروخ- تاريخ الأدب العربي – م. س – ج2 ص 421. و الجدير بالذكر أن الشروح الواردة في متن النص( بين الأقواس المعقوفة)، و كذا أغلب الشروح في الحواشي، مقتبسة عن هذا المرجع.
[2]  القطعة المصبوبة  من المعدن،دفعة واحدة؛ حتى لا يعرف أحد من أين تبتدئ و لا إلى أين تنتهي.
[3]  المونق:الجميل الذي يسر العين.
[4]  مخض فلان اللبن:وضعه في وعاء ثم حركه، حتى ينفصل الزبد من المخيض ( الماء الباقي بعد انفصال الزبد).
[5]  هذه الأبيات هي الإشكالية المركزية و الإشكاليات الفرعية( التشديد مني أنا ع.السويلمي).

الثلاثاء، 14 مايو 2013

كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون


 كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون

في الشهر الماضي[يونيو 1980] احتفلت كلية الحقوق في جامعة القاهرة بمرور مائة سنة على إنشائها..فهي أقدم كلية  من نوعها في العالم العربي و الشرق الأوسط.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
جامعة القاهرة
و لعل خريجيها، من كل أبناء العالم العربي، و خريجي حقوق " الاستانة" أو القسطنطينية، أيام كانت عاصمة الإمبراطورية العثمانية المسيطرة على العالم العربي كله سوى مصر[و المغرب الأقصى]، هم الذين قادوا و شكلوا السياسة في كل العالم العربي خلال حقبة طويلة من الزمن..ربما سادت[حتى/لولا] هزيمة حرب فلسطين الأولى سنة 1948،إذ بدأ حكم "الحقوقيين" يتزعزع و يتراجع، بعد أن طغى السيف[حكم العسكر=الانقلابات العسكرية التي شهدها العالم العربي في الخمسينات و الستينات من القرن العشرين] على القانون.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
جمال عبد الناصر، الذي تزعم أشهر انقلاب عسكري في التاريخ العربي المعاصر( في 23
يوليوز 1952)، و هو الانقلاب الذي انقلب بدوره إلى ثورة سنة 1956
و ربما كانت هزيمة 1948 ذاتها هي التي أقنعت العرب[الضباط الأحرار في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر ..مثلا؟] زمنا طويلا بعدم جدوى القانون أمام السيف، مهما كانت القضية عادلة [القضية الفلسطينية مثلا].
 و إن " الحق فوق القوة، و الأمة فوق الحكومة" كلمة جميلة أطلقها أشهر حاملي شهادات القانون، سعد  زغلول، اهتزت بها أعواد المنابر زمنا..و لم يهتز بها شيء آخر بعد !
و كم كنت حزينا،لأنني كنت بعيدا عن القاهرة يوم احتفلت كلية الحقوق بالعيد المئوي لها.ذلك انني أحد خريجي تلك الكلية العتيدة، التي طبعت موجات الأثير على جدرانها عددا من أعظم الأصوات التي عرفتها مصر و العروبة.و إذا كنت لم أشتغل بالقانون إلا قليلا، إلا أن الأثر الذي تتركه كلية الحقوق في نفس تلميذها لا ينمحي،إذا كان قد دخلها عن حب و شغف، لا عن طريق تقليعة " مكاتب التنسيق".ثم انني إذا كنت قد تركت العمل بالقانون إلى مهنة الكتابة و الصحافة بعد حوالي خمس سنوات فقط ، إلا أنني ما اكتشف فجأة أنني مازلت أشتغل بالقانون من ناحية،ربما تركت ما نسميه "بالقانون الخاص"، و هي القوانين المدنية و الجنائية و غيرها،إلا أنني بقيت – ككاتب – على صلة دائمة بما نسميه " القانون العام": أي الاقتصاد و العلوم السياسية و القانون الدولي و القانون الدستوري و القانون الإداري..أي القوانين التي تنظم حياة المجتمعات و الشعوب و الدول،و ليس الحياة الخاصة للأفراد...كما هو الحال في كل ما نسميه "القانون الخاص"...
و لكن الأهم من ذلك، أنني فعلا اكتشف عادة انني مازلت اشتغل بالقانون،لأنني دائما أجد نفسيا متلبسا بالتفكير في أي موضوع بطريقة "قانونية".أو بطريقة متأثرة بالتفكير القانوني إلى حد بعيد.
ذلك أن دراسة القانون تعلم المرء طريقة خاصة في التفكير.تزود صاحبها بما يشبه "الترموستات" أو منظم درجة الحرارة،يقرأ الإنسان في الآداب، و يحلق وراء الفنون ، و يجوب آفاق الفلسفة..و هذه أشياء ربما كانت هي جوهر الفكر، و لكن من درس القانون – فيما يخيل لي – يجوب هذا كله و قد ربطه التفكير القانون إلى أرض واقعية معينة.فهو ينظم تفكيره، و يضع في صدره ميزانا دائما يزن به كل ما يعرض له من أفكار و أمور. و يخلصه من تيارات " الفن للفن " و " الفكر للفكر".في حين يربطه بأن الفن للحياة، و الفكر للحياة،و السياسة للحياة، و كل شيء وبدءه و منتهاه الحياة و الناس. و أن الرؤية المتأثرة بالقانون هي الفرق بين أحلام اليقظة و أحلام التطبيق. أو بين تهويمات الخيال و رؤى الحقيقة.
و لست هنا أفاضل بين شيئين،فحياتنا بلا أحلام لا تساوي شيئا.و بغير الأحلام ل تتحقق الأشياء العظيمة.و لكن حياة تقوم على الأحلام هي بالونات ملونة تطير في الهواء و تضيع، و ليست مركبات فضاء  محددة الغرض، محكمة التوجيه.
ثم..هل هناك قضية دارت حولها حياة المجتمعات الإنسانية منذ نشأت، و لا تزال، أكثر من قضية " الحق و الواجب ؟ " و هي قضية القانون. و أليس القانون هو الوسيلة البشرية لتنظيم الحياة..ابتداء من تنظيم حركة المرور في الشارع إلى علاقات الدول ببعضها البعض في البر و البحر و الفضاء ؟
كل إنسان يتفتح وعيه على شيء مختلف.هكذا الحياة. لو كانت زهورها بلون واحد، و أشجارها بطول واحد، لفقدت جمالها، بل لصارت جحيما.و نفس الحال في البشر. لو كانوا على شاكلة واحدة و نمط واحد لفقدت الحياة مذاقها بل وربما مغزاها.و الإخوة في البيت الواحد، كثيرا ما يتباينون رغم كل عوامل الوراثة الواحدة و التربية الواحدة..
بالنسبة لي..لا أذكر مهما حاولت التذكر أن أمرا استبد بي منذ البداية أكثر من تلك القضية، الحق و الواجب، الظلم و العدل، و بالتالي الأداة في كل هذا و هي القانون.
و كانت ترجمتها في سن المراهقة هي الشغف الهائل بحضور القضايا الكبرى،و الاستماع إلى المرافعات الرنانة.و كنت إذا قرأت عن محاكمة سياسية كبرى حدثت منذ عشرات السنين، ذهبت إلى دار الكتب، و طلبت مجلدات صحف تلك الفترة لأقرأ القضايا و المرافعات و مناقشات المحكمة كاملة بالتفصيل. و كان كل تاريخ مصر الوطني في الفترة السابقة[ قبل الثورة المصرية لسنة 1952؟ ] في يد المحامين، و كانت المحاكم إحدى أهم ساحات الكفاح.
و كنت أرى نفسي و أنا صبي في شتى الأدوار داخل تلك الحلبة الرائعة:قاعة المحكمة.أحيانا ذلك القاضي الجالس على عرشه، أو ذلك المحامي بصوته المدوي، و أحيانا المتهم الواقف في قفص الاتهام في ثبات بوصفه بطلا و سبب تلك الدراما كلها !

و استقر رأيي على أن أكون قاضيا.فهذه الهيبة و الرهبة. و هذه الدقة و المتابعة و اليقظة. ثم أخطر و أصعب شيء:حين يخلو إلى نفسه، و قد سمع أقوى الحجج من الجانبين، و عشرات الشهود المتناقضينـ و كيف يمسك من وسط هذا كله بخيط الحقيقة،و تصدر من فهمه الكلمة حاسمة و نهائية.
على أنني حين دخلت كلية الحقوق فعلا، دخلت في الواقع الجامعة بأكملها، و تفتحت أمامي مع سنوات الشباب كل فروع المعرفة.و كنت أحضر محاضرات كلية الحقوق و كلية الآداب و أحيانا غيرها.و تلك ميزة الجامعة.إنها تعطيك كل المفاتيح.هذا ما يفرقها عن المدرسة. و حين يقرأ المرء الأدب و الفلسفة و مذاهب الفكر المتلاطمة يجد أن العثور على الحقيقة ليس سهلا.بل إنه يكاد يكون مستحيلا ؟ هذه مجالات تعلمك أن لكل رأي ألف وجه، و أن كل موقف له ألف تفسير.و أن المذنب قانونيا قد يكون هو البريء فكريا أو اجتماعيا أو حتى فلسفيا. و وجدت أن مهنة القضاء صارت لا تناسبني.إنها مهنة مستحيلة.أي عذاب و أرق و ألم يكابده المرء حتى يقول " هذه هي الحقيقة " ! مستحيل..إنها ضد طبيعتي،عمل كل الموازنات، و حساب كل الاعتبارات، سوف يفضي بي إلى الشلل...
و اتجه ذهني إلى ذلك المترافع البليغ.إنه يأخذ جانبا واحدا و يحاول إثباته. و هذا أمتع و أسهل و أفخم حتى لو كان يدافع عن قاتل.فقد قرأت أيامها- فيما قرأت من كتب المحامين الكبار – كلمة لمحام إنجليزي كبير يقول " حين يقف المتهم في القفص ، مجردا من كل سلاح، محروما من أي صديق ، و العالم كله يشير إليه بأصابع الاتهام.هنا لا بد أن يقف إلى جانبه شخص.هذا الشخص هو المحامي.و في هذا الموقف يكمن دوره المقدس ! ".ما أعظم هذا !
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
المحامي

و لكني حين تخرجت من كلية الحقوق، و من الجامعة كلها،لأنني مرة أخرى، كنت أشعر أنني طالب بالجامعة كلها(...)اكتشفت أن مهنة المحاماة هي آخر ما يناسبني ! على الأقل  ذلك النوع من المحاماة.فليس من طبيعتي الانطوائية أن أواجه الجمهور، و أتحدث كأنني على خشبة مسرح !ثم إنني كنت أقل من السن القانونية لممارسة المحاماة ! ثم إن الكلمة المكتوبة صارت أوسع انتشارا من أعظم كلمة تقال في قاعات المحاكم !
و كان حظي من ممارسة القانون أصعب جوانبه،بالنسبة لي: وكيل نيابة.مهمتي أن أضيق الخناق على المتهم، و أن أثبت جريمته، بدل أن أثبت براءته. و مرة أخرى جريمة بالمعنى القانوني، التي قد يكون في نفسي ألف سبب ضد اعتبارها جريمة.
و بعد سنوات قليلة قفزت من زورق القانون بشكله المباشر، إلى زورق الصحافة و الكتابة..و البحث عن الحق و الواجب و القانون بمعانيها الأوسع.
و بعد..
فقد بدأت هذا الحديث و في ذهني أن يكون حديث ذكريات عن أساتذة عظام، حتى و إن خالفتهم الرأي..و لكنني سرت وراء فكرة القانون، ربما لأنها ناقصة في حياتنا،أو لأنها غير مفهومة على وجهها الحقيقي. و لكني قبل أن أستطرد وراء فكرة القانون، استأذن في رواية الذكرى القانونية الوحيدة بعد تفرغي للصحافة...
كان المرحوم عبد الرزاق السنهوري باشا، أكبر عقل قانوني أنتجه العالم العربي في هذا القرن [ العشرين ] بغير شك.و لم ألحق به تلميذا في كلية الحقوق، و إن كانت كتبه ظلت هي الأساس في [أي ] مجال كتب فيه.و إذا كانت شهرته في القانون عالمية، فإنني كنت أراه من أفصح من كتبوا باللغة العربية.فكانت كتاباته القانونية من أرقى الكتابات الأدبية في تقديري.
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون
عبد الرزاق السنهوري( 1895-1971)
و لم أكن – على البعد طبعا – من المعجبين بدوره في الحياة العامة، سواء في آرائه في التعليم كوكيل لوزارة المعارف، أو لتعاطفه مع أحزاب الأقلية ضد حزب الوفد.
فلما تأسس مجلس الدولة لأول مرة، و كان أول رئيس له، قبل ثورة 23 يوليو 52 بسنتين تقريبا، صار بطلا قوميا لدى كل فئات الشعب في مصر.
كانت المعركة السياسية على أشدها قبل الثورة، و كانت معظم المواجهات السياسية تنتهي إلى مجلس الدولة[باعتبارها أعلى محكمة إدارية في مصر]، و كان يصدر أحكاما قضائية بلغت القمة في شجاعتها و نزاهتها، و دقتها في مراعاة القانون، و عمقها في تطبيق " روح القانون "، و هو الأصعب و الأهم.كانت رئاسة مجلس الدولة إحدى التحولات الكبرى في حياة مصر قبل الثورة.
و بعد الثورة ، اقترب منه منصب أول رئيس لجمهورية مصر اقترابا شديدا، و لكن تقلبات الثورات في أيامها الأولى عصفت به، و انتهى معزولا ، جالسا في بيته، غير مسموح حتى بذكر اسمه في صحيفة.
و كنت كاتبا صحفيا مبتدئا. و ذات يوم اتصل بي المستشار المرحوم زكي بك حسين، و كان صديقا لأبي.و قال لي أنه جاء ذكري في حديث مع السنهوري، و أنه أبدى إعجابا بما أكتبه كاسم جديد، و أنه يجب أن يراني. و كان الرجل و قد انسحبت عنه الأضواء لا يزور و لا يزار.
و وجدت في ذلك تشريفا عظيما... و ذهبت لجلسة هادئة في بيته في مصر الجديدة، كان لها وقع التنويم المغناطيسي. و اتفقنا على أن أزوره عصر كل خميس. و قد واظبت على ذلك حتى سافر في مهمة ،حين استعانت به حكومة الكويت.
ذكرت هذه الواقعة،لأنني لم أر في حياتي رجلا تجسدت فيه روح القانون مثل السنهوري.لست أتحدث هنا عن علمه و مؤلفاته و آثاره. و لا حتى عن الحوار معه حين يكون حول القضايا الجدية. و لكن،حتى حين يكون الحديث حول أبسط الأشياء اليومية،يشعر المرء أن هذا الرجل قد " تشرب " روح القانون. حتى عقله لا يتحرك و يعمل في الصغيرة و الكبيرة ، إلا  و قد نهل من هذا المنبع. كان قد ترك الدنيا و السياسة و عواطفها و انفعالاتها و صار عقلا خالصا و ضميرا خالصا.أي حكاية يأتي ذكرها ، لا تلبث، إذا علق عليها ، أن تجدها و كأنها كانت كومة من الأشياء ، و قد انتظمت فجأة ، و وضعت كل جزئية في مكانها بسحر ساحر.
و كان رحمه الله يحثني وقتها على ترك الصحافة، التي لم أبدأها إلا من قريب ، بعد أن عر مني أنني سجلت رسالة دكتوراه في السوربون بباريس ،عن مرحلة من تاريخ مصر السياسي، و كان ميله الغريزي إلى أن بحثا طويلا ممتعا هو أعظم شيء.و لكن التيار جرفني إلى مجرى الصحافة بغير رجعة..
و ما أقل  ما نختار ما نفعله في هذه الحياة...
و لكن.. ماذا عن القانون  و عن روح القانون ؟
كنا نظن في بدء دراسة القانون أنه نصوص. و أن الدنيا تتغير بتغيير النصوص.العدل يسن بقانون، الظلم يزول بقانون.الخطأ يحدد بقانون. و الصواب يحدد بقانون.
كلا...علمتنا الأيام، و علمنا الأساتذة الكبار، أن القانون شيء غير هذا، شيء أعمق و أبعد من هذا بكثير.
القانون الجدير بهذا الاسم هو المعبر حقا عن روح المجتمع، الصاعد من أعماقه، تماما كالتعبير الفني حين يكون صادقا..
بدليل أن هناك مجتمعا فيه قانون غير مكتوب " عادة " أو تقليدا، يعيش قرونا محل احترام الناس و مراعاتهم.
في حين أن هناك قانونا يحمل كل أنواع الأختام .ختم حاكم أو ختم برلمان . و لكنه لا يحظى بأي اعتراف أو احترام من الناس، حتى من يوم صدوره.
ليست كل ورقة تحمل [ختم] سلطة تشريعية أو تنفيذية، قانونا بهذا المعنى.
قانون بمعنى الفرض، نعم.قانون بمعنى قرار السلطة، نعم. و لكنه ليس قانونا ، بمعنى تعبيره عن روح المجتمع، و اتساعه لرغباته و أمنياته، و تجاوبه مع أفئدة الناس في هذا المجتمع.
لذلك ترى أحيانا قوانين تهطل كالمطر، لكن سرعان ما تجففها الشمس، و تمسحها الرياح...
و ترى قناعات الناس ي تصرفاتهم، تسير ي مسالك أخرى تماما...
و نرى قوانين تنقل من الكتب، أو تؤخذ من بلاد شتى متنافرة، كمن ينتقي أصنافا من دكان العطار، و لكنها تبقى غريبة.
هل تورع شجرة بلاستيك مصطنعة، و تثمر؟ مستحيل.
هل تزرع شجرة حقيقية في أي مكان؟ إن كل نبتة لها بيئة و طقس [تحكم] عليها بالعقم أو بالإثمار.
كذلك القانون...
أحمد بهاء الدين
حديث الشهر-العربي- العدد 260
شعبان 1400هـ/يوليو 1980
ص ص6-11
كلية الحقوق..وحديث الذكريات..و معنى القانون

أحمد بهاء الدين(1996-1927)، صحفي مصري و مفكر عربي كبير، غني عن التعريف.رأس تحرير مجلة العربي، بعدوفاة أحمد زكي- رحمهما الله-؛..و لعله كان واحدا من أهم صناع الرأي في العالم العربي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين.اقرأ سيرته، .. في موسوعة وكيبيديا.