الأربعاء، 1 يونيو 2016

فصل أول:في تقريب القانون الجبائي:
مقدمة:قد جرت العادة، في الدراسات القانونية؛ أن يمهد الاستاذ للدروس التي يلقيها عن كل قانون.. بتعريفه، أي  تعريف موضوعه أو مضامينه، والمنهج (أو المناهج) المتبعة في دراسته..
و التعريفات عموما، هي من الأمور الصعبة ،غير أنه  من أصعب التعريفات، في نظري، تعريف القانون الجبائي؛لأنه خليط من جملة تناقضات:فهو قانون السلطة(الحكومة، و إدارتها الجبائية)، و قانون الحريات و الحقوق(حريات و حقوق الملزمين)؛ و هو قانون الواقع(يسري على وقائع و لا يهتم بالمراكز القانونية)، وهو قانون التعالي عن الواقع(فالضريبة وسيلة لتحقيق المصلحة العامة،و ليست وسيلة لمصادرة أموال الناس)؛و هو قانون،و إن يهتم بالوقائع المادية، إلا أنه يولي الإجراءات الشكلية اهتمامه أيضا؛ و مع أنه يطبق بالأساس في المجال الداخلي للدولة ،  إلا أن مجاله قد يتسع  للملزمين بالضريبة، حيثما أقاموا أيضا ؛ و مع أنه ينتمي إلى القانون العام، و يربط صلات وثيقة مع أشقائه في هذا الفرع، إلا أن صلاته كثيرة و متعددة مع باقي فروع القانون الأخرى، و لكن ذلك..لم يمنعه،من النأي بنفسه عنها جميعا، و الانعزال في إطار من الخصائص الذاتية..
و مع كل هذا التعقيد الذي يتصف بهذا الفرع من القانون،إلا أننا نصادف في أدبيات المالية العامة، و التشريع الجبائي، و غيرهما ؛ من " يتجرأ" على أعطاء تعريف " جامع مانع " له، لعل أكثرها انتشار هو ذاك الذي يحاول اختزاله في بعده الشكلي أو الإجرائي،فيقدم للناس على أنه :" مجموعة من القواعد القانونية، التي تسنها الدولة،لفرض الضريبة،و تقدير وعائها، و تحديد سعرها( أو أسعارها)، و ربطها( حسابها)، و تحصيلها،و فض المنازعات التي تتعلق بها "[1].
و في الواقع؛ إن هذا النوع من التعريفات لا يرى في القانون الجبائي إلا مجموعة من القواعد " التقنية"، التي يمكن دراستها- كأي آلية أو ميكانيزم ميكانيكي-، بمعزل عن خصوصيات البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها أو أفرزته؛أي بتعبير آخر، عن  طبيعة الزمان و المكان، و كأنها آلة أو جهاز- يمكن للخبراء أن يتبادلوا معلوماتهم عنه ، بغض النظر عن الزمكان.
 و هذه رؤية  غير صحيحة،و لا يمكنها أن تساعد الطلبة وعموم الدارسين و الباحثين؛ على النفاذ إلى حقيقة القانون الضريبي، في أبعاده المتعددة و الشاملة.فالقانون الجبائي ، دون مبالغة، هو من أكثر القوانين التصاقا بالمجتمع، كل مجتمع.ففي قواعده و مبادئه، تلتقي تناقضات المجتمع الحادة،التي يصعب التوفيق بينها، إلى درجة،يمكن معها القول، كما أكد أحد الباحثين[2]، بأنه بوجوده، و بمضمونه، يشكل دليلا على التناقضات و الصراعات التي يعيشها المجتمع و الدولة اللذان يفرزانه[3]. و يكفي أن تلاحظ تعدد و تنوع القضايا التي يحاول دراستها،لتعرف حجم المشاكل التي يواجهها:فهو يعنى بتقدير اوعية الضرائب( ما هي المواد التي ستخضع للضريبة؟ و من سيؤديها؟ ما هي ظروفه الشخصية؟ من يقدرها الملزم بها نفسه أم الإدارة..؟)،و  تحديد الأسعار المطبقة عليها( أسعار نسبية كما يقول الليبراليون و المحافظون؟ أم أسعار تصاعدية  تشخيصية، كما يقول الإشتراكيون و الإسلاميون؟)،و حسابها( من يحسبها ؟ الإدارة ؟ أم الملزم؟ نضرب الوعاء بأكمله أم نخصم جزءا منه؟..؟)، و تحصيلها( بالرضى؟ بالإكراه؟ بالأسلوبين  معا؟ بتطبيق عقوبات مدنية أم جنائية أم هما معا؟..).
و إذن فالمشاكل التي يتعامل معها القانون الجبائي، مشاكل تقنية، و قانونية[4]، كثيرة و متنوعة،  لا يمكن أن تحل،إلا من خلال ربطها بالبيئة الاجتماعية التي أنتجتها،كإفراز طبيعي لذلك التناقض الكبير - الذي يساهم التشريع الضريبي، لا شك ، في تفاقمه-؛ الموجود بين حاجيات الدولة التي تتجدد يوميا، من ناحية، و قدرات المجتمع التي تتآكل يوميا ، من ناحية أخرى؛ و الذي يمكن أن نصوغه في الإشكالية، التالية :كيف يمكن التوفيق بين الحجيات اللامتناهية للدولة، و الإمكانيات المحدودة للمجتمع؟
فكثير من الدول ينصب اهتمامها، على سن القوانين، و تأسيس الإدارات الجبائية، و تجهيزها بالمعدات و الأطر البشرية..و تنسى أن تطرح السؤال التالي: هل المجتمع - و هو الوعاء الذي ستغرف منه الموارد- قادر فعلا على دفع تلك الضرائب؟ إن عدم طرح هذا السؤال، أو طرحه..و الإجابة عنه بطريقة غير صحيحة، يؤدي إلى فشل تلك القوانين في تحقيق أهدافها.
و بالفعل، فهناك حقيقة أساسية، يجب أن يتذكرها كل من له علاقة بالضريبة،و بالتالي يأخذها جديا بالحسبان، و هي أنه: لا المشرع حر كل الحرية، في فرض ما يشاء من الضرائب؛ و لا الإدارة حرة كل الحرية، في تنفيذ ما تشاء من ضرائب.فالسلطة التشريعية و الإدارة معا، يخضعان لقيود كثيرة، يمكن اجمالها في القول بأنها قيود سياسية و اقتصادية و تقنية و قانونية ،التي يضعها المجتمع،بوعي أو دون و عي، في طريق المشرع و الإدارة معا، للحد من سلطاتهما و منعهما من الاستبداد.فالمشرع، الجبائي لا يعمل في فراغ، فهو يسعى لتضريب  " أشخاص أو مواد أو أنشطة خاضعة للضريبة"، تحكمها قوانين و عادات و تقاليد و مؤسسات،بعضها عريق في القدم، و بعضها جديد، و بعضها في طور التشكل و الانتشار، و بعضها بلغ قمة الطور، و سار في طريق الأفول و الانتدثار..إلخ؛كلها موجودة ، و كلها قد تشكل عوامل أو معيقة للتشريع الجبائي.
و صحيح أن " القانون الجبائي" كالعملة..،إذا نظرنا إلى وجه من وجهيه، سنرى أنه هو " قانون السلطة الجبائية"، أو "قانون الإدارة الجبائية" ؛ ينظم سلطات الدولة في التشريع الجبائي ، و سلطات الإدارة في تنفيذ هذا التشريع، بما يعنيه ذلك من ممارسة للإكراه في الإلزام و التحصيل،و التدخل في "خصوصيات" الناس، و مراقبة حياتهم عن كثب.و لكن،إذا نظرنا إلى وجهه الآخر،فسنرى أن هذه السلطات تخضع لقواعد قانونية (دستورية و غيرها) ثابتة و أكيدة تحمي الملزمين ، و تضمن لهم حقهم في المساواة و العدالة و الحرية، و تحمي ممتلكاتهم..إلخ؛ من جهة.كما يستطيع هؤلاء الملزمون، من جهة أخرى،المطالبة باحترام هذه  القوانين عن طريق اثارتهم، أمام قضاة مستقلين، الحقوق و الحريات التي تمنحهم إياها إزاء الدولة[5].
من هنا،يعبر التشريع الجبائي عن نفسه، باعتباره ملتقى الكثير من تعقيدات و تناقضات المجتمع، بما فيها صراعات الحكام و المحكومين، و تضامنهم أيضا نظرا لحاجة كل واحد من هذين الطرفين إلى الطرف الآخر، الذي يكمله:فالملزمون بأداء الضرائب ( المحكومون)، في حاجة إلى الخدمات التي تقدمها الحكومات ( لتدبير و تنسيق عمليات الإنفاق على المرافق العامة، و على رأسها الأمن، و القضاء، و التعليم، و الصحة،..إلخ) ؛و الحكام (الإدارة) في حاجة إلى الأموال التي تقتطع من "أرزاق" المحكومين.
و لهذه الأسباب و غيرها،فإن أي مقاربة للقانون الجبائي، يجب أن تنظر إلى وجهي العملة..يجب أن تقاربه على اعتبار أنه أمر الحاكم..و أمل المحكوم، في حياة جيدة..و غد أفضل.
المبحث الأول:مقتربان لمقاربة القانون الجبائي:
هناك،إذن، مقتربان أساسيان، لمقاربة التشريع الجبائي، و دراسته:
1-هناك مقترب ضيق، يحصر اهتمام القانون الجبائي،في مجموع القواعد القانونية ، التي على أساسها، تستطيع السلطة العمومية أن تطالب المواطنين-( أو تجبرهم بالقوة عند الضرورة)-، على أن ينقلوا جزءا من دخلهم أو ثروتهم الخاصة،إلى الخزينة العامة للدولة، للإنفاق على المرافق العامة، و غيرها من أوجه المصلحة العامة.
2- و المقترب الآخر، و هو أوسع من الأول ،يربط التشريع الجبائي، بالبيئة الاجتماعية( و الطبيعية)، التي ينشأ فيها و لخدمتها؛ بكل مكوناتها الاقتصادية، و السياسية، و غيرها.
فمن منظور المقترب الأول، يهتم القانون الجبائي بالجانب الشرعي للضريبة، و لا يهتم مباشرة بالجوانب أو الأبعاد المالية أو الاقتصادية أو حتى السياسية للضريبة:فهو لا يُعنى، مثلا، بالعوامل و الأسباب التي تدفع المشرع إلى سن الضرائب؟ و تحديد الأوعية التي تخضع لها؟ و الإيديولوجية التي تحكم أسعارها ؟ و الإعفاءات منها؟..إلخ. فهذه قضايا سياسية،من وجهة نظر أصحاب هذا المقترب،  لا تهم القانون الجبائي ، بشكل مباشر.كما أن القانون الجبائي،وفق نفس المنظور، لا ينبغي له أن يُعنى بطرح الأسئلة من نوع: ما هي السياسة الجبائية الملائمة لتنمية الادخار؟ ما هو النظام الجبائي الذي يضمن جذب المستثمرين و المشاريع الاستثمارية؟ كيف السبيل إلى ربط حصص الضريبة على الدخل بنسب التضخم، من أجل تفادي تآكل القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة؟ ما هي المزايا أو الإعفاءات الجبائية التي ينبغي منحها للمقاولات،التي تساهم في الحد من البطالة؟..؟ فهذه الأسئلة و الإجابة عنها تدخل، في نطاق السياستين الاقتصادية و الاجتماعية، و من ثم لا يعنى بها التشريع الجبائي، إلا عناية عرضية ضعيفة.
إن هذا المنهج أو المقترب(الضيق)،فيما يبدو لي غير سليم؛إذ لا يغطي من الضريبة، إلا جزءا يسيرا، و لا يوليها، باعتبارها مؤسسة اجتماعية بالغة الأهمية ، ما هي جديرة به من العناية.و لذلك، نحن نرى أن المقترب الأفضل، هو المقترب الآخر(الواسع و الشمولي)؛لأنه يحاول ربط الضريبة بمحيطها أو بيئتها الاجتماعية، و بحاجيات هذه البيئة.
و من ثم فهو الذي يمكنه أن يقارب الضريبة كظاهرة اجتماعية، أو فلنقل كمؤسسة اجتماعية،يؤسسها ممثلو المجتمع/أو ممثلو الفئة الغالبة عليه، في ظروف تاريخية معينة؛ لخدمة المصالح العامة للمجتمع، أو على الأقل لخدمة المصلحة الخاصة للفئة المهيمنة عليه، في تلك الظروف.و هو الذي يمكن من مقاربة النظام الجبائي، باعتباره نظام مفتوحا على بيئته، يؤثر فيها و يتأثر بها، بحيث لا يشكل إلا نظاما داخل نظم أخرى أكبر و أكثر اتساعا.
فالمقترب الأول، يصرف اهتمامنا إلى دراسة المراحل التي تمر منها الضرائب- سنها، تقدير وعائها،و حساب مبلغها ، ثم تحصيلة، و النظر في النزاعات التي قد تترتب عن ذلك-، و القواعد القانونية التي تطبق على كل مرحلة من تلك المراحل. و يصرف اهتمامنا عن ما يترتب من آثار اقتصادية و اجتماعية، عن فرض الضرائب، و عن اختيار الأوعية و تقديرها ، و كيفية حسابها و تحصيلها..إلخ؛لأن ذلك - من وجهة نظر هذا المقترب- يقع خارج نطاق التشريع الضريبي.
كما أن هذا المقترب" الضيق الأفق"، يحول بين الدارس و الباحث، و طرح الأسئلة الشائكة ، حول الأسباب الحقيقة التي توخاها المشرع، من فرض هذه الضرائب أو تلك الضرائب، في هذه الفترة أو تلك، و الغايات السياسية و الاقتصادية، البعيدة التي يريد الوصول إليها، من إعفاء هذا النشاط الاقتصادي أو الاجتماعي أو هذه المؤسسة..من الضرائب.إن الإجابة عن هذه التساؤلات، قد تبدو بعيدة المنال، عن من ينهج طريق المقترب الأول؛لأنه لا يعمل على الربط بين التشريع الجبائي و الإيديولوجيا السياسية العامة، التي يعتنقها مجتمع من المجتمعات/أو الفئة الغالبة عليه، في المرحلة التي سبقت و/ أو عاصرت ميلاد ذلك التشريع.
و بالفعل،فمن خلال المقترب( المنهج) الأخير و ليس الأول، يمكننا أن ندرك ، في أغلب الأحيان، كيف و لماذا  تختلف القوانين الضريبية، من زمان لآخر؟، و من مكان لآخر؟، و من مجتمع لآخر؟، و من نظام سياسي لآخر[6]؟، و من نظام اقتصادي لآخر؟[7]:فالمجتمع الديمقراطي يحتاج إلى قانون جبائي من نوع ، و النظام الديكتاتوري يحتاج إلى قانون جبائي من نوع آخر. و المجتمع المتقدم يحتاج إلى نظام جبائي خاص به، و كذلك المجتمع المتخلف يحتاج إلى قانون جبائي يتلاءم مع درجة تقدمه.و النظام السياسي، الذي تهيمن عليه الإيديولوجية الليبرالية،يحتاج إلى قانون جبائي، يتلاءم مع  فكرة الحرية(حرية المبادرة،و حرية الملكية،و حرية السوق..).و النظام السياسي أو الاقتصادي،الخاضع للإيديولوجية الاشتراكية[8]،سيؤسس لقانون جبائي، يساعده على تطبيق فكرة العدالة الاجتماعية( أو الارتقاء بمجتمع المساواة)..إلخ.و في المجتمع الذي تحكمه حكومة،تتبنى  إيديولوجية سياسية منبثقة من الإسلام، يتوقع.. أن توجه الضرائب إلى المساعدة على تطبيق شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
إن هذا المقترب هو الذي يجعلنا ندرك، لماذا يربط هذا القانون علاقات متشعبة مع مختلف فروع القانون، و يستقي منها، الكثير من مبادئه و مفاهيمه، و لكنه يبتعد عنها، ليعيد صياغة تلك المبادئ و المفاهيم بطريقته الخاصة، مما يعطيه خصوصية ذاتية  مميزة له.
المبحث الثاني:علاقات القانون الجبائي بالقوانين الأخرى
إن القانون الجبائي،يحاول أن يوفق بين السلطة و الحرية؛ بين السلطتين التشريعة و التنفيذية من جهة، و حريات الملزمين و حقوقهم، التي تصونها القوانين و المؤسسات .. و يحميها القضاء، من جهة أخرى.
من هنا،نفهم كيف و لماذا يربط القانون الجبائي علاقات كثيرة و متشعبة، مع مختلف فروع القانون.فهو بحكم وسائله و غاياته ، ينتمي إلى القانون العام. و لكن،إذا نظرنا إلى مجال نشاطه،سنجده ينصب على المجال الخاص، في الغالب.
المطلب الأول- علاقاته بفروع القانون :
الضريبة  مؤسسة اجتماعية، لها أبعاد سياسية، و اقتصادية، و قانونية، و تاريخية، و أخلاقية، و غيرها.
فهي،على غرار جميع المؤسسات الاجتماعية،تؤسسها الجماعات البشرية، و ليس الأفراد. و هي مؤسسة سياسية،لأنها ارتبطت وجودا و عدما، بوجود المجتمعات السياسية، و السلطات السياسية، القادرة على فرضها و جبايتها، و إنفاقها.و هي مؤسسة قانونية، لأنها تصدر عن أجهزة تشريعية، تمثل المكلفين بها،و لها، بالتالي، سيادة عليهم ؛إذ تستطيع أن تطالبهم بأدائها وفق قواعد قانونية ملزمة ، يترتب على مخالفتها، جزاءات.و هي ظاهرة اقتصادية،لأنها تضرب على الانتاج و الاستهلاك؛ و من ثم فقد تحد من القدرات الشرائية للأفراد إذا كانت ثقيلة عليهم.كما قد تساهم في تشجيع الاستثمارات و جلبها إلى الدولة، إذا كانت خفيفة على المقاولات و الشركات.و هي أيضا مؤسسة تاريخية، لأنها تتغير من زمان لآخر، حتى تستجيب للحاجيات المتجددة للمجتمع و الدولة.و الضريبة، هي غير ذلك أيضا[9].
من هنا ندرك، كيف أن الكثير من فروع المعرفة، تعنى بدراسة الضريبة، كل واحد منها ، يدرسها من زاوية اهتماماته الخاصة، و بمناهجه الخصة أيضا.
و القانون، باعتباره علما اجتماعيا عاما، درس مؤسسة الضريبة، في الكثير من أبعادها القانونية؛إذا أن كل فرع، تقريبا، من فروع القانون اهتم ببعد أو آكثر من أبعاد الظاهرة الاجتماعية- القانونية، المسماة ضريبة.
و صحيح أن أحد فروع القانون، هو التشريع الضريبي، عني بالضريبة عناية خاصة، و جعلها موضوعا له- فوحدة الدراسة، في هذا الفرع هي الضريبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك-؛إلا أنه دراسة الضريبة، بل و فهم القانون الضريبي نفسه، لا تكتمل إلا من خلال النظر في العلاقات التي تربط الضريبة، و من ثم التشريع الضريبي، بمختلف فروع القانون.
الفرع الأول- علاقاته بفروع القانون العام:
يتصل التشريع الجبائي، في إطار علاقاته بالقوانين الأخرى،اتصالا وثيقا بالقانون العام؛ و ما القضايا التي يتناولها مثل شرعية الضريبة، و المساواة و العدالة الضريبيتين، و الإدارة( الجبائية)، و المرافق العامة(الانفاق عليها)، و القضاء الإداري،و الازدواج الضريبي الدولي..إلخ، إلا أمثلة قليلة على المواضيع الرئيسية المشتركة بينه و بين باقي فروع القانون العام،و خاصة فروع القانون العام الداخلي،و على رأسها القانون الدستوري، و المالية العامة، و القانون الإداري:
1- لقد أصبح من الثابت اليوم،بأن للتشريع الضريبي علاقة وطيدة بالشرعية الدستورية:فالدستور يرفع صفة الشرعية عن كل ضريبة، لا تفرض أو تجبى،وفق قواعده. و هو يسحب الشرعية، من كل ضريبة، لا تستوفي عددا من المبادئ التي لا يعترف بها أو يحميها، كمبدأ المساواة أمام القانون الجبائي و بالقانون الجبائي (احترام القدرات الجبائية للملزمين)،..إلخ.و إن نشأة و تطور الحياة البرلمانية، و الديمقراطية التمثيلية،على أسس هي بالأصل جبائية، لخير دليل على متانة العلاقات بين هذه الفرعين ؛
2- و يتشابك القانون الجبائي، في نقاط كثيرة بالقانون الإداري[10]، تدل كلها على طبيعة  العلاقات الوطيدة التي تجمع بين هذين الفرعين من القانون العام،من أكثر من ناحية: فالقانون الجبائي يسخر الإدارة العامة ، بكل ما تتمتع به من امتيازات و صلاحيات السلطة العامة ( و من أهمها امتيازات التنفيذ الفوري)، لبلوغ أهدافه من جهة،و اهمها جمع و تحصيل الأموال لفائدة الحكومة،بغرض الإنفاق على المرافق العامة من جهة ثانية. و لكن هذا القانون الجبائي، لا يعفي الإدارة مع ذلك، من المسؤولية، من جهة ثالثة.بل يفرض عليها أن تمارس رقابة ذاتية على أعمالها(عندما يلزمها بدراسة تظلمات الملزمين و الرد عليها)، كما يخضعها،برغم كل ما لها من صلاحيات و امتيازات، لمراقبة القضاء الإداري أيضا، من جهة رابعة( سواء فيما يتعلق بفرض الضريبة أو تحصيلها)؛
3- و تشترك المالية العامة[11] و القانون الضريبي، في مواضيع و قضايا كثيرة،بل يمكن اعتباره فرعا من فروع المالية العامة،و ما الموضوعات التي تشمل الضريبة و تقنياتها، و تحديد أوعيتها و الملزمين بأدائها، و تحصيلها، و المنازعات التي تترتب عنها، إلا موضوعات مشتركة لكل منهما:
 أ- و بالفعل،فالمالية العامة تعنى بالإيرادات العامة للدولة.و على رأس هذه الإيرادات نجد الضرائب؛ الضرائب نفسها التي هي الجوهر و الجوهري في القانون الضريبي؛
ب- و من القضايا المشتركة بينهما أيضا،السياسة المالية:فالضريبة، هي إحدى أهم الوسائل التي تستعين بها الدولة، لتنفيذها سياستها الاقتصادية و المالية؛إذ تستعملها ،لتحقيق أهداف اقتصادية(الـتأثير على الادخار،و الاستثمار، و الاستهلاك..) و اجتماعية(محاربة البطالة، توفير الأراضي و دور السكنى..)، مستلهمة من البرنامج الحكومي، أو إيديولوجية الحزب الحاكم[12]؛
ج- و من المواضيع المشتركة كذلك، بين الاثنين؛ هناك القانون المالي:فالقانون المالي، هو الذي يأذن بجباية الضرائب في كل سنة مالية، و كثيرا ما يأتي بتشريعات جديدة أو تعديلية، للقوانين الجبائية المعمول بها[13]، و من ثم فإن " ..الملزمين و المستشارين في المجال الجبائي و الباحثين في مجاله يتعرفون على المستجدات الضريبية من خلال صدور قوانين المالية التي تأتي دائما بالجديد في المجال الضريبي مما يجعله قانونا سريع التغيير و لا يعرف استقرارا نسبيا كباقي فروع القانون الأخرى"[14].
4- بالإضافة إلى هذه العلاقات الوطيدة التي يربطها القانون الجبائي، بفروع القانون العام الداخلي؛ نجده ينسج علاقات متينة ما فتئت تزداد كما،و تتقوى نوعا؛ مع القانون العام الخارجي:فالقانون الضريبي، يمثل سيادة الدولة على إقليمها و سكانها[15]، غير أنه  في زمن الاعتماد المتبادل بين الدول و المجتمعات، لم يعد للحدود معانيها القديمة،و فقدت" السيادة" معانيها التقليدية،و كذلك صارت السياسة القائلة بأن " كل دولة تستطيع أن تهتم بأمورها الجبائية بغير أن يتدخل فيها أحد"، أمر منسيا.لكل هذه الأسباب، و غيرها كثير، أصبحت حركية رؤوس الأموال و الثروات، و هي جوهر اهتمام القانون الجبائي، تحتاج إلا اتفاقيات و معاهدات دولية لتنظيمها، و حل مشاكلها، لا سيما في قضايا الازدواج الضريبي الدولي[16]، و الإعفاءات الممنوحة للهيئات الدبلوماسية و القنصلية،أو اعفاءات ضريبية أخرى، تمنح بسبب العرف الدولي أو المعاملة بالمثل، لفئات خاصة من الأجانب، ينص على إعفائهم بموجب معاهدات تعقد بين الدول(كالإعفاءات التي تمنح بسبب ووجود قوات عسكرية حليفة فوق إقليم الدولة، و كذا الإعفاءات التي تمنح للخبراء الأجانب،و للبعثات الثقافية و غيرها)[17] .
الفرع الثاني- علاقة القانون الجبائي بالقانون الخاص[18]:
يولي القانون الجبائي، اهتماما كبيرا بقضايا و مواضيع الملكية، و العقود، و الشركات، و التجارة و التجار،و تدبير الأموال و الأعمال..و ما شابه؛ إذ أنها، في مجملها، تمثل أوعية،للضرائب المباشرة و غير المباشرة.و من ثم، فمن الطبيعي، أن تربط القوانين التي تنظم و تؤطر هذه المواضيع و القضايا، علاقات وثيقة بالتشريع الضريبي، و من أهمها القانون المدني، و القانون التجاري، و القانون المحاسبي، و القانون الجنائي:
1- علاقته بالقانون المدني:إن المجال الذي ينشط فيه القانون الضريبي، منظم أصلا بالكثير من قواعد القانون المدني:فأهم الأعمال التي تقوم بها المقاولات هي إبرام العقود(عقد شراء، و عقود توظيف،..إلخ)،و التي تترتب عنها ضرائب(دخل،قيمة مضافة..).إلا أن المشرع الجبائي، لا يعرف هذه العقود( مثل عقد البيع)، بل يحيل على القانون المدني.هذا مثال عن العلاقة التي توجد بين القانونين.
2- و شبيه بهذا، علاقته بالقانون التجاري:فالقانون الجبائي يحيل على قواعد القانون التجاري، من ذلك مثلا إنه يخضع التاجر للضريبة،و لكن دون تحديد مفهوم التاجر،بل يعتمد في ذلك على القانون التجاري.و من ذلك أيضا أنه عندما ينص على تضريب انتقال الأصول التجارية،لا يقوم بتعريفها، بل يحيل ضمنيا على القانون التجاري؛
3- علاقته بالقانون المحاسبي:يعتمد القانون الضريبي كثيرا على القانون المحاسبي،إذ تجري عمليات المراقبة و الفحص على محاسبة المقاولات، وفقا لأحكام القانون المحاسبي، هذا على سبيل المثال لا الحصر؛
4- علاقته بالقانون الجنائي:يعتبر القانون الجنائي أداة من الأدوات التي تكفل تنفيذ القوانين الضريبية،من خلال تطبيق العقوبا الجنائية (الغرامات المالية، و العقوبات الحبسية أيضا)،على الممولين الذين يخالفون قواعد القانون الضريبي.
المطلب الثاني:استقلالية التشريع الجبائي:
عندما بدأت الدول الأوربية، تسن القوانين الجبائية،وفق المفهوم الحديث للتشريع الجبائي، في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، كانت الساحة القانونية، مليئة بالقوانين التي تنظم علاقات الإدارة بالمواطنين، و تنظم علاقات الخواص فيما بينهم.
و هكذا، عندما " ولد " التشريع الجبائي، كان مضطرا إلى أن يشق طريقه، في زحام هذه القوانين،فتأثر بها؛و اقتبس منها مفاهيم و مصطلحات و نظريات و غيرها. من هنا، فلقد بدا التشريع الضريبي، لبعض الباحثين، قانونا طفيليا، عاش و يعيش، بفضل ما وفرته و توفره له القوانين الأخرى من لبنات ( مفاهيم ، و قواعد، و مبادئ..)، يستعين بها  ليشيد بها صرحه "القوي المتين".
إلا أن هناك،من يرد على هذا الرأي بأنه ، و إن كان صحيحا إلى حد ما، فهو ليس صحيحا مائة بالمائة؛ إذ أن القانون الجبائي، و إن كان قد اقتبس من غيره، إلا أنه كان يعمد إلى تغيير ما اقتبسه، و يعيد تشكيله و صياغته، بما يتناسب و مصالحه و أهدافه، مما جعله يحافظ على خصوصية تميزه عن غيره من القوانين، و تجعله يبدو مستقلا عنها. و تاريخ تطور هذا القانون  يشهد على ذلك.و قد يكون من المفيد أن نسوق مثالا مشهورا، من تاريخ التشريع الجبائي الفرنسي، لتفسير و توضيح و تأكيد هذا الرأي. فمن المعلوم، أن المشرع الجبائي الفرنسي، عندما قرر بمقتضى قانونين صدرا على التوالي في 1914 و 1917، فرض الضريبة على الدخل (دخل الأشخاص الطبيعيين مثلا)، أخذ بمفهوم" الدخل"  المعتمد في القانون المدني الفرنسي،و الذي يرتكز على "نظرية المصدر"(Théorie de la source)، و التي سبق لنا الحديث عنها في المحاضرات.و من ثم،اعتبر المشرع الجبائي الفرنسي، أن الدخل لا يعتبر خاضعا للضريبة، إلا إذا استوفى الشروط التالية جميعها:
1.    أن يكون مصدر هذا الدخل معروفا ( محددا)؛
2.    أن يكتسي هذا الدخل طابع الانتظام و الدورية ( بمعنى أن يكون مصدره قابلا للبقاء لمدة طويلة نسبيا):فالراتب يعتبر دوريا،لأن الموظف يحصل عليه كل شهر، أما الأرباح التي يحصل عليها الشخص، بصورة عرضية(كجوائز اليانصيب)،لأن الحصول عليها، لا يتم بصورة دورية؛
3.    أن يكون لهذا الدخل طابعا نقديا ( أو قابلا للتقييم النقدي):فالأجور،مثل،تعتبر دخولا نقدية، في حين أن سكنى الفرد لدار يملكها، و كذلك المواد العينية التي يحصل عليها، لا تعتبر أيضا من الدخول،إلا إذا أمكن تقديرها بالنقود[19].
غير أنه،سرعان ما تبين للمشرع أنه لا يمكن الاعتماد على هذا المفهوم؛ لأنه يضر بمصالح الخزينة؛ إذ يؤدي إلى عدم اعتبار منتجات المناجم ، مثلا، من قبيل الدخل؛لأنها تؤدي إلى نضوبها المستمر.بل إن أجر العامل، طبقا لهذا المفهوم، لا يعد من قبيل الدخل؛لأن العامل نفسه، لا بد و أن تصيبه الشيخوخة( أو المرض)، في يوم من الأيام. كما أن المكاسب الرأسمالية،لم يكن بالإمكان اعتبارها من عناصر الدخل الخاضع للضريبة على الدخل؛لعدم اتصافها بصفة الانتظام و الدورية.ليس هذا فقط،بل الكثير من المداخيل العينية،ظلت معفاة من هذه الضريبة،لأنها غير قابلة للتقييم النقدي.
و من هنا،قرر المشرع الفرنسي التخلى عن "نظرية المصدر" المعمول بها في" القانون المدني"، ليتبنى نظرية أخرى،هي نظرية "الإثراء"(Théorie de l'enrichissement)(أو نظرية ازدياد القيمة La Théorie de la plus-value)، و بذلك أصبح الدخل(الجبائي) عبارة عن " القيمة النقدية"، للزيادة في ثروة الشخص الاقتصادية، بين تاريخين (أو خلال فترة زمنية معينة)؛ و بذلك لم يعد الدخل يقتصر على كل ما يتصف بالدورية؛بل يتسع مداه بحيث يشتمل المكاسب الرأسمالية، التي تحدث  و لو مرة واحدة،بطريقة عرضية دون أمل في تكرارها( كأموال الإرث، و الهبة، و الوصية، و جوائز اليانصيب،و الزيادة في قيمة الرأسمال..)، و المنافع و الخدمات التي يمكن تقدير قيمتها النقدية( على وجه التقريب)[20].
من خلال هذا المثال المشهور، يتبين أن المشرع الجبائي،لا يتقيد بالمفاهيم السائدة في القوانين الأخرى، فهو يأخذ بها مادامت تحقق أهدافه، فإذا تبين له أنها تتعارض مع مصالحه، لا يتردد في التخلي عنها، لتبني مفاهيم أخرى موجودة ، أو يصنعها بنفسه.و الأمثلة على ذلك، كثيرة، لا بنجدها في القانون المدني فحسب، بل في قوانين أخرى؛كما يتجلى في ما يلي:
1- فهو لا يعترف بمبدأ حرية التعاقد( "العقد شريعة المتعاقدين")، لا سيما فيما يتعلق بالضريبة على الأرباح العقارية:فالإدارة الجبائية، لا تعتد بالمراكز القانونية، بل تركز اهتمامها على واقعية العمليات، و من هنا نراها تشكك دائما في الأثمنة المصرح بها، و تعتقد أن هناك ما يسمى بـ" النوار"، فتعمد إلى إعادة تقويم العديد من عمليات البيع[21]؛
2- رغم أنه يحيل على تعريفات القانون التجاري،و يستعين بقواعد و مفاهيم هذا الأخير،إلا أن القانون الجبائي، كثيرا من يصوغ مفاهيمه الخاصة، من ذلك على سبيل المثال أن القانون الضريبي يعتبر الشركات الفعلية(Stés de fait)، التي تضم أشخاص معنوية شركات قائمة بذاتها و يخضعها للضريبة على الشركات، في حين أن القانون التجاري لا يعترف لها بأي شخصية معنوية.و على العكس من ذلك لم يعترف القانون الضريبي بالشخصية المعنوية للشركات العقارية الشفافة، بل اعتبر كل مساهم في حصص هذه الشركة مالكا، أخضعه في حالة التخلي عن حصته للضريبة على الأرباح العقارية كباقي الأشخاص الطبيعيين؛
3- فيما يخص علاقته بالقانون الإداري ايضا،نلاحظ أنه يبتعد عن مفاهيم هذا الأخير،فالمركز القانوني للمواطن كملزم، يختلف عن مركزه القانوني كخاضع للقانون الإداري:فقد لا تمنحك البلدية مثلا، ترخيصا بممارسة نشاط معين في محل معين، و لكن الإدارة الجبائية مع ذلك تلزمك بأداء الضريبة، عن النشاط الذي تمارسه (بطريقة غير قانونية)[22].
بالإضافة إلى ذلك،فإن ذاتية التشريع الجبائي، تتجلى أيضا- بل خصوصا- في الامتيازات التي متّع بها المشرع الإدارة الجبائية،بمنحها الحق في تقدير الوعاء الجبائي في الكثير من الحالات، كما منحها الحق في الاطلاع على دفاتر و سجلات و وثائق الملزم الخاصة، و مراقبة صحتها، و كذلك فرض جزاءات على الملزمين الذين يخالفون التشريع الجبائي.
و تتجلى ذاتية هذا القانون كذلك، في أن المشرع جعل الدين الضريبي، دينا محمولا لا مطلوبا،و جعله واجب الأداء على الرغم من المنازعة في صحته أو في مبلغه.بل و منح الخزينة الحق في القيام بالإجراءات التحفظية على أموال المكلف لضمان تسديد الديون، و غيرها من الامتيازات التي رأينا بعضها و سنرى بعضها الآخر[23].
قد نصدق هذا الحديث عن ذاتية التشريع الجبائي، و لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو:هل من الضروري أن نخصص مساحة لهذه الذاتية؟ هل من الضروري أن يبتعد التشريع الضريبي عن التشريعات الأخرى، حتى ليبدو أحيانا كأنه خصما أو عدوا لها؟
يخيل لي، أن المشرع في بعض البلدان يكيل بمكيالين مختلفين ، فعندما يريد أن يسن القوانين الجبائية، يتخذ موقفا ، يرى من خلاله الأمور من زوايا غير تلك التي ترى منها التشريعات الأخرى المجتمع و قضاياه و مشاكله:فهو ينأى بنفسه، و لا يريد أن يربط نفسه بالقوانين الأخرى، لأنه يدرك أنه إن تبنى وجهات نظرها، قد يفقد فعاليته و صرامته، و قد يفشل، بالتالي، في تحقيق أهدافه، التي ترسمها له الحكومة( و المتمثلة في جمع أكبر كمية من النقود).
و هذه الظاهرة تلاحظ بالخصوص في الأعمال التشريعية، الصادرة عن برلمانات العالم " المتخلف"؛حيث نجد بعض القوانين تذهب في اتجاه، و التشريع الضريبي، يذهب في اتجاه معاكس.أما في الدول الديمقراطية،فإن المشرع،سواء كان بصدد سن قوانين جبائية أو غيرها، فإنه يعمل بنفس الأسلوب، و يقيس الأمور بنفس المعايير،و من ثم نحصل على قوانين ليس فيها تنافرا و لا تناقضا كبيرين ، بين القانون التشريعي و القوانين الأخرى،كما يحصل في الدول التي يقال بأنها "نامية".
غير أن الخصائص الذاتية للتشريع الجبائي، لا تنبع من دوره الوظيفي، أو المهام المناطة به سياسيا، باعتباره وسيلة لتغذية خزينة الحكومة بالأموال فقط؛ بل ترجع أيضا، إلى أسباب تاريخية ، تمتد بجذورها بعيدا في التاريخ، لا سيما التاريخ الأوربي، و من هنا أهمية البحث في العوامل التي أثرت في نشأته و تطوره..
المبحث الثالث:نشأة و تطور القانون الجبائي:
إن ظهور و تطور القانون الجبائي، كنظام قانوني شامل، هو ظاهرة جديدة بالنسبة للكثير من الدول، لا سيما الدول الغربية و التي تأثرت بتشريعاتها. و أحد الأسباب التي تفسر ذلك، هي أن هذه الدول لم تعرف من قبل نظاما جبائيا شاملا، قبل القرن التاسع عشر.يضاف إلى ذلك أن أغلب الحكومات ، كانت تعتمد في تغذية ميزانياتها العامة، على مداخيل غير جبائية، مثل مداخيل الدومين الملكي، و مداخيل كراء العقارات المملوكة للدولة[24].
هذا فضلا على أن فرض الضرائب، على المداخيل و الثروات، لم يكن يلقى تأييدا من رعايا هذه الدول.فقد كانت الضرائب، في هذه المرحلة من التاريخ،تعتبر اداءات أو مساعدات استثنائية، يقدمها الرعايا،بمناسبات معينة، و لتغطية نفقات بعينها،كنفقات الحروب،و الكوارث الطبيعية.و كان يطلق على هذه المساعدات حينذاك المصطلح اللاتيني (precarium).
و يؤكد المؤرخ الأمريكي " جورج نيكوليف"(G.Nikolaieff)،أن هذه المساعدات التطوعية الاستثنائية، تطورت،بمرور الوقت، إلى " مساعدات منتظمة"، ثم ما لبثت هذه الأخيرة أن صارت إجبارية،أي أن الحكام أجبروا الأفراد قسرا على دفع تلك المساعدات، التي لا شك أنها تطورت هي الأخرى مع الزمن:و قد عبر عن هذا الأداء القسري في اللغة الإنجليزية (imposition)، و بالفرنسية (impôt)، و كان يعني الضريبة عموما[25].
 و كان الملوك الأوربيون ، مثل ملوك انجلترا و فرنسا، يتجنبون اللجوء إلى هذه الضرائب؛ لأن فرضها كان يتطلب موافقة الشعب، أو على الأقل موافقة الفئات القوية من الشعب( النبلاء ، و الإقطاعيون). و هذه الفئات، غالبا، ما كانت تعارض فرض ضرائب جديدة، أو تشترط شروطا للموافقة عليها، لا يقبل بها الحكام. و من هنا،فقد كانت إيرادات الدومين، كما سبق القول، هي الإيرادات العامة العادية، أما الضرائب فكانت مداخيل تكميلية، لا يتم الاستعانة بها إلا إذا اضطرت الحكومة إلى ذلك، و في حالات الضرورة القصوى[26].فالضرائب اقتطاعات من ثروات الناس.و الاقتطاع، كعمل عنيف و قاسي، لم تكن الشعوب لتقبله في الظروف العادية.بل كان لا بد من وجود، ظروف أقسى و أعنف، أو تهدد بما هو أسوأ،ليتحمل الناس التنازل عن أجزاء من ثرواتهم، بمحض إرادتهم.و كانت هذه الظروف، في الغالب، هي الحروب، أو الخوف من الحروب. و من هنا، لا نستغرب أن ارتبطت نشأة الضريبة، منذ أقدم العصور، بالحروب[27].فظروف الحرب، هي التي ألجأت الحكومة البريطانية إلى فرض أول ضريبة مباشرة على الأرض (land tax)(منذ 1739)[28]؛ و هي التي دفعت بها إلى فرض ضريبة الدخل(income tax) البريطانية ، سنة 1799،و كانت في الأصل ضريبة استثنائية، ضربت لتغطية تكاليف الحرب، ضد نابلون بونابرت(N.Bonaparte)(1814-1800)، و ألغيت سنة 1802،ثم فرضت من جديد سنة 1842،على أساس أنها مؤقتة؛إلا أنها استمرت إلى يومنا هذا.و كذلك ضريبة الدخل الأمريكية، فرضت بمقتضى قانون صادق عليه الرئيس السادس عشر "أبراهام لنكولن"(A.Lincoln)، في يوليو 1862، لتمويل الحرب الأهلية(1861-1865)، و بقيت حتى سنة 1871، حيث ألغيت،على أساس أنها غير دستورية،و استمرت محاولات فرضها دون جدوى،حتى سنة 1913،حيث فرضت كضريبة دائمة بعد تعديل الدستور[29].
ثم ازداد الاعتماد على الضرائب في تمويل حاجيات الدولة،خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، نتيجة الثورة الصناعية، و ما نتج عنها من ازدهار اقتصادي في بلدان أوربا الغربية، تمثل في ازدياد مقادير الدخول الناشئة عن العمل و الرأسمال، و ازدياد المبادلات في الداخل و الخارج،و ظهور دخول جديدة كإيرادات الأوراق المالية، و دخول المهن الحرة و مرتبات المهندسين و أجور العمال،..إلخ.لاسيما و قد تزامن ذلك مع ازدياد النفقات العامة، لتغطية حاجيات سياسات الإصلاح العامة، التي انخرط فيها بعض الحكام الأوربيين،و التي شملت مختلف المؤسسات السياسية ، و الاقتصادية، و الإدارية، و العسكرية[30].و نتيجة لكل لذلك؛ توسعت الدولة في الالتجاء إلى الضرائب، لا سيما الضرائب على الدخل؛ و كأن الحكام، أرادوا تقليص اعتمادهم على النبلاء الاقطاعيين،أو لم يرغبوا بالاصطدام معهم، فخففوا الأعباء عن العقارات[31]،من جهة،كما أنهم عملوا على التخفيف من العبء الذي كان يحمله الفقراء، جراء الضرائب غير المباشرة(العمياء بطبيعتها، و من تم تكون شديدة الوطأة على الفقراء).و منذ هذا التاريخ،صارت الضرائب، لا سيما الضرائب المباشرة  و غير المباشرة  المضروبة في المدن، مصدرا رئيسيا لموارد خزينة الدولة.إلى درجة أن دخلها منها زاد- لأول مرة في تاريخ أوربا- على دخلها من أملاكها(الدومين)[32].من هنا،و نتيجة لهذا الاهتمام المتزايد الذي أصبحت تحظى به الضريبة لدى الحكام،صارت مدارا لبحث و نقاش رجال السياسة، و الإداريين، و القضاة و غيرهم.فنتج عن ذلك تراكما معرفيا،و تراكم في الخبرة، في مجالات التشريع و التطبيق و القضاء ..المتعلقة بالضريبة.
و منذ هذا التاريخ، بدأت تحتل النظريات المتعلقة بالضريبة،اهتماما لدى علماء الاقتصاد و القانون و المشرعين أيضا. و في هذه المرحلة بالذات طرحت أهم إشكالية في القانون الجبائي- ما زالت تؤرق الباحثين، و رجال القانون،و السياسة، و غيرهم-،ألا وهي كيفية التوفيق بين مصلحة الخزينة و مصلحة المكلفين.و لعل كتابات أقطاب الفكر الاقتصادي الكلاسيكي،من أمثال " الفزيوقراط"(Physiocrates)[33]، مثل " آدم سميث"(A.Smith)(1790-1723)، تؤرخ لهذا التحول،و حاولت أن تحل هذا الإشكال.فليس من الصدفة أن يتحدث "سميث" في كتابه " ثروة الأمم"(1776)،في هذا السياق التاريخي، عن "قواعده الأربع" التي يجب على المشرع و الإدارة الجبائيين الالتزام بها،في تنظيمهما للضرائب،بغرض التوفيق بين المصلحة العامة للدولة و المصالح الخاصة للمكلفين، و هي : العدالة، و اليقين، و الملاءمة، و الاقتصاد؛ والتي أصبحت".. تشكل الأسس التقليدية للضريبة، حتى أن بعض الكتاب قد عبّر عنها بأنها "إعلان حقوق الممول".."[34].
إلا أن كل هذه التحولات لم تعتبر كافية ، بالنسبة لبعض الباحثين، للقول بنشأة النظم الجبائية الحقيقية، في القرن الثامن عشر.فمفهوم الضريبة، لا يظهر معناه واضحا ، و لا تظهر آثاره إلا بظهور دولة حقيقية، يوجد فيها دستور، و تمثيل ديمقراطي حقيقي،يعطي لمبادئ شرعية الضريبة، و المساوة أمام الضريبة، و المساواة في تحمل الأعباء الضريبية، و غيرها من المبادئ؛ معانيها الحقيقية.و الضريبة بهذا المفهوم الأخير، لم تكن معروفة قبل القرن التاسع عشر، في معظم دول أوربا الغربية و أمريكا الشمالية.لأن الضريبة، و فق هذا المفهوم، و كما عبّر عن ذلك عالم الاقتصاد الألماني " لورنز فون ستاين"(L.Von Stein)(1815-1890)، أحد القائلين بهذا الرأي:".. لا تنشأ عندما تكون هناك جباية قسرية، من قبل السلطة القائمة للحصول على بعض المبالغ المالية لسد النفقات العام، بل تنشأ عندما تقوم الدولة بواسطة سلطاتها التشريعية و التنفيذية و القضائية، بتحصيل الإيرادات الضريبية بالطرق الدستورية، على أساس من قدرة الفرد المكلف الاقتصادية.."[35].
ورغم أن هذا الرأي صدر عن مفكر ، اعتبر من المحافظين، إلا أنه لقي تأييدا حتى في صفوف المفكرين الليبراليين و التقدميين؛ذلك أنه بدا لأنصاره، كما لو كان يترجم حقيقة علمية، لا تقبل النقاش، لا رأيا إيديولوجيا (منبثق من رؤية سياسية معينة).
وعليه،صار لدى الرأي العام الأوربي،و خاصة لدى الفئات المثقفة، فكرة عامة مفادها أنه للقول بوجود تشريع جبائي، لا يكفي أن تكون هناك سلطة قادرة على فرض الضرائب و جبايتها، بل يجب أن يتم ذلك وفق أسس دستورية،تراعي العدالة الجبائية، و إلا فهي مجرد مصادرة للأموال بالإكراه.و كأن أنصار هذا الرأي، يربطون نشأة الضريبة، و من ثم نشأة التشريع الجبائي، بنشأة مفهوم شرعية الضريبى،أي بمدى قبول ممثلي الملكلفين لها، بواسطة ممثليهم في البرلمان:و بتعبير آخر فهم يربطون نشأة النظام الجبائي، بنشأة النظام التمثيلي، أي البرلماني.
و الحاصل،أن التشريع الجبائي نشأ،عندما صار للضريبة مفهوما خاصا، يقضي بفرضها حسب أسس قانونية، تستند إلى قواعد دستورية..، و هذا شرط تحقق في بعض دول أوربا في القرن التاسع عشر، و ربما تحقق قبل ذلك في إنجلترا أو السويد( منذ عهد كارل الثاني عشر(1682-1718) )[36].
وفي الواقع، هناك من المؤرخين من يربط بين الاثنين ، كما سنرى فيما يلي..
المبحث الرابع:سلطة التشريع الجبائي:
إن السلطة التي يحق لها سن الضرائب، غالبا ما يحددها القانون الأسمى في البلاد، أعني الدستور. و أغلب الدساتير اليوم، تسند صلاحية التشريع الجبائي، إلى البرلمان.و حتى في الدول التي ليس لها دستور مكتوب،كبريطانيا، فإن التشريع الجبائي يعتبر حقا حصريا للبرلمان.
و هذا المبدأ يعني، أن كل الالتزامات التي تلقى على كاهل الملزمين بالضريبة، يجب أن تحدد في القانون الجبائي،أي في النصوص ذات الصلة بالضرائب، التي يناقشها ممثلو الملزمين، و يقبلوها، بطريقة شرعية (و مشروعة إن أمكن).
و لقد أصبح مبدأ شرعية الضريبة، مبدأ دستوريا منصوصا عليه، في جميع الدساتير.و الحقيقة أن الأصول التاريخي لهذا المبدأ ، هي نفس الأصول للحقوق السياسية، و التمثيل الديمقراطي، و الحياة البرلمانية، في الدول الغربية:في إنجلترا،و اسبانيا، و فرنسا.و هذه الأصول، تمتد بجذورها إلى القرن الثالث عشر، في أنجلتر،على سبيل المثال:ففي تلك المرحلة من التاريخ الإنجليزي، كان الملك لا يفرض ضرائب جديدة  إلا بعد الحصول على موافقة النبلاء الإقطاعيين.إلا أنه لما وصل  الملك " جون"(Jean sans Terre )، إلى الحكم سنة 1199م، طالب الإقطاعيين بمزيد من " الضرائب" أو " المساعدات"؛فتمروا عليه،سنة 1213م، و نادوا بالحد من سلطاته، و صاغوا قائمة بالحقوق التي يجب على الملك عدم المس بها، تلك الوثيقة، هي التي عرفت باسم "الماجناكارتا"(Magna Carta=Grande Charte)،و هو كلمة لاتينية، يمكن ترجمتها بـ" العهد الأعظم": و في 15 يونيو 1215، اضطر الملك جو إلى الموافقة على هذه الوثيقة ، تحت تهديد السلاح[37].
و نصت هذه الوثيقة، ضمن حقوق أخرى، على أنه لا يجوز للملك ، فرض أي ضرائب إلا بموافقة النبلاء. و وافق ملوك انجلترا، في السنوات اللاحقة، على شروط هذه الوثيقة، و اعتبرت جزءا من القانون الأساسي ( الدستور).و لد نشأت الحياة البرلمانية،في بريطانيا و من ثم في الدول معظم الدول الأوربية،نتيجة الاجتماعات التي كان يعقدها الملك مع النبلاء و رجال الكنيسة،للموافقة على الضرائب التي يفرضها.و ابتداء من سنة 1295،قام الملك بتوسيع هذه الاجتماعات،ليضم إليها فرسانا منتخبين من كل مقاطعة، و اثنين من سكان كل مدينة. و يعتقد الكثير من المؤرخين أن هذا البرلمان- الذي يسمى أيضا البرلمان النموذجي الإنجليزي-، هو الأصل الذي تطورت عن الحياة البرلمانية الانجليزية ، فيما بعد.و لقد ازدادت أهمية هذا البرلمان، بمرور الوقت، و يكفي أن نشير إلى أنه في سنة 1297، أقر الملك حقه في إبداء الرأي بالموافقة أو الاعتراض، على الضرائب التي يقترحها الملك[38].
 و هكذا،فلقد استخدمت وثيقة " الماجناكارتا" ، منذ القرن 13،أساسا بنيت عليه الحياة النيابية في أوروبا ، و بنيت عليه أيضا الحجة القائلة بأنه لا يجوز إصدار أي قانون أو فرض أي ضريبة، دون موافقة ممثلي الشعب،أو البرلمان.
إلا أنها؛ ليست هي الوثيقة الوحيدة الأساسية في التاريخ الدستوري الإنجليزي خاصة ، و الدساتير الغربية عامة،التي استخدمت للحد من رغبة الملوك، في الاستبداد بالرأي فيما يتعلق بفرض الضرائب.بل هناك وثائق أخرى، لا تقل اهمية عن " الماجناكارتا"، مثل وثيقة " قانون الحقوق" (Bill of Rights)، التي اصدرها البرلمان الانجليزي سنة 1689، و من أبرز ما تضمنته من حقوق؛ الحق " في ألا تفرض ضرائب جديدة، دون موافقة البرلمان".و لقد كان لهذه الوثيقة تأثير كبير على إعلانات الحقوق التي ظهرت في أمريكا الشمالية فيما بعد، لاسيما " إعلان الاستقلال الأمريكي" ؛ الذي أعلنت بمقتضاه المستعمرات الأمريكية،نهاية ولائها للتاج البريطاني،في سنة 1776.و قد نشأ هذا النزاع أصلا،لأن الحكومة الإنجليزية تمسكت بحقها في فرض الضرائب على مستعمراتها بكل حرية،في حين لم يعترف  سكان المستعمرات بهذا الحق؛لأنه يتعارض مع مبدأ" لا ضريبة بدون تمثيل"(no taxation without consent)[39].و فيما بعد، عندما حان الوقت لوضع الدستور الفدرالي (الاتحادي) الأمريكي، لم ينس المشرعون الدستوريون هذا المبدأ،فأدرجوه في الدستور، ليعطوه  ضمانة أكبر[40].
و عقب التجربة الأمريكية، انتقلت عملية "إعلانات الحقوق"، إلى فرنسا،و  أشهرها" إعلان  حقوق الإنسان و المواطن"(La Déclaration des droits de l'homme et du citoyen) الفرنسي، الصادر بتاريخ 26 غشت 1789.فقد تضمن الفصل(14) من هذا الإعلان، النص على أن " للمواطنين الحق في أن يتأكدوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم،من ضرورة الضريبة العامة، و أن يرتضوها بحرية، و ان يتابعوا استخدامها و تحديد مقداها و تحصيلها و مدتها"[41].
ثم جاءت الدساتير لتضع تلك الإعلانات موضع التنفيذ، ابتداء من الدستور الأمريكي( و التعديلات التي أدخلت عليه)،ثم دستور الثورة الفرنسية لسنة 1791[42]،فصاعدا.
و فيما بعد عندما ازدهرت الحركة الدستورية في أوربا و أمريكا  و آسيا و بعض بلدان افريقيا (كمصر)[43]،اقتبس المشرعون الدستوريون هذا المبدأ  من الدساتير الأمريكية و الفرنسية، ابتداء من القرن التاسع عشر، و خاصة بعد الحرب العالمية الأولى .
و هكذا، يمكن القول، أن مبدأ" شرعية الضريبة"، أصبح، منذ القرن العشرين مبدأ دستوريا عالميا.إلا أن هذا الانجاز،على أهميته، لم يكن هو الغاية من النضال لأجل " دسترته"؛ذلك أن الضرائب قد تكون شرعية، و لكنها قد لا تكون مشروعة؛أي لا تحظى برضى الناس.هذا من جهة.و من جهة أخرى،فقد تسن الضريبة وفق الإجراءات القانونية،و لكنها قد تنطوي على مخالفات لحقوق و حريات المواطنين، أو تطبق ( من طرف الإدارة الجبائية = fisc)، بطرق تفرغها من محتواها، الذي يحميه القانون، أو الدستور نفسه[44].و من هنا، فإن احترام مبدأ شرعية الضريبة، قد لا يكون كافيا في حد ذاته، و من هنا، الحاجة لأن يحتوي التشريع الضريبي، ضمانات أخرى[45].لاسيما و أنه قد تظهر الحاجة،في بعض الأحيان، إلى أن تقوم السلطة التنفيذية بسن الضرائب و جبايتها، بموافقة السلطة التشريعية(الدستور المغربي مثلا، يسمح بذلك)،أو حتى دون علمها:فتتمركز كل السلطات بيد واحدة. و في ذلك، لا شك، خروج على مبدأ شرعية الضريبة، أو مبدأ " لا ضرائب دون تمثيل"[46].و لكن، مع ذلك،هناك من يدعو،من الفقهاء،إلى إعادة النظر في هذا المبدأ، و عدم التعاطي معه بصرامة، إذ أن الظروف قد تتطلب إدخال تعديلات جبائية عاجلة، لا يمكن إخضاعها للمسطرة التشريعية العادية[47].
 المبحث الخامس:حدود التشريع الجبائي:
 تملك السلطة التشريعية - سواء كانت ممثلة للمجتمع كله، أو لبعضه فقط - ،سلطة واسعة في سن الضرائب، من حيث المبدأ العام.غير أنه من الخطأ الاعتقاد أن هذه السلطة مطلقة؛ بل هي مقيدة بقيود كثيرة تفرضها على المشرع الجبائي بعض الظروف و الملابسات التي تجتازها الدولة، أو الأحوال التي يمر منها المجتمع، أو بعض الحسابات التي تفرضها توازنات القوى السياسية أو الاجتماعية الداخلية، أو حتى القوى الأجنبية.
 و إذن؛ فالمشرع الجبائي، يجد نفسه مطالبا بمراعاة ، مجموعة من المعطيات، و أخذ مصالح الكثير من الفئات بعين الاعتبار، عند سن أي قانون جبائي جديد أو تعديله.و بتعبير آخر، فالسلطة المخولة للمشرع الجبائي، مقيدة بحدود، لا يمكنه تجاوزها، دون أن يثير اعتراض أو احتجاج، أو حتى تمرد فئة أو فئات اجتماعية متضررة، من تلك التجاوزات[48].هذه الحدود و القيود، هي ما سنحاول الإشارة إلى أهمها،فيما يلي:
1- إن المشرع الجبائي، هو في حقيقته حامل إيديولوجيا سياسية(= حزب سياسي )، يسعى لتطبيقها، بما يقوي موقعه السياسي، و مواقع حلفائه،و إضعاف خصومه(=السياسة). و من طبيعة الحال، فهو يعمل على تغطية كل أهدافه (الخاصة)، بغطاء المصلحة العامة، حتي يسهل عليه " تسويقها" لدى الرأي العام.و قد تكون أهداف المشرع الجبائي مطابقة للمصلحة العامة، و قد لا تكون،فهو يجد نفسه في الكثير من الأوقات حائرا بين خيارين:  ترجيح كفة المصلحة العامة أم مصلحة الحزب ( و الحلفاء)؟
و عموما، فالمشرع الجبائي، عندما يريد سن قانون جبائي، يجري حسابات كثيرة، و يحاول أن يرضي أكثر من طرف، حتى و إن كانت له الأغلبية داخل البرلمان، فالحكم لا يعتمد على الشرعية( Légalité=الحكم وفقا للقانون) فقط، بل على المشروعية ( = Légitimité رضى المحكومين) أيضا. من هنا، يلاحظ أنه في الكثير من الأحيان، تمضي الحكومات الديمقراطية، قدما في مشاريعها، غير ملتفة إلى المعارضة،  عندما تكون واثقة من أن مشاريعها تخدم المصلحة العامة، أو مصالح الأغلبية العظمى من المواطنين.
 و لكن عندما يكون موقع المشرع الجبائي ضعيفا داخل البرلمان، أو يكون مشروعه الجبائي ضعيفا ، و لا يحظى بتأييد الرأي العام ( تنقصه المشروعية)،فإنه يضطر إلى الدخول في مساومات و مفاوضات ، مع المعارضين داخل البرلمان و خارجه. و غالبا ما تتدخل الحكومة- الذراع التنفيذي للمشرع الجبائي، بل و صاحب المشروع الحقيقي- في هذه العمليات؛ فتستعمل مختلف أساليب الوعيد و التهديد، و الشد و الجذب، لتمرير مشروعها بسلام[49]، و تحويله من مجرد إيديولوجيا سياسية(مجرد فكرة) إلى قانون(واقع..ينفع و يضر). و في معظم الأحيان، تنتهي العمليات التفاوضية، بصفقات من نوع "رابح- رابح"،يتم من خلالها الحفاظ على مصالح الحكومة(صاحبة مشروع القانون الجبائي)، و مصالح الأطراف الأخرى( اللوبيات الاقتصادية و الاجتماعية، و الأحزاب، و النقابات،..إلخ)؛
2- من الحدود التي تقيد المشرع، هناك القيود المتعلقة بالشروط الاقتصادية، التي يفرضها على المشرع الجبائي، طبيعة النظام الاقتصادي، الذي ينتمي إليه النظام الجبائي(و هذه قضية، نقشنا جانبا منها، في مبحث سابق).ففي النظام الرأسمالي، الذي يستند على الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج و إلى النشاط الاقتصادي الخاص، و إلى البحث عن الربح..إلخ، لا يمكن للمشرع أن يسن من الضرائب إلا ما يتلاءم مع هذا النظام،فالضرائب التي تسن في ظل هذا النظام،إذن، يجب أن تترك للخواص القدرة اللازمة لإشباع حاجياتهم الشخصية و العائلية، و تترك لهم أيضا القدرة و الحرية على اتخاذ المبادرات لتمويل مشاريعهم الاستثمارية،كما لا يجب أن تضر بالباعث على الادخار..و عموما، يجب أن تترك لهم قدرا من الأرباح لتحريك كل بواعث الاستهلاك و الادخار و الاستثمار؛
3- و مما يرتبط بهذا، و ينتج عنه، حد آخر يتمثل في عدم قدرة المشرع على اختيار ما يشاء من التقنيات الجبائية:فقد يرسم خطة سياسية،و يحاول أن يستعين بالضريبة لتحقيقها، ثم لا يلبث أن يكتشف بأنه مقيد بقيود تقنية، قد تهدد سياسته بالفشل.فقد يسعى ، مثلا ، للحد من الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية ، عن طريق الضرائب ذات الأسعار التصاعدية،إلا أنه سرعان ما يكتشف أنه لا يمكنه فرض أسعار عالية جدا؛لأنه إن فعل، قد تعتبر خطوته تلك- من طرف خصومه السياسيين، و من طرف الملزمين أنفسهم- مجرد مصادرة للثروات و الدخول، و من ثم تصبح عائقا أمام الاستثمارات الخاصة، و قد ينتج عن ذلك بطالة، و تزداد بالتالي أوضاع الطبقات الاجتماعية الهشة- التي كان المشرع يريد حمايتها-،سوءا؛
4- و من أهم الحدود التي نصادفها في بعض النظم الدستورية،أن البرلمان لا يملك إلا صلاحيات محدودة في مجال التشريع عامة، و التشريع المالي و الجبائي خاصة ؛و ذلك بمبررات منها أن الضرائب تسن لتغطية النفقات العامة، أو بتعبير آخر، للإنفاق على البرامج الحكومية، و من ثم فإن الحكومات هي الأعرف بحاجياتها. كما أنها ،بحكم تحكمها في الإدارة و معرفتها بظروف المجتمع، و ملابسات تطبيق القوانين ؛ هي الأقدر على جباية الضرائب و تحصيلها ، كرها أو طوعا :من هنا، منحت الحكومات ، في هذه النظم الدستورية كالنظامين الفرنسي و المغربي، امتيازات خاصة فيما يتعلق بتقديم مشاريع القوانين الجبائية و تعديلها( و لقد تحدثنا عن هذه القضية الهامة في المحاضرات، و لن نكرر ما قلناه هنا[50]
5- هناك حد آخر، يتمثل في حدود " السيادة التشريعية"، على الملزمين:فكل برلمان له من حيث المبدأ، سيادة كاملة في التشريع ، تجاه جميع المقيمين على إقليمه ، و على المواطنين الذين يحملون جنسيته ، حتى و إن كانوا خارج الإقليم.إلا أن المبدأ، يخضع لحدود، عندما يتعلق الأمر بالتشريع في المجال الجبائي.و لتنظيم هذه الحدود، تم الاتفاق- بين المشرعين و القضاة و الفقهاء، عبر العالم- على وضع معيارين ، لتحديد" نطاق تطبيق القانون الضريبي":
أ- المعيار الأول،هو معيار إقليمية الضريبة(و يسمى أيضا معيار الإقامة الدائمة)[51]:فبعض الدول ترى أن من حقها تضريب جميع المداخيل التي تحقق داخل حدود إقليمها، مهما كانت جنسية الشخص ( الطبيعي أو المعنوي)، الذي يستفيد من ذلك الدخل،مادام مقر إقامته أو مركزه الرئيسي(بالنسبة للشخص المعنوي)، يوجد داخل حدود  البلد[52]؛
ب- المعيار الآخر، هو معيار جنسية الملزم:فبعض الدول تفرض الضرائب على مواطنيها (الذين يحملون جنسيتها)، بغض النظر عن مكان إقامتهم .
و لأن الأخذ بهذين المعيارين في نفس الوقت ، يؤدي إلى الازدواج الضريبي،الذي تحرص الدول على تجنبه و التغلب عليه- بواسطة الاتفقيات الثنائية، و المتعددة الأطراف، عندما يكون دوليا-؛فإن المشرع الجبائي يأخذ إما بمعيار الإقامة أو معيار الجنسية(راجع المدونة العامة للضرائب: المواد 5 و 23 على سبيل المثال)[53]،كما يحرص على ملاءمة تشريعاته الجبائية، مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة؛
6-إن القوانين الجبائية نفسها، التي يصدرها المشرع الجبائي، قد تصبح أول القيود التي تحد من صلاحياته في المستقبل:فصحيح أنها تكتسب حصانة بمجرد إصدارها؛ فتصبح واجبة التنفيذ،و لا يمكن تعطيلها أو الحد من هذا التنفيذ،بطرق مباشرة(كإلغائها)، أو غير مباشرة كتعديلها بقرارات للسلطة التنفيذية أو القضائية، بدعوى أنها مخالفة للدستور مثلا[54].إلا أنه، قد يصعب على المشرع الجبائي نفسه إصلاحها:فخبراء الضرائب يؤكدون أنه من الصعب القيام بإجراء إصلاح شامل للنظام الجبائي؛لأن الممارسات الجبائية إذا ترسخت يصعب اقتلاعها، و إحلال ممارسات جديدة محلها[55]؛
7- و مجموع القوانين الجبائية ، التي تطبق في زمان و مكان معينين ، تشكل فيما بينها نظاما جبائيا، أو هندسة جبائية،لا بد من أن يأخذها المشرع الجبائي بعين الاعتبار ، عندما يريد أن يفرض أي ضريبة جديدة أو يعدل ضريبة قديمة: فلا بد له من مراعاة انسجام  و تكامل الضريبة الجديدة، مثلا، مع باقي عناصر النظام، بحيث لا تشكل عبئا إضافيا على نفس الأوعية، كما يجب أن تربط معها صلات  على شكل شبكة بعيون صغيرة ،بدون أي ثغرات جبائية،حتى تمنع التهرب الضريبي؛فإذا كان المشرع يرغب في تضريب استهلاك مادة  معينة(الشاي مثلا) ،فعليه أن يقوم بضرب بديلها أيضا (القهوة)،حتى لا يتحول المستهلكون إلى القهوة، للتهرب من أداء الضرائب المفروضة على الشاي؛
8- و المشرع الجبائي ليس حرا، في فرض ما يشاء من ضرائب، دون الأخذ بعين الاعتبار الحالة التي توجد عليها الإدارية الجبائية في بلده، و ما بلغته من تطور تنظيمي ، و خبرة و فعالية إدارية، و ما تتوافر عليه من إمكانيات و قدرات مادية، و علمية و تكنولوجية، و صلاحيات قانونية.فالضرائب التي تعتمد على التصريحات و الإقرارات، من الملزمين أنفسهم أو من أطراف أخرى(كأرباب العمل)،لا يمكن دمجها في نظام جبائي معين ، إلا  إذا كانت الغدارة الجبائية، تتوافر على الإمكانيات المادية و البشرية و غيرها، التي تمكنها من مراقبة صحة تلك الإقرارات، و التحقق مما جاء فيها من معلومات صحية و أخرى زائفة[56]؛
9- و يرتبط بهذا الحد السابق، حد آخر، يتمثل في المستوى التعليمي و الثقافي، المشترك بين أغلبية الملزمين في الدولة التي ستفرض فيها ضريبة معينة.فإغفال هذا الحد يفسر لنا كيف و لماذا تفشل الكثير من المشاريع و الخطط الجبائية  في بلوغ أهدافها.فكيف يمكن للمشرع الجبائي أن يقر قانونا يلزم المكلفين بالضرائب على الدخل، أن يقدموا تصريحات بمداخيلهم، دون أن يكلف نفسه عناء التحقق مما إذا كان هؤلاء الملزمون قادرون على ملء الإقرارات الجبائية، أو فك "طلاسم " نماذج التصريحات التي تقدمها لهم الإدارات الجبائية؟!!؟ و كيف لمشرع يريد الأخذ بنظام الإقرارات، دون أن يكون متأكدا بأن الملزمين ينظمون سجلاتهم و دفاترهم و وثائقهم المحاسبية و غيرها، بطريقة مقبولة من الإدارات الجبائية ؛ مما يسهل عليهاإجراء المراقبة على التصريحات؟؟!!و كيف لمشرع جبائي، يريد أن يحارب التهرب و الغش الضريبيين، دون أن يضع نصب عينيه  قدرات الملزمين على فهم و إدراك مرامي خطته، و أهدافها " النبيلة"؟؟!!..و قس على هذا؛
و في الواقع ،إن الحدود التي تقيد يدي المشرع الجبائي، كثيرة و متنوعة، و قد يطول بنا الحديث لو حاولنا استعراض أهمها، ناهيك عن ذكرها جميعها،و لكن بعضها لا تحتاج إلى القليل من التمعن من الطالب ليدركها، من ذلك على سبيل المثال:
10- أن القاعدة القانونية الجبائية، على غرار جميع القواعد القانونية، لا يمكن أن تطبق بأثر رجعي، إلا في حالات قليلة( مثل الحالة، التي فرضت فيها بعض الدول الأوربية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأخيرة، على الأرباح و المداخيل، و الثروات ، التي اكتسبت خلال الحرب)[57]؛
11- و أنه لا يحق للمشرع أن يميز بين المكلفين، فيما يخص توزيع الأعباء العامة عليهم، بل يجب عليه أن يعامل جميع المكلفين على قدم المساواة:يخضع لمبدأ المساواة أمام الضريبة، جميع الأشخاص(و هذا من المبادئ الدستورية الأساسية..و القديمة أيضا،إذ أشار إليه الإعلان الفرنسي لسنة 1789 ).
و لا يعني هذا المبدأ أن يدفع جميع المكلفين نفس مقدار الضريبة، بل يجب أن يتناسب مقدار ما يدفعه كل واحد منهم، و قدرته على الأداء[58].بالإضافة إلى ذلك؛فإنه لا يجوز التمييز بين الأفراد استنادا إلى أي سبب آخر لا يرجع إلى المصلحة العامة:و بناء على ذلك، لا يجوز للمشرع الجبائي، إخضاع فئة لضريبة معينة،و عدم إخضاع فئة أخرى لنفس الضريبة، طالما تحققت في الفئتين نفس الواقعة المنشئة للضريبة[59]) لقد بحثنا هذه الأمور في المحاضرات، فارجع إليها، تجد تفاصيل أكثر حول هذه الجزئية).
و لكن هناك، حدود أخرى تحتاج من الطالب بعض التفكير، و الثقافة القانونية و السياسية،ليفقه كنهها، من ذلك..
11- الحدود التي تفرضها الالتزامات الدولية على الدول:فالدول لا تستطيع أن تعيش في عزلة، و هي منخرطة شاءت أم أبت في العلاقات الدولية، و تضطر إلى الانتماء إلى عدد من المنظمات الدولية الحكومية و غير الحكومية. و من هنا، يجد المشرع الجبائي، في كل دولة، نفسه مقيدا بالاتفاقيات الدولية و المواثيق الدولية التي صادق عليها بلده ، كتلك التي تشرف على إبرامها منظمة التجارة الدولية، في مجالات جبائية كثيرة، كالازدواج الضريبي الدولي- و قد أشرنا إليه -، و الرسوم الجمركية.أو مثل الإعفاءات الجبائية التي تمنح للدبلوماسيين و القناصلة، و أعضاء البعثات الثقافية،أو الخبراء العسكريين،و بعض الموظفين الممثلين للمنظمات الدولية..،بناء على العرف الدولي أو المعاملة بالمثل، أو المعاهدات الدولية؛
12- و من ذلك أيضا، أنه في الدول البسيطة، مثل المغرب، لا يحق للمجالس المحلية، مثلا، أن تفرض الضرائب المحلية بأسعار أعلى أو أقل من تلك التي تطبقها المجالس الأخرى، و المحددة حدودها ( سقفها الأعلى و قاعدتها الأدنى، بمقتضى القانون)[60]، و مبرر ذلك هو تحقيق المساواة بين المواطنين أمام التشريعات الجبائية."..هذا التقييد تم تكريسه في الإصلاح الجبائي لسنة 1989؛ فبالرجوع للمادة السادسة من هذا القانون، نجدها تنص على أنه في حالة عدم تحديد أسعار أو تعريفات ثابتة للضرائب و الرسوم، بمقتضى هذا القانون؛ فإنه تعود للآمرين بالصرف صلاحية هذا التحديد[...] لأن الصلاحية المقررة لفائدة الجماعات على هذا المستوى؛ تبقى محدودة جدا، باعتبار أن ما يزيد عن نصف الرسوم يتم تحديد أسعارها بشكل دقيق .."[61].


[1]  انظر مثل هذا التعريف، عند د.خالد الشاوي- نظرية الضريبة و التشريع الضريبي الليبي- الطبعة الثالثة- جامعة قاريونس- بنغازي 1989- ص  3.
[2] J-P Maublanc-"-art "Droit fiscal (caractères généraux )-in:Dictionnaire Encyclopédique de Finances Publiques-sous la direction de L.Philip -Economica -Paris 1991-VI-p674.
[3] "Le droit fiscal porte en lui- même témoignage des contradictions , des aspirations et de la complexité de la société dans laquelle il s'applique..":loc.cit.
[4]  يعرف "جان بيير موبلن"(J-P Maublanc)، القانون الجبائي، نقلا عن "لا مارك"(J. Lamarque ) " Droit fiscal..Il peut etre défini comme la partie de la science fiscale qui a pour objet les problèmes juridiques relatifs à l'impot (J.Lamarque)"-art "Droit fiscal (caractères généraux )-loc.cit.

[5]  جاك دونديو دوفابر(J.Donnedieu de Vabres)- الدولة- ترجمة:سموحي فوق العادة-الطبعة الثانية- منشورات عويدات- بيروت 1982- ص 12.
[6]  خذ على سبيل المثال مفهوم الدخل الخاضع للضريبة على الدخل ( دخل الأشخاص الطبيعيين مثلا)،فهو يختلف من دولة لأخرى، و من وقت لآخر، نتيجة تفاعل العديد من العوامل  و الاعتبارات، منها العوامل السياسة، و الاعتبارات الاقتصادية، و العوامل المالية، و الاعتبارات المالية  أو التقنية :"..و هذا ما يفسر لنا الأسباب الرئيسية للتعديلات الكثيرة التي قد تصيب القوانين الضريبية. و لذلك لم يلجأ المشرع الضريبي بوج عام[ حيثما كان] ، إلى تضمين القانون نفسه تعريفا للدخل، نظرا لما يفرضه هذا التعريف من قيود و التزامات على المشرع نفسه، قد لا يقوى على تحمل تبعاتها..":د.يونس أحمد البطريق- أصول الأنظمة الضريبية:مدخل لدراسة الأنظمة الضريبية- م.س- ص 94.
[7]  "..و معنى ذلك أنه يلزم أن يكون لكل نظام اقتصادي نظام ضريبي ملائم، يعكس فلسفته التي يصدر عنها و العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي يقوم عليها، أي يعكس فكرته عن هذه المشكلات..": رفعت المحجوب- م.س - ص 258.
[8]  نحن لا نقصد بالاشتراكية، هنا؛ الشيوعية؛لأن هذه الأخيرة لم تطبق قط، كما أنه- من الناحية النظرية على الأقل- لا مجال للحديث عن الضرائب في الدول الشيوعية، بالنظر إلى أن هذا النظام الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي،ينفي وجود الدولة، إذ يجعل من المجتمع مالكا لكل وسائل الانتاج،و يلبي حاجياته دون حاجة للدولة.
و إذن، فعندما نتحدث عن الاشتراكية، فإننا نقصد البلدان التي طبقت أشكالا من الاشتراكية، احتاجت معها إلى الإبقاء على القطاع التعاوني( الخاضع للضريبة)، و على جزء من القطاع الخاص( الخاضع هو الآخر للضريبة).و لكن، لا ينبغي أن يفهم من هذا أن الضرائب في النظم الاشتراكية، لعبت - أو تلعب في هذه الدول، إن كانت مازالت هذه الدول موجودة- نفس الدور الذي تلعبه الضرائب في المجتمعات الرأسمالية؛ و ذلك أن الدولة الاشتراكية تتمتع بملكية واسعة لأدوات الإنتاج ( المعامل، و المصانع، و الأراضي الفلاحية،..)،تمكنه  من تمويل نفقاتها العامة، كما تساعدها على التحكم في النشاط الاقتصادي، و توجيهه عن طريق آليات التخطيط ، وأساليب تحديد الأسعار و الأجور..(و لقد تناولنا هذه المواضيع، في سياق دروس مادة " المدخل إلى علمي الاقتصاد و التدبير).
و إذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلا يفوتني بهذه المناسبة الإشارة إلى التشابه- مع وجود الفارق في الإيديولوجيات الاقتصادية و السياسية و غيرها-، إلى أن بعض دول الريع، تشبه الدول الاشتراكية، من حيث احتكار الدولة لأهم الموارد الاقتصادية و المالية، و من ثم تقلص دور الضرائب في نظامها الاقتصادي، و في السياسات العامة:ففي الدول الريعية، مثل دول الخليج، التي تعتمد على الريع البترولي( العائدات من الصادرات البيترولية)، لا تكاد تعرف الضرائب، لا سيما الضرائب المباشرة، و أغلب الضرائب الموجودة هناك- إن وجدت في بعض البلدان الخليجية، مثل الكويت و سلطنة عمان- إنما هي بالأساس رسوم جمركية، و ضرائب غير مباشرة.
[9]  و الضريبة، تتأثر بالمعتقدات الفلسفية و الإديولوجية و الدينية؛ففي الدول الإسلامية هناك من يرفض أداء الضرائب على اعتبار أن لا أساس لها من الدين، و هذه نظرة خاطئة طبعا، و لكن كيف السبيل إلى تصحيحها؟
و الضريبة، بالإضافة إلى كونها ظاهرة جماعية،أو اجتماعية، هي أيضا ظاهرة فردية أيضا: فهي تخلق توترات نفسية، في نفوس الملزمين بأدائها. و هي أيضا ظاهرة أخلاقية، إذ تطرح تساؤلات على ضمير الملزم:كيف يوفق بين مصالحه الخاصة و الأنانية ، التي تدفعه إلى التهرب من أدائها، و استعمال كل الوسائل المتاحة( بما فيها الغش)؛ و واجبه الاجتماعي و الوطني، اللذين يدعوانه إلى تحمل أعبائها بكل إخلاص؟
بقي أن نشير ، إلى أن الضريبة بقدر ما تتأثر بالبيئة الاجتماعية، تتأثر كذلك بالبيئة الطبيعية التي تطبق فيها:فهي تتأثر بالثروات و الخيرات المتاحة في أقليم الدولة، من أنهار، و غابات، و أراضي صالحة للزراعة، و موارد طبيعية، و ماخ جيد و مناسب للفلاحة أو السياحة..، و عدد السكان،و نسبة الشباب فيهم..إلخ، فكلها تشكل أوعية للضرائب.
[10]   من هنا، رأى (L.Trotabas) و (J.M.Cotteret)، الفقيهان الفرنسيان الشهيران؛بأن القانون الجبائي " يجب تعريفه في سياق روح القانون الإداري باعتباره فرعا من فروع القانون العام ينظم حقوق الإدارة و امتيازاتها في التنفيد[La branche du droit publique qui règles les droits du fisc et leurs prérogatives]": في كتابيهما:Droit fiscal - الطبعة السابعة- اقتبسه محمد شكيري- القانون الضريبي المغربي: دراسة تحليلية و نقدية-  الطبعة الثانية- سلسلة مؤلفات و أعمال جامعية - العدد 59- منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية- الرباط 2005- ص 47( الإضافة بين القوسين المعقوفين ، مني أنا ع.السويلمي).
[11]  و لقد مرّ معنا ذلك التعريف الذي يربط القانون الضريبي، بالعلم الجبائي، و هو أحد العلوم التي تفرعت عن المالية العامة.
[12]  فيمكن تحقيق بعض أهداف السياسة العامة،بإجراءات اقتصادية أو من خلال تشريعات جبائية:فالأجور على سبيل المثال، يمكن الزيادة فيها بتخفيض الضرائب؛ كما يمكن الزيادة فيها بقرار سياسي(يأخذ شكل قانون اقتصادي).و كذلك أرباح المقاولات، يمكن تخفيضها من خلال الزيادة في الضرائب على الشركات، كما يمكن تخفيضها باتخاذ إجراءات تدخل في إطار سياسة اقتصادية. للمزيد من التفاصيل، يمكن مراجعة: د.قحطان السيوفي- السياسة المالية في سورية( أدواتها- و دورها الاقتصادي)- الهيئة العامة السورية للكتاب/ وزارة الثقافة- دمشق 2008- ص 235؛الشاوي- م.س - ص8.
[13]  ففي كل قانون مالي تقريبا، نقرأ (النموذج التالي، مأخوذ من 2016) :"I..تستمر الجهات المختصة، و فقا للنصوص التشريعية و التنظيمية الجاري بها العمل و مع مراعاة أحكام قانون المالية هذا، في القيام خلال السنة المالية 2016:
" 1- باستيفء الضرائب و الحاصلات و الدخول المخصصة للدولة،
"2- باستيفاء الضرائب و الحاصلات و الرسوم و الدخول المخصصة للجماعات الترابية و المؤسسات العمومية و الهيئات المخولة ذلك ...
II-.....
III- كل ضريبة مباشرة أو غير مباشرة، سواء الضرائب المأذون فيها بموجب أحكام النصوص التشريعية و التنظيمية المعمول بها، و أحكام قانون المالية هذا تعتبر، مهما كان الوصف أو الاسم الذي تجبى به، محظورة بتاتا، و تتعرض السلطات التي تفرضها و المستخدمون الذين يضعون جداولها و تعاريفها أو يباشرون جبايتها للمتابعة باعتبارهم مرتكبين لجريمة الغدر...":انظر قانون المالية للسنة المالية 2015 ( ظهير شريف رقم 1.15.150 الصادر في 7 ربيع الأول 1437، الموافق 19 دجنبر 2016)، و المنشور في الجريدة الرسمية عدد 6423 (21 ديسمبر 2015).
[14]  شكيري- القانون الضريبي المغربي-م.س- ص 50.
[15]  من هنا، يكثر الحديث في التشريعات الجبائية ، عن إقليمية الضريبة.راجع على سبيل المثال المادة (5) من المدونة العامة للضرائب، تحت عنوان " إقليمة الضريبة على الشركات".و المشرع الجبائي، هو الذي يحدد النطاق المكاني للقانون الضريبي، هل يأخذ بقاعدة إقليمية الضريبة؟، أم بقاعدة شخصية الضريبة(جنسية الملزم)؟ و المشرع المغربي، بالمناسبة، يأخذ بإقليمية الضريبة على الدخل،و ذلك في حالتين:إقامة الحاصل على الدخل في المغرب، و إقامة مصدر الدخل (الذي يؤديه) بالمغرب.
[16]   الازدواج الضريبي (Double Imposition): يكون هناك ازدواج ضريبي،في كل حالة فرض على نفس الدخل ضريبتان أو أكثر من نفس النوع،( نفس الوعاء و  الواقعة المنشئة للضريبة)، على الشخص نفسه، في مدة محددة.و معنى ذلك أن الازدواج لكي يحدث ، يشترط  أربعة شروط:1) وحدة الضريبة المفروضة، 2)وحدة الشخص المكلف بالضريبة،3)وحدة المادة موضوع الضريبة(الوعاء=دخل، أو رأسمال أو غيره)، 4) وحدة المادة المفروضة عليها الضريبة.انظر:رفعت المحجوب-م.س- ص 149 و ما بعدها، و انظر أيضا:J-P Jarnevic-art" Double Imposition"-in:D.E.F.P-Op.cit-p p658-661
و يقول الدكتور الصكبان،في كتابه المشار إليه سابقا (ص 180)؛ إن اغلب الاتفاقيات الدولية التي عقدت لمحاربة التعدد(الازدواج) الضريبي،استقرت على مجموعة من المبادئ:
1.      على اعطاء الحق لدولة الموقع في فرض الضريبة على العقار؛
2.      و على فرض الضريبة على دخل الاسهم و السندات في موطن الملزم؛
3.      و على أن تفرض الضريبة على المقاولات و الشركات في دولة المركز الرئيسي للشركة او المقاولة؛
4.      و على أن تفرض الضريبة على دخل العمل في الدولة التي يتم العمل فيها؛
5.      اما المرتبات التقاعدية فتخضع لضريبة الدولة التي تدفع فيها( انتهى الاقتباس، عن الصكبان).
هذا،و قد يحدث هذا الازدواج في المجال الداخلي للدولة أيضا، مثال ذلك عندما تضرب الدولة أرباح الشركة، ثم تضرب نفس الأرباح،عندما توزعها( نفس) الشركة على المساهمين:بذلك يكون نفس الدخل ضرب مرتين.و من الأمور التي تحول دون الازدواج الضريبي في الدول البسيطة،أن البرلمان الوطني يحتكر التشريع في المجال الجبائي؛ و من هنا فلا نجد ضرائب محلية و ضرائب وطنية تضرب نفس الأوعية،لنفس السبب..
[17]  الصكبان- م.س- ص 171-72.
[18]  اعتمدنا في تحرير هذه الفقرة ، علاقة القانون الجبائي بالقانون الخاص، على شكيري- م.س- ص ص 51-54.
[19]  الصكبان-م.س- ص 227-28. و يضيف( ص 228):".. و الواقع أن اشتراط قابلية التقدير بالنقود لاعتبار المنافع و الخدمات نوعا من الدخول، ناتج من كون الضريبة فريضة مالية،يغلب عليها صفة الدفع بالنقود، كأصل، كما أشرنا من قبل[و قد تحدثت أنا أيضا عن هذا في المحاضرات]، و ما يدفع بالنقد يجب أن يغترف من مال نقدي أو قابل للتقدير بالنقود..".
[20] البطريق-م.س- ص ص 74-84؛ الصكبان-ص229-30.فسكن الفرد في دار يملكها، تمثل منفعة بالنسبة له( و هي من وجهة نظر الضريبة تمثل دخلا).وإذا كان من الصعب تقييم هذه المنفعة نقديا، على وجه الدقة(وفق نظرية المصدر)؛إلا أنه يمكن تقدير الدخل الناتج عنها بالنقود على أساس أجر المثل( وفق نظرية الإثراء) ( و هذا ما تفعله، مثلا، اللجان المحلية المكلفة بإحصاء العقارات الخاضعة للضريبة الحضرية،إذ تتولى تقدير القيم الكرائية للمنازل التي يقيم فيها أصحابها على أساس المقارنة).
[21]  مما يؤدي إلى خلق الكثير من النزاعات بين الإدارة الجبائية و الملزمين.انظر تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي- ص 26، المنشور على موقع المجلس:www.ces.ma.
[22]  "..بالإضافة إلى ذلك فإن القانون الضريبي لا يعتد في كثير من الأحيان بالمراكز القانونية بل يرتكز على الوقائع، حيث إن الشخص الذي يمارس مثلا الطب بصفة غير قانونية( أي دون توفره على دكتوراه في الطب)، يعتبر كذلك [طبيبا] في نظر القانون الضريبي و من ثم يتم إخضاعه للضريبة المهنية[ الباتنتا] و ضريبة الأرباح[ضريبة الدخل] شأنه شأن باقي الأطباء الرسميين..":شكيري- القانون الضريبي المغربي- م. س- ص 58.
[23]  و هناك، من يذهب بعيدا،في الإعلاء من شأن ذاتية القانون التشريعي، حتى لو جاءت متعارضة مع القيم السائدة في المجتمع، كما يتجلى في تعليق الأستاذ عبد الرحيم الكنبداري، على أحد القرارات القضائية.سنورد القرار، ثم نلحق به التعليق:
القرار صدر عن محكمة الاستئناف بالرباط، بتاريخ 22 مارس 1990( ملف إداري عدد 77/88)- أي قبل إحداث المحاكم الإدارية-، و جاء في حيثياته:"...حيث إن الفصل 62 من ق.ل.ع يقضي بأن الالتزام المبني على سبب غير مشروع يعتبر كأن لم يكن(...) و حيث أن الأموال التي يمكن أن تجبى من بيت الدعارة لا يمكن اعتبارها ربحا خاضعا للضريبة لأن محل الالتزام فيها غير مشروع".
هذا هو القرار، و فيما يلي تعلق الأستاذ الكنبداري، على موقف القاضي الذي أصدر هذا الحكم:"..و هو موقف لا يمكن التسليم به للاعتبارات التالية:
* أنه لم يراع ذاتية القانون الضريبي، و الذي لا يهتم بشرعية الفعل بقدر ما يهتم بموضوع الربح، فمتى تحقق الربح وجد وعاء الضريبة.[فـ] ظهير 1959 المتعلق بالضريبة على الأرباح المهنية موضوع المنازعة في هذا القرار لا يوجد به نص يحرم صراحة إخضاع الأموال التي يكون محل الالتزام فيها غير مشروع؛
*استناد المحكمة إلى المادة 62 من ق.ل.ع، [و] هو قانون يطبق على الالتزامات العادية بين أطراف متساوية في الحقوق و الالتزامات، في حين أن الالتزام الضريبي مصدره قانون عام..":عبد الرحيم الكنبداري- تحصيل الديون الضريبية:مقاربة قانونية و قضائية- منشورات مجلة الحقوق المغربية(د.م)/ دار نشر المعرفة(الرباط)-2012- ص 187 ( الحاشية رقم:662)( بالتصرف).
من خلال هذا التعليق، يتبين أن هناك من الباحثين، من يهتم أكثر بالمصطلحات، دون الالتفات إلى دلالاتها الاجتماعية:ما معنى ذاتية التشريع الجبائي؟ هل هي "غول مقدس" نقدم له، قربانا كل القيم الاجتماعية، لإرضائه؟
في ماذا يختلف رأي الأستاذ الكنبداري، عن رأي ذلك الامبراطور الروماني" تيتوس فسبازيانوس"(Vespasian)(69- 79م)،الذي قال عندما استنكر ابنه فرضه الضرائب على المراحيض العمومية، عبارته الشهيرة(Pecunia non olet)، أي" ليس للنقود رائحة".و هي مقولة، أصبحت مثلا يضرب في اللغات الأوربية، و خاصة الفرنسية(L'argent n'a pas d'odeur): و هو يعبر، مثل أقل ما يقال عنه، أنه يمثل المكيافيلية و الانتهازية، في الممارسة الجبائية.  
[24]  يقصد بـ" الدومين" الأموال العقارية و المنقولة، التي كانت تملكها الدولة، ممثلة في الملك؛إذ كانت أملاك الدولة تختلط بأملاك الملك أو الحاكم، ففي فرنسا، مثلا، كانت أملاك الملك ( السابق) تنتقل إلى الملك الجديد (يوم تتويجه)، و من هنا كانت المقولة الفرنسية" لينفق الملك من أمواله".
و قد تكون الدومين خلال العصور الوسطى، و في أوائل العصور الحديثة، بصفة أساسية، من الأراضي و الغابات،و هو ما يعرف بالدومين " المادي".و بالإضافة إلى هذا الدومين المادي، كان الملك يعتمد على بعض الإيرادات الأخرى، التي يحصل عليها، بصفته حاكما، مثل الإعانات التي كان يقدمها أمراء الاقطاع،و الرسوم القضائية، و الغرامات  الجنائية،و حصيلة الصادرات، و ما ينتج عن تقليل وزن النقود عن إعادة ضربها، و هو ما يعرف بـ" الدومين النقدي"( و قد انتشرت هذه الطريقة في القرنين الرابع عشر و الخامس عشر)، و غيرها من الإيرادات.انظر:د.رفعت المحجوب- المالية العامة- دار النهضة العربية- القاهرة 1970- الكتاب الثاني (الايرادات العامة)- ص ص 18-19.
[25]  الشاوي- م. س - ص ص 36-37.و في الواقع هذه إحدى النظريتين اللتين تفسران نشأة الضريبة، و من ثم التشريع الضريبي و لو في مفهومه البدائي:
و بالفعل هناك نظريتان كبيرتان الأولى: ترى أن الضريبة، ظهرت نتيجة لتطورات داخلية، بطرق سلمية في الغالب ( و بالإكراه أحيانا)، دفعت إلى تحويل المساعدات التطوعية ( أو الهدايا و القرابين) التي كان يدفعها الرعايا إلى الملوك و الحكام( الملوك الآلهة في بعد البلدان)، في مناسبات معينة، كالأعياد أو الحصاد؛ إلى  مساهمات إجبارية، تؤدى في أوقات منتظمة ( و تجبى طوعا أو كرها)؛
و النظرية الأخرى، تذهب إلى أن الضريبة انبثقت في الأصل عن أعمال الغزو (الخارجي)،و أنها ليست إلا نتيجة لتحول الغنائم الحربية،إلى أداءات دورية يتم الاتفاق عليها (لتجنب ويلات الحرب):فتوسع بعض الحكام(زعماء القبائل و الدول)،على حساب جيرانهم، و استيلائهم على أراضيهم و أموالهم، هو الذي دفع الشعوب المغلوبة(المنهزمة(، و الحكام الضعفاء، إلى القبول بدفع الضرائب (بديلا عن الغنائم)، بشكل دوري و منتظم . و بذلك تحققت مصلحة الطرفين ؛ الطرف الغالب، الذي يحصل على الأموال دون الحاجة إلى شن الحرب. و الطرف المغلوب، الذي يحصل على حماية الطرف الغالب، و يتفرغ للعمل، دون خوف من الحرب.
و لما نجحت هذه الطريقة، مع الشعوب "الأجنبية" المغلوبة، طبقها الحاكم مع شعبه(الغالب، الذي كان معفى من الضرائب) أيضا، عندما ازدادت نفقاته، أو بعدما صارت تلك الشعوب المغلوبة مندمجة في شعبه، فاضطر إلى تعميم " الضريبة" على الجميع( و هنا تلتقي النظرية الثانية مع الأولى).للمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى كتاب:G.Ardant-Histoire de L'impôt-Fayard-Paris 1971-Livre1-p29 et suivantes.
[26]  رفعت المحجوب- المرجع السابق- ص19.
[27]  يذهب المؤرخون إلى أن أقدم ضريبة، فرضت على سكان مدينة " لجش" السومرية، منذ أكثر من (6000)سنة، لتمويل إحدى الحروب وقتذاك.انظر:
Sibichen K.Mathew-Making people pay:The Econmic Sociology of Taxation-Partridge India-New Delhi 2013-p28.
هذا فضلا على أن فترة الحرب، تكون مبررا للزيادة في الضرائب الموجودة (القديمة).
[28] Ardant- op.cit- Livre II-p46.
[29]Making people pay-op.cit-p21.و انظر أيضا: الصكبان- م.س- ص 225؛
[30] Ardant-op-cit-Livre II-p29 et suivante,p57..
[31] Ardant-op.cit-Livre II-p32.
و يرى الأستاذ الصكبان، أن أهم سبب دفع الحكام في اتجاه الاعتماد على الضرائب على الدخل، في هذه المرحلة من التاريخ"..يكمن  في محتوى الفلسفة الفردية[المذهب الفردي] التي كانت ترى ضرورة فرض الضرائب على الدخل باعتباره مصدرا متجددا و لن يتعرض للفناء بسبب الضرائب المفروضة عليه. و هذا بخلاف الحال بالنسبة إلى رأس المال، إذ يؤدي فرض الضرائب عليه إلى نضوبه و القضاء عليه بالتالي":مقدمة في علم المالية العامة..-م.س- ص225.
[32]  حتى كتب أحد الباحثين ، المعاصرين لهذه الأحداث(القرن الثامن عشر)،   كتابا عنوانه " التفوق الإنجليزي"(La Prépondérance anglaise)، ذهب فيه إلى أن قوة بريطانيا العظمى الاقتصادية، إنما تعود بالأساس إلى نظامها الجبائي، الذي يعتمد على المبادلات التجارية.انظر: Ardant-op.cit-Livre II-P45.
[33] لقد طالب الفزيوقراط ( الطبيعيون)ن في القرن الثامن عشر، بقصر إخضاع الضريبة على ملكية الأراضي الزراعية، على اعتبار أن الأرض هي المصدر الوحيد للثروة، الذي يخلق ناتجا صافيا (Produit net)، و أن عبء جميع الضرائب الأخرى، غن وجدت، يستقر في النهاية على هذا المصدر: و هكذا، بالنسبة لهم، عندما نطالب الأثرياء الحقيقيين بأداء الضرائب، تتفادى الإدارة الكثير من المشاكل بالبحث عن الأموال، في جيوب الطبقات الأخرى" العيقمة".
[34]  رفعت المحجوب- المالية العامة(الكتاب الثاني: الإيرادات العامة)-م.س- ص 41.و لإعطاء فكرة عن هذه القواعد، يمكن القول عنها:
أولا-قاعدة العدالة:تعني مساهمة كل أعضاء الجماعة الاجتماعية (المجتمع)، في تحمل أعباء الدولة، تبعا لمقدرتهم التكليفية، بحيث تكون مساهمة أعضاء الجماعة،في الأعباء العامة، بالتناسب مع دخولهم( و معنى هذا أن آدم سميث كان من أنصار الضريبة النسبية)؛
ثانيا:قاعدة اليقين: تنضرف هذه القاعدة، كما حددها "آدم سميث"، إلى ضرورة أن تكون الضريبة محددة بوضوح و بلا تحكم.و ينصرف ذلك إلى كل من مبلغ الضريبة، و ميعاد الوفاء بها، و طريقة هذا الوفاء.و لا شك أن الكثير من المنازعات التي تنشأ بين الإدارة الجبائية و الملزمين، تعود إلى عدم احترام الإدارة لهذه القاعدة، فتخفي المعلومات عن الملزمين، و تفرض نفسها مفسرا وحيدا للقوانين؛
ثالثا:قاعدة الملاءمة في الدفع:و يراد بهذه القاعدة، أن تكون مواعيد تحصيل الضريبة و إجراءات التحصيل ملائمة للمكلف تفاديا لثقل عبئها عليه.و كان " سميث" يرى أن الوقت الذي يحصل فيه الممول على دخله، هو أفضل الأوقات لأداء الضريبة المفروضة على كسب العمل و على إيراد القيم المنقولة.و قد لاحظ " سميث " كذلك، أن الضرائب على الاستهلاك- التي تقع في النهاية على عاتق المستهلك-، يتم دفعها في الوقت الملائم؛
رابعا:قاعدة الاقتصاد في نفقات الجباية: و تنصرف هذه القاعدة، إلى ضرورة الاقتصاد في نفقات جباية الضرائب،أي ضرورة أن تنظم كل ضريبة بحيث لا يزيد ما تأخذه من المكلفين عما يدخل الخزينة العامة، إلا بأقل مبلغ ممكن.
انظر: رفغت المحجوب- م.س- ص ص 41-43.
[35]  خالد الشاوي- نظرية الضريبة و التشريع الضريبي الليبي- م.س- ص 22.
[36]  و هذا رأي يبتعد نسبيا عن العلم ليقترب من إيديولوجيا معينة، هي " المركزية الأوربية"، التي هيمنت على أفكار الكثير من علماء أوربا في شتى الميادين، في القرن التاسع عشر، و أغلبية القرن العشرين: لقد جعلوا من أوربا و حضارة أوربا، و الإنسان الأوربي، و العلم الأوربي مقاييس لكل شيء، للصح و الخطأ.و تجاهلوا أن هناك حضارات أخرى، عرفت و طبقت قبلهم الكثير من المأفكارو المفاهيم، التي حسبوا أنفسهم مبدعيها.من ذلك أن كل هذه المفاهيم عن "دستورية مبادئ الضريبة"، و المساواة أما الضريبة، و العدالة الضريبة، و غيرها ، سبقتهم إليها- فكرا و ممارسة - حضارتنا الإسلامية، و لكن هذا موضوع آخر، الحديث فيه قد يطيل هذه الدروس، التي يرغب الطلبة أن تكون أقصر من القصيرة، للأسف.
[37] G.Ardant-Histoire de L'Impot-Fayard-Paris 1971-livreI-p p 493 et suivantes.
[38]  مادة: " الماجناكرتا"- الموسوعة العربية العالمية- م.س- ج2 ص 40-41؛ و مادةّ " البرلمان النموذجي"، في نفس الموسوعة-ج4ص358.
[39]  لقد جاء في نص إعلان الاستقلال الأمريكي[...]و إن تاريخ ملك بريطانيا العظمى الحالي تاريخ حافل بالمظالم المتكررة و القهر، و كل ذلك من أجل تحقيق هدف واضح هو فرض الحكم الاستبدادي المطلق على هذه الولايات. و للبرهان على ذلك فلتعرض هذه الحقائق على عالم نزيه و صريح[... لقد] فرض ضرائب علينا دون موافقتنا..[ For imposing Taxes on us without our consent]..".
[40]  فعلى سبيل المثال، .نقرأ في الفقرة الثامنة (من المادة الأولى)، المتعلقة باختصاصات الكونجرس، تنص في بندها الأول على:" فرض الضرائب و الرسوم و العوائد و المكوس و جبايتها ، لدفع الديون، و توفير سبل الدفاع المشترك، و الخير العام للولايات المتحدة.إنما يجب أن تكون جميع الرسوم و العوائد و المكوس موحدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة..".
[41] " Les citoyens ont le droit de constater par eux- même ou par leurs représentants la nécessité de la contribution publique, du la consentir librement , d'en suivre l'emploie et d'en déterminer la quotité , l'assiette , le recouvrement el la durée ".
[42]   اندريه هوريو- القانون الدستوري و المؤسسات السياسية- تعريب:علي مقلد و شفيق حداد و عبد الحسن سعد- الأهلية للنشر و التوزيع- الطبعة الثانية - بيروت 1977-ج1ص 177 و ما بعدها.
[43]  "..لما أنشأ مجلس النواب طبقا للأمر العالي[ الأمر الصادر عن الخديوي، حاكم مصر] الصادر في سنة 1882 أصبح لا يجوز فرض ضريبة جديدة إلا بقانون يوافق عليه المجلس . و لما صدر القانون النظامي في أول مايو سنة 1883 بإنشاء مجلس شورى القوانين و الجمعية العمومية كان من أهم ما يدخل في اختصاص الجمعية العمومية تقرير الضرائب برأي قطعي ملزم للحكومة.
" و لما أنشئت الجمعية التشريعية بمقتضى القانون النظامي الصادر في أول يوليه سنة 1913 لتحل محل المجلسين السابقين، كان من اختصاصهاالموافقة على الضرائب و الرسوم الجديدة قبل تقريرها..":الدكتور محمود رياض عطية- الوسيط في تشريع الضرائب- دار المعارف- القاهرة 1969- ص ص 19 و 20.
[44]  يقول مؤرخ " الضريبة"، الفرنسي " غابرييل آردان"(Ardant)،إن الصعوبات التي تواجهها الإدارات الجبائية في تطبيق النظم الجبائية، تجعلها " تتخيل" نظما تغير من طبيعة الضرائب التي يعهد إليها بتطبيقها.لقد حدث هذا في الماضي، و هو يحدث - كما يؤكذ الأستاذ آردان- في كل مكان؛ و من ثم فمن يرغب في فهم النظم القانونية، لا يجب أن يقتصر على قراءة القوانين أو حتى المراسيم التطبيقية،لأنها لن تفعل أكثر من أن تعطيه فكرة ناقصة عن الواقع، عن ما تفعله الإدارة بالملزمين أو العكس.انظر كتابه- تاريخ الضريبة-ج1 ص 17.
[45]  د.محمد محمد عبد اللطيف- الضمانات الدستورية في المجال الضريبي:دراسة مقارنة بين مصر و الكويت و فرنسا- جامعة الكويت - الكويت 1999- ص 6.
[46] خاصة، و أن الإدارة الجبائية، و بغض النظر عن الفكرة الدستورية، بأنها ( أي الإدارة)، وجدت لخدمة المصلحة العامة؛ قد تسعى  إلى التحكم في الإجراءات الجبائية، من بدايتها إلى نهايتها، أي التحكم في مدخلاتها و مخرجاتها، و لاسيما المخرجات المالية ( الحصيلة الجبائية، المنصوص عليها في قانون المالية). و في سبيل بلوغ هذه الأهداف-  و على افتراض أن ليس هناك أهدافا أخرى خاصة بالموظفين فرادى و جماعات-؛ إلى تأويل القانون الجبائي كما تشاء، و لي عنقه في الاتجاه الذي تريد،حتى و لو كان ذلك متنافيا مع حرفية النص التشريعي، دع عنك روحه.
و مع كل هذه المخاطر- و قد أشار إليها تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، الذي سبق لنا الإحالة عليه في أكثر من مناسبة-، فإننا لا نعدم من يطالب بالحد من  صرامة مبدأ "شرعية الضريبة"، على اعتبار أن ذلك يحقق مرونة كبيرة في التشريع الجبائي؛ الأمر الذي يسمح بالتصدي للكثير من المستجدات، من خلال الإسراع بسن و جباية الضرائب، عن طريق مراسيم حكومية، بدلا من اتباع المسطرة التشريعية الطويلة و البطيئة ( و الصعبة أحيانا). 
[47] راجع: الضمانات الدستورية في المجال الضريبي- م. س - ص 84 و ما بعدها.
[48]  لقد مضى ذلك الزمن الذي يسن فيه المشرع الجبائي ما يشاء؛فيفرض القيصر الروسي" بطرس الأكبر"(1682-1725)، ضرائب على اللِّحي، و يفرض فيه" وليم بت الابن "(Pitt)،رئيس الحكومة البريطانية(1783-1801)، ضرائب على الساعات الدقاقة(Pendules)،سنة 1797؛ و يقترح فيه أحد النواب الفرنسيين ، في أحد برلمانات الثورة الفرنسية، ضريبة على " العقل"(L'esprit)( فرد عليه أحد خصومه السياسيين،ساخرا، بأن صاحب الاقتراح لا شك سيعفى من هذه الضريبة).انظر:
P.M.Gaudemet et J.Molinier- Finances publiques-5e éd-Montchrestien-Paris1992-t2-p60.               
[49]" L'exécutif , assiégé par des intérêts contradictoires aura tendance à faire des compromis , à conclure un " armistice " fiscal pour satisfaire telle ou telle revendication catégorielle , en introduisant parfois une réforme réclamée par l'opinion publique ":A.Fikri- Le parlement Marocain et Les Finances de L'Etat-Afrique Orient-Casablanca 69.1988- p71.
[50]  راجع على سبيل المثال الفصل (77) من الدستور:" يسهر البرلمان و الحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة.
" و للحكومة أن ترفض، بعد بيان الأسباب، المقترحات و التعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود".
[51]   و هي الإقامة التي يعتد بها في المفهوم الجبائي، و تحدد غالبا في 183 يوما ، متصلة أو متقطعة.تنص المادة (23) من المدونة العامة للضرائب المغربية، على :"..يعتبر الشخص الطبيعي متوفرا على موطن ضريبي في المغرب حسب مدلول هذه المدونة إذا كان له فيه محل سكنى دائم أو مركز أو مصالحه الاقتصادية أو كانت المدة المتصلة أو غير المتصلة لمقامه بالمغرب تزيد على 183 يوما في كل فترة 365 يوما[ سنة]".
[52]  المشرع المغربي، يأخذ بمعيار الإقامة ، كما يفهم من المادة (23) من المدونة، و الخاصة بالضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين.قارن مع المادة (5) من المدونة، و المتعلقة بالضريبة على الشركات.
[53] و مشكل الآزدواج الضريبي، في الواقع، يطرح عندما يتعلق الأمر بالضرائب المباشرة،و بعض الضرائب غير المباشرة كضريبة التسجيل و التمبر، أما عندما يتعلق الأمر بأغلب الضرائب غير المباشرة الأخرى ،فإن الإدارات الجبائية تضطر إلى الأخذ بمبدأ الإقامة، أو إقليمية الضريبة، فتضرب الضرائب على كل السلع و الخدمات، التي تستهلك أو تنتج أو هما معا،فوق التراب الوطني.
[54]  اللّهم إلا في الدول التي تسمح قوانينها، للمحاكم بالنظر في دستورية الضرائب، و إلغائها، لعدم دستوريتها، كما هو الشأن في الولايات المتحدة.
[55]  و صعوبة إصلاح النظم الجبائية، تفسير أيضا، بأن الضرائب القديمة ، تكون مقبولة أكثر من الجديدة؛ إذ يألفها الناس، و يعيدون تنظيم حياتهم على أساس القبول بها، فيدمجونها في "حساباتهم"، و مع مرور الوقت ينسونها؛ فهي ، كما قال أحدهم، كالأحذية ؛ القديمة منها تسبب آلاما أقل (Les impôts sont comme les chaussures :Ce sont les plus vieux qui font le moins de mal).انظر: P.M.Gaudemet et J.Molinier- Finances publiques-5e éd-Montchrestien-Paris1992-t2-p64 et suivantes.
[56]  و الأمر، هنا، فيما يتعلق بمراقبة صحة التصريحات، قد لا يقتصر على الإدارة الجبائية وحدها، بل يمتد إلى إدارات أخرى، قد تستعين بها الأولى( الإدارة الجبائية)، في إطار ما يعرف بـ " حق التواصل" (Droit de communication): فهذا  التوصل لا يكون فعالا  و مفيدا للإدارة الجبائية، إلا إذا كانت هذه الإدارات- ( مثل إدارات الضمان الاجتماعي لمراقبة تصريحات الأطباء، و الشركات و الأبناك لمراقبة الأرباح التجارية و مداخيل رؤوس الأموال المنقولة..)-، تتوافر على نظم و تجهيزات و مصالح إدارية ( مثل مصلحة الأرشيف و حفظ الوثائق..)، بشكل دقيق و محيَّن، يمكنها من إعطاء المعلومات التي تطلب منها، بدون تأخير .
و قد لا يتوقف الأمر هنا، إذ لكي نطالب الملزمين( من الأشخاص الطبيعيين) بالضرائب على الدخل بملء التصريحات، لا بد أن نتأكد أن المستويات التعليمية، لأغلبية الملزمين، تسمح لهم بالتعامل مع نماذج التصريحات.
[57] " و تطبيق هذه القاعدة في المجال الضريبي مؤداه أن التشريع الضريبي يسري من وقت إصداره أو في تاريخ لا حق، فلا يسري بأثر رجعي، فلا يمتد إلى الوقائع التي تمت قبل صدوره..": الضمانات الدستوري..- م. س- ص179.و أضاف مؤلف هذا الكتاب(ص183) لا شك أن من شأن تطبيق الضريبة بأثر رجعي، أن يؤثر في استقرار المعاملات، و يزرع الخوف في قلوب الناس، فيضعف روح الادخار و الاستثمار. و مع ذلك،فهناك من الفقهاء و القضاة، من رأى بأن "مبدأ عدم الرجعية خارج المجال الجنائي ليس مبدأ دستوريا،و إنما يعد مبدأ تشريعيا، أي له قيمة تشريعية فقط،فيجوز للمشرع مخالفته، بينما لا يجوز للسلطة التنفيذية مخالفته ،فلا يحق لها أن تطبق قانونا جبائيا بأثر رجعي، إلا إذا رخص لها المشرع بذلك.
[58] "..إن الخطوة الأولى لتحقيق المساواة هي تقسيم الممولين إلى "طوائف"، و التقسيم الشائع هو تقسيم الممولين بحسب إمكانياتهم المالية، و يقسم الممولون عادة إلى صغار الممولين و كبار الممولين(...)و أخيرا يوجد تقسيم للممولين بحسب الضرائب التي يخضعون لها، إذ يوجد ممولون يخضعون للضرائب على الدخل؛ بينما يخضع آخرون للضريبة على القيمة المضافة، و يخضع آخرون للضريبة على الشركات..إلخ..""الضمانات الدستورية في المجال الضريبي- ص ص 135-36.
[59]  الضمانات الدستورية في المجال الضريبي..- م.س - ص ص 115-16؛ و ص 134. إلا أن هذا المبدأ يتعرض لخروقات عديدة، نتيجة الضغوطات التي تمارسها بعض اللوبيات(كما سبقت الإشارة إلى ذلك)؛ مما يضطر المشرع إلى أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح بعض الفئات على حساب مصالح فئات أخرى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مستهل هذا الحديث عن حدود التشريع الجبائي. كتب أستاذنا الدكتور عبد الكبير فكري- حفظه الله- في مؤلفه عن البرلمان المغربي و مالية الدولة:"Le principe le l'égalité fiscale heurte certains intérêts socioprofessionnels et politiques .Le consensus fiscal, expression du consentement à l'impôt n'est ni général , ni absolu": Le parlement Marocain et Les Finances de L'Etat-Afrique Orient-Casablanca 69.1988- p
و لمن يريد، من الطلبة الأعزاء التوسع أكثر في هذا الموضوع، و معرفة كيف أثرت بعض اللوبيات ، في  بعض  التشريعات الجبائية المغربية، فليرجع إلى هذا الكتاب . و الجدير بالذكر،أنه  في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون، قدمت تحت عنوان(Le Parlement marocain et les finances , recherche sur le pouvoir financier)، و نوقشت في كلية الحقوق بالدار البيضاء.
[60]  فالمبدأ العام في الضرائب المحلية، أنها تنشأ بقوانين،إذ أن اختصاص المجالس المحلية- و هي مجرد سلطات إدارية و ليست سلطات سياسية كما في الدول الفدرالية- ، يقتصر على مجرد تطبيق الضرائب المحلية التي أنشأها القانون، و حدد أسعارها.و صحيح أن المشرع الجبائي- و هو المشرع الوطني- قبد يترك للسلطات المحلية هامشا من الحرية، على ضوئه تستطيع أن تزيد بنسب ضئيلة في بعض " الضرائب و الرسوم"، و لكن على ألا يؤثر ذلك على مبدأ مياواة جميع المواطنين أمام الأعباء العامة.
[61]  حسن بريح و المصطفى الخطاب- مسلسل الإصلاح الجبائي المحلي و إشكالية الاستقلال المالي للجماعات المحلية-  الشركة المغربية لتوزيع الكتاب- الدار البيضاء 2014- ص ص 56-57. و أضاف مؤلفا هذا الكتاب (ص 57):"..في حين أن باقي الرسوم التي يحق للآمرين بالصرف اتخاذ قرارات جبائية بشأنها هي على نوعين:
" النوع الول، و يشمل إحدى عشر (11) رسما، قيد فيه المشرع [ الوطني] سلطة المجالس التداولية[ المحلية] بأسعار قصوى لا يجوز تجاوزها، بأي حال من الأحوال؛
" أما النوع الثاني، فيخضع للسلطة التقديرية للمجالس، و هي سلطة مقيدة بدورها بمعايير الموضوعية، و يخص سبعة(7) رسوم(..) و عليه يمكن القول أنه حتى مع ترك حرية للجماعات الترابية في تحديد أسعار بعض الضرائب و الرسوم- في حدود معينة-فإن ذلك لن يجعل من الهيئات المنتخبة أجهزة تقود سياسة ضريبية حقيقية.كما لا تجعلها قادرة على توزيع العبء الضريبي بين مختلف الضرائب، وفق سياستها الضريبية، و بالتالي يحرمها من أهم وسائل التدخل الاقتصادي و الاجتماعي لتطبيق مخططاتها التنموية".
 و يجدر بي الإشارة، هنا، إلى أن أصل هذا الكتاب،(مسلسل الإصلاح الجبائي..)؛هو بحث التخرج ، لنيل الأجازة  في الحقوق، أنجز تحت إشرافي، بالكلية متعددة التخصصات بآسفي؛أذكر هذا حتى يكون ذلك حافزا للطلبة على العمل الجاد..فالعمل الجاد مثمر.و لقد أخبرني الأستاذ بريح، مؤخرا أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب نفذت ، بعدما لقي الكتاب استحسان المهتمين ، و الناشر يعد لنشر طبعة ثانية. و بالله التوفيق.

الأربعاء، 3 فبراير 2016

إخبار
إلى طلبتي..في الفصلين الأول و الثالث..(بالكلية المتعددة التخصصات بآسفي)..
ترقبوا،قريبا جدا إن شاء الله، تصحيح امتحاني "المدخل إلى علمي الاقتصاد و التدبير"، و "القانون الاجتماعي"،دورة يناير 2016 العادية..على صفحات هذه المدونة.وبالله التوفيق.

السبت، 30 يناير 2016

منهج الطبيب و الفيلسوف ابن سينا في التأليف

منهج الطبيب و الفيلسوف ابن سينا في التأليف

منهج في التأليف:طريقة ابن سينا
لقد اتبع بعض علمائنا الكبار، مناهج خاصة في التأليف،جديرة بالاهتمام،لبساطتها و فعاليتها أيضا،نسوق فيما يلي نموذجا لها ، اعتمده الطبيب و الفيلسوف "ابن سينا"(ت427 ه)، و اقتبسه عنه، شيخ الأزهر السابق(1973-1978)، الدكتور عبد الحليم محمود(1910-1978)، الذي يحدثنا عنه في مقدمة كتابه" الحمد لله هذه حياتي"(1976).
***
يقول الدكتور عبد الحليم محمود:
و أذكر أن الرئيس " ابن سينا" حينما كان يعزم على تأليف كتاب: كان يعتكف - يومين أو ثلاثة فقط- اعتكافا كاملا، أو شبه كامل، و يأخذ في وضع عناوين للأجزاء؛ جاعلا لكل جزء دفتراً، ثم يأخذ في وضع عناوين للأبواب- في ثنايا الأجزاء- و يترك في الدفاتر فراغاً بين الباب و الباب، ثم يأخذ في وضع عناوين الفصول في الأبواب، تاركا فراغا بين كل فصل و فصل، بما يُقدِّر أنه يكفي للفصل، ثم يأخذ في وضع إشارات سانحة لما عساه أن يكون فقرات.ثم يخرج من معتكفه معتبراً أن ما بقي من الكتاب إنما هو تشطيبه فحسب و أنه في الوضع " السينوي"[ نسبة إلى ابن سينا] قد انتهى من تأليفه. و بعد ذلك يحمل معه الكتاب أينما سار.فيكتب - بحسب الظروف - كلمة هنا، و كلمة هناك:في هذا الفصل ، أو ذاك، من أواخر الكتاب، أو من منتصفه، أو من أوله بحسب الفكرة المواتية!
(...) و قد علمتني التجارب الماضية في التأليف أن طريقة " ابن سينا"- مع بعض التعديل بالنسبة لي - من خير الطرق:فالإنسان تختلف استعداداته، و تختلف إمكاناته، من آن لآخر، و من الخير أن يعمل - في مختلف الظروف، العمل الميسور له.
و لقد كان " ابن سينا" يكتب، لا يستند إلى هذا المرجع أو ذاك: ينقل منه، أو يعزو إليه.أما أنا؛ فقد كنت أحتاج دائما إلى مراجع.و هذه المراجع، أراجعها، و أضع - بين قوسين - المهم منها، ثم ألتمس نقله، في قصاصات من الورق.
و يتجمع عندي مئات من هذه القصاصات: فأرتبها فصولا، ثم أرتب الفصول ترتيبا متواليا.ثم أرتب قصاصات كل فصل.ثم أكتب لا ألتزم ترتيب الفصول الذي وضعته.و ربما بدا لي بعد الفراغ من الكتاب أن أحدث تغييرا في ترتيب الفصول.
و قد يتساءل القارئ عن استخدامي للقصاصات في كل فصل؟
و ما كان استخدامي لها إلا لإنارة الطريق في تفكيري: فقد تكون القصاصات موضع نقد!
و قد تكون موضع إهمال.و قد تكون موضع استئناس لما أرى.و قد أوردها لأستنتج منها جواً كان يعيشه المؤلف الذي أكتب عنه، أو لأستنتج منها فكرته.
و لا بد- في كل الأحوال- من أن يعزو المؤلف النص إلى قائله.
***

الحمد لله هذه حياتي- دار المعارف بمصر- القاهرة 1976- ص ص8-10.
منهج الطبيب و الفيلسوف ابن سينا في التأليف
ابن سينا




منهج الطبيب و الفيلسوف ابن سينا في التأليف

السبت، 26 ديسمبر 2015


نموذج للأسئلة التي تطرح في مادة الاقتصاد و التدبير
و نموذج للإجابة
امتحانات الدورة العادية -يناير 2015
مدة الإنجاز:ساعة و نصف
أجب عن أسئلة إحدى المجموعتين التاليتين:
المجموعة الأولى:
1- لم يكن " جون ماينرد كينز" اشتراكيا، بل كان ليبراليا؛إلا أنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية؛ قربته كثيرا من الاشتراكيين.اشرح هذه الفكرة، و حدّد إلى أي فئة من الاشتراكيين- الماركسيون، و الاشتراكيون الإصلاحيون(الديمقراطيون)، و الاشتراكيون الطوباويون- قربته هذه الفكرة أكثر( 8 نقط)؛
2- لماذا استطاعت " النسقية"؛ أن تقارب المقاولة بشكل جيد (قياسا إلى المقاربات التقليدية)؟(6 نقط)؛
3- كيف مهّدت الماركنتيلية لظهور الرأسمالية الصناعية ؟( 6 نقط).
المجموعة الأخرى:
1- كتب احد مؤرخي الفكر الاقتصادي:" ..بقي قانون "جان باتست ساي" المعروف بقانون المنافد"، سائدا في الفكر الاقتصادي الليبرالي، لمدة تزيد على قرن من الزمن ، إلى أن ألقى عليه " جون ماينرد كينز" ظلا كثيفا من من الشك..في الثلاثينات من القرن العشرين..".
حلّل هذا الرأي و ناقشه (8 نقط)؛
2- كيف ساهمت نظريات علوم التدبير في زيادة إنتاجية المقاولات؟(6 نقط)؛
3-ما هي الأصول الفكرية لنظرية " اليد الخفية"؟ و ما علاقتها بالسياسات الاقتصاديةن التي طبقت في ظل الاقتصاد الكلاسيكي؟(6 نقط).


و نموذج للإجابة:
سأقدم فيما يلي، نموذجا للإجابة، أو بالأحرى للطريق التي يجب أن يسلكها الطالب،للتوصل إلى الإجابة الصحيحة، عن الأسئلة التي تطرح في مادة الاقتصاد و التدبير..
و نموذج الإجابة الذي أقترحه،يتعلق بالسؤال الرئيس في المجموعة الأولى:

لم يكن كينز اشتراكيا، و لكنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية ،قربته من الاشتراكيين..

هذا السؤال يشبه إلى حد كبير السؤال الأول من المجموعة الأخيرة:"كتب أحد مؤرخي الفكر..."
و لقد تمكن الطلبة الذين تابعوا المحاضرات،و تعمقوا في دراسة الفكر الكلاسيكي و الفكر الكلاسيكي الجديد، في بعض  المراجع الورقية أو الإلكترونية ؛ من تقديم إجابات ممتازة عن السؤالين ؛ لأنه جرت العادة في هذه المصادرة أن تتم المقارنة بين فكر الكلاسيكيين و الكلاسيكيين الجدد من جهة، و فكر كينز و" تمرده أو ثورته" عليهم م جهة أخرى.كما أن الكثير من تلك المراجع، تناولت الفكر الاقتصادي الاشتراكي، و اشارت إلى اسهام "كينز" في انقاذ الليبرالية، و إخراجها من الهوة التي انزلقت إليها، في 1929، و التي لولاها- أعني اسهامات كينز- لتحققت فيها نبوءات "ماركس" ،بانهيارها و سقوطها،فوق رؤوس الرأسماليين.
و بالفعل،لقد أحدث "كينز" ثورة حقيقية في  الاقتصاد الليبرالي( الرأسمالي)،سواء على مستوى الأفكار أو الممارسات الاقتصادية.فلقد أقنع الناس ، في فترة حاسمة من التاريخ ، في العالم الليبرالي - ( أوروبا و أمريكا..و غيرها من الدول الليبرالية)- أن يعيدوا النظر في أسس الفكر الاقتصادي الكلاسيكي و الكلاسيكي الجديد، و الممارسات التي بنيت على أساسيهما، و التي كانت مرتكزة على مجموعة من المعتقدات أو المبادئ أو القوانين الأساسية، التي اعتبرت غير قابلة للنقاش، على اعتبار أنها حقائق علمية، بل قوانين طبيعية، من ذلك مبدأ " دعه يعمل ، دعه يمر"، و مبدأ " اليد الخفية"، و قانون المنافد لساي، و غيرها.
هذا لأشرح لكم خلفية السؤالين الرئيسيين في المجموعتين..و أنهما متشابهين إلى حد كبير..، و كان ذلك مقصودا، لأحقق نوعا من المساواة بين الطلبة..الذين يختارون المجموعة الأولى أو الأخرى.
و قبل أن نتطرق إلى كيفية الإجابة، و  مضمون الإجابة؛- ولقد تناولت كيفية الإجابة و شرحتها بتفصيل في المقال الخاص بمنهجية الإشكالية و التصميم،أقول قبل تناول مضمون الإجابة عن السؤالين المتشابهين في المجموعة الأولى و الأخيرة،أنوه إلى أنه كان يفترض أن يدرس  الطالب(ة) السؤال جيدا،قبل أن يشرع في الإجابة عنه:
و بالفعل، فمن المتوقع أن يقف الطالب(ة)، أمام السؤال و لو للحظات،و يتأمل في صياغته ،و يتوقف عند كل كلمة فيه و يحللها، و يعرف معناها، و الغرض من وجودها في السؤال..و القيمة التي تحظى بها في البناء الكلي للسؤال..إلخ؛ حتى يعرف ما هو مطلوب منه على وجه الدقة، فيجيب عنه و لا يتجاوزه إلى غيره ، و لا يجيب عن أسئلة افتراضية يضعها هو نفسه ، و من ثم يحاول فرضها على المصحح( و سنعود إلى هذه القضية بتفصيل أكبر لاحقا).
ثم كان ينبغي للطالب أيضا، أن يتأمل في عدد النقط المخصصة لمكافأة الإجابة الصحيحة على السؤال، و ما تمثله من مجموع النقط ..حتى يعرف مقدار الوقت و الجهد اللذين سيخصصهما لهذا السؤال:فمجوع النقط التي يمكن الحصول عليها، بعد الإجابة الصحيحة، هي (8 نقط)، و هي تمثل نسبة تفوق ثلث مجمل نقط الامتحان (20/20)، و لكنها أيضا أقل من النصف..
هذه مسائل بديهية،على الطالب أن يعرف كيف يحسبها، و يعرف كيف يتعاطى معها..فهي تدخل في الثقافة العامة لطالب العلم..حتى لو كان في الإعدادي، و من باب أولى الطالب الجامعي.
بعد هذه الملاحظات العامة، التي كان لابد من التذكير بها..
نأتي إلى الأسئلة:ما هي هذه الفكرة الأساسية التي جاء بها كينز الليبرالي، و التي أبعدته نسبيا من الليبراليين الكلاسيكيين و الليبراليين الجدد، و قربته من الاشتراكين؟ و كيف ألقى كينز ظلا من الشك على قانون المنافذ؟
إجابة سؤال المجموعة الأولى:
نضع السؤال أمامنا..و نقرأ، و نتأمل..و نتمعن ، ..أي العملية تحتاج إلى قراءة بطيئة ، و قراءة تأملية، و قراءة عميقة..

لم يكن " جون ماينرد كينز" اشتراكيا، بل كان ليبراليا؛إلا أنه تبنى فكرة اقتصادية أساسية؛ قربته كثيرا من الاشتراكيين.اشرح هذه الفكرة، و حدّد إلى أي فئة من الاشتراكيين- الماركسيون، و الاشتراكيون الإصلاحيون(الديمقراطيون)، و الاشتراكيون الطوباويون- قربته هذه الفكرة أكثر( 8 نقط)؛

هناك أشياء كثيرة، و منهجية خاصة يجب اتباعها في قراءة السؤال، و استخراج أهم ما فيه، لا داعي لتكرارها هنا،..و ننتقل بسرعة إلى تحليل السؤال..و الفكرة الأساسية التي تلفت الانتباه هي :إن كينز كان ليبراليا؛ بمعنى أنه كان يؤمن بالملكية الفردية، و حرية السوق..إلخ.
و هذه المعلومة وحدها، قد لا تفيد الطالب،إلا إذا كان يعرف أيضا:
1- إن كينز، نادى بتدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد،لضمان التشغيل الكامل،و الرفع من الطلب الكلي..إلخ؛
2- و أن الاشتراكيين،على اختلاف فئاتهم، نادوا هم أيضا بتدخل الدولة في الاقتصاد، على تفاوت بينهم..طبعا.
إذا علم الطالب (ة) هذا، سيتمكن من الإجابة عن السؤال؛لأنه لن يبقى أمامه،إلا خطوة يخطوها، يتوصل بعدها إلى الفكرة( أو الإشكالية) الأساسية في السؤال، و التي اتفق فيها كينز مع الاشتراكيين،ألا و هي:أن الفكر الليبرالي و الفكر الاشتراكي التقيا معا،عند كينز.فكيف استطاع فكر كينز أن يربط هاتين المدرستين الاقتصاديتين المتناقضتين؟.

 هذه الفكرة،يمكن أن نعيد صياغتها بطريقة أخرى، على النحو التالي:ماهي الفكرة الاقتصادية التي اعتنقها كينز و جعلته في نفس الوقت ليبراليا و قريبا من الاشتراكيين؟
و هذه الفكرة الأخيرة،إذا اتخذناها إشكاليتنا الرئيسية، يجب  أن نفرعها إلى أفكار فرعية، كل واحدة منها، تجيب على جانب أو جزئية من الإشكالية.
من الأسئلة الفرعية،مثلا، السؤال التالي::ما هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه تدخل الدولة في الاقتصاد، من وجهة نظر كينز ؟
 بالإجابة عن هذا السؤال الفرعي، سيستطيع الطالب أن يحدد فئة الاشتراكيين التي يتفق معها كينز، و إذا تمكن من ذلك، يكون قد أجاب عن السؤال برمته.
و الحاصل، أن السؤال الأول من المجموعة الأولى، يتمحور حول قضية أساسية،و هي : إن تطور الفكر الاقتصادي، انتهى في عهد كينز إلى ضرورة تدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد.
هذه الإشكالية الرئيسية، قد تتفرع عنها إشكاليات- أو أفكار- فرعية، قد نجعل منها محاور لتحرير الإجابة،و قد تكون هي عناوين التصميم الذي نختاره، كالتالي:
1-  قد تكون الفكرة  الفرعية الأولى هي: إن كينز مفكر ليبرالي من نوع معين( مبحث أول):
في هذا المبحث،نحدد مفهوم الليبرالية الكلاسيكية في عجالة، و نبين اختلاف كينز مع  هذا المفهوم الليبرالي الكلاسيكي( و المتمثل في دعوته لتدخل الدولة)؛
2- و قد تكون الفكرة الفرعية الثانية هي: إن كينز قريب من الاشتراكيين( مبحث ثاني):
إذن،في هذا المبحث نشرح كيف أن مطالبة كينز بتدخل الدولة، تبعده عن الفكر الليبرالي الكلاسيكي، و تقربه من الفكر الاشتراكي، الذي يدعو هو الآخر لتدخل الدولة..
3- و قد تكون الفكرة الفرعية الثالثة و الأخيرة ،هي :إن كينز أقرب إلى الاشتراكية الإصلاحية(مبحث ثالث):
و نوضح في هذا المبحث،أن الاشتراكيين يختلفون حول مدى تدخل الدولة في تسيير أو توجيه أو الإشراف على الاقتصاد،و أن الليبرالية التي يعتنقها كينز تقربه أكثر من الاشتراكيين الإصلاحيين:و نشرح أين يلتقي معهم..
و بهذا تتم الإجابة عن الإشكالية التي اخترناها،أي نكون قد أجبنا عن السؤال الأول من المجموعة الأولى، وفق تصور ارتأيناه،نعتقد أنه يحل الإشكال، و يكشف لنا عن السبب الذي جعل كينز قريبا من الاشتراكيين عموما، و لاسيما الإصلاحيين منهم.
***
و أعود، في ختام هذا العرض،لألخص ما كان مطلوبا في السؤال الأول من المجموعة الأولى كالتالي:
إن الثورة التي أحدثها " كينز"؛ هي أنه اعتبر تدخل الدولة في المجال الاقتصادي ( تنظيم النشاط الاقتصادي ) أمرا ضروريا، لضمان التوازن الاقتصادي، و لتحقيق التشغيل الكلي..إلخ.و تدخل الدولة، في مجال الاقتصاد، قال به " مالتوس"، من الكلاسيكيين، و لكن بطريقة خجولة، لم تسترع الاهتمام. و أهملت.كما نادى بها الإشتراكيون، و بقوة أكبر من تلك التي أظهرها كينز نفسه، و لكن من منطلقات إيديولوجية تختلف عن المنطلقات الليبرالية التي آمن بها "كينز"( و هذه أمور معروفة لدى عامة المثقفين، ناهيك عن طلاب الدراسات القانونية و السياسية، و إن في السنة الأولى).
ففي حين كان الكلاسيكيون و الكثير من الكلاسيكيين الجدد ، ينادون بإبقاء الدولة بعيدة عن مجال الاقتصاد، و لا يسمحون لها بالتدخل لتنظيمه، بل رأوا أن التوازن الاقتصادي يتحقق تلقائيا بفضل " اليد الخفية"، و بفضل قانون المنافد، و عموما بفضل قوانين السوق الحرة.
إن الطالب يستطيع اكتساب هذه المعرفة ،من أكثر من مصدر، و في أكثر من مناسبة: فقد يعرفها، بمناسبة دراسة الفكر الاشتراكي.و يمكنه أن يدركها أيضا، إذا كان ملما بأفكار كينز.بمعنى،أن الطالب، الذي استوعب نصف البرنامج، يمكنه،أن يحصل على نصف النقطة، المخصصة للسؤال..
و للحصول على النصف الاخر،كان لا بد من الإجابة على السؤال التالي: و لكن ما هو الحد الذي ارتأى  كينز أن تدخل الدولة، لا يجب أن يتجاوزه في مجال الاقتصاد ؟ و الإجابة عن هذا السؤال الأخير، هي التي ستساعد الطالب، كما سبق القول، على معرفة المدرسة الاشتراكية التي يقترب منها كينز أكثر..
و بالفعل، فأغلب الاشتراكيين، نادوا بتدخل الدولة..، و هذا أمر اتفوا حوله.ثم اختلفوا فيما عدا ذلك:
1- فمعظم الطوباويين،لم يحبذوا التدخل القوي للدولة؛لأنهم أرادوا بناء اقتصاد تعاوني بمنأى عن الدولة، يعتمد على العمل الجماعي و التضامني للعمال و غيرهم.كما أنهم انتقدوا الكثير من الأفكار التي قامت على أساسها الليبرالية، مثل حرية المنافسة و الرغبة في تحقيق الأرباح( و هذا الانتقادات أبعدتهم عن كينز، الذي بقي مخلصا لأسس الفكر الليبرالي،متمثلة في الملكية الفردية، و حق الأفراد في جني الأرباح، بالاستعانة بميكانزمات المنافسة)؛
2- و لسبب قريب من هذا،اختلف "كينز" مع الماركسيين أيضا، الذين رفضوا هم  الملكية الخاصة، و طالبوا بتدخل الدولة في كل شيء، و حرموا امتلاك الأفراد للمقاولات الخاصة..؛
3-على عكس الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين طالبو بتدخل الدولة ، و لكنهم آمنوا ببقاء المقاولات الخاصة التي تقوم على أساس الملكية الخاصة، و التي تعمل على أساس من المنافسة الحرة ، و تسعى لتحقيق الأرباح..
و بذلك، فلقد كان كينز أقرب إلى الاشتراكيين الديمقراطيين من غيرهم . و لقد أشرت إلى هذا مرارا و تكرارا في المحاضرات، و ذكّرت به في المطبوع أيضا. و أكبر دليل على ذلك أن الكثير من الطلبة توفقوا في الإجابة عن هذا السؤال، و أجابوا عنه أحيانا، باستعمال نفس التعابير التي وردت في المحاضرات أو المطبوع (بالإضافة إلى الطلبة الذي أجابوا أيضا، من خارج هذين المصدرين، و كانت إجابتهم موفقة و صحيحة و مقبولة..و  الحمد لله).
إجابة سؤال المجموعة الأخرى:
و بنفس الطريقة، يمكن الإجابة عن السؤال الأول من المجموعة الأخرى:
و الأفكار الأساسية، التي كان يفترض أن تتضمنها أجوبة هذا السؤال، يمكن تلخيصها كالآتي:
 لقد آمن الليبراليون الرأسماليون- الكلاسيكيون بشكل خاص- بأن الاختلالات الدورية التي يشهدها الاقتصاد الرأسمالي ، من حين لآخر، و تؤثر على مستويات الأسعار و الأجور و الإنتاج و التشغيل، تزول من تلقاء نفسها- إذ أن قوانين السوق تعالج هذه الاختلالات بنفسها دون حاجة لتدخل الدولة- ،ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.تماما كما أكد " جان باتست ساي " في قانونه الشهير،أعني قانون المنافذ، الذي يقول بأن كل عرض يخلق الطلب المساوي له،و أن البضائع التي ينتجها هذا المقاول،تبادل بسلع أو بضائع أو خدمات ينتجها مقاول آخر؛ و بالتالي يتحقق التوازن بين العرض الكلي و الطلب الكلي دائما، و لا يمكن، بالتالي، أن تظهر أزمة ما نتيجة الزيادة في الإنتاج.ذلك أن الإنتاج(العرض)،في الحقيقة، لا يخرج إلى السوق إلا بعد أن يحقق مداخيل لعوامل الإنتاج( العمال يحصلون على الأجر، و ملاك الأرض يحصلون على الريع، و أصحاب رؤوس الأموال يحصلون على الفائدة،و المقاولون يحصلون على أرباح)،  و هذه المداخيل تنفق في السوق لشراء بضائع و سلع و خدمات أنتجها منتجون(مقاولون)آخرون،أي تتحول إلى طلب..فيتحقق التوازن الكلي(في السوق):فكل سلعة في السوق تجد من يشتريها، بما فيها قوة العمل و هي سلعة من السلع، عند الكلاسيكيين.
غير أنه عندما وقعت أزمة 1929،و التي امتدت إلى الثلاثينات من القرن العشرين،تبين أن أزمة الانتاج(العرض) يمكن أن تقع ،بل و يطول أمدها؛ و من ثم بدأ التشكيك في نظرية " المنافد".
و كان كينز على رأس منتقدي،قانون " المنافذ" لساي،و بين أنه يقوم على أساس خاطيء ؛إذ أن بعض العرض الفعلي(الإنتاج) قد يكون أكثر من الطلب-  بعض المنتجات، لا تجد من يشتريها-، لأن بعض المنتجين لا ينفقون كل مداخيلهم في السوق،و يقومون بإدخارها(و هذه نقطة اشار إليها مالتوس قبل كينز).و عندما يزداد حجم العرض( الانتاج)،مع تقلص  الطلب عليه، يقل الطلب على اليد العاملة، فتزداد البطالة..و يتحقق في المجتمع نوع من التوازن أدنى من العادي، أي أقل من التوازن الكلي:يتحقق فيه التوازن بين حجم اقل من الإنتاج مع طلب مساوي له، و لكنه قليل، قياسا مع الطلب العادي.
و للخروج من هذه الأزمة، اقترح كينز التخلي عن الفكرة التي قال بها "ساي"، و مفادها؛  أن العرض يخلق الطلب، و طالب باستبداله بفكرة أخرى، هي أن الطلب يخلق العرض:أي أن الطلب على السلع الاستهلاكية ، سيجعل المصانع و المعامل و المزارع و المتاجر تطلب اليد العاملة، فيتقلص عدد العاطلين عن العمل، و هؤلاء العمال و المستخدمين سيحصلون على أجور و رواتب سينفقونها في الطلب على السلع، ستترجم بدورها إلى طلب على مزيد من العمالة.كما أن توفر الأموال بأيدي المقاولات، و قدرتها على الاقتراض بفوائد ضئلة..،سيشجعها على الاستثمار و طلب السلع الاستثمارية، و بالتالي ستشغل العاطلين عن العمل.. و هكذا يعود الانتعاش إلى الاقتصاد.
و لكن، في ظروف الأزمة، من سيقوم بذلك الطلب الكلي الذي سيخلق العرض؟ يقول كينز: إن على الدولة أن تقوم بتشغيل العاطلين عن العمل، و تدفع لهم أجورا و رواتب من ميزانية الدولة( أو ميزانيات البلديات..إلخ)،و أن تنشئ مقاولات و مشاريع و تمنح المقاولات القروض بفوائد منخفضة ،..فتشجع بذلك على تشغيل اليد العاملة العاطلة..إلخ،و تحريك آلة الاقتصاد من جديد.



الأربعاء، 29 يوليو 2015

عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي


الدكتور زكي نجيب محمود(1993-1905)- رحمه الله- من كبار فلاسفتنا المعاصرين.و له إسهامات هامة في علم المنهج. و عنه أخذت درسا في المنهج ما نسيته منذ تعلمته، و خلاصته:" أن العلم الحقيقي، هو الذي لا يملك فيه الباحث القدرة على تغيير النتائج".فالكيميائي مثلا- و أنا درست الكيمياء-، إذا قام بتحليل محلول معين، لا يستطيع أن يغير نتيجة التحليل،فالنتيجة تفرض نفسها عليه: فإذا كان المحلول يحتوي حديدا أو نحاسا، فلا يمكنه أن يكتب في تقريره - اللّهم إلا إذا قرر تزوير النتيجة- أنه يحتوي الذهب أو الفضة.
هذا الدرس على بساطته، هو المعيار الأساس في تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الاجتماعية: ففي الأولى يصعب على الباحث تغيير النتيجة، في حين في العلوم الاجتماعية، يمكن للباحث بسهولة أن يقول عن الأبيض أنه أسود، و عن الأحمر أنه أخضر، أو أنه مشكل من ألوان  قوس قزح.
في الفقرات التالية، المقتبسة من الفصل الثاني، من كتابه " تجديد الفكر"، يحدثنا الأستاذ زكي نجيب محمود عن بعض العقبات التي تحول بيننا و بين تجديد فكرنا العلمي، فلنستمع إليه..
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
زكي نجيب محمود

مهما يكن المصدر الأول الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة و العلم، ثم يعود فيبني على تلك المبادئ سائر أحكامه و أفكاره و معتقداته و مذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيا من السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لمعات حدسية اهتدت بها البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان، أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة و العلم ، قد يكون بابا من هذه الأبواب، ثم يسلط الإنسان على تلك "المبادئ" قوته الاستدلالية - و ذلك هو " العقل"- ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن يستخرجه من أحكام و أفكار؛ و مهما يكن ذلك المصدر الأول - و قد اختلف الفلاسفة في أيها تكون له الصدارة- فهنالك شرط لا بد من الوفاء به، لكي تستقيم لنا المعرفة الصحيحة بعد ذلك، و هو أن يمحو الانسانُ أخطاءه التي كان قد زلّ فيها قبل أن يستقي العلمَ من مصدره المختار، و أن يسدّ الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاوده من جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ إذ لا يجدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين يكون وعاء الباطل مازال هنالك قائما إلى جواره؛ فالباطل - على مر الزمن- قمين[ كفيل] أن يفسد الحق، كما تفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح؛ فإذا جاء الحق و ظهر - بأية وسيلة من وسائله- وجب كذلك أن يُزهق الباطل في اللحظة نفسها؛ فإقامة الصواب و تصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب و السلب يسيران معا،الأول يثبت ما يستحق الإثبات، و الثاني يمحو ما لا بد أن يمحى.
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
روني ديكارت
و هذا بعينه هو ما حرص على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعا، على اختلاف أزمانهم و تباين مناهجهم؛ فهم- إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد- يُجمعون على إزالة الباطل و طمس مصادره.لتتم لهم إقامة الحق و تفجير منابعه...
[... و هذا ما فعله رواد المنهج الحديث فـــ] كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلاًّ منهما رجل، أما أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت[(1650-1596)(René Descartes) ]، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئاً من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي و ما وراءه؛ و أما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون [ (Francis Bacon)(1626-1561)]، الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئا من  الطبيعة الخارجية و ما نشاهده في ظواهرها، ثم نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها و نكون على يقين من صوابها.
و لكن ليختلفا كيف شاءا في اتجاه السير ماذا يكون؟
عقبات تحول بيننا بين تجديد فكرنا العلمي
فرنسيس بيكون

أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نقوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ و اقتلاع جذوره، حتى تُبذر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.

فالرجلان معا يلتقيان في أن المعرفة الصحيحة ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن اعترضتها العوارض فسدّت عليها الطريق: عوارض من أوهام الإنسان و نزواته و ميوله و أهوائه و رغباته و شهواته و ما قد يصيبه من تعصب و تسرع، و من خضوع سهل لذوي الشهرة و النفوذ من أقدمين و محدثين و معاصرين؛ لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق مادامت نفسه و ما يجرى فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر (هذا ديكارت) و مادامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق الأمين ( هذا بيكون).لماذا يقع الإنسان في الخطأ، و الباطن قائم أمام بصيرته و الظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن نضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟ فلماذا تفعل، و ما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟
لا بد أن يكون هنالك عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رؤسنا ملئت - على غير وعي منا - بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ، ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ و لهذا عني الرجلان - ديكارت و بيكون- أول ما عنيا بأن يدقا في الرؤوس دقا عنيفا، لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد[ كان الأساتذة الجامعيون، عندما كنت طالبا، على رأس من يقوم بهذا الدق العنيف.و أذكر  بهذه بالمناسبة، أستاذنا الدكتور عبد اللطيف أكنوش- حفظه الله-، الذي كان يجيد هذا النوع من الدق..في رؤوس طلبة السنة الأولى حقوق، بكلية الدار البيضاء، أو على الأقل هذا هو انطباعي عنه..].

الدكتور زكي نجيب محمود- تجديد الفكر العربي- الطبعة السادسة- دار الشروق- القاهرة/بيروت 1400/1980- ص ص 21-26.


الخميس، 23 يوليو 2015

مشكلة المنهج في العلوم الاجتماعية

مشكلة المنهج في العلوم الاجتماعية

تعرفت على الأستاذ الدكتور " إيفان دربن" (Evan Durbin)(1948-1906)،كمفكر اقتصادي و سياسي، عندما قرأت الترجمة العربية  لكتابه " سياسة الاشتراكية الديمقراطية"(The Politics of Democratic Socialism)(London-1940)، و كنت وقتها أّدرِّس مادة " الإيديولوجيات السياسية المعاصرة"، لطلبة الفصل السادس قانون عام(2011).
و منذ ذلك التاريخ، راجعت الكتاب عدة مرات،كانت آخرها في بداية الموسم الدراسي  الحالي،بمناسبة إعداد بعض المحاضرات في الاقتصاد،للفصل الأول.و في كل مرة، كنت  أعيد  قراءة فصول كثيرة منه، و في كل مرة أكتشف كم كان هذا المؤلف أستاذا بارعا و مبدعا في معظم المواضيع التي تناولها أو حتى أشار إليها، في كتابه.و أستاذيته تتجلى في أسلوبه الأكاديمي التعليمي؛ فهو يستعرض الأفكار  الصعبة، بأسلوب بسيط أو مُبسط، و لكن دون تبسيط يخل بالقيمة العلمية لأفكاره ، و أيضا دون استخفاف بعقل القارئ. بيد أن أستاذيته تتجلى أكثر في المنهج الذي اتبعه في كتابه ، و كان رائدا فيه:فهو لا يكتفي بالتحليل السياسي الاقتصادي لموضوع اقتصادي محض، بل يستعين بمختلف فروع العلوم الاجتماعية الأخرى- علم السياسة، و علم الاحتماع، و علم النفس، و القانون،و التاريخ..إلخ -، لشرح أفكاره، و التدليل على صحتها؛ و ذلك انطلاقا من رؤية واضحة لديه،مفادها أن قضايا العلوم الاجتماعية لا يمكن حلها من خلال الدراسات الفرعية المتخصصة (كل فرع على حدة)، بل من خلال الجهود المشتركة لجميع العلوم الاجتماعية.و هو يشرح وجهة نظره هاته - التي كانت جديدة وقت نشر الطبعة الأولى من كتابه، سنة 1940-، في الفقرات التالية.
و لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة، في نهاية هذه الفقرات،أن " دربن" بدأ حياته العلمية بدراسة البيولوجيا، و بالضبط " علم الحيوان"، انتقل بعدها إلى دراسة العلوم، ثم استقر أخيرا في دراسة الاقتصاد،ليعين، بعد تخرجه، محاضرا في مدرسة لندن الاقتصادية( London School of Economics (LSE))(1930-1945).
 و كان بالموازاة مع دراسته ، يناضل في صفوف حزب العمال ، فما هي إلا سنوات حتى أصبح من كبار الشخصيات السياسية في بريطانيا، في النصف الأول من القرن العشرين.و في عام 1948، توفي غرقا في شاطيء البحر، و قد ألقى بنفسه في الماء لينقذ ابته و طفلا آخر، فمات غرقا، إذ لم يكن يجيد السباحة.و كان في ذلك الوقت عضوا في البرلمان  و وزيرا في حكومة العمال، و كان زملاؤه يتوقعون له مستقبلا زاهرا في السياسة، لو قدر له أن يعيش.

[...] إنني عالم اجتماعي بالمهنة، و انني أبدأ بافتراض مألوف في حضارة أوروبا منذ القرن الثامن عشر، و هو أننا يجب أن ننتهج الأساليب الاجتماعية[= المناهج الاجتماعية]، و لكن الأفراد القليلين الذين وهبوا جزءا كبيرا من وقتهم و جهدهم لتتبع الدراسات الاجتماعية الحالية يشعرون بالثقة بأن كثيرا منهم يوفون بهذه الحاجة إن المواضيع التي نتحدث فيها متخصصة جداً.
و إننا لا ننفق كل جهودنا في دراسة و تمحيص جزء منفصل من الحقل الاجتماعي.بل بعض "أوجه" السلوك الاجتماعي، و من الصعب ألا نشعر أن حقيقة المجتمع البشري المركبة - و هي الشيء الذي يجب علينا إدراكه- تضيع بين هذه الأوجه المختلفة من الحياة.
و ربما يسمح لي القارئ بأن أستشهد ببعض فقرات من مقال لي يعالج هذه المشكلة بأسلوب آخر.فقد كتبت ما يلي، في مجلة" إيكونميك جورنال"، في معرض مناقشتي للمشاكل التي تعترض منهاج البحث عند العالم الاجتماعي عامة، و عند الاقتصادي خاصة:
"..و من الضروري أن نوجه انتقادا مضادا آخر لما عليه الحالة الحاضرة في العلوم الاجتماعية [ الثلاثينات من القرن العشرين]؛فهذه العلوم - كما يبدو لي- لا يمكن أن تنفصل بعضها عن بعض في مجال الدراسة.
و لا شك في أن تقسيم العلوم الاجتماعية إلى أقسام فرعية أمر مرغوب فيه كما هو حتمي. و أن العلوم الطبيعية لم يكن يقدر لها التقدم لو أن العلماء درسوا العالم الطبيعي ككل.و كذلك فالعلوم الاجتماعية لم يكن يقدر لها التقدم لو أننا درسنا المجتمع ككل.و لكن الحقيقة تبقى و هي أن تقسيمنا للعلوم الاجتماعية - خلافا للعلوم الطبيعية- إن هو إلا تجريد عن الحقيقة و ليس جزءا من الحقيقة ".

فعلم النبات ما هو إلا دراسة لمجموعة من الكائنات الحية ؛ هي النباتات.و علم الحيوان ما هو إلا دراسة لمجموعة أخرى من الكائنات الحية هي؛ الحيوانات. و دراسة  الكيمياء التركيبية[Synthetic Chemistry =  Chemie Synthétique ] ما هي إلا دراسة لمجموعة من المواد ؛هي الجزيئات[Molecules= Molécules ].و دراسة البللورات[ Crystals =Cristals  ] ما هي إلا دراسة لمجموعة من الأشياء؛ هي البللورات.   و موضوع الدراسة في كل هذه الحالات أشياء حقيقية مستقلة أو مجموعة من الأشياء، و ليست موضوعا لشيء مركب، و أنها أشياء حقيقية.

و لكن هل يمكن تمييز معظم موضوعاتنا[ في العلوم الاجتماعية] بهذه الكيفية؟ أفليست هذه الموضوعات غالبا ما تكون جوانب من الحقيقة الاجتماعية، أو هي تجريد عن الحقيقة؟ و هل يعد علم الاقتصاد شيئا آخر غير دراسة الجانب الاقتصادي من السلوك الاجتماعي؟ و هل تعد الدراسة العلمية للقانون شيئا آخر غير دراسة الجوانب القانونية للسلوك الاجتماعي؟ و هل يعد التاريخ السياسي شيئا آخر غير دراسة الجوانب السياسية من التاريخ عامة؟ و أخيرا هل يعد التاريخ الاقتصادي شيئا آخر غير دراسة للجوانب الاقتصادية للتاريخ عامة؟ أي أن تقسيماتنا ترجع، مرة أخرى، إلى تحديد معاني كلمات اقتصادي، و قانوني، و سياسي، و لا ترجع إلى الأقسام الفرعية التي تتضمنها موضوعات الدراسة.
و لا شك في أن معظم العلماء الاجتماعيين يعترفون بذلك..فليس هناك أي اقتصادي ينكر أن السلوك (الاقتصادي) يتاثر بالأفكار السياسية، و التقاليد القانونية و التاريخية. و كذلك يزداد اعتراف المحامين بأن القانون و تطور القانون يتأثران بالقوى " الاقتصادية" و " السياسية". و لا يمكننا أن نعتقد أن مجرى التاريخ " السياسي" منفصل عن عن الأحداث " الاقتصادية"، و هكذا.
و سوف ترغمنا هذه الاعتبارات على أن نتساءل عما إذا كانت موضوعاتنا[فروع العلوم الاجتماعية] الحالية تتلاءم مع أي تقسيم حقيقي في موضوع دراستنا ، فربما تضيع  الحقيقة بين الأوجه التي نقسمها..و دعنا الآن نسوق بعض الأمثلة العشوائية:
1- لنفرض أننا أردنا أن نفهم الجانب القانوني للملكية، طبيعتها ، و أصلها، و أهميتها الحالية و احتمالات المستقبل بالنسبة لها.فما هو عدد الموضوعات[=العلوم الاجتماعية الفرعية = علم الاقتصاد، علم السياسة،..إلخ] القائمة التي يمكن، أو في الواقع يجب، أن تسهم في دراستنا؟
كل الموضوعات تقريبا،فبدون مساعدة القانون لا يمكننا تفهم ما هو نظام الملكية. و بدون التاريخ العام لا يمكننا ان نقول كيف جاء نظام الملكية إلى الوجود، أو ما هي القوى التي يمكن أن تغيره. و بدون علم الاقتصاد لا يمكننا أن نتفهم ما يترتب على نظام الملكية. و كثير مما ينطوي عليه نظام الملكية لا يتضح إلا عن طريق علم النفس. و لعلم النفس العام و علم الأجناس[Anthropology=علم الإنسان=علم يعنى بأصل و تطور الحضارات الإنسانية و الصفات الجسدية للإنسان..] قسط كبير يسهمان به.و بدون مساعدة كل هذه الموضوعات أو معظمها لا يمكننا أن نقول إننا ندرس نظام الملكية في وضعه الاجتماعي الحقيقي، أو أن نضع أنفسنا في موقف يسمح لنا بأن نتنبأ للمستقبل.
2- أو لنفرض أننا أردنا أن ندرس الحرب - و مما يؤسف له أنها ظاهرة اجتماعية ملموسة- عندئذ نجد أن التاريخ ضروري لنا في هذه الدراسة. و علم النفس ضروري ، و كذلك علم الأجناس كما أن علم الاقتصاد و علم الاجتماع عامة لهما قسط كبير يسهمان به.
و على ذلك، يبدو أن دراسة الحقيقة تشق جميع مجالات التخصص القائمة لدينا حاليا.أو بالأحرى تطوقها جميعا.و إذا ما اتحدنا أمكن لنا أن نقف و ننصب قامتنا، أما إذا انقسمنا فلا مفر من أننا سنهوى.و على ذلك، فعلى أي شكل سوف نتحد؟
إنني مقتنع بأن حل هذه المشكلة يمكن الوصول إليه في المدى الطويل عن طريق قيام تعاون منظم بين الأخصائيين الحاليين:الاقتصاديين مع المؤرخين، و المؤرخين مع علماء الاجتماع، و علماء الاجتماع مع علماء النفس.
و لكن وقتاً طويلا سوف ينقضي في الواقع قبل أن ينتظم مثل هذا التعاون بطريقة عاقلة.و وقت أطول قبل أن تصبح نتائج هذا التعاون ممكنة و ذات فائدة في مدى السياسة الاجتماعية.فهل من المستحيل أن نفعل أي شيء في هذا الوقت، أو أن نناقش دراسة الخدمات الاجتماعية بطريقة مثمرة؟
لقد كتبت هذا الكتاب[ سياسة الاشتراكية الديمقراطية]  على أمل أن الإجابة بالنفي تماما ليست هي الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة.
و لكن مناقشة مشكلة المنهج تفسر الشكل الخاص الذي سيتخذه هذا الكتاب، إن لم نكن نلتمس العذر لهذا الشكل.فلقد حاولت أعطي مجالا واسعا، و أن أقول شيئا عن عدد كبير من الموضوعات [يقصد فروع العلوم الاجتماعية] لأنني أعتقد أن جميعها لازم لكي نفهم السياسة الاقتصادية فهما سليما.و إنني أرمي إلى التعرض إلى علم النفس، و النظرية السياسية، و علم الاقتصاد؛ ذلك لأن المجتمع الذي نعيش فيه، و الذي يجب علينا أن نعمل على إصلاح شكله، يتألف من أفراد لا تعتبر بواعثهم و نظمهم و طبيعتهم اقتصادية، أو شخصية تماما و لكنها مركبة من هذه البواعث الثلاث، و لا يفهمه إلا أولئك الذين سوف يدرسون الجنس البشري على وضعه الحقيقي، أي على أن طبيعته مختلفة و مركبة.


إيفان برن- سياسة الاشتراكية الديمقراطية- الترجمة العربية للدار القومية للطباعة و النشر- القاهرة (دون تاريخ)- ص ص 29-33.