الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟

في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟

في المنهج و المنهجية : 

المنهجية ليست مفهوما بسيطا،بل هي متعددة المعاني و الدلالات؛ و لإيفائها  حقها من البحث و التمحيص، نجد أنفسنا مضطرين لإتباع المنهج التالي:في البداية، سنحاول تحديد معناها اللغوي و الاصطلاحي ( العلمي) ،حتى يسهل علينا تمييزها عن مفهوم المنهج الذي يلتبس معها أحيانا( المبحث الأول).
و بعد ذلك سيصبح الطريق ممهدا أمامنا للاهتمام  بالمنهجية وحدها، ماهيتها؟ و أهميتها؟ و وظائفها؟ و كيف تصاغ؟ و علاقاتها بالزمان و المكان اللذين تنتمي إليهما( المبحث الآخر).

المبحث الأول:تعريف المنهج و المنهجية:

 كثيرا ما  يخلط الناس ، بين ما اصطلح العلماء على تسميته بالمنهجية، و بين ما يعرف باسم المنهج، و يضعون أحدهما موضع الآخر[1]. على الرغم من أن هناك فرق كبير بينهما.
فما هو المنهج إذن؟ (المطلب الأول) .و ما هي المنهجية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: المنهج:

المنهج ، في اللغة، هو الطريق الواضح( الفرع الأول).و يستعمل اصطلاحا،في الجامعة، للدلالة على الطريقة العلمية، التي يتبعها الدارسون في دراسة موضوع معين، للوصول إلى نتيجة/نتائج معينة (الفرع الاخر).

الفرع الأول: المنهج في اللغة و الاصطلاح الفلسفي:

المَنْهج و المِنْهَج، في اللغة العربية- و يقال أيضا "مِنهاج و الجمع مناهيج"-؛ هو:"..  أسلوب يجري العمل بموجبه و على غراره(...) و منهج العمل أسلوبه، مثل procédure  و الجمع مناهج". و يأتي النهج أيضا، بمعنى:"..الأسلوب الواضح المستقيم "[2]، و يستشهد لذلك بقوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً (المائدة:48).
و الراجح أن لفظة " المنهج" مشتقة من النَّهج، بمعنى  الطريق أو "الطريق الواضح المستقيم"، مثل"الشارع المستقيم ". و في هذا الصدد يقال:".. طريقٌ نَهْجٌ:واسعٌ واضحٌ..و نهَجَ الأمرُ :وضُح.و مِنْهَجُ الطريق:وَضَحُه.و المِنهاج:الطريق"[3]. و ليس في معاجمنا العربية القديمة،مصطلح المنهج، بمعنى "طريقة البحث العلمي"؛ فهذا المفهوم محدث في اللغة العربية[4].
و يقابل أو يطابق كلمة " المنهج" العربي في اللغات الأوروبية؛ كلمة (méthode) الفرنسية و نظائرها في اللغات الأوروبية الأخرى(مثل=method الإنجليزية) . و كلها تعود إلى أصل واحد هو الكلمة اليونانية (methodos) المركبة من مقطعين: (odos) بمعنى الطريق، و (méta) التي لها معاني متعددة منها: الاتجاه، و المتابعة، و البحث، و الأسلوب، و النظام، و الدراسة،و المعرفة.و لقد استعمل مصطلح (méhtode) في العهود القديمة و الوسطى الأوروبية، بكل المفاهيم المذكورة سابقا[5]. و لم يأخذ معناه أو مفهومه الحالي- بمعنى " مجموعة القواعد المتبعة في البحث عن الحقيقة و المعرفة العلمية"-، إلا ابتداء من القرن السابع عشر، مع كل من"فرنسيس بيكون"( Bacon )(1561-1626) و "روني ديكارت"( Descartes)(1650-1596) و من تبعهما[6].
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
فرنسيس بيكون
وهكذا، و منذ هذا التاريخ، تقريبا، انتشر استخدام هذا المصطلح في كل ميادين الحياة، ليدل  في أعم معانيه على "..وسيلة لتحقيق هدف ، و طريقة محددة لتنظيم النشاط.و بالمعنى الفلسفي الخاص، كوسيلة للمعرفة.."[7]، أو على " كل طريقة تؤدي إلى غرض معلوم نريد تحصيله "[8].و " بصفة عامة هو الطريقة،بمعنى الطريق الواضح الذي يفضي إلى غاية مقصودة، فيكون المنهج طريقا محددا لتنظيم النشاط من أجل تحقيق الهدف المنشود"[9].
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
رونيه ديكارت

الفرع الآخر:المنهج في التربية و التعليم:

و لكن مصطلح المنهج، يستعمل اليوم، في ميدان التربية و التعليم، ليدل على معنيين اثنين أكثر من غيرهما:
أ‌-      الأول: استعمل رجال التربية و التعليم ( في الماضي) و يستعملون(اليوم أيضا) ، المنهج بمعنى " ما يقدم من مواد مختلفة للتلاميذ و الطلاب بالمدارس و الجامعات".فهو يعني في هذه الحالة؛ مجموع المقررات(المواد) الدراسية التي يفرض على الطلاب دراستها في فصل معين أو سنة دراسية معينة أو أكثر؛ فتدرس مستقلة أو مترابطة مع بعضها البعض، و يعبر عنها أحيانا بالبرنامج الدراسي[10].و يعتبر هذا المنهج في الغالب،التطبيق العملي لفلسفة المجتمع في الحياة، فيشمل نظرته للحياة و القيم التي يؤمن بها و الأهداف التي يعمل لتحقيقها[11].
ب‌-   المعنى الآخر، هو المنهج بمعنى".. مجموع الإجراءات و العمليات الضرورية التي يحتاجها العالم أو الباحث في التعامل مع موضوع للوصول إلى الأغراض المستهدفة"[12]. و بالتالي فالمناهج حسب هذا المعنى هي:".. الوسائل و الطرائق التي تستخدم للوصول إلى الحقيقة و يسلكها العقل البشري لكشف غوامض الوجود و فك أسراره و الاقتراب من حقائقه.و من ثم فهي أدوات للتفكير، و لجمع الحقائق و تحليلها و تفسيرها و فهمها"[13].
و "المنهج"، يستعمل في الجامعة اليوم بالمعنيين الأول و الأخير معا، و لكنه يستعمل بالمعنى الأخير أكثر. و بهذا المعنى تستخدم في الجامعات اليوم مناهج متعددة، في الدراسة و البحث و الكتابة و التدريس..و التفسير و الشرح..و التحليل..إلخ.  هدفها جميعا مساعدة الدارسين و الباحثين على ضبط خطواتهم، في التعامل مع المواضيع و القضايا المدروسة أو المبحوثة؛ للوصول إلى الأهداف المحددة سلفا للبحث المراد إنجازه[14].

المبحث الآخر:المنهجية:

يتكون مصطلح المنهجية( "الميثودولوجي")( Methodology/Methodologie)[15]، من لفظين "ميثود"(الواردة أعلاه)، و (logie) بمعنى العلم، أي أنها تعني علم المنهج.
 هذا من ناحية الاشتقاق اللغوي، أما من ناحية الاصطلاح ،فالمنهجية هي  العلم الذي يدرس الأسس الفلسفية لكل منهج في كل علم( بالمعنى العام الواسع للعلم).و من هنا تسمى المنهجية؛ علم مناهج العلوم(science des méthodes des sciences)؛و هي تندرج ضمن موضوعات "فلسفة العلم" أو الإبستيمولوجيا(Epistémologie)[16]، كما سبق القول أعلاه. و من هنا؛  تعرّف المنهجية عادة  بأنها:"..هي العلم الذي يدرس كيفية بناء المناهج و اختبارها و تشغيلها و تعديلها و نقضها و إعادة بنائها، يبحث في كلياتها و مسلماتها و أطرها العامة.."، بهدف الوصول إلى المنهج الأفضل في كل علم[17] (المطلب الأول).
و المنهجية، عندما تبلغ هذا الهدف، تستطيع أن تؤدي الكثير من الوظائف الإيجابية؛ الفكرية، و الإيديولوجية، و التنظيمية و الاجتماعية، و غيرها (المطلب الآخر).

المطلب الأول:صياغة المنهجية:

من  الطبيعي جدا أن تكون قضية المنهجية قد أثيرت منذ أقدم العصور ،إذ من البديهي جدا أن يتساءل الناس، منذ فجر البشرية،حول الطرق التي يتم بها التعلم و اكتساب المعرفة النظرية و المهارات العملية.و لاشك أن كل هذه التساؤلات ، انتهت ببعض العقلاء و الأذكياء،الذين عرفوا كيف يلاحظوا و يدرسوا تجارب الآخرين و يستفيدوا منها؛ إلى الاهتداء إلى أن التعلم و انتقال المعرفة و تطويرها، تتحقق باستعمال طرق منطقية و منظمة..و ممنهجة.. في ..التفكير و العمل:و بذلك نشأت المنهجية.
و كي نجعل هذه الفكرة أكثر وضوحا، نعيد صياغتها بلغة أخرى؛ فنقول: إن الانتقال من المنهج إلى المنهجية،هو الانتقال من أسلوب العالم، إلى أسلوب الفيلسوف[18]:
1.      فالعلماء قد يتبعون مناهج متعددة و متنوعة في دراسة شتى المواضيع التي تعرض لهم .متبعين في ذلك طرقا (مناهجا) ، يعتقدون أنها هي الطرق التي يفرضها حكم العقل أو طبيعة المواضيع قيد البحث. أو، بكل بساطة،لأن تلك الطرق هي المناهج التقليدية(المرسومة)،التي سار عليها السلف الصالح؛
2.      على إثر هؤلاء العلماء، يأتي الفيلسوف- و قد يكون عالما متخصصا في تلك المواضيع - ، فيدرسها من جميع الجوانب، و يقارن بينها، ليكتشف العوامل التي تيسّر النجاح لبعضها، و تسبب  الفشل لبعضها الآخر.و من ثم يحاول رد كل المناهج التي استخدمت إلى أصولها المنطقية و العقلية؛ التي انبثقت منها أو استندت عليها.أي أنه  يحاول استخراج أو استنباط القواعد المشتركة( و الكلية، بمعنى الجوهرية) بين تلك المناهج الجزئية: و النتيجة التي يتوصل إليها، هي ما نسميه " المنهجية".
و بعد استنباط المنهجية، يقوم العالم الذي استنبطها بتطبيقها في عمله، و قد يدعو آخرين من المنتمين إلى جماعته(أو النشاط الاجتماعي الذي يمارسه)، إلى العمل بها  و اتباعها،.باعتبار أنها تؤدي – على الأرجح – إلى النتائج المرجوة[19].
و يستفاد من هذا، أن المنهجية ليست قوانين أو مبادئ عامة كلية، يجب على المتخصصين في ميدان من الميادين العلمية، إتباعها و التقيد بها حرفيا أثناء بحوثهم و دراساتهم؛ بل هي مجرد نصائح و إرشادات ، يمكن الأخذ بها كما يمكن تعديلها أو تجاهلها، فهي ليست ملزمة لأحد،من حيث المبدأ.
غير أنه من الناحية الواقعية، قد تكتسي المنهجية طابعا إلزاميا في معظم الأحيان،لأنها  تنبع من الثقافة السائدة، أو الإيديولوجية المهيمنة على ميدان من الميادين. و لقد أكد "توماس صامويل كون")(T.S.Kuhn)1922-1996) [20] ، مؤرخ العلم الشهير،هذه الحقيقة، عندما أكد أن  الكثير من العلماء و الباحثين، يجدون أنفسهم منجرين وراء الآراء السائدة في  "المجتمع العلمي" الذي ينتمون إليه،و يتقبلونها دون مناقشة،و يعتبرونها بمنزلة "نموذج مثالي"(paradigme)  مخافة الحكم عليهم بالإقصاء و الإهمال[21]:و ليس هذا النموذج المثالي، إلا منهجية.
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
صمويل كون

المطلب الآخر:وظائف المنهجية:

انتهينا، في الفقرات السابقة، إلى  أن المنهج،هو طريقة من الطرق التي تستعمل للوصول إلى هدف معين في ميدان من الميادين.و أن المنهجية هي الطريقة الصحيحة،التي استنبطت من مختلف هذه الطرق ، و من ثم حظيت بقبول المشتغلين/المنتمين إلى ذلك الميدان، أو أغلبيتهم. و بالتالي، تصبح المنهجية بالنسبة لهؤلاء هي فلسفتهم العامة أو طريقتهم (المفضلة) في التفكير و العمل[22]،لا يجرؤ أحد منهم على الخروج عليها أو الانحراف عنها،خوفا من ردود الأفعال السلبية ،التي قد يتعرض لها،و أقلها السخرية و الإقصاء.
و بتعبير آخر، فالمنهج هو طريقة الفرد، في حين أن المنهجية هي طريقة الجماعة.
 و من هنا ندرك أن للمنهجية وظائف كثيرة فكرية و مهنية،و إيديولوجية و تنظيمية و اجتماعية،و أخلاقية..إلخ. فالقبول بوجود منهجية في ميدان معين، يعني القبول بمرجعية مشتركة،في التفكير و السلوك و العمل، تيسر حل الخلافات و الاختلافات في الآراء و الأعمال،بين أهل الجماعة المعنية بتلك المنهجية.و بفضلها يستطيع العاملون في كل نشاط من الأنشطة الاجتماعية ، التفاهم بينهم،و التعاون و الاتفاق على الوسائل و الغايات،و في هذا ما يديم المودة و المحبة بينهم.
 كما أن وجود المنهجية، يسهل على المنخرطين أو المنتمين الجدد ، الاندماج في النشاط المعرفي أو المهني ، الذي التحقوا به، دون مشقة او عناء:فالمبتدئ في كل ميدان- المتعلم الجديد مثلا– يبدأ باستعمال المنهجية العامة ( ما يسمى بمرحلة التقليد=مرحلة القرد). و قد يستمر "قردا" طوال حياته، كما يمكنه أنأان يثري ثقافته المنهجية و خبرته،  و يبتعد عن المنهجية(العامة)،ليبني لنفسه منهجيته الخاصة،عندما يستطيع أن يجد أتباعا و أنصارا يقلدونه: و بهذه الطريقة، يتحول المنهج إلى منهجية.
و لتوضيح هذه الفكرة، نسوق المثالين التاليين:
1-الأول نقتبسه من تراثنا الإسلامي:كلنا نعرف كيف نشأت المذاهب الفقهية؛فالأئمة الأربعة (مالك (ت 179ه/795م)، و أبو حنيفة(150ه/767م)، و الشافعي(204ه/820م)، و ابن حنبل(241ه/855م)، رحمهم الله جميعا)،اعتمدوا في بداية حياتهم الفقهية على المنهجية العامة-( في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم و السنة النبوية..إلخ)-؛ الموروثة عن الصحابة و التابعين،ثم ما لبث كل واحد منهم أن اتبع منهجه الخاص في الاجتهاد. و لما صار لكل واحد منهم أتباع يتبعونه على منهجه، تحول هذا المنهج إلى منهجية ( ملزمة) بالنسبة لأتباعه(معتنقي المذهب)؛
2- المثل الثاني نقتبسه من تاريخ أوربا  و العالم:من المعلوم أن كارل ماركس(K.Marx)(1818-1883)،اتبع في بداية حياته العلمية المنهجيات المعاصرة له،و المتبعة في كل ميدان درسه. ففي الاقتصاد، على سبيل المثال، اتبع منهجية علماء "الاقتصاد السياسي"، لاسيما "آدم سميث"(A.Smith)(1723-1790) و "ديفيد ريكاردو"(D.Ricardo)(1772-1823).ثم ما لبث أن أسس منهجه الخاص، المسمى " المادية التاريخية".و لما تبعه، في منهجه هذا، عدد من الماركسيين، تحول منهجه إلى منهجية بالنسبة لهؤلاء( يتبعونها و يتقيدون بها).
في المنهج و المنهجية..ما الفرق بينهما؟
كارل ماركس

و الحاصل هنا، أن المنهجية هي الفلسفة أو الرؤية أو الإيديولوجية أو المدرسة التي تنتمي إليها جماعة معينة، و تتقيد بطريقتها فكرا و ممارسة (مثل المدارس الأدبية أو الفنية، كالرومانسية و الواقعية،و المذاهب الدينية، و الإيديولوجيات السياسية كالماركسية و الليبرالية..)[23].و هي، لا تكاد تنفصل عن الإيديولوجية أو "الفلسفة" العامة للمجتمع أو ثقافته(أو حضارته). و لقد أصاب من عبّر عن هذه العلاقات المتشابكة، بالقول أن: المنهجية هي الواسطة أو الواصلة، التي تصل  بين النموذج المعرفي( أو المجتمع) و المناهج[24].
و الحاصل:
 إن المنهج هو الطريق الذي يمكن اتباعه، للوصول إلى هدف معين:إنجاز عمل معين على سبيل المثال.و قد يختلف هذا المنهج من عمل لآخر، و من بيئة لأخرى، بل و من شخص لآخر.
اما المنهجية، فهي الطريق الأفضل لإنجاز عمل(نشاط) معين، من منظور الجماعة المعنية أو الممارسة لذلك العمل، أو من وجهة نظر نسبة كبيرة و مؤثرة منها (الجماعة)، على الأقل.
و إذن، يمكن لكل إنسان أن يتبع المنهج الذي يراه مناسبا ،لانجاز الأعمال التي يريدها، طالما أنه غير مقيد بشروط معينة، تلزمه باتباع منهج بعينه.
و لكن،عندما يكون هناك منهج خاص لإنجاز عمل معين، تتبناه جماعة معية، و تلزم أتباعها بإتباعه،و قد تعاقبهم إذا خالفوه، يصبح هذا المنهج، إذن، منهجية.
 من هنا،فالمنهجية الجامعية، هي المنهج الذي تتبناه الجامعة، أو بالأحرى تتبناه جامعة من الجامعات؛إذ لكل جامعة منهجيتها الخاصة ، المستقاة من حضارة المجتمع الذي تنتمي إليه ، و من إيديولوجية النخب الحاكمة في هذا المجتمع، أو المؤثرة فيه (نخب سياسية، و دينية، و اقتصادية، و ثقافية،..إلخ).
و على كل طالب، ينتمي إلى هذه الجامعة أو تلك، أن يبذل قصارى جهذه، لفهم و استيعاب منهجية الجامعة، بل و أيضا منهجية الكلية التي ينتمي إليها، و إلا عرض نفسه إلى العقاب، الذي قد يتمثل في الفشل و السقوط...
و هذا هو موضوع الفصل التالي عن المنهجيات الجامعية،..بإذن الله تعالى.




[1]  انظر على سبيل المثال: مصباح- منهجية إعداد البحوث العلمية - ص 23؛ عُلبي- في المنهجية و المنهج...و المنهج المقارن- ص ص46-47.
[2]   الفراهيدي- كتاب العين-تحقيق: د.مهدي المخزومي و د.إبراهيم السامرائي- انتشارات أسوه/باقري-قم 1414هـ.ق-ج3ص1845-46(مادة:نهج).
[3]  قاموس الهادي إلى لغة العرب- م.س- مواد:"نَهج النَّهج"، و "مَنْهج المَنْهَج"،و "مِنهاج المِنْهاج"- الجزء الرابع- ص 370..
[4]  جاء في الجزء الثاني من المجلد الحادي و الخمسين،من مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ( أبريل 1976)، ما يأتي:"..كان مجلس المجمع وافق على قرار لجنة الألفاظ و الأساليب المتضمن"يقال مَنْهَج الباحث بحثه:رسم له طريقا معينةً"..":معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة – ص 681-الفقرة 1957(المَنْهَجة)
[5]  و لقد استعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة،كما وجدت عند أرسطو أحيانا كثيرة بمعنى "بحث".انظر:عبد الرحمن بدوي – مناهج البحث العلمي – الطبعة الثالثة –وكالة المطبوعات –الكويت 1977 –  ص3.
[6] Voir : art « Méthode »-in :Dictionnaire des sciences humaines- op.cit-p p 553-4 ;art « Méthode » :in Le petit Robert.و انظر أيضا:بدوي-نفس المكان                              
و في القرن السابع عشر،كما ذكرنا في المتن، ظهرت المحاولات الأولى الجادة لإرساء أسس المنهج العلمي، بالمعنى المتعارف عليه اليوم، مع "فرنسيس بيكون"(  Sir Francis Bacon )(1561-1626)،و كتابه "الأورغانون الجديد"(Novum Organum) (0162)، الذي صاغ فيه قواعد المنهج التجريبي بكل وضوح.ثم جاء من بعده الفيلسوف الفرنسي "روني ديكارت"(R.Descartes)(1650-1596)،فكان من أوائل المفكرين الذين اهتموا بوضع قواعد المنهج العلمي، ففي كتابه الشهير" مقال في المنهج"(Discours de la méthode) (1637)،حاول أن يكتشف السبب الذي جعل الآراء تختلف و تتعدد بين العلماء و الفلاسفة و علماء اللاهوت..إلخ. و اتضح له أن السبب الرئيس في ذلك، أنهم يتخبطون في بحوثهم، و لا يعتمدون على خطط مرس المنهج المؤدي إلى حسومة محددة و واضحة تهديهم .و تبين له أن أول ما يلزم الإنسان للبحث في أي موضوع، هو ضرورة الاعتماد على منهج. و المنهج عنده هو :" جملة قواعد مؤكدة، تعصم مراعاتها ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، و تمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته،دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"انظر:بدوي- المرجع السابق-ص 4؛د.عثمان أمين – ديكارت إمام الفلسفة الحديثة- العربي- العدد 90- المحرم 1386/مايو 1966- ص 21.و انظر أيضا، المرجع الأساسي البالغ الأهمية:
Madeleine Grawitz-Méthodes des Sciences Sociales-4éd-Dalloz –Paris 1979-p39 et pp44-45.                                
[7]  الموسوعة الفلسفية- م.س- ص 502(مادو: المنهج).
[8]  بدوي – المرجع السابق – ص 6.
[9]  د.يمنى طريف الخولي- فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد- ألافاق المستقبلية-عالم المعرفة- العدد 264- ديسمبر 2000- ص 129.
« Une méthode répond d’abord à une question pratique :Comment faire , quoi entreprendre ,afin d’atteindre un but donné » :J.Largeault-Méthode-Universalis-V15-p12.
[10] يقابل المنهج هنا، في اللغتين الانلجيزية و الفرنسية ( على التوالي)، مصطلحي  syllabus  وprogramme. انظر:د.خليفة عبد السميع خليفة- المناهج- مكتبة الأنجلو مصرية- القاهرة 1989- ص 8.و انظر أيضا :قاموس الهادي مادة "المنهج"- م.س. و  لقد تغير هذا عند علماء التربية، انظر خليفة-نفس المكان،و أيضا:د.سعيد إسماعيل علي- فلسفات تربوية معاصرة- عالم المعرفة- العدد 198-  المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت(يونيو 1995)- ص 127.
[11]  كنث رتشموند (W.K.Richmond)- من مقدمة كتاب" المناهج المدرسية"- ترجمة: محمد حسن التيتي- العربي – العدد 165- أغسطس 1972- ص77.
[12]  مناهج التفكير و قواعد البحث- ص17.
[13]  عارف- مقدمة كتاب : قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية و الاجتماعية- ص8.
[14] من هنا، نرى مادلين غرافيتز تمييز بين عدة معاني أو مفاهيم لمصطلح " الميثود":
1.      فهناك المنهج بالمعنى الفلسفي العام،أي مجموع العمليات الفكرية التي بواسطتها يسعى علم معين إلى التوصل إلى الحقيقة؛
2.      و المنهج كموقف إزاء موضوع من المواضيع(attitude concrète vis-à-vis de l’objet)، أي طريقة في التعامل مع الموضوع المبحوث،كالمنهج التجريبي؛
3.      و المنهج كمحاولة للتفسير(une tentative d’explication)،كالمنهج الأمبيريقي، أو المنهج الجدلي؛
4.      و المنهج الخاص المرتبط بميدان خاص (La méthode liée à un domaine particulier)،كالمنهج التاريخي.
Voir :Mèthodes des Sciences Sociales-op.cit-pp343-345.                                                                       
[15]  و يعتبر الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت"( Immanuel Kant)(1724-1804)،هو مبدع هذا المصطلح.لقد قسم المنطق إلى قسمين:مذهب المبادئ،و موضوعه شروط المعرفة الصحيحة،و علم المناهج الذي يحدد الشكل العام لكل علم، و الطريقة التي بها تكوّن أي علم كان.انظر: بدوي – ص 7.
[16]  هي نظرية العلوم أو فلسفة العلوم؛ و هي قسم هام من النظرية الفلسفية، تهتم بمقدرة الإنسان على معرفة الواقع،و مصادر و أشكال و مناهج المعرفة  و الحقيقة، و وسائل بلوغها.الموسوعة الفلسفية –مادة "مبحث المعرفة (الابستيمولوجي)"- ص 447.
[17]  نصر محمد عارف- م.س-ص 8.
[18] و ربما يكون العالم نفسه فيلسوفا ، مثل فيثاغوراس(Pythagoras)(ت 459 ق.م)،و ابن خلدون (ت 808ه/1406م) ، و برتراند راسل(B.Russell)(1872-1970)، و بيتر مدوّر(P.Medawar)(1915-1978) هو طبيب بريطاني ، من أصل لبناني.نال جائزة نوبل للطب عام 1960..).انظر:شيا-م.س- ص 77.
[19]  شيا- م.س – ص 77.
[20] Voir :Kuhn (T.S)-in :Le Dictionnaire des sciences humaines- sous la direction de :Jean –François Dortier - Editions Sciences Humaines(Paris)/Delta (Beyrouth)2007-pp389-90.
و للمزيد من التفاصيل ، انظر:توماس كون- بنية الثورات العلمية- ترجمة :شوقي جلال- سلسلة عالم المعرفة- العدد 168- ديسمبر 1992.
[21] خيري عبد الغني محمود – العلماء و البحث العلمي- الفيصل- العدد 281- ذو  القعدة 1420/ فبراير 2000- ص 27.و لهذا ،فا لاكتشافات الجديدة غير المتوائمة مع هذه النماذج القياسية للعلم تحظى بمعارضة هائلة.كتب  "فريدرك سانجر" F.Sanger  ، العالم البريطاني ، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء مرتين ،الأولى سنة 1958 و الأخرى سنة 1980.كتب في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تسلمه للجائزة الأولى :" لقد علمنا المثاليون أن الفكرة الجديدة تهزم عندما لا يقرها العارفون أو الذين يدعون المعرفة. و لكن تجاربي علمتني أن العكس هو الصحيح، فكم من أفكار جديدة و قضايا كثيرة كانت الهزيمة نصيبها، ثم اكتشف هؤلاء الذين تسببوا في موتها، أن هذه الأفكار كان من الممكن أن تنقذ العالم لو أنها خرجت إلى حيّز الوجود.. إن في قصة ألكسندر فلمنج[A.Fleming] ، مكتشف البنسيلين[1928]، درس لكل صاحب فكرة جديدة آمن بها..فقد خذلوه ، و بقي اكتشافه ميتا سنوات طويلة ، ثم إذا بهم يعودون إليه فجأة لينقذ الملايين من الجرحى و المرضى في العرب العالمية الثانية".انظر: العربي- العدد 200- يوليوز 1975- ص 107.
[22]  شيا- م.س- ص 83.
[23] يقول الأستاذ عباس محمود العقاد : " قد يكون لكل كاتب منهجا قائما بنفسه لا يدخل مع غيره في زمرة " منهجية" واحدة.خلافا للمدارس الفنية و الأدبية ، فهي معدودة محدودة يجتمع المئات من الكتاب و الفنانين في زمرة منها.على أن التقاء الكتاب و الفنانين في مدرسة جامعة؛ تقسيم يأتي لاحقا و لا يصح أن يأتي سابقا إلا في حالة واحدة، و هي حالة التقليد و التكلف و الاصطناع.
" و نريد بالتقسيم اللاحق أن الكاتب يكتب و الفنان يبتدع ثم ياتي النقاد و القراء فيجمعون طوائف الكتاب و الفنانين في هذه المدرسة أو تلك حسب التقارب في الأمزجة و القرائح و الموضوعات. و ليس من المعهود في أساطين الأدب و الفن أن يبتدئ أحدهم قائلا:ها انذا سأكتب على أسلوب هذه المدرسة و ألحق نفسي بزمرتها..فإن الذي يقول ذلك إنما يوطن نفسه على التقليد و الاتباع..:المناهج في فن القصة –في: بين الكتب و الناس- دار الفكر- القاهرة 1978- ص ص 203-4.
[24]  نصر محمد عارف- م.س-ص 8.

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

الدروس التوجيهية و التطبيقية

من البديهي القول، بأنه لا يمكن الاقتصار على المحاضرات،في تكوين خريجي الجامعات.فلقد رأينا في الدرس الخاص بالمحاضرة، أن هذه الأخيرة لا تفيد كثيرا في تعليم المهارات،و حل المسائل العملية،و دراسة الرسوم البيانية أو الجداول أو المعادلات الرياضية، ..إلخ، خاصة عندما تلقى هذه المحاضرات في المدرجات أو القاعات الكبيرة الغاصة بالطلبة.و بالتالي،فلا بد من توفير وسيلة تعليمة أخرى لدعم المحاضرة،حيث تتاح فيها فرص التعاون و التفاهم أكثر بين الأستاذ و الطالب، على تجاوز الصعوبات التي تثيرها المواد الدراسية:فكانت الدروس التوجيهية و التطبيقية( المبحث الأول).
هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فإن المعرفة النظرية التي توفرها المحاضرات،مهما كانت قيمتها،لا تكفي لـ "تسليِح" خريجي الجامعة، بالمؤهلات  و المهارات الكافية للتعامل مع ما يعرض لهم من مشكلات عملية واقعية، و التصدي  في حلها.
الدروس التوجيهية و التطبيقية
و من هنا،فالدراسة الجامعية المتكاملة هي التي تجمع بين التكوين النظري و الإعداد لمواجهة الواقع العملي في الحياة الحقيقية. و لا نبالغ إذا قلنا  الدروس التوجيهية(Les travaux dirigés= Les TD) و الدروس التطبيقية(Les travaux pratiques= Les TP )، هي أفضل ميدان لاكتساب الخبرة العملية .  و أفضل الوسائل لتحصيل  هذا الإعداد العملي. فهي تطلع الطلاب على مجريات الأمور خارج قاعات الدرس،و تطلعهم على الصعوبات و المشاكل الحقيقية، التي قد تواجههم في حياتهم العملية: أي أنها تعدهم و "تدربهم" للاندماج في الحياة المهنية، بكل نجاح      ( المبحث الآخر).
و بهذا، الجمع بين التعليم النظري و التكوين العملي – التطبيقي، يصبح دارس كل تخصص قادرا على إدراك المواضيع و القضايا التي يدرسها ، في كل أبعادها الواقعية و النظرية

المبحث الأول:دروس تكميلية و إرشادية:

إن الدروس التوجيهية، تعتبر دروسا تكميلية من زاوية،أن الأستاذ يستغل فرصة هذه الدروس للتعمق أكثر في دراسة و بحث قضايا أو جزئيات و تفاصيل،لم تنل حظها من الشرح خلال المحاضرة،أو أن بعض الطلبة وجدوا صعوبة في فهمها و استيعابها.أو أن الأستاذ المحاضر أغفل تناولها،أو أحال أمر تدارسها مع الطلبة على أستاذ الدروس التوجيهية أو التطبيقية،على اعتبار أن ظروف هذا الأخير، تساعد أكثر على تحقيق ذلك:فالمحاضرات تلقى في مدرجات أو قاعات كبيرة، مكتظة بعدد كبير من الطلبة، من مستويات و قدرات متباينة على الفهم و الاستيعاب، كما أنها غير مجهزة بالتجهيزات الضرورية للشرح؛مما يضطر الأستاذ المحاضر أن يقصر حديثه على الخطوط الكبرى أو عموميات الدرس، تاركا للطلبة مهمة استكمال و استيفاء المعلومات الأخرى التفصيلية ، في الدروس التوجيهية و العملية و التطبيقية، أو من خلال اللجوء إلى الكتب و الأنترنيت...
و من هنا، فإن أستاذ الدروس التوجيهية و العملية،يحاول أن يسد كل الثغرات التي يتركها الأستاذ المحاضر في الدرس، فيحاول إعانة الطلبة على تدارك ما فاتهم أثناء المحاضرة،و قد يستفيض في شرح بعض القضايا و التعمق في بحثها أكثر – و ربما أفضل أيضا – مما فعل الأستاذ المحاضر.كما يجيب عن الأسئلة، التي لم يتمكنوا من طرحها على الأستاذ المحاضر، أو لم يعثروا لها على إجابات في المراجع.
الدروس التوجيهية و التطبيقية
دروس توجيهية
و تعتبر الأعمال التوجيهية توجيهية؛لأن أستاذ الدروس التوجيهية، يستثمر حصصها في توجيه الطلبة إلى الجوانب المهمة في المحاضرات،و يلفت انتباههم إلى القضايا و التفاصيل الجديرة بالاهتمام،حتى يتمكنوا من ترتيب أولوياتهم أثناء البحث و المراجعة.
و هي دروس توجيهية أيضا،لأن الأستاذ المكلف بها يملأ، في الغالب، الفراغ الذي يتركه الأستاذ المحاضر فيما يتعلق بالإرشاد الأكاديمي للطلاب: فمدرس الجامعة،ليس ملقنا، أو ليس ملقنا فقط،و لكنه موجه و مرشد أيضا:يأخذ بأيديهم و يرشدهم سواء السبيل.غير أن البحث العلمي و المهام الأخرى الملقاة على كاهل الأستاذ الجامعي، تقلص من دوره التوجيهي ، و من ثم غالبا ما تسند مهام التوجيه و الإرشاد إلى أستاذ الأعمال التوجيهية و العملية.
و من مزايا الدروس التوجيهية و العملية، أنها- بالنظر إلى العدد  المحدود من الطلبة، الذين يشاركون في كل حصة منها- تفتح فرصا كبيرة أمام الأستاذ ليهتم عن قرب بالمشكلات الحقيقية  و الواقعية للطلبة،فيأخذ بعين الاعتبار التفاوت الموجود بينهم ( في مستويات الذكاء ، و التحصيل المعرفي و العلمي..)، فيمدهم بما يحتاجون إليه، على قدر استعدادهم، كل واحد على حدة.الأمر الذي يولد الإحساس عند كل طالب بأنه يحظى باهتمام شخصي من طرف الأستاذ؛فيدفعه هذا الشعور إلى بذل المزيد من الجهد في التحصيل العلمي.
و من هنا، يتبين لنا أن نجاح الأستاذ  بصفة عامة، و خاصة أستاذ الدروس التوجيهية و العملية، في القيام بمهامه على أحسن وجه، يتوقف إلى حد كبير على مدى فهمه و تفهمه للطلبة و ظروفهم، و قدرته على تطوير علاقات طيبة معهم، حتى يكسب ثقتهم.كتب عميد إحدى الكليات:" لقد دلتني خبرتي الطويلة على أن المدرس الناجح المحبوب تتوافر فيه عادة صفات أربع: أولاها قدرته على إفادة الطالب و تمكينه من التقدم في عمله الدراسي،و الثانية اهتمامه بكل طالب على حدة و محاولة فهم نفسيته و الوقوف على نقط الضعف عنده، و الثالثة تواضعه و حبه لطلبته مما يشجعهم على مصادقته و مصارحته بما يقلق نفوسهم، و الرابعة ميله للمرح فيضحك للدعابة الظريفة و يشجع عليها من حين لآخر تخفيفا لعبء العمل و تفاديا للملل و السأم".

المبحث الآخر:دروس تطبيقية وعملية:

تعتبر الأعمال التوجيهية  تطبيقية و عملية،لأنها تعلم الطلبة عن طريق العمل(learning by doing)، و توفر لهم فرص التمرين و التدريب على تطبيق ما تعلموه، و بالتالي ترسيخ المكتسبات العلمية و تثبيتها في الأذهان.فالكثير من المعلومات التي يتعلمها الطالب قد لا تترك أثرا في سلوكه كذلك الذي تتركه الممارسة ذاتها: فإذا كان أحدهم يرغب بتعلم سياقة السيارة،فليس هناك من طريقة لفعل ذلك إلا ركوب السيارة و سياقتها: فبعد أن يتعلم الإنسان أسس و مهارات و قواعد و قوانين السياقة ؛ في " المدرسة"؛ يأتي عليه حين "يضطر" فيه ليتسلم مقود السيارة- في طريق حقيقية، و في ظروف واقعية – ليطبق ما تعلمه.
الدروس التوجيهية و التطبيقية
دروس عملية
و هكذا، ففي إطار الأشغال التوجيهية، يستطيع الطلبة التعبير عن أفكارهم، و طرح الأسئلة، و تقييم معارفهم و مهاراتهم و قدراتهم، و تسليط الضوء على الجوانب الغامضة أو المظلمة من الدروس و المحاضرات[1]، و يساعدهم كل ذلك على التعلم و تخزين المعلومات في الذاكرة و تثبيتها.و هذا ينسجم تماما مع مفهوم التعليم الجامعي المعاصر:فالهدف من التعليم الجامعي ليس هو الحفظ، و لكن استيعاب المعارف و المعلومات،أي اكتسابها و من ثم القدرة على استعمالها و تطويرها بمهارة عندما يحين الوقت لذلك، داخل الجامعة أو خارجها(بعدها).
و من أهداف التعليم العالي أيضا، التي تحققها الدروس التوجيهية و العملية؛ إكساب الطلبة  مهارات عملية، للتعامل مع المشاكل الواقعية،و التفكير في حلها:و من المتفق عليه اليوم بين علماء التربية و التعليم، أن أفضل طريقة لإعداد الطالب لأن يكون قادرا على التعامل مع الواقع الحقيقي،هي وضعه في ظروف تشبه الظروف الواقعية التي سيجابهها( الطالب) بعد تخرجه.
فلأن يتعرف الطالب، على سبيل المثال، على مفاهيم حقوق الإنسان و الديمقراطية و يتدرب على احترامها، أفضل بكثير من أن يدرس إعلانات حقوق الإنسان و الدساتير و المواثيق الدولية.و لأن يتدرب الطالب على تحرير العقود، و كتابة الاستشارات القانونية و التعليق على الأحكام القضائية،و تحليل النصوص القانونية و القرارات الإدارية و الأفكار السياسية، و مناقشة الإشكاليات التي تثيرها بعض القضايا التي تعرض على المشرع أو القاضي،..إلخ؛هي أكثر نفعا من الدراسة المستفيضة للقانون الدستوري، و القانون الإداري، و القانون المدني..إلخ.
و كان أستاذنا عبد الرحمان لسلامي – حفظه الله- يقول لنا بأن الدروس التوجيهية و التطبيقية، تعتبر مكملة لدراسته من الجانب النظري.و أنها هي أفضل ميدان لممارسة للتدريب على الحياة العملية،" لما لها من دور في تفسير القانون و توضيحه ، و إزالة ما قد يكتنفه من لَبس و غموض،سواء تعلق الأمر بقاعدة قانونية أو قاعدة عرفية أو مبدأ عام من مبادئ القانون، الأمر الذي يجعل طالب الحقوق يتعود على معالجة المشاكل التي قد تعترضه في الحياة الدراسية – ثم الحياة المهنية لاحقا-بمنطق قانوني سليم، و منهج علمي مستقيم.كما يكتسب ملكة المناقشة و التحليل النظري لوقائع الحياة اليومية، و ترسخ في ذهنه المفاهيم الواضحة للمبادئ القانونية التي يتلقاها في دراسته النظرية، و كذلك خصائص النظام القانوني السائد في بلده"[2].
الدروس التوجيهية و التطبيقية

و لقد كانت وظيفة إكساب الطلبة المعارف و المهارات العملية التطبيقية (التخصصية)، التي تؤهلهم للعمل، من الوظائف التقليدية للجامعات الأمريكية منذ القرن التاسع عشر، و بذلك كانت هذه الجامعات سباقة و رائدة في الأخذ بالجوانب العملية في التعليم الجامعي. فكليات الطب كانت ، و مازالت، مرتبطة بالوحدات الاستشفائية،و هو ما يمكن الطلبة من معاينة حالات واقعية.كما أن كليات الحقوق  سمحت لطلبتها – و منذ أمد بعيد – بربط صلات وطيدة و وثيقة بالجهاز القضائي. و هكذا، و عوض أن يقتصر الطلاب على كتب أحكام القضاء، نجدهم يحضرون المحاكمات و يعملون مع المحامين،..إلخ.بل يمكن للطلبة ، ضمن شروط خاصة،الدفاع عن المتقاضين الفقراء. و يستفيد طلبة الهندسة المعمارية، من جهتهم، من إمكانية العمل في بعض المشاريع العمرانية الرامية إلى تجديد الأكواخ، فيما يرتاد أولئك الذين سيصبحون علماء اجتماع مصالح الرعاية الاجتماعية[3].
و في هذا المسار سارت أغلب الجامعات المعاصرة، في كل أنحاء العالم، بما فيها الجامعات في عالمنا العربي.
و من خلال تلك التجارب الأمريكية الرائدة، التي لقحت و نقحت بتجارب أمم و شعوب أخرى، استفاد العالم دروسا، من أهمها أن التعليم التطبيقي- العملي، لا ينبغي أن يقتصر على إكساب الطلبة مهارات يدوية فقط قد يحتاجونها بعد تخرجهم. بل إن الأمر أوسع من ذلك و أهم.فهذه الدروس،تكسبهم مهارات أخرى تتعلق بالبحث العلمي(مهارات انتقاء الكتب و المراجع، و مهارات القراءة،و مهارات وضع الإشكاليات و التصاميم، و مهارات التوثيق..إلخ). و تتعلق أيضا بالتعبير الكتابي و الشفوي، خاصة بالنسبة لطلبة العلوم الاجتماعية. و بذلك تعد للطلبة للنجاح في الحياتين المهنية و الجامعية معا.
و بالفعل،فإن  الدروس التوجيهية و التطبيقية،هي حصص للأشغال يطلب  فيها من الطلبة، القيام بأعمال يدوية أو ذهنية، أو مناقشة فروض منزلية، أو عروض و بحوث..إلخ؛ الأمر الذي يفسح أمامهم مجالات واسعة، لتعليم مهارات تدبير الوقت و تنظيم الأفكار،و مناقشتها و تبادل الآراء حولها، مما يشجعهم على التنافس،و مضاعفة الجهود لإظهار قدراتهم على الإبداع و تقديم  الآراء الأصيلة، التي تحظى بالإعجاب:فإذا حظيت بالإعجاب،أكسبتهم الكثير من الثقة بالنفس، و حفّزتهم على العمل و بذل المزيد من الجهد.
و من هنا، يجدر بي أن أكرر ما قلته سابقا، عن أهمية المواظبة على الحضور.فبالحضور المستمر لأشغال الدروس التوجيهية و التطبيقية؛ تستطيع – أيها الطالب(ة) – أن تتعلم الكثير من الأشياء المفيدة لك، التي قد تحتاجها للنجاح في الحياة الجامعية و في الحياة المهنية أيضا.خاصة و أن الأستاذ هنا أقرب إليك مما كان في المحاضرة، و متفرغ أكثر للاستماع إليك و تتبع خطواتك،و تصحيح أخطائك.غير أنه يجب عليك أن تتذكر دائما أن الحضور الذي يعتد به، في هذه الدروس ؛ هو الحضور الإيجابي وحده:أي الحضور و المشاركة في الأشغال التوجهية و التطبيقية، مشاركة فعالة، بالرأي و العمل.
و لعل أفضل طريقة، يمكن للطالب الجاد و المجد أن يشارك بها في الأعمال التوجيهية و التطبيقية،هي القيام ببحث في موضوع معين،  ليعد عنه بعد ذلك، عرضا يلقيه أمام زملائه و الأستاذ:فبهذه الطريقة يتدرب الطالب على خطوات البحث العلمي، و يكتسب مهارات تنظيم العمل و التحكم في الوقت، و  التعرف على تقنيات القراءة و الاقتباس ،و صياغة الاشكاليات( أي وضع فرضيات صحيحة لحلها)،و وضع التصاميم، و التحرير، و الإلقاء و المناقشة، و كلها مهارات ، إذا تمكن منها، ضمن النجاح في الجامعة و في المهنة بعد التخرج.





[1] Ouvrage collectif sous la direction de :Dominique TURPIN-Travaux dirigés :Droit Constitutionnel-Gualino éditeur-Paris 1995-pp11-12.
[2] أستاذنا الجليل الدكتور عبد الرحمان لسلامي- محاضرات القانون المدني-لطلبة السنة الثانية من السلك الأول- -كلية الحقوق عين الشق-جامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء السنة الدراسية 1988/1989.
[3]  تفضل بالرجوع إلى :"الجامعات الأمريكية" و "كبريات المدارس الأوربية" في موسوعة- المعارف الحديثة- الترجمة العربية تحت إشراف:د.عبد القادر وساط- منشورات عكاظ- الرباط 1996-على التوالي:المجلد 5 ص 86 و ما بعدها، و المجلد 6 الصفحة 116 و ما يليها.

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

التصميم و مكوناته

لقد سبق القول، في مستهل  الفصل السابق، أن الإشكالية تتضمن دائما ، بشكل واضح أو خفي، المعالم الكبرى للتصميم الذي يجب وضعه لعرض الموضوع(المبحث الأول) [1].غير أن الكثير من الطلبة،للأسف، لا يدركون هذه الحقيقة،بدليل أنهم يندفعون في كتابة "مواضيعهم" بدون تصاميم؛ أو بتصاميم لا تمت بأي صلة للإشكالية.
 و لأن تقنيات صياغة الإشكاليات و وضع التصاميم المناسبة لها، ليست مهارات في متناول كل طالب،فإنه تم وضع بعض التصاميم النموذجية، يمكن الاستعانة بها عند الضرورة ( المبحث الآخر).

المبحث الأول:ماهية التصميم و أهميته:

يمكن أن يكون الموضوع الذي تفكر بكتابته جيدا ، بل و ممتازا، و لكنه لن يحقق الغرض منه إلا إذا مهدت له بخطوات، تسهل على القارئ ولوجه من بابه العريض دون عوائق، و أن تمده بدليل أو خريطة طريق تهديه إلى الغاية التي تريده أن يصل إليها.هذه الخريطة، هي التصميم(المطلب الأول).و هو على جانب كبير من الأهمية، في كل كتاب و كل بحث(المطلب الآخر).

 المطلب الأول: التصميم و أهميته:

لغويا،يرادف التصميم "الخريطة ،و الخطة، و المنهج".و لا عجب في ذلك، فعندما نضع تصميما لموضوع معين، فإننا نحدد الترتيب أو المسار أو الخريطة التي سنتبعها في عرض عناصره و مضامينه[2].
بتعبير آخر، فالتصميم  ليس إلا صياغة للإشكاليات الفرعية، أو "هو عرض الأفكار التي توصل إليها الباحث من خلال تنظيم منطقي معين". بلغة أخرى أكثر وضوحا، فالتصميم هو الطريقة التي يعتمدها الكاتب في عرض إشكاليته و ترتيبها، بحسب أهمية كل جزء في علاقاته بالأجزاء الأخرى، و في علاقته بالمنهج المتبع.أو كما قال أحد الباحثين:"التصميم .. هو الهيكل العظمي الذي يبنى عليه البحث"[3]:أي الذي سيكسى "لحما و شحما"، بواسطة المعلومات التي جمعها الباحث.
لتصميم و مكوناته
و من هنا،فإن وضع التصميم في الدراسات و البحوث عامة ، هو المقدمة الضرورية لمعالجة أي موضوع بطريقة جيدة. فمهما تكن طبيعة هذا الموضوع الذي تكون بسبيل دراسته أو إعداده ( عرض، أو تقرير، أو مقال صحفي، أو سؤال امتحان، أو بحث الإجازة، أو أطروحة لنيل الدكتوراة[4]..إلخ)؛فأنت في حاجة إلى تصميم. و السبب في ذلك ، هو أن التصميم يبقيك دائما  داخل إطار الإشكالية،ويربطك بموضوعك،فيكون  بمثابة دليل أو  "خريطة طريق"، تهديك إلى بر الأمان.و كلما كان العمل البحثي طويلا (مثل الأطروحة أو الرسالة الجامعية)، كلما كان الجهد المطلوب لانجاز التصميم كبيرا:لأن قيمته في ذلك العمل تكتسي أهمية أكبر[5].
و لهذا،  كثيرا ما يعتمد مصحح الامتحان أو الأستاذ المشرف على البحث، أو عضو لجنة الحكم على رسالة، أو رئيس التحرير في مجلة..إلخ ، على التصميم في تقييم العمل أو البحث الجامعي، و من ثم إجازته- بهذه الميزة أو تلك- أو قبوله للنشر أو رفضه: فالتصميم معيار عالمي في قياس الأعمال العلمية.
و في غياب التصميم، سيجد الطالب  أو الباحث نفسه يسير على غير هدى و يقين،  و لا يعرف ماذا  يقدم و لا ما يؤخر،فيصبح كالناقة العشواء،فيضل و يضلل القارئ معه: فهو يتناول في المقدمة ما ينبغي تأخيره إلى جوهر الموضوع أو الخاتمة أو العكس، و يجمع  الأفكار و يفرقها دون أن يدرك ما بينها من تناقض أو تقارب ،و ينشرها أو يطويها على طول مساحة البحث بدون وعي، فتجدها في كل مكان، من المقدمة إلى الخاتمة،دون أن تعرف لماذا جمعها هنا و لا لماذا فرقها هنا و هناك،و لماذا أجمل الحديث في هده الجزئية و فصّله في جزئية أخرى. 

المطلب الآخر: أنواع التصاميم:

إن التصميم ، مثله مثل الإشكالية، ينبع من شخصية الطالب/الباحث و من الموضوع المبحوث، و بالتالي فليس هناك قواعد عامة يمكن للطالب أن يحفظها و يلتزم بها في وضع التصميم.كما أنه ليس هناك نموذج  مثالي للتصميم، أو تصميم صالح لكل غاية (passe -partout)،إذ أن لكل بحث أو لكل باحث تصميمه الخاص، و من هنا أكد الباحثون في ميدان المنهجية على نسبية التصاميم(Relativité des plans).
غير أن الحاجة دعت إلى وضع نماذج من التصاميم، ليستعان بها من شاء عند الحاجة، و هي أنواع كثيرة تتدرج من التصاميم البسيطة، التي لا يحتاج المرء لوضعها إلا جهدا يسيرا.و هناك التصاميم التي تتطلب مقدرة كبيرة على الإبداع.و فيما يلي استعراض لأهمها:
-قد يكون التصميم بسيطا، يكتفى فيه بتعداد أسباب مشكلة  أو ظاهرة معينة،أو عناصر موقف أو وضع أو مؤسسة أو عمل معين.دون الاهتمام بترتيبها حسب معيار دقيق أو عميق.من ذلك ، على سبيل المثال: أنواع الجماعات الترابية في المغرب (أولا: الجهات.ثانيا: العمالات و الأقاليم. ثالثا:الجماعات الحضرية و القروية).
2- و قد يوضع التصميم على أساس الأصناف أو الأنواع أو الفئات(و عندها يسمى التصميم الموضوعي).مثال ذلك: الأسباب التي تؤدي إلى انتشار ظاهرة الفساد الإداري (أولا:الأسباب السياسية.ثانيا:الأسباب الاقتصادية.ثالثا:الاجتماعية..الثقافية..الأخلاقية..الإدارية).و مثال آخر(أركان القرار الإداري:أولا :الاختصاص ،ثانيا:الشكل ، ثالثا: السبب، رابعا: المحل، خامسا: الغاية).
3- كما قد يقسم الموضوع،حسب درجة التعقيد أو صعوبة أو أهمية القضايا أو المسائل المطروحة(فيبدأ بالأكثر تعقيدا إلى الأقل تعقيدا ..أو العكس).من ذلك على سبيل المثال،موضوع" مصادر القانون الإداري":التشريع،ثم العرف ( الإداري)،ثم القضاء(الإداري و غير الإداري)،و أخيرا الفقه).
4-و هناك من يقسم بحثه و يعرض أفكاره، أو النتائج التي توصل إليها على أساس المنهج الوصفي( مثال ذلك:المحاكم الإدارية:أولا: التنظيم.ثانيا:الاختصاص).
 5- و من التصاميم الوصفية،الجديرة بالاهتمام،هناك التصاميم التاريخية أو الكرونولوجية، تعتمد على ترتيب أقسام البحث حسب التسلسل التاريخي.غير أنه يحسن بمن يعتمد هذا النوع من التصاميم،ألا يجعل محورها التواريخ ،بل الأحداث .مثال ذلك : تطور مفهوم اللامركزية في المغرب(أولا: قبل الحماية، ثانيا:أثناء الحماية، ثالثا:بعيد الاستقلال..).
2-و هناك أيضا التصاميم  التي تعتمد على الثنائيات( من نوع :التماثل و الأضداد، و التسبب و التأثر).هذه الثنائيات تعكس ، بشكل أو آخر، الظواهر المتناقضة أو المتباينة أو المترابطة، و التي نصادفها كثيرا في حياتنا الاجتماعية،كالفكـرة/و الفكـرة المناقضة أو المـبدأ العام/الاستثناء،أو النظرية/التطبيق،و السبب/ الأثر أو النتيجة..إلخ . منها على سبيـل المثال الثنائيـات التالية:التصنـيع/البيئـة، و المركزية/اللامركـزية، و الديمقراطية التمثيلية/ الديمقراطية التشاركية، الشطط في استعمال السلطة/ المنازعات القانونية،و الانتخابات المزيفة/الاضطرابات السياسية..إلخ.
و هناك، نماذج أخرى من التصاميم، أكثر تعقيدا من هذه.من أهمها التصاميم التحليلية، و التصاميم الجدلية.
3- التصاميم الجدلية:و معلوم أن هذه التصاميم تقوم على المنهج الجدلي.و أسسه، كما مرّ معنا، هي:القضية (أو الموضوع) (thèse )، و نقيضها (antithèse)، و تركيبهما(synthèse).
4-و هناك أيضا التصاميم التشخيصية التحليلي:فمن خلال هذه التصاميم يستطيع الباحث،أن يشخص المشكلة في مرحلة أولى ، ثم، في مرحلة لاحقة، يقترح الحلول المناسبة لمعالجتها.و إذا كان الباحث مسلحا بمعرفة جيدة عن الموضوع، يمكنه أن يبدع حلولا مناسبة و جدية للمشكلة.و لهذا يشترط في من يتبع هذه الطريق((voie diagnostic))[6]، أن تكون له معرفة عميقة للموضوع قيد الدرس.
لتصميم و مكوناته
هذا، و كل التصاميم تبقى صالحة، و على قدم المساواة،و وضعها موضع التجربة هو الكفيل وحده للحكم على فعاليتها:و المحك  الحقيقي لكل تصميم، و قيمته الحقيقية،إنما تكمن في قدرته على تحقيق الهدف منه، ألا وهو الجواب على الإشكالية في كل تفرعاتها و مباحثها.أما الإيمان المطلق بصلاحية تصميم معين و تفوقه في جميع الحالات ، فهو أمر مرفوض منهجيا،و لا يصح منطقيا[7].
 و على كل حال، فيما نعتقد، يمكن للتصاميم النموذجية ، خاصة التحليلية و الجدلية، أن تكون الملاذ الأخير و طوق النجاة،بالنسبة للطلبة، الذين عجزوا، لسبب أو آخر،عن "إبداع" تصميم  يناسب (sur mesure) الموضوع الذي يدرسونه،خاصة في أوقات الامتحانات.

المبحث الآخر: شروط التصميم الجيد و مكوناته:

يوضع التصميم، لخدمة الكاتب  و القارئ معا،و لذلك لا يكون الكاتب حرا، في صياغة تصميمه، بل لا بد له من التقيد بقواعد المنهجية العلمية المتعارف عليها :".. فهي طريقة في الكتابة تقوم على عرض الأفكار بأسلوب متسلسل و مرتب و مبوب (مُعَنْون) ، و تجنب العرض العشوائي و عير الموظف للمعلومات أو سردها بأسلوب غير مترابط العناوين"[8].
و هذه المنهجية، لا تنظم شروط التقسيم  الجيد للبحث ، من حيث التوازي و التوازن (المطلب الأول)فقط. بل هي تحدد مضامين كل جزء؛لأنها رسمت له وظيفة أو دور في المنهجية الشاملة المتكاملة للتصميم(المطلب الآخر).

 المطلب الأول: شروط التصميم الجيد:

يضع الباحث التصميم، حتى يسهل عليه تناول الموضوع و لا يتشتت جهده في خطوات متضاربة متناقضة.غير أنه كي يكون التصميم الذي نختاره فعالا، يجب أن ينبثق من موضوع البحث،لا أن يكون بعيدا عنه. و التقسيمات الداخلية التي يقسم إليها الموضوع ، ينبغي أن تكون  متصلة فيما بينها وفق تسلسل محكم، بحيث تؤدي كل فكرة و كل فقرة إلى التي تليها في تسلسل منطقي،  بحيث تنتهي إلى الإجابة عن الإشكالية:و من هنا، و من وجهة نظر الباحث،فكل قسم من أقسام الموضوع،يجب يؤدي وظيفة معينة، تشارك في حل معضلة الإشكالية.
و لكن للتصميم هدف آخر، لا يقل أهمية، فكل موضوع، كما سبق القول هو نوع من الرسالة، يرسلها الباحث أو الطالب إلى مصحح الامتحان أو المشرف على البحث أو لجنة التحكيم، أو المستمعين إلى العرض، أو غيرهم من القراء و "متلقي الرسالة"، و بالتالي فإن هذه الرسالة لا تحقق هدفها إلا إذا وصلت إلى المستهدفين بها.
أجل،فقد تكون الإشكالية ، و ما تنطوي عليه من أفكار و أسئلة و برنامج عمل،واضحة بالنسبة للطالب أو الباحث إزاء موضوعه، إلا أنها ليست كذلك بالنسبة للمصحح أو القارئ أو المستمع، بل على الكاتب(طالب، أو باحث..) أن يبذل كل الجهد لإرشاد القارئ، إلى ما ينوي فعله منذ البداية، حتى يكون على بينة ، من كل الخطوات التي سيُقدم عليها. و عليه أن يستغل مكونات التصميم للقيام بذلك.
و غالبا- إن لم نقل دائما - تقسم البحوث المقالات و الدراسات، حتى الطويلة، إلى قسمين (بابين أو فصلين)، ثم يقسم كل قسم إلى عنوانين (مبحثين، ثم مطلبين، و فرعين، و فقرتين..)[9].و طبعا، يجب مراعاة أن تكون عناوين الأقسام، دالة على محتوى القسم، و بسيطة، و واضحة ،و مفهومة و منسجمة مع العنوان الرئيسي أو موضوع البحث، و العناوين الفرعية.هذا، فضلا على أن أفضل العناوين ، هي القصيرة التي تؤدي المعنى(ما قلّ و دلّ).
نقطة أخرى، يجب مراعاتها في التقسيم ، ألا و هي التوازي و التوازن[10]:بمعنى أنه إذا قسمنا الباب الأول أو القسم الأول إلى فصلين أو ثلاثة فصول، فالباب الثاني أيضا يجب أن يتضمن فصلين أو ثلاث.و إذا قسمنا الفصل الأول من الباب الأول أو الباب الثاني إلى مبحثين أو ثلاث، فيجب أن نقسم الفصل الثاني في الباب الأول أو الباب الثاني إلى مبحثين أو ثلاث.و نفعل الشيء مع المطالب و الفروع و الفقرات..إلخ.هذا عن التوازي.
لتصميم و مكوناته
أما فيما يخص التوازن النسبي بين مكونات البحث،فيتعلق بتناسب أجزاء البحث بعضها مع بعض، من حيث كميات(عدد) الصفحات،فلا يكون بعضها أكبر من بعض بشكل يخل بالتوازن.مثال ذلك، أنه إذا كان الباب الأول يتكون من مائة صفحة؛ فالباب الثاني يجب أن يتراوح عدد صفحاته بين (90-110) صفحة. و إذا كان المبحث يتكون من عشرين صفحة، فعدد صفحات المبحث الثاني ، يجب أن يتراوح بين (15-25) صفحة.و هكذا.
لتصميم و مكوناته
أما من حيث توزيع "محتوى البحث بين أجزائه"، فالأغلبية يقترحون  أن تأخذ المقدمة نسبة 2/10 من صفحات البحث ،و القسم الأول 4/10، و  القسم الثاني3/10، و الخاتمة 1/10[11].
مسألة أخيرة،جديرة بالاهتمام، رغم أن الكثير من الطلاب يهملونها، أو لا يولونها العناية التي تستحق، أعني هنا العناوين:إن العناوين هي الدليل الملموس على وجود تقسيم (تصميم) جيد للموضوع.فالعناوين وسائل للربط بين أجزاء الموضوع، ثم هي ترشد القارئ.
المطلب الآخر: مكونات التصميم و منهجية التحرير:
و نعود بعد هذه الملاحظات الهامة عن كيفية تقسيم البحث، لنقول..بأن التصميم يتكون ، عادة، من مقدمة(أولا) و عرض أو جوهر(ثانيا) في قسمين (أو ثلاث عند الضرورة)، و خاتمة أحيانا(ثالثا).و سنتناول فيما يلي، هذه الأجزاء و مضامينها، بشيء من التفصيل.
غير أنه يجدر بنا قبل الخوض في هذه التفاصيل، أن نلفت الانتباه إلى أن مكونات التصميم على تعددها و تنوعها، لا يجب أن ينسينا حقيقة ، مهمة، ألا وهي أن تقسيم الموضوع، لا ينبغي أن يخل بوحدته ، أو يزلزل التماسك و الترابط الموجود بين مكوناته.فالقارئ يجب أن يلمس، بأن التصميم يخدم الوحدة ،..و أن الوحدة هي الفكرة الكامنة في الإشكالية، و أنها هي الهدف الذي يسعى التصميم لإبرازه و تأكيده.

الفرع الأول: المقدمة:

تؤدي المقدمة وظائف مهمة بالنسبة لكل موضوع، إذ تستغل دائما لتحديد الموضوع ،  الذي نستهدف دراسته و الإجابة عن إشكاليته، من حيث الزمان و المكان (التي كما سبق القول يجب أن تكون مناسبة و ملائمة للموضوع ، لا أعرض منه و لا أضيق).
كما أنها،هي الوسيلة الأكثر فعالية، لجذب القارئ،في البداية،إلى ما تكتب أو تقول . فهي تشجع القارئ أو المستمع على أن يهتم بما تعرضه أمامه مكتوبا كان أم مسموعا. أو تقنعه بتجاهل ذلك، فيكون عملك..كأن لم يكن ، بالنسبة إليه.
و من هنا، يستحسن أن تولي المقدمة ما تستحقه من الاهتمام، و يفضل أن تبدأ بفكرة تثير اهتمام القارئ، و تفتح شهيته وتثير فضوله ،لمتابعة القراءة أو الاستماع، و معرفة المزيد.إلا أن وظيفتها الأساسية، كما سبق القول،هي تحديد(تعيين الحدود) الموضوع المبحوث: إذ يجب أن يدرك المستمع و القارئ ، منذ البداية، طبيعة و حدود الموضوع الذي يكون معروضا أمامه.
و في البحوث الطويلة ، يمكن للباحث- بل في الأطروحات يجب عليه- أن يتحدث عن الأسباب التي دعته إلى اختيار موضوع بحثه. و لماذا يستحق عناء البحث فيه (أو إعادة البحث فيه)؟
و قد تستغل المقدمة أيضا، لإبراز أهمية الموضوع ، و فعالية الإشكالية التي اختارها الطالب في دراسته و الإحاطة بأهم جوانبه( و لماذا اختار هذه الإشكالية أو تلك لدراسته؟).كما على الطالب  أن يتناول في المقدمة، الجوانب العملية أو التطبيقية- إن وجدت-المرتبطة بالموضوع، و يستحسن لفت الانتباه إلى فوائدها و أهميتها(إن كانت لها هذه الفوائد طبعا).
و عندما، يكون للسؤال أو الموضوع المطروح، جوانب تاريخية، جديرة بالذكر، فإن مكانها المناسب هو المقدمة، اللهم إلا إذا كانت هذه الجوانب تحظى بأهمية كبرى في الموضوع ، تطغى على غيرها. ففي هذه الحالة يكون صلب الموضوع هو مكانها الأنسب، من خلال إفراد فصل تمهيدي لها(عندما يكون البحث طويلا ، كالأطروحة).
و عموما، فإن المقدمة تخصص لإعلان الأفكار الأساسية في البحث،و أيضا الاستنتاجات التي خلص إليها الباحث، و التي يتم التدليل على صحتها أو قيمتها من خلال صلب الموضوع. غير أن أهم ما يجب أن تنتهي إليه المقدمة ، هو إعلان التصميم، و لكن يجب يتم ذلك بطريقة منطقية و سلسة و ليس مصطنعة، بحيث يبدو التصميم كأنه نتيجة طبيعية للإشكالية أو النتيجة المنطقية المتضمنة فيها.
و قد يجد الطالب، في البداية صعوبة، في صياغة إعلان التصميم، و من الأفضل أن يتبع في البداية طريقة الإعلان المباشر.مثال ذلك،استعمال الصياغات التالية:في الجزء الأول..أو المرحلة الأولى ..سأعالج، سأدرس..سأتناول..مسألة..أو قضية..أو الجانب( و هذه هي أبسط طريقة، و هي غير مستحسنة كثيرا) .أو إن دراسة هذا الموضوع تتطلب  التعريج أولا على...أو إن معالجة هذا الموضوع، تقودنا إلى أن نبحث أولا، مسألة التعريف، ثم بعد ذلك...أو إن هذه الفكرة لا يمكن تفصيل الحديث فيها( أو فهمها..) قبل..أو إن أهم ما تثير هذه الإشكالية هو ..أولا..و ثانيا..و عليه، فإن هذا البحث لا يكتمل إلا بدراسة...و هكذا.
و الحاصل، أن المقدمة هي المدخل الحقيقي لكل دراسة..فإن هذه "المرحلة" ، هي التي يتوقف على نجاحها استمرار القارئ في القراءة أو التوقف عنها..فلا يجب أن تكون طويلة أكثر مما يجب، و لا أقصر مما يجب،بل يجب أن تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل..و مهما كانت الجهود، التي تبذل في الصلب أو الخاتمة، فإنها قد تصبح عديمة القيمة إذا كانت المقدمة غير صحيحة..

الفرع الثاني: العرض(المحتوى) أو صلب الموضوع:

إن صلب الموضوع أو الجوهر أو المحتوى ، هو المكان الذي يتضمن المعلومات على شكل أبواب أو أقسام و فصول و مباحث(بالنسبة للأعمال و البحوث الطويلة)، و قد يكون مقسما إلى مباحث و مطالب و فروع أو ما شابه ذلك (أجوبة الامتحانات، و العروض، و التعليقات..).
و غالبا، ما يتم تقسيم صلب الموضوع إلى قسمين كبيرين، ثم تفريع كل قسم إلى فرعين.و يكون عدد هذه الفروع بقدر عدد الإشكاليات الفرعية:و يستحب ألا تكون التفريعات كثيرة - خاصة بالنسبة للبحوث القصيرة -، حتى لا يفقد القارئ أو المستمع القدرة على التركيز و المتابعة؛ فالتصميم يجب أن يبقى حاضرا في ذهن القارئ أو المستمع. و عموما، هناك قاعدة ذهبية يفترض بالطالب /الباحث أن يلتزم بها، و هي:لا تقسم صلب الموضوع - بل الموضوع كله-بطريقة تضطر معها إلى أن تكرر نفسك، أي تتناول نفس القضايا أكثر من مرة.فالتصميم تقسيم، و التقسيم إنما وجد لكي يأخذ كل قسم أو كل فكرة حقها و نصيبها  من البحث و الدراسة، بمعزل عن غيرها.
لتصميم و مكوناته
و يجب توزيع الإشكاليات الفرعية، بشكل متوازن على أقسام البحث أو الموضوع[12]،و يفضل أن يتم بسط و تحليل و مناقشة "إشكالية فرعية " واحدة على الأقل في كل قسم:فإذا كان هناك إشكاليتان فرعيتان ، فيجب تناول كل واحدة منهما في فصل أو مبحث حسب طول البحث أو حجمه. و إذا كان هناك ثلاث إشكاليات فرعية، فيستحسن تناول فكرتين في المبحث الأول و الفكرة الأخيرة في المبحث الأخير.
أما من حيث البناء و طريقة الكتابة، فصلب الموضوع  يكون مجموعة من الفقرات المتينة البنيان، تقوم على عرض الأفكار و الحجج و الأدلة و الإستشهادات، بأسلوب متسلسل و مرتب و مبوب (معنون) ، و منظم[13].
من هنا،تحظى كل إشكالية فرعية بالدراسة و البحث:فتحلل و تناقش و يعاد تركيبها من جديد بشكل واضح في ذهن الكاتب و ذهن القارئ.ثم  يتم الانتقال إلى إشكالية فرعية أخرى، ثم ثالثة فرابعة. مع العلم أن كل إشكالية فرعية، تدرس في علاقتها بذلك الخيط الرابط بينها جميعا، أعني الإشكالية المركزية.و يتأكد الباحث أن طريقته كانت فعالة، إذا تمكن في نهاية العرض من الإجابة عن الإشكالية المركزية.
و عموما، على الباحث/ الطالب، أن يراعي فيما يكتب، تحقق أسس المنهجية العلمية، ممثلة ،على الأقل، فيما يلي:
أ- أن يهتم بالحقائق، و يبتعد أن الأحكام المسبقة  و أحكام القيمة و الأحكام الأخلاقية(أي الالتزام بمبادئ الموضوعية). حتى و لو كان يتبنى وجهة نظر معينة، أو تصور خاص لمعالجة قضية من القضايا، أو له موقف معين من المؤسسة التي يدرسها(مثلا).
ب-البرهنة على الاستنتاجات و النتائج ، التي يتوصل إليها،أو الآراء التي يسوقها، بأدلة و براهين و شواهد علمية(منطقية) أو أمبريقية(واقعية = تجريبية)،و تفاسير سببية(علة و معلول).و عليه ألا ينسى أن استعمال بعض المصطلحات و المفاهيم التقنية يقتضي التصرف فيها( بتوضيحها بكلمات قليلة،لإزالة غموضها في هامش البحث، أو بين قوسين في الامتحانات).
ج- ترتيب القضايا و فقا لدرجة عموميتها(القضايا العامة، تحت العناوين الكبرى، و الجزئيات و التفاصيل تحت العناوين الفرعية).
د-الالتزام بالحذر، و عدم القفز إلى التعميمات،إلا في حدود ما تسمح به الحجج و الوقائع أو الظواهر العلمية المتوفرة.
ه- أن يربط بين أجزاء البحث و يمهد للأجزاء بمقدمات..،و ينهيها بعبارات و تعابير ، تربطها بالأجزاء التالية(تسمى عبارات ، حسن التخلص).
و- ثم يجب عليه ألا ينسى أن البحث، هو مجموعة من الفقرات، و أن متانته و قوته ، تعتمد كثيرا على حسن بنائها: فالفقرة، تبدأ عادة، بجملة تحمل فكرة رئيسية، أما الجمل الأخرى، فتفصل ما أجملته الفكرة الرئيسية.
و كلما وضعت نقطة و رجعت إلى بداية سطر جديد، تكون قد فرغت من فقرة تعالج فكرة معينة، مستقلة بنفسها و لكنها في نفس الوقت متصلة بما سبقها و ما يلحق بها:فالفقرات، أشبه ما تكون بدرجات السلم.فبصعودنا درجات السلم، نقترب من الهدف (الإجابة عن السؤال=الإشكالية).و بالوصول إلى أعلى السلم،  يكون الموضوع قد اكتمل،و يتحصل المطلوب منه[14].
لتصميم و مكوناته

ز-        الحرص على الدقة و الوضوح في التعبير عن الأفكار،و تحليلها و مناقشتها، و ذلك بانتقاء الألفاظ و المصطلحات التي تناسب المعاني دون زيادة أو نقصان.
ن-        تجنب الاستطراد،و هو الخروج عن الموضوع الذي تكون بصدد معالجته، إلى موضوع آخر قريب منه أو بعيد.
ح- يجب الاهتمام "بأدوات"  أو جسور الربط بين الفقرات، مثل: من هنا، و هكذا، بيد أن ،و لهذه الأسباب، ..إلخ[15].

الفرع الثالث: الخاتمة:

 يجب أن لا نجعل من الخاتمة مكانا لتكرار و ترديد ما قلناه في صلب الموضوع ، أو إضافة معلومات جديدة. فإذا شعرت، عزيزي الطالب، بالرغبة بإضافة بعض ما فاتك قوله في صلب الموضوع، إلى الخاتمة،  فقد يكون هذا مؤشرا سيئا، إذ أقل ما تدل عليه هذه الرغبة، أن تصميمك لم يكن جيدا، و ربما إشكاليتك أيضا.و قد يكون من الضروري، في هذه الحالة، أن تعيد التفكير في كتابة بحثك.
شيء آخر، قد يضفي مشروعية على وجود الخاتمة، هو أنها قد تكون فرصة ليعلن الباحث للقارئ أو المستمع النتائج التي توصل إليها، من جهة.و من جهة أخرى، ليبين أن اختياراته(للإشكالية والتصميم)، و طريقته في البرهنة و النقاش و الاستدلال كانت فعالة، إذ قادت- بسلاسة و منطق- إلى النتائج.فهذه النتائج تكون مقبولة و منطقية و صحيحة، إذا أمكن  ردها و ربطها بالمقدمات، التي انطلقنا منها.و إن عدم نجاح الطالب في الخروج باستنتاجات مقنعة ، يلقي بظلال من الشك حول قيمة الخاتمة نفسها، بل قد يربك القارئ و يشعره بالبلبلة ، مما يؤدي إلى نوع من اهتزاز الثقة في البحث برمته.
و من هنا، فما يجب عليك إبرازه في الخاتمة ،هو صحة منطلقاتك، و صحة منهجيتك،أي صحة الإشكالية و التصميم،و أن النتائج التي انتهيت إليها، نبعت تلقائيا و منطقيا من الإشكالية، و من طريقتك في المعالجة و المناقشة و التحليل، و أنها لم تقحم إقحاما على الموضوع.
و الخاتمة، كما يقال تغلق باب الموضوع قيد الدرس و تفتح باب أو أبواب أخرى.
لتصميم و مكوناته

و بالفعل، فيمكن للباحث أن يختم موضوعه بطرح أسئلة، يفتح بها آفاقا للبحث أمام آخرين، أو يكشف بها عن جوانب عملية تطبيقية للنتائج التي توصل إليها.فالخاتمة" ..تفتح نوافذ جديدة للمستقبل بحيث تطل من خلالها معالجات جديدة للباحث نفسه أو لغيره.."[16].
غير أنه، يجب الانتباه إلى أن الخاتمة دائما، تكون قصيرة،قياسا إلى باقي أجزاء الموضوع، بما لا يتسع للإطالة..في الحديث عن الآفاق المستقبلية.

لتصميم و مكوناته




[1] غير أن التصميم لا يرتبط بالإشكالية فقط ؛ بل له علاقة أيضا بالمنهج الذي اتبعه الباحث للإجابة عن إشكاليته. ذلك أن الإشارة إلى كيفية تصنيف أقسام البحث و ترتيبها، لا تغني عن الحديث عن الطريقة التي تم التوصل بها إلى النتائج التي تم إدراجها تحت عناوين التصميم.
من هنا، تأتي أهمية بيان الباحث بنفسه(في البحوث الجامعية)، المنهج (أو المناهج) الذي اتبعه أثناء البحث عن حل الإشكالية التي اختارها.و قد يكون في الغالب ، من وحي الإشكالية نفسها: فعندما تختار إشكالية جدلية، تكون قد اخترت في الحقيقة المنهج الجدلي للإجابة عنها، و اخترت أيضا التصميم الجدلي.فلو أن الإشكالية كانت على هذه الصيغة:هل يمكن تحقيق التنمية الصناعية دون الإضرار بالبيئة؟ تكون قد جمعت متناقضين، لا يمكن دراستهما على نحو جيد، إلا باعتماد منهج جدلي، أو منهج التضاد و التقابل، أو المنهج التشريحي.
و في المقابل، فإن المنهج الذي يتبعه الباحث في دراسة إشكالية معينة، قد يؤدي أحيانا إلى إعادة النظر في الإشكالية، بتعديلها أو تصحيحها، فيؤثر بالتالي في التصميم.فلو أخذنا على سبيل المثال ،الإشكالية التالية:كيف يؤثر غياب الديمقراطية على تزايد البطالة في صفوف الخريجين الجامعيين؟ لأمكننا مثلا أن نختار المنهج المقارن، للإجابة عنه: فنقارن بين دولتين لهما نفس الخلفية الثقافية، و التركيب السكاني و الموارد الطبيعية، و لكنهما يختلفان في "وجود نظام ديمقراطي" ، في دولة واحدة دون الأخرى،و مثل هذا الاختلاف هو الذي يفسر التفاوت بين الدولتين في نسب البطالة في صفوف الخريجين الجامعيين.
و لكن،لو أردنا أن ندرس نفس الإشكالية ، مثلا،بالاعتماد على الإحصائيات التي تؤكد أو تنفي زيادة/نقص البطالة،في علاقتها بنسب المشاركة السياسية، و نزاهة الانتخابات..إلخ لتبين لنا أنه من الصعب الحصول على تلك الإحصائيات، مما يقتضي تعديل الإشكالية أو اختيار منهج آخر يتلاءم و المعلومات المتاحة.
[2]  انظر : الهادي إلى لغة العرب- ج3ص 52)مادة: صمّم)، و انظر أيضا:
« Arrêter un plan ,c’est fixer l’ordre qui sera suivi pour exposer le sujet étudié .C’est construire…  » :Mazeaud -op .cit,p86
[3]  د.مصطفى أبو ضيف أحمد – منهج البحث التاريخي بين الماضي و الحاضر د.مصطفى أبو ضيف أحمد – من- مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء -1987- ص 145.
[4]  من هنا، يجب الاعتناء بالتصاميم أثناء المراجعة،إذ أنها تساعد على استرجاع المعلومات.فكما سنرى ذلك بالتفصيل لاحقا، يعمل المخ وفق ميكانزمات " تداعي الأفكار": فعندما نتذكر تصميما معينا، نتذكر معه كل المعلومات المتصلة به.
[5]  أجل، لا يجب أن تنسى أن عملك العلمي الذي تقوم به، هو في نهاية المطاف "رسالة" ستبعثها – كتابيا أو شفويا- إلى "مستقبل"، و أنها كي تحقق الغاية منها يجب أن تكون مفهومة. و لتتذكر هنا القاعدة الذهبية التي وضعها القرآن الكريم لكل رسالة: ﴿ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَينَ لَهُم (إبراهيم:4) ، مما يعني أن الرسالة لابد من أن تكون بلغة مفهومة و واضحة و دقيقة ، و إلا عجز المرسل إليهم عن إدراك مضامينها( و كانها لم توجد أصلا).
[6]  « C’est la voie royale de l’analyse approfondie avec engagement personnel » :Méthodes de communication..-op.cit,p46.
[7]  و من هنا، لقيت المنهجيات، التي تدعو إلى استعمال "التصاميم الجاهزة للأخذ"(Les plans prêt à porter)، الكثير من المعارضة، إذ رأى البعض  فيها مصادرة لحق الطلبة والباحثين في الإبداع،و أنها  تكرس مفاهيم التقليد التي يفترض بالجامعة أن تحاربها.ورأى البعض الثاني أنه لا يمكن تقسيم كل القضايا و المواضيع إلى ثنائيات، إلا بالكثير من التكلف و التصنع.في حين،رأى البعض الثالث أن التصاميم الجدلية ،لا تصلح لتناول كل المواضيع، من ذلك مثلا، الأجوبة، التي تفترض وجود  عدد من الخيارات أو الشروط ،مثلا. و نموذج ذلك السؤال التالي:"ما هي الإصلاحات القانونية و السياسية، التي ترى أنها ضرورية لإقامة دولة الحق و القانون في المغرب؟" أو "ما هي الشروط اللازمة لنجاح المقاولات الصغرى في الدول النامية؟".
هذا فضلا عن  أن التصاميم الجدلية تعلم الطلبة الكسل والنمطية في التفكير و الرؤية،و هي لذلك تعتمد من طرف الطلبة الكسالى و المؤدلجين(حملة الفكر الإيديولوجي).
[8]  المنهجية في دراسة القانون- م. س – ص  21.
[9]  في بعض الأحيان قد تضطر إلى التقسيم الثلاثي. و لكن قبل الإقدام على ذلك فكر طويلا:فالكثير من الأقسام يمكن إدماجها في بعضها، و اختزالها في تقسيم ثنائي.و المنهجيون الفرنسيون، الذين لهم تلامذة كثر في كليات الحقوق المغربية ، يصرون على التقسيم الثنائي، و يعتبرونه "قانونا".انظر على سبيل المثال: Pierre Gévart ,Bruno Modica,Christophe Mondou-Réussir ses dissertations aux concours administratifs-L’Etudiant-Paris 2006-p128 .
[10] La règle de la symétrie  et la nécessité d’un plan équilibré .voir :Réussir sa 1er année de droit-op.cit ,p46 ; Réussir ses dissertations aux concours administratifs-p128 et pp40-1.
 [11]  عبد العال و منصور-  المنهجية القانونية – ص 38.
[12] و إن كان هناك اختلاف بين المقالة التي يكتبها الطالب في الامتحان، و البحث الجامعي، و سنتناول في البداية التقسيم الخاص بالبحث، و نرجئ دراسة التقسيم الخاص بالعرض أو الامتحان ، إلى المباحث اللاحقة:في الفصل.يخص الامتحان- إلى الفصلين  اللذين  أفردناهما  للامتحانات و العروض.
[13]  المنهجية في دراسة القانون- م. س – ص  21.
[14]  موسوعة الرواد-تعريب : د.بهيج ملا حويش- مطابع ديداكو- برشلونة 2005-ج16 ص 83.
[15]  إن عبارات الربط بين الفقرات، أنواع كثيرة، منها:
أ-لإقامة الحجة (البرهنة) و للتلخيص:بدليل أن،عِلاوة على ذلك،عدا عن ذلك، الحاصل من هذا الكلام، خلاصة القول، قصارى القول،و بالإجمال..
ب-عند ذكر السبب أو الشرط:شريطة أن، ما لم يكن، على افتراض يكن، على افتراض أن، في حالة ما،مراعاة للأسباب التالية، يكفي أن،..
ج- للتعبير عن التبعات و النتائج: لهذا السبب، و إذن،و بناء على ذلك، لذلك، و عليه، و ينتج عن (ذلك)، تحت طائلة، بالتالي، من ثَمَ، من هنا،..
د- في الإحالة على قاعدة قانونية:حيث إن،بالنظر إلى، بما أن، لما كان، بسبب، أخذا بعين الاعتبار، استنادا إلى النص..،  بموجب، اعتبارا لـ..
هـ-للتعبير عن الغاية أو الأهداف : لأجل هذا، في هذا الصدد ، لأجله، من أجل هذا، لهذا الغرض، لإجراء ما يلزم، من هذا المنظور،..
و- للاستنتاج و الختام و التلخيص: لأجل هذا، نخلص إلى، و كتلخيص ،  و مهما يكن الأمر، و خلاصة القول، و حاصل الكلام،و زبدة القول، ..
[16]  عبد العال و منصور – م.س –ص 110.