دور الجامعة:هل يتناقض مفهوم ديمقراطية التعليم الجامعي، مع مصالح الوطن؟ هل الأهم هو الكم(عدد الخريجين) أم النوع (جودة الخريجين)؟ إن الجامعة قد تتفوق في إنتاجها النوعي، بفضل ما تتمتع به من مساحات للإبداع.
***
إن الجامعة، تقوم بأدور متعددة و متنوعة، أهمها التعليم، و البحث العلمي، و التكوين و التدريب، و نشر الثقافة و تعميمها بين الناس.
إننا قد نجد في المجتمع، مؤسسات أخرى تقوم ببعض هذه الأدوار؛ كالتعليم الذي تقوم به المدارس الابتدائية و الثانوية؛ و التكوين و التدريب الذي تقوم به مراكز و معاهد التكوين و التدريب؛ و البحث العلمي الذي قد تقوم به مراكز البحوث العلمية التابعة للقطاعين العام و الخاص؛ و نشر الثقافة الذي قد تقوم به عديد من المصالح الحكومية و المؤسسات العامة و الخاصة.إلاّ أن الجامعة وحدها، هي القادرة على القيام بكل تلك الأدوار بالتزامن و التوازي.كما أنها هي المصدر الذي يُمدّ جل- إن لم نقل- كل المؤسسات و المراكز و المصالح السابقة الذكر، بالأطر البشرية،و بدون الجامعة قد تفشل في القيام بأدوارها.
و في الحقيقة، إن ما جعل الجامعة قادرة على تحمل مسؤولية كل تلك الأدوار دفعة واحدة ، و في نفس الوقت،هو ما تتمتع به من حرية (الحرية الأكاديمية)؛ جعلتها قادرة على الإبداع في شتى مجالات المعرفة البشرية.
دور الجامعة
بقلم :د.حافظ قبيسي
[...] كانت مرحلة ما بعد
الحرب العالمية الثانية ( مرحلة الاستقلال لمعظم الدول العربية)، هي مرحلة التجاوب
الفعلي مع المطالبة بحق كل مواطن في التعليم ، بما في ذلك التعليم العالي.
و من الإنصاف الإشارة إلى
أن الحكومات العربية المختلفة و المتعاقبة ، أولت هذا الأمر عنايتها ، رغم بعض
الانتقادات التي كانت توجه إلى تلك الحكومات بين فترة و أخرى ، انتقادات كانت
تقارب العنف بل التعنيف في بعض الحالات.
[...] نعم لقد أمّن التعليم
العالي العربي حق المواطن.و لكن هل أمن بذلك مصالح المجتمع؟
و في محاولتنا الإجابة على
هذا السؤال الأساسي نرى أن علينا التمهيد لذلك بتحديد دور الجامعة...
دور الجامعة في المطلق
للجامعة في المطلق ، دور
اقتصادي و ثقافي و تربوي..( و غير ذلك).
هذا الدور الإنمائي هو في
الدول العربية ، كما في معظم الدول المتخلفة المشابهة له.و هو في جوهره دور
الجامعة أو بعض دورها في الدول الصناعية المتقدمة أيضا.
و إن شئنا أن نفصّل ما
ذكرناه ، لوجدنا للتدريس الجامعي ، و للبحث العلمي الجامعي ( و هما وسيلتا العمل
الأساسيتان) غايات أساسية منها:
أ- تثقيف المجتمع. و ذلك
ببث المعرفة العالية بين المواطنين ، و توعيتهم على أحدث ما توصلت إليه المعرفة
العلمية الإنسانية في شتى الميادين؛
ب- بث الروح العلمية في
المواطن ، بالمعنى السلوكي الحياتي.بحيث يرفض المواطن الخرافة و الاستسلام
للغيبيات ، و يعتمد شريعة العقل و المنطق ، لا شريعة الغريزة البهيمية ..؛
ج- تأهيل المواطن للعمل
المنتج ، و تشجيعه على امتلاك التقنيات ( بما في ذلك الحديثة منها)، و تعزيز قدرته
على الإبداع في مهنته ، و قدرته على التطوير؛
د- تزويد القطاع الاقتصادي
( العام و الخاص) بحاجاته من المهرة[ الموارد البشرية الماهرة]؛
ه- درس الثروات الوطنية ،
الطبيعية و البشرية ، و تحديد السبل الفضلى لاستثمارها ، أو لتحسين هذا الاستثمار؛
و- حفظ التراث الوطني
(الثقافي بمعناه الواسع)، و الكشف عن الأصيل و الجميل فيه؛
ز- إشاعة جو عام بالاهتمام
بالثقافة و تقدير الإبداع ، و الاهتمام بتعميق قيم الحق و الخير و الجمال في نفوس
المواطنين؛
ح- تشجيع الإبداع الثقافي
في كافة الميادين؛
ط- المساهمة في إغناء المعرفة
و تقدم العلوم ، و اعتبار المجتمع عضوا فاعلا في عالم الحضارة ، لا مستوردا
مستهلكا لإنتاج الآخرين ، قابعا في خانة التبعية الثقافية و العلمية فالحضارية؛
ي- المساهمة في حفظ أمن
الوطن الاقتصادي ، و الاجتماعي ، و العسكري،و ذلك بالتبصر العلمي في كل ذلك.
هذه الغايات الكبرى ،هي
جوهر مهمة الجامعة الفاضلة ، في كل مكان ، و هي مهمة "الجامعة العربية ".
الجامعة الوطنية العربية ،
هي وسيلة مجتمعها الأولى ( تعطي المجتمع الثروة البشرية التي بها تقوم مؤسساته و
تعمل)، و هي:
1-عقله المخطط؛
2- حافظ ثقافته،و مصهر
الإبداع فيه؛
3- الأمينة على القيم
المجتمعية ، الموحدة البناءة.
هي كذلك ، لأننا نؤمن أن الجامعة هي بصر المجتمع و بصيرته ، بواسطتها ينظر في أمره، و يحاول تدبر هذا الأمر.
و هل يمكن لأي مجتمع أن
ينظر في أمره ، بعين مستعارة ، و أن يتدبر أمره بيد
مستعارة ، و أن يحك جلده بغير ظفره؟!
دور الجامعة في إنتاج الثقافة
ما هي الثقافة؟
نترك لغيرنا أن يجيب على
هذا السؤال. و لا ريب أن الأجوبة ستكون عديدة ، مختلفة ( و ربما متباينة)، و لكنها - على الأرجح - لن
تكون متناقضة ، و نستطيع أن نفترض أن مجموعة تلك الأجوبة - على تعدّدها - تشكل
جوابا واحدا ؛ الجواب.
في [ اللغة] العربية
"ثقف الحجر " صقله.
في الاجتماع البشري - نستطرد
- ثقف الفرد: صقله ، ثقف الجماعة : صقلها.
نستطيع في هذا الإطار ، أن
نكتفي بهذا الجواب ، و أن ننطلق منه.
ما هو إنتاج الثقافة ؟ هنا
أيضا قد تكون الإجابات متباينة ، و لكن مهمتنا هنا أن نبسط الأمر و أن نتلمس في الأشياء
عناصرها الأولى.
نرد إذن " إنتاج
الثقافة " إلى عناصرها الأساسية التالية:
أ- الإحاطة بالمعارف
البشرية في الآداب و الفنون و العلوم و التقنيات و بما يتصل بكل منها؛
ب- تعميم المعارف و نشرها
بين الناس بحيث يصل بعضها إلى الأفراد القادرين على تلقي هذا البعض ، و بحيث يصل
مجموع هذه المعارف ( بدون استثناء) إلى المتّحد البشري مجتمعا؛
ج- محاولة تأهيل كل فرد في
المتحد لتلقي المعارف في المطلق ، و بعضها في الحصر.أي رفع قدرة كل فرد على تلقي
المعرفة؛
د- نشر الوعي بين الناس ،
بحاجة الفرد و المجتمع إلى الثقافة : أن تكون كائنا بشريا هو أن تعرف ، و إلا
انحدر الفرد إلى كائن بيولوجي ، و إلا انحدر المجتمع إلى كائن بيولوجي فقط؛
ه- التخطِّي.أي الانتقال من
حسن تلقي المعرفة المنقولة إلى إغناء هذه المعرفة بالإضافات الأصلية و المبتكرة.
دور الجامعة في البحث العلمي
الإجابة عن هذا السؤال أسهل
بما لا يقاس من الإجابة على السؤال حول ماهية الثقافة التي استوقفتنا.
البحث العلمي هو جزء من
آلية الثقافة ( أو الانتاج الثقافي).إنه التخطي الذي أشرنا إليه.إنه الاستفادة من
المعرفة الحاصلة لإغنائها و دفع حدودها إلى أوسع.
و لكن هل تحتاج الدول
العربية للبحث العلمي؟
أوليس ترفا في الدول
النامية ( الفقيرة)؟
و هل تستطيع الدول النامية
منافسة الدول المتقدمة ( و الغنية) في مجال البحث العلمي؟
أليس من الأجدى ، اقتصاديا ،
اللجوء إلى استيراد المعرفة و منتجاتها ( التكنولوجيا) بدل بذل الجهد في البحث العلمي
و تطبيقاته؟
في مجال الإجابة ، نستعيد
الأجوبة القديمة:
لا تختلف الدول العربية في
هذا المجال ( مجال البحث العلمي) عن غيرها من الدول النامية.فالمجتمع يحتاج إلى
وسيلة يستكشف بواسطتها ثرواته الطبيعية و البشرية ، و يستدل بواسطتها على سبل
تثمير هذه الثروات.هذه الوسيلة هي البحث العلمي الوطني.
و البحث العلمي الوطني ، هو البحث الذي يقوم به محليا علماء مبدعون في
ميادينهم ، و مدركون أوضاع وطنهم و حاجاته. علماء لا يلمّون طبعا بكل حديث في كل
ميدان ، و لكنهم قادرون على تقصي كل حديث ، قادرون على طرح الأسئلة و على تلقي الأجوبة.البحث
العلمي الوطني هو الأداة الوحيدة القادرة على تمكين الوطن من مواكبة العصر.
أما الصلة بين البحث العلمي
و بين حاجات المجتمع فيمكن التماسها في كل مجال : في الزراعة أو الصناعة كما في
التربية و الإدارة ، أو في غير هذه و تلك.و يكفي أن نشير ، على سبيل المثال ، إلى
أن نقل تقنيات الزراعة المستخدمة في فرنسا أو في أمريكا ، لا يجدي في حل مشاكل
الزراعة العربية.فالظروف المناخية ، و البنية الاقتصادية ، و المستوى الثقافي -
التربوي لدى المزارعين العرب ، تستوجب أقلمة [ أقْلَمه:جعله يتعود مناخا جديدا ] التقنيات المستوردة ،
أو اختراع التقنيات المناسبة.
يكفي أن نضيف ، على سبيل
المثال ، أن الأبحاث التربوية المستوردة و المعلّبة - على أهميتها - لا تصلح في
الدول العربية إلا كدليل أولي ( أو كنموذج) للأبحاث التربوية الوطنية. و هل تصلح
الدراسات الصحية في السويد أساسا لتدابير صحية عربية؟ أو هل تصلح إدارة الضمان
الاجتماعي هناك ، لنسخ إدارة مماثلة لها هنا؟
من يتولى هذه المهام؟
يخترع المجتمع عادة ،
الوسائل العديدة لتلبية هذه الحاجات.يقيم مجلسا وطنيا للبحوث العلمية ، يقيم معهدا
للبحوث الصناعية ، يقيم مختبر الصحة المركزي ، يقيم مؤسسات الدراسات السياسية (
الاستراتيجية) أو مراكز للبحوث الاجتماعية،..
ولكن من يتأمل في كل هذه
المؤسسات ( و كلها موجودة في معظم الدول العربية)، يلاحظ أن الجامعة هي النبع،
[الذي] تغرف منه كل المؤسسات.و بدون الجامعة ، كبؤرة علمية ، تضطرب أمور هذه
المؤسسات إلى حد لا يحتمل.
و إذا كان لأي كان أن يساهم
في أي من هذه الأعمال ، فإنه غير مطالب بذلك و لا مسؤولية عليه إن لم يفعل.و لكن
الجامعة تبقى ، في هذا المجال ، في وضع فريد:إن عليها أن تساهم في بعض أو كل هذه
الأعمال ، إنها مطالبة بذلك ، تقع عليها المسؤولية إن لم تفعل.
دور الجامعة في عملية الإبداع
قد يشتطّ بعض المغالين
بحماسهم للبحث العلمي ، فيحسبون أنه و الإبداع صنوان.و لكننا لا نشارك هؤلاء فيما
يذهبون إليه.
قد يكون في ممارسة بعض
البحث العلمي ، بعض من الإبداع ، و لكن لا يجيز لنا ذلك أن نخلط بين الاثنين.
و مع أننا نستعمل كلمة
البحث العلمي بمعناها الواسع ، الذي يشمل البحث الأدبي و الحقوقي و الفقهي.فإننا
لا نستطيع المقارنة بين أبي نواس و بين دارس أبي نواس[ ت 199ه/813م] ، و لا بين انشتاين[ Einstein(1879-1955)] ( الرمز)
و بين تلامذته الكثر ، و حتى لو كانوا علماء.
البحث العلمي منهجية و
تقنية ، و قد يكون فيه الإبداع أيضا ، و لكن ليس عليه - في العرف السائد - أن يكون
إبداعا.
هذه الملاحظات تبرر في
نظرنا ، أن نخصص لعملية الإبداع فقرة خاصة ، تلي فقرة البحث العلمي ، دون أن يكون
في ذلك تكرارا.
دور الجامعة في الإبداع ،
دور ثانوي ، إذا اعتبرنا أن الإبداع حر من كل قيد، و هو كذلك.إنه لا يفترض شهادة
مهما دنى مستواها في هرم الشهادات ، و هو في الأساس لا يفترض معرفة محددة بالنوع
أو بالكمية.و هو بالتالي لا يشرق في مكان معين دون سواه.نكاد نقول ، مبدئيا ، إن
لا علاقة سببية بين الجامعة و الإبداع.و لكننا نؤكد أن الإبداع لا ينبثق من فراغ ،
و لا نعرف مبدعا تخطى الموروث دون اختزانه.
نسوق ، للدلالة على ذلك قصة
أبي نواس ، الذي قصد يافعا شاعرا مشهورا هو " والبة بن الحباب"[170ه/786] ، و قال
له ما معناه : " أريد أن أصبح شاعرا".فقال "والبة ، و قد توسم فيه
النباهة :" اخرج إلى البادية ، و احفظ ما قالته العرب".ففعل أبونواس ، و
حفظ من أعراب البادية ديوان العرب في يومه.و بعد سنة أو تزيد عاد إلى
"والبة" وقال :" لقد حفظت ما قالته العرب" ، أجاب والبة :"
انس ما حفظت ، و اقرض الشعر".ففعل أبو نواس ذلك ، و كان من كان في الإبداع و
التخطي.
تدلنا هذه القصة إلى أن للجامعة
في الإبداع دورا هاما ، و إن لم يكن ملزما.
ما نود قوله ، في كل ما
تقدم ، هو أن على الجامعة أن تقدم لمجتمعها المعرفة التي لا بد أن تسبق كل
إبداع.على الجامعة أن تكون البؤرة الثقافية التي تحث على الإبداع.على الجامعة أن
تسهم في خلق المناخ الملائم لعملية الإبداع.
و لكن الجامعة لا يمكن أن
تلعب هذا الدور ، إن لم تع أنّ عليها أن تكون كذلك..
***
المرجع: د.حافظ قبيسي-
التعليم العالي العربي: بين حق المواطن في العلم و حق الوطن في النخبة- عالم
الفكر- المجلس الوطني للثقافة و الفنون- الكويت- المجلد الرابع و العشرون- العددان
الأول و الثاني- أبريل/يونيو 1995- ص ص 69-74.
استاذ
ردحذفرايناك لم تقم بتصحيح الامتحان الضريبي لهذه السنة ؟
استاذ
ردحذفرايناك لم تقم بتصحيح الامتحان الضريبي لهذه السنة ؟