الكتب المرجعية و غير المرجعية، من أيهما يجب أن تبدأ في كل بحث علمي؟
كل الكتب مرجعية أو غير مرجعية، مهمة في البحث العلمي، و قد تكون أحيانا على نفس القدر من الأهمية. و لكن في جميع الأحيان، يجب أن يتوافر الطالب/الباحث على منهجية في التعامل معها .أجل ؛ يجب أن يكون عنده رؤية واضحة،عن كيفية ترتيبها ..كمصادر للمعلومات: من أيها سيبدأ ؟ ما هو الكتاب أو الكتب التي يجب أو يمكن تقديمها و تلك التي يجب/يمكن تأخيرها..في عملية الدراسة ؟ و لماذا؟
إن أهم قاعدة منهجية، يمكن الاهتداء بها في هذا الباب ، هي التالية:" ابدأ من العام و انتهي إلى الخاص، و قدم البسيط على المعقّد و الصعب. ..و قرّب القريب و أبعد البعيد".أي، بلغة أخرى،انطلق من المراجع العامة إلى المراجع المتخصصة، و صولا إلى الأكثر تخصصا: ذلك أن الدراسة العامة، تزودك بأفكار عامة و بسيطة، و قريبة ،و غير عميقة،.. عن الموضوع الذي تكون بصدد دراسته؛ فتسهِّل لك ولوج حقل معرفي قد يكون "جديدا أو حتى ملغوما بالنسبة لك".و ربما تحتاج فيه إلى دليل، أو على الأقل، تضطر أن تمشي فيه ببطء شديد.
و من هنا؛فالمراجع العامة،تعطيك الأفكار الأساسية و العامة(العموميات)،و تساعدك على تكوين فكرة عن موضوع بحثك،و تمهد لك الطريق لدراسة المراجع المتخصصة،رويدا رويدا، حتى إذا استوعبت هذه الأخيرة، و بلغت مرحلة من المعرفة تؤهلك للتفكير و للتحليل و النقد و الاجتهاد،أمكنك، عندها، الاطلاع على الكتب الأكثر تخصصا.
و المراجع العامة، كثيرة ، إلا أن أهمها و أفيدها هي الكتب المرجعية، التي تحدثنا عنها سابقا ( القواميس و الموسوعات..). وأيضا بعض الكتب غير المرجعية،مثل الكتب التمهيدية،و الكتب المدرسية:هذه المراجع،مثلا، تساعد على معرفة موقف المشرع و الفقه و القضاء؛ من كل نقطة يثيرها موضوع البحث، دون تحليل أو نقاش .و يمكن، أن ندرج تحت هذا العنوان أيضا،كتب الشروحات، و التفسيرات الفقهية (مؤلفات الشرح على المتون).
أما المراجع المتخصصة، فتدفع بك خطوة أو خطوات أخرى إلى الأمام،و تفتح أمامك آفاق أخرى، و تنقلك من الحقائق الثابتة المستقرة، المتفق عليها بين ذوي الاختصاص، إلى هوامش يقوم فيها صراع بين الأفكار الجديدة، و القضايا الخلافية الشائكة المثيرة للنقاش( لا سيما الأطروحات و الرسائل الجامعية).
و يندرج ضمن الكتب المتخصصة، كل الأعمال المونوغرافية التي تعالج مواضيع محددة و دقيقة، و تنصبّ على جزئيات بعينها،فتدرسها في جل تفاصيلها، و تتناولها من معظم – إن لم نقل كل – جوانبها.
و من أهم الكتب المتخصصة، نذكر المطولات أو الكتب المفصلة(Les traités)،و الكتب المتوسطة الطول (مثل الوسيط في المدني للسنهوري)،و الدراسات و المقالات و التعليقات..إلخ ، التي يكتبها ذوي الخبرة الواسعة و الاختصاص العميق؛ و التي تعالج، في الغالب، قضايا و مواضيع، غاية في الدقة،و تتطلب معرفة عميقة بالموضوع المطروح للنقاش أو البحث.فضلا على أن بعضها (التعليقات)، لها أهمية عملية أيضا،لارتباطها بالأحكام و القرارات القضائية.
كما أن الكثير من الدوريات المتخصصة،تعتبر فعلا ميدانا خصبا لتتبع نشأة و تطور الأفكار و النظريات الجديدة العميقة، خاصة المجلات المُحكّمة - أي التي تعرض المقالات قبل نشرها على لجان من المتخصصين،لإجازتها أو رفضاها-؛فهي من أهم العوامل للدفع بالبحث العلمي و تطويره ؛ لاحتوائها على معلومات و أفكار حديثة باستمرار، من جهة، و لقدرتها الكبيرة والسريعة على الانتشار ، من جهة ثانية.فضلا عن أنها زهيد الثمن، بالمقارنة مع الكتب، من جهة ثالثة.
و لا ينبغي أن ننسى كتب الفقه الإسلامي؛ فالطالب يحتاجها لدراسة قانون الأحوال الشخصية، و لدراسة النظام القانوني الخاص بالعقارات غير المحفظة (كتب مثل: مدونة الإمام مالك، و حاشية الشيخ الدسوقي، و أجوبة الشيخ محمد التاودي بنسودة،و المعيار المعرب للإمام الونشريسي..).
و بما أننا، بصدد الحديث عن " العام" و الخاص"،فسأستغل الفرصة هنا - و المناسبة شرط كما يقال -، للفت انتباه الطلبة إلى ظاهرة غريبة،بالنسبة لي على الأقل،هي أن هناك من الباحثين في القانون الخاص،من يرفضون العمل بقاعدة (من العام إلى الخاص) ، مخافة أن يخرجهم ذلك عن حظيرة القانون الخاص، و يدخلهم في حظيرة القانون العام(التحليل السوسيولوجي).و هذا خطأ، لأن القانون كل لا يتجزأ، و هو ، في جميع الأحوال، علم اجتماعي، و صناعة القواعد القانونية ،هي ظاهرة اجتماعية ( و المسألة، على كل حال، بديهية، و لا تحتاج إلى دليل). و لقد كان العميد "ليون دوجي (Léon Duguit)(1928-1859)،يطالب منذ 1889 على الأقل ، بتغيير اسم كليات الحقوق ؛إذ كان يعتبر أن "Le véritable nom des facultés de droit devrait étre facultés des Sciences Sociales.."
و قال في أحد دروسه الافتتاحية لمحاضرات القانون العام طلبة الدكتوراه(جامعة القاهرة، سنة 1922،إن لم تخن الذاكرة):
"..أقول بكل وضوح، و بكامل الاقتناع؛إذا كان دور أستاذ القانون يجب أن يقتصر على التعليق على القوانين الوضعية،فإنه[أي الدور] لا يستحق دقيقة من الجهد و العمل.
إن مهمة كليات الحقوق، تذهب أبعد من ذلك.إنها، يجب أن تكون كليات للعلوم الاجتماعية..".
و للأسف ، فإن الكثير من طلبة الدراسات القانونية (القانون الخاص)، ينسون هذه الحقيقة،و يعتقدون أن بإمكانهم الاستغناء عن مواد القانون العام، و الاقتصار على الدراسة " التقنية" للقواعد القانونية(و كأنها آلات تعمل بغض النظر عن البيئة الاجتماعية) . و الأمر صحيح بالنسبة لطلبة القانون العام أيضا، الذين يبالغون في التحليل السوسيولوجي، و ينسون الجوانب "الفنية" في قواعد القانون.
و من هنا، يجب أن يعرف طلبة الحقوق جميعهم؛ أن الفصل بين فرعي القانون، هو فصل مصطنع،أو هو منهجي( لتسهيل دراسة مجال واسع و معقد):فإذا كان القانون الخاص يهتم أكثر بدراسة القاعدة القانونية، من الداخل (من حيث بنائها، و صياغتها، و مفهومها، و تفسيرها.. إلخ)؛ إلا أن كل ذلك، لا ينبغي أن ينسي طالب القانون الخاص، بأنها(أي القاعدة القانونية))، لا تنشأ من فراغ، و لا تتطور في فراغ، و لا تطبق في فراغ.بل إن القاعدة القانون ،هي لبنة أو بناء أو مؤسسة اجتماعية تاريخية،أسسها المجتمع لتؤدي خدمات اجتماعية معينة، في مجتمع معين (زمان و مكان معينين). و المشرع أو القاضي أو الفقيه أو طالب الحقوق أو المواطن العادي، كلهم معنيون بمعرفة الظروف الاجتماعية و السياسية التي تتحكم في حياتها /أو موتها. و هذه المعرفة ، توفر جزءا كبيرا منها، العلوم الاجتماعية(السياسية و الاقتصادية = القانون العام) .و هذه الحقيقة أدركها و كافح من أجلها فطاحلة رجال القانون، كـ"ليون ديجي"و المرحوم " عبد الرزاق السنهوري"(1895-1971)..و يحاربها اليوم .."الحمقى و الأغبياء" من المحسوبين على القانون.
و بمناسبة الحديث عن وجهة نظر " ديجي"، يسرني أن أسوق إليكم هذه المعلومة الطريفة،..لقد كان الزعيم الكوبي الأشهر" فيدل كاسترو"(F.Castro)،رجل قانون- درس الحقوق و مارس المحاماة ..-،وفي عام 1952، قرر التفرغ للعمل الثوري، على إثر الانقلاب الذي قام به الديكتاتور " باتستا".
و في 26 يوليوز 1953، ألقي عليه القبض، بعدما فشل الهجوم الذي قاده ضد ثكنة (Moncadoo) الكبيرة.و في المحاكمة، قدم "كاسترو" مرافعة قوية صارت مشهورة فيما بعد، حاول من خلالها نزع الشرعية و المشروعية، عن حكم " باتستا"..و كان مرجعه الوحيد الذي اعتمد عليه في إعداد مرافعته، هو مطول " ديجي" في القانون الدستوري(Traité de droit constitutionnel).
معلومة أخرى، أحب أن أختم بها هذا الحديث عن "ديجي"..و هي أنه، بعد وفاته، و إكراما لجهوده و إسهاماته الكبيرة، لاسيما في إظهار البعد الاجتماعي للقواعد القانونية،أطلق على كليات الحقوق في " الامبراطورية الفرنسية"،منذ الربع الثاني من القرن العشرين، اسم" Faculté des Sciences Juridiques, Economiques et Sociales".