السبت، 28 مارس 2020


المبحث الرابع:القواعد الأساسية للضريبة
لقد أشرنا، في مقدمة هذه الدروس، إلا أن الإشكالية الأساسية في التشريع الضريبي، هي التناقض الموجود بين مصلحة الحكومة ، و مصالح المكلفين:فالدولة تريد الحصول على أكبر حصيلة جبائية ممكنة، و المكلف بالضريبة، يريد الحفاظ على أمواله، أو على الأقل أن يساهم في الأعباء العامة، على قدر استطاعته.
عن هذا التناقض، نشأت الكثير من الأفكار التي حاولت التوفيق بين هذين " المطلبين المتنافضين: حق الدولة في الحصول على الضرائب، لتمويل نفقاتها العامة أو لأي غرض آخر يخدم الصالح العام، من جهة، و من جهة أخرى احترام حق الملزم و حريته، في ألا يكلف فوق طاقته.
و من المفكرين الذين اهتموا بهذا الموضوع، رائد الفكر الاقتصادي الشهير " آدم سميث"، فلقد وضع مجموعة من المبادئ أو الضوابط، اعتبرها أساسية للتوفيق بين مصلحة الخزينة العامة و المكلف.و لقد استقرت هذه القواعد منذ أن وضعها مؤسسها، و صارت "دستورا"، تلتزم به الهيئات التشريعية، عبر العالم.
 و لقد تم تعديل هذا الدستور من خلال إضافات ، حاولت الاستجابة إلى متطلبات الدولة المعاصرة، التي تراعي الظروف و التطورات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، عند اختيار الأوعية الجبائية، و الأشخاص الخاضعين للضرائب.إلا أن هذه التعديلات، على أهميتها، بقيت داخل الإطار العام، الذي وضعه " سميث"، من خلاله قواعده الأربعة المحددة للضريبة الجيدة.
و سنتناول هذه القواعد الأربعة،في إيجاز، و هي قاعدة العدالة أو المساواة(المطلب الأول)، و قاعدة اليقين في الدفع (المطلب الثاني)، و قاعدة الملاءمة (المطلب الثالث)، و قاعدة الاقتصاد في نفقات الجباية( المطلب الرابع( .و سنستكمل هذا الحديث، بتناول قاعدة وفرة الحصيلة (المطلب الخامس)، و قاعدة المرونة (المطلب السادس)، و قاعدة الحياد (المطلب السابع).
المطلب الأول:قاعدة العدالة:
تعني هذه القاعدة؛ مساهمة كل أعضاء الجماعة الاجتماعية (المجتمع)، في تحمل أعباء الدولة، تبعا لمقدرتهم التكليفية، بحيث تكون مساهمة أعضاء الجماعة،في الأعباء العامة، بالتناسب مع دخولهم. و معنى هذا أن "آدم سميث" كان من أنصار الضريبة النسبية.
و في الواقع، لقد كان هذا الرأي مشتركا بين معظم - إن لم نقل كل[1]- المفكرين الكلاسيكيين؛ فجميعهم اعتبروا ان الضريبة النسبية، هي التي تحقق العدالة بين المكلفين. و لعل السر في موقفهم هذا، يعود إلى أنهم، كانوا يتبنون التكييف القانوني للضريبة، على أنها "عقد مالي"؛ يؤديها كل مكلف، بمقدار يتناسب مع دخله .
و لقد تخلى المفكرون - الاقتصاديون، و الجبائيونن و السياسيون-، عن وجهة النظر هذه،قيما بعد، و تبنوا "نظرية التضامن "، كأساس للضريبة، و من ثم اعتبروا الضريبة التصاعدية، هي الضريبة التي تحقق المساواة و العدالة بين المكلفين؛لأنها تسمح لكل مكلف أن يساهم على قدر طاقته و مقدرته التكليفية.
و عليه،صارت فكرة العدالة اليوم، تقتضي أيضا،أن تكون الضريبة عامة، تضرب على الجميع، و لكن مع مراعاة إعفاء الحد الأدنى الذي يكفل للفقراء أن يعيشوا، ومن جهة، و تخفيض الضريبة على المكلفين المثقلين بأعباء عائلية أو ديون أو غيرها، تجعلهم غير قادرين على تحمل الضريبة على قدم المساواة مع غيرهم.
المطلب الثاني:قاعدة اليقين
 تنصرف هذه القاعدة، كما حددها "آدم سميث"، إلى ضرورة أن تكون الضريبة محددة بوضوح، بحيث تتولد القناعة لدى المكلف بأنه يدفع ما يستحق عليه من ضرائب دونما تحيز أو تمييز أو تحكم. " الوضوح و اليقين"، في الحقيقة، ينصرفان إلى كل ما يتعلق بالضريبة، من حيث مبلغها ، و الأشخاص المكلفين بها، و الأسعار المطبقة عليها، و الإعفاءات التي يتمتع بها المكلف بها،و ميعاد الوفاء بها، و طريقة هذا الوفاء،..إلخ.
و في الواقع،فإن الكثير من الأسباب التي تدفع بعض المكلفين إلى التهرب من أداء الضرب، أو تخلق المنازعات بين الإدارة الجبائية و المكلفين،إنما تعود إلى عدم احترام الإدارة لهذه القاعدة، فتخفي المعلومات عن المكلفين، و تفرض نفسها مفسرا وحيدا للقوانين، بل تعمل على إفراغ هذه القوانين من مضامينها الأصلية.
و لعله من أهم الإجراءات التي تتخذها الدولة، لاحترام هذه القاعدة، هو التدوين؛ أي جمع جميع القوانين الجبائية في مدونة واحدة؛ مما يسهل على المكلفين الاطلاع على النصوص القانونية و القرارات التنظيمية، و بالتالي ضمان حقوقهم إزاء الإدارة الجبائية( بل و يجب استكمال ذلك، بنشر الأحكام القضائية ذات الصلة أيضا).
المطلب الثالث:قاعدة الملاءمة في الدفع:
و يراد بهذه القاعدة، أن تكون مواعيد تحصيل الضريبة و إجراءات التحصيل ملائمة للمكلف تفاديا لثقل عبئها عليه.و كان " سميث" يرى أن الوقت الذي يحصل فيه المكلف على دخله، هو أفضل الأوقات لأداء الضريبة المفروضة على كسب العمل و على إيراد القيم المنقولة.و عملا بهذا المبدأ، تعمل الإدارات الجبائية اليوم، على اقتطاع الضريبة على بعض أصناف الدخول من المنبع، و بمجرد حصول المكلف على الدخل( الأجر أو الراتب..أو الحصة من أرباح الأسهم، أو عوائد الأموال المودعة في البنوك..).بل أصبحت تلزم حتى الخاضعين للضرائب، و فق نظام التصريحات، بأن يؤدوا الضرائب على دفعات..و ذلك لتسهيل عمليات الأداء.

و قد لاحظ " سميث " كذلك، أن الضرائب على الاستهلاك- التي تقع في النهاية على عاتق المستهلك-، يتم دفعها في الوقت الملائم، و ذلك أن المستهلك يدفعها جزءا جزءا و بمناسبة الشراء، و أضاف أن المستهلك إذا تحمل قدرا من عدم الملاءمة، فليتحمل هو مسؤولية ذلك الخطأ؛لأنه حر في أن يشتري السلع الخاضعة للضرائب متى شاء:كأنه، يوصيه بالتملص من الضريبة.
المطلب الرابع:قاعدة الاقتصاد في نفقات الجباية:
 و تعرف هذه القاعدة كذلك بقاعدة " الكفاية و الاقتصاد"، و هي تنصرف إلى ضرورة الاقتصاد في نفقات جباية( تحصيل) الضرائب،أي ضرورة أن تنظم كل ضريبة بحيث لا يزيد ما تأخذه الإدارة الجبائية من المكلفين، عما يدخل الخزينة العامة، إلا بأقل مبلغ ممكن.
و لقد جرت العادة، أن الإدارة تستخلص من المكلفين مبلغا أكبر من المبلغ الذي يدخل الخزينة العامة،و ذلك لتغطية نفقات التحصيل. و هو ما يعني أنه كلما زادت نفقات الإدارة- أي النفقات الإدارية، و القانونية ، بالإضافة إلى ما يسمى بتكلفة "الطاعة أو الإكراه"[2]-، كلما أضيفت أعباء "ضريبة" إلى المكلف، من جهة، و انخفضت " الكفاية الاقتصادية" للضريبة، من جهة أخرى[3].

المطلب الخامس: قاعدة وفرة الحصيلة(المردودية)
إن من شروط الضريبة الجيدة أن تكون حصيلتها كبيرة، و إنتاجها مستمرا لا ينقطع.و من هنا يجب على المشرع أن يختار أوعية جبائية تتسم بالاستقرار النسبي، لضمان موارد يمكن الاعتماد عليها و زيادتها عند الضرورة.من ذلكن مثلا، أن الرأسمال يتسم بالاستقرار، و لكن لا يمكن إثقاله بالضرائب، مخافة استنزافه و إفنائه.في حين أن الدخل، يتميز بالاستقرار و الثبات، و يعتبر ملائما للتضريب، و الحصول منه على حصيلة وافرة من الأموال؛ و لذلك تعتبر الضريبة على الدخل إحدى المكونات الأساسية في النظم الجبائية، في معظم دول العالم المعاصرة، لا سيما في الدول المتقدمة، حيث يحقق الأفراد دخولا مرتفعة.كما أن الضرائب على الاستهلاك ( مثل الضريبة على القيمة المضافة)، و الضرائب على الاستيراد و التصدير ( الرسوم الجمركية)، تشكل أوعية مناسبة للتضريب، للحصول على حصيلة جبائية جيدة، و مستمرة[4].
المطلب السادس: قاعدة المرونة
إن الضريبة الجيدة،في نظر المفكرين الاقتصاديين، و علماء المالية، وفقهاء التشريع الضريبي المعاصرين؛ يجب أن تكون مرنة، أي قادرة على التكيف مع الظروف التي يعرفها البلد، و بالتالي الاستجابة للحاجيات المتغيرة  للحكومة؛ لأن الضريبة،كما مرّ معنا، تستعمل- في زمما المعاصر- لتحقيق أغراض كثيرة اقتصادية و اجتماعية و غيرها، و من ثم ينبغي لها أن تتسم بمرونة كبيرة حتى تتلاءم مع هذه المتطلبات الجددة و المتجددة.
و عليه فالضريبة الجيدة،وفق هذا المنطور، يجب، على سبيل المثال، أن تكون قابلة للزيادة السريعة ، خلال فترات النمو الاقتصادي، للحد من التضخم ( أي زيادة الأسعار)؛فتضاف إلى أسعار السلع و الخدمات، فتمنعها الأفراد و الشركات من المزيد من الإنفاق؛ فتحافظ الضرائب بذلك على أسعار السوق في حدود معينة لا تتجاوزها.و كذلك، يمكن النقص من أسعار الضرائب، في فترات الركود الاقتصادي؛ فتكثر الأموال بأيدي الأفراد و الشركات ، التي يمكنهم استعمالها في الإنفاق؛ و هكذا تساعد مرونة الضريبة على الانتعاش الاقتصادي.
المطلب السابع:قاعدة الحياد
 منذ " آدم سميث" على الأقل، و مرورا بـ " ديفيد ريكاردو"، إلى آخر ما..اعتقد علماء الاقتصاد الليبراليون ان الضرائب الجيدة يجب أن تكون محايدة، بحي لا تؤثر على القرارات الاقتصادية، التي يتخذها المكلفون بالضريبة.أي لا ينبغي أن تترك أي تأثير على سلوك المكلف: يجب أن يبقى سلوكه دون تغيير حتى بعد أداء الضريبة، فإن كان ينوي استهلاك سلعة معينة، فيجب أن لا يصرفه أداء الضريبة عن ذلك، مثلا.
و لكن هذا الرأي، صار مرفوضا اليوم، و لا يدافع عنه إلا أقلية قليلة من الليبراليين المتطرفين، أما أغلبية علماء الاقتصاد، و علماء و فقهاء الضريبة، فصاروا يعتقدون بأن الضريبة يجب أن تؤدي وظائف تؤثر على سلوك المكلفين، بشكل "إيجابي" أو سلبي"، حسب الأحوال"، بما يخدم المصلحة العامة: كأن تساهدم في تحقيق العدالة الاجتماعية، و الحد من الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء و الفقراء، و أن توجه الإدخار أو الاستثمار أو الاستهلاك، بما يحقق التنمية العامة للمجتمع.
***
و في الحقيقة، يبدو لي  أن البحث عن الضريبة الجيدة، حلم بعيد المنال..فهو يشبه الحلم الذي يراود بعض الأطباء و العلماء بالتوصل إلى الدواء الذي يجد طريقه إلى موضع الداء، دون أن يلحق أضرارا بباقي أعضاء الجسم.فكل دواء، مهما حاول العلماء، يحدث ضررا ببعض أعضاء الجسم..إذ من المستحيل صنع دواء يحتوي على عناصر العلاج فقط ( التي تقتل الجراثيم و تدمر الفيروسات مثلا)، و لكنه يخلو من العناصر التي تضر بأعضاء الجسم السليمة.
و من ثم فمن الصعب، إيجاد الضريبة التي تضرب الوعاء المستهدف( أو المكلف المستهدف)، دون أن تضر بباقي الأوعية ، أو باقي المكلفين...أو يكون تأثيرها محسوبا، و آثارها الجانبية..في حدود الغرض المراد بلوغه..أو الذي يمكن تحمله.
و لربما هذا هو الذي دفع المشرع الجبائي، في الكثير من البلدان، أن يستبدل الضرائب العامة  أو الشاملة (التي تحيط بدخل الملزم بمجمله) ؛ بالضرائب النوعية، التي تحاول من خلالها أن تأخذ الأوعية في مجملها؛لأنها تراعي مجمل-حتى لا نقول كل- ظروف الملزم،و تحد بالتالي من آثار الضرائب النوعية،التي قد تحدث كل منها ضررا بالملزم ، دون وعي بالأضرار التي تحدثها الضرائب النوعية الأخرى.



[1]  يمكن أن نستثني منهم، " جان بابتست ساي"، على سبيل المثال؛الذي كان يرى أن الضريبة النسبية أكثر عبئا على الفقير منها على الغني، و أنها تصدم العدالة.انظر: رفعت المحجوب- ص 42.
[2]  يراد بتكلفة الطاعة:"..مختلف الإجراءات و الجهود و الوسائل الكفيلة بإجبار المكلفين على الدفع للضرائب المستحقة عليهم، و عدم التهرب أو التحويل في العبء الضرائبي و غير ذلك..": العواملة- م. س- ص 135.
[3] انظر: رفغت المحجوب- م.س- ص ص 41-43؛ العواملة-م.س- ص ص 134-35.
[4]  العواملة- م. س- ص 134.

الجمعة، 27 مارس 2020


المبحث الثالث:الأساس القانوني للضريبة
إن السؤال الذي يطرح هنا، هو: ما هو الأساس القانوني الذي تستند إليه الدولة في فرض الضرائب؟
و في الإجابة عن هذا السؤال ، انقسم علماء المالية و فقهاء القانون، إلى فريقين كبيرين[1]:
 الأول ، يرى أن الدولة،تحصل الضرائب، استنادا إلى وجود نظرية العقد الاجتماعي (المطلب الأول)، و الرأي الآخر يذهب إلى أن هذا الحق، يستند على نظرية أن الضريبة؛ عمل من أعمال السيادة، التي تجد أساسها في فكرة التضامن الاجتماعي (المطلب الآخر).
و الجدير بالذكر،و من هنا تأتي أهمية هذا المبحث، أن الأسس أو المبررات القانونية ، التي بني عليها حق الدولة في فرض الضرائب،اعتمدت كمرتكزات،لإقامة مبادئ عامة للضريبة، كمبدأ "عمومية الضريبة أو ضرورة الضريبة"،و مبدأ " المساواة في تحمل "أعباء الضريبة، كل على قدر استطاعته"- و هذين المبدئين تحدثنا عنهما في مبحث سابق-، و مبدأ" التضامن بين الأجيال في تحمل الأعباء العامة"، و مبدأ" جنسية الضريبة"، و هما مبدئين أساسيين آخرين ، سنتناولهما بالبحث،في هذا المبحث.
المطلب الأول:نظرية العقد الاجتماعي
تقوم هذه النظرية على الأسس التي وضعها مفكرو العقد الاجتماعي، لا سيما " توماس هوبز"(T.Hobbes)(1588-1679)، و " جون لوك"(J.Locke)(1704-1632)، و "جان جاك روسو"(J.J.Rousseau)(1712-1778)، و غيرهم أيضا من أمثال " جان بودان"(J.Bodin)(1596-1530)[2]،و " مونتسكيو"(Montesquieu)(1689-1755)، و " ميرابو(الأب)"(de Mirabeau)(1715-1789)، و " جان باتست ساي"(J-B Say)(1767-1832)، و " برودون"(Proudhon)(1809-1865).. و غيرهم.
كل هؤلاء قالوا- على تباين بينهم في التفاصيل -؛ بأنه كما تنازل الأفراد للدولة- أو بالأحرى للحكومة-، عن جزء (أو أجزاء) من حرياتهم و حقوقهم بمقتضى عقد أبرم لهذا الغرض( في زمن ما)، في سبيل حماية الأجزاء الأخرى الباقية ؛فإنهم تنازلوا أيضا - بمقتضى نفس العقد أو بعقد مماثل معاصر او لاحق له-، عن جزء أو أجزاء من أموالهم، في سبيل حماية الأجزاء الباقية[3].
على هذا اتفق جميع أنصار نظرية العقد الاجتماعي، ثم اختلفوا بعد ذلك، حول مسألة التكييف القانوني لطبيعة هذا التعاقد..، و رتبوا على ذلك نتائج، تأثرت بها مختلف عناصر التنظيم الفني للضريبة[4].
أ- ففريق، رأى أنه عقد إيجار أعمال،و أن الأفراد اتفقوا مع الدولة على أن يؤدوا لها الضريبة، مقابل ما تقدمه لهم من منافع، و ينتج عن ذلك عدة نتائج في التطبيق، من أهمها:
أ/1 - أن تكون الضريبة متناسبة مع المنفعة التي يحصل عليها المكلف من ناحية، و يترتب على ذلك، من ناحية أخرى، ضرورة تناسب الضريبة مع الدخل و الثروة(لأن الغني ينتفع أكثر من الفقير، بالخدمات التي تقدمها الدولة:الأمن مثلا)؛
أ/2- أن تقوم الدولة بتقسيم نفقاتها إلى نفقات تغطى بالرسوم و أخرى تغطى بالضرائب:فتقتضي الرسوم اللازمة لتغطية النفقات العامة، لبعض المرافق، من الذين ينتفعون أو يستفيدون مباشرة منها (كالذين يستفيدون من التعليم العمومي، و الذين يستفيدون من المنتزهات و الحدائق، و المكتبات العامة، على سبيل المثال).و أن يقتصر التمويل بالضرائب، على تغطية النفقات العامة التي تؤدي إلى خلق منافع غير قابلة للتقسيم، مثل مرافق الأمن و القضاء، و الصحة العامة، و النظافة العامة،و ما شابه[5].
ب- و فريق ثان، على رأسهم الفرنسي "جان بودان"(Bodin)، رأى أنه عقد تأمين؛و أن اداءات الضريبة المتكررة، ليست إلا أداءات لأقساط التأمين، الذي بمقتضاه يؤمّن المكلف على أمواله، و ينتفع بها مطمئنا.و بما أن قسط التأمين يختلف باختلاف قيم الأشياء المؤمن عليها؛ فقد خلص أنصار هذا الرأي إلى أن العدالة تقتضي أن يؤدي الأغنياء-(مهما كان أصل ثرواتهم دخلا أو رأسمال أو خليطا منهما)-، أموالا ( أقساط تأمين) ، أكثر من الفقراء، و بذلك وجدوا تبريرا للضرائب التصاعدية[6]؛
ج- و فريق ثالث،اعتبر أن أساس الضريبة عقد شركة إنتاج:تشبّه هذه النظرية، المجتمع بشركة مساهمة؛ المساهمون هم أعضاء المجتمع، و الحكومة هي مجلس الإدارة.و جميع المساهمون،يعملون داخل المجتمع،منهم من يعمل بالزراعة، و منهم من يعمل بالتجارة، و منهم من يعمل بالصناعة..إلخ، و كل واحد منهم يتحمل نفقة عمله أو نشاطه "الإنتاجي"، و عليه أن يتحمل بالإضافة إلى ذلك جزءا من نفقة " مجلس الإدارة"(= الحكومة)،على شكل ضريبة، يدفعها لتمويل نفقات " الانتاج العامة"، و المتمثلة في القيام بمهام المرافق العامة، التي يستفيد منها جميع أعضاء المجتمع، و التي من دونها ما كان ليكون هناك إنتاج(كالحفاظ على الأمن، و الدفاع عن الوطن، و إنشاء الطرق و القناطر..إلخ).و مساهمة كل فرد في التكاليف العامة(الحكومية)، لها علاقة بما يملكه من " أسهم " في الشركة، أي ثروته:و يترتب على هذا الرأي ، ضرورة تضريب الرأسمال فقط دون الدخل، و ضرورة أن تكون الضريبة تناسبية مع هذا الرأسمال المنتج[7].
هذه هي أهم الآراء التي تفرعة عن نظرية " العقد المالي"، الذي عقد بين أفراد المجتمع و الدولة، و الذي على أساسه قامت هذه الأخيرة بفرض الضرائب، و تحصيلها.
و هذه النظرية، تعرضت إلى انتقادات كثيرة،من عدة نواح، أهمها؛ أنها أسست على "فرضيات" لم يثبت صحتها من الناحية التاريخية،إذ لم يثبت قيام علاقة تعاقدية بين الحاكم و المحكوم لا على تأسيس المجتمع، و لا الدولة..و لا على تأسيس الضريبة.
إلا أنه مع ذلك، لقد كان لهذه النظرية أهداف " نبيلة"، إذ حاولت الحد من سلطة الملوك في فرض الضرائب:فالقول بوجود عقد، يعني القول بوجود التزامات متبادلة،لا يجوز لأحد طرفي العقد تجاوزها، إلا بموافقة الطرف الآخر..و إلا اعتبر العقد " مفسوخا".
المطلب الآخر: نظرية التضامن الاجتماعي
لقد رأى بعض المفكرين، أن الأساس في فرض الضريبة، إنما ينبع من مبدأ التضامن بين أفراد المجتمع الواحد، الذي هو أساس الجماعة، و هو السبب في تكوين ثروات الأفراد.
فحسب وجهة النظر هاته، أن الفرد لا يمكن أن يعيش خارج المجتمع ،أي مجتمع. و أن كل ما ينتجه الفرد ليس انتاجه وحده، و إنما يتم ذلك بمساعدة الجماعة التي يعيش فيها،و بفضلها. و أنه من باب التضامن، أن  يساعد و يدعم كل فرد جماعته ،باسم التضامن أولا، و ثانيا لأنها هي التي كانت سببا مباشرا أو غير مباشر في حصوله على تلك الثروة.
و من هنا، يرى أنصار هذا الرأي، أن التضامن بين أفراد المجتمع ضرورة تاريخية و اجتماعية؛فهو ينشأ من تلقاء نفسه، و لكنه يحتاج ، لضمان استمراره، إلى الدولة- الممثل القانوني للمجتمع-، لتقوم على حاجياته المشتركة.
و هكذا، لكي تقوم الدولة، بتحقيق و ضمان استمرار التضامن الاجتماعي لأبناء الجماعة الواحدة، في الحاضر و المستقبل، فهي في حاجة إلى إيرادات مالية، للوفاء بمطالب هذه الأغراض.و لذلك فهي تلجأ إلى فرض الضرائب على أعضاء الجماعة ، بما لها من سيادة عليهم، و تحقيقا للتضامن بينهم. و "..و على ذلك فالضريبة لا تعدو أن تشكل طريقة لتوزيع الأعباء العامة التي اقتضاها مبدأ التضامن القومي بين أفراد الجماعة .."[8].
و يترتب على الأخذ بهذه النظرية النتائج التالية:
1- الضريبة فكرة سيادية،بمعنى أن الدولة تقوم بفرض الضرائب على أعضاء الجماعة بما لها من سيادة عليهم؛
2- أن تفرض الضريبة على جميع أعضاء المجتمع، لأنهم جميعا ملزمون بالتضامن، و هو ما يعني عمومية الضريبة، و فرضها على جميع أبناء الجماعة حيثما كانوا:و معنى هذا الأخذ بمبدئي "جنسية الضريبة" ، من ناحية ، و أيضا "إقليمية الضريبة"، من ناحية أخرى ؛لأن كل من يقيم فوق إقليم الجماعة، فهو " ينتمي" إليها، و إن مؤقتا،..و بالتالي يجب أن يتضامن معها؛
3- أن يساهم كل من ينتمي إلى الجماعة في التكاليف العامة التي تتحملها هذه الأخيرة أو يفرضها التضامن، لا على قدر انتفاعه من التضامن أو الجماعة، و إنما على قدر استطاعته على تحمل العبء الضريبي(= مقدرته التكليفية)؛
4- و يمكن، بناء على فكرة التضامن بين أجيال نفس الجماعة،أن نفسر التزام الجيل الحاضر بدفع ضرائب،يستخدم جزء من حصيلتها في خدمة قروض عامة "قديمة"،كانت الأجيال السابقة قد اقترضتها، و استنفدت كل منافعها[9].


[1]  هناك نظريات أخرى ، لا يتسع المجال لذكرها..فقت أهميتها،و لذلك قصرنا حديثنا على أهم نظريتين، إحداهما قديمة، و أخرى معاصرة نسبيا.
[2]  إن النظرية الحديثة للضريبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تعود إلى القرن الخامس عشر (في فرنسا)، و القرن الثالث عشر(في انجلترا)، عندما ظهرت فكرة  ضرورة موافقة الملزمين بكل ضريبة على أدائها، و تستند هذه الفكرة على فكرة أخرى مفادها أن موافقة الملزمين ضرورية ،لأن الضريبة تمس بحق الملكية، و هو أحد الحقوق الطبيعية للإنسان، التي لا يحق للحكومة المس بها، و إلا فقدت شرعيتها.
ولعل أول مفكر استند إلى هذه الفكرة الأخيرة، لإقامة الأسس لنظرية قانونية الضريبة، هو المفكر الفرنسي "جان بودان"، الذي تناول في كتابه (Les six livres de la République)(1577)، أسس مشروعية الضريبة و عدالتها.فالضريبة ، تعتبر مشروعة (Légitime) في نظره، لأنها الثمن الضروري الذي يدفع مقابل الحماية التي يوفرها الملك للأفراد.و كي تكون الضريبة عادلة (juste)، يجب أن يتساوى الجميع أمامها،دون تمييز بين الأشخاص.و لهذا كان "بودان" يفضل الضريبة العينية (L'impôt réel) على الضريبة الشخصية (L'impôt personnel)- و سنعرف الفرق بين هذين النوعين لاحقا.كما أنه كان يرى أن الضريبة " النسبية"، هي الصيغة الأنسب لتحقيق العدالة، لأنها تتناسب مع قدرات كل مكلف، و مع قدرات المجتمع و الدولة؛إذ تراعي حالات الانخفاض أو النقص الذي يمكن أن يحصل في قيمة النقود.
[3]  و من القائلين بهذا الرأي كل من " مونتسكيو" و " ميرابو":فالأول يقول إن " موارد الدولة إن هي إلا أنصبة يؤديها المواطنون من أموالهم لقاء أن تؤمنهم الدولة على ما تبقى في أيديهم منها، لتكفل لهم حق التمتع بها".أما الآخر(ميرابو)، فيرى أن " الضريبة دين عام يلتزم به المواطنون كثمن لتلك المزايا التي تؤديها الجماعة لهم..".انظر:الشاوي- نظرية الضريبة ..- م.س- ص 54.
[4]  الصكبان-م.س- ص 159؛ المحجوب- م.س- ص 33.
[5]  و يؤخذ على  هذه النظرية عدة مآخذ، من أهمها :1) أن الفقراء لا يؤدون ضرائب، و مع ذلك نجدهم( في الواقع)، ينتفعون بالخدمات التي تقدمها الدولة؛ و 2) بالإضافة إلى أنه من العسير تحديد المفعة التي تعود على كل فرد على حدة؛و 3)و يؤخذ على هذه النظرية كذلك، عدم قدرتها على تفسير التزام الجيل الحاضر بدفع ضرائب تخصص حصيلتها لخدمة قروض عامة، عقدتها الأجيال السابقة ، و استنفدت كل منافعها.انظر: رفعت المحجوب-م.س- ص 36؛ الزمراني- 233
[6]  الصكبان- ص 160؛ المحجوب- ص 37.و يضيف الأستاذ المحجوب( نفس المكان):"..و يؤخذ على هذه النظرية عدة مآخذ أهمها: أن..مقتضى عقد التأمين أن يلتزم المؤمن لديه بتعويض الضرر الذي يحدث للمؤمن، و هو ما لا يصدق في الضريبة.فالدولة لا تلتزم بتعويض الضرر الذي يلحق الممول، و لكنها تلتزم بحماية الأفراد، و بمعاقبة المتسبب في إضرارهم".
[7]   المحجوب- م.س- ص 38.و الصكبان- ص 160.
[8]  المحجوب- ص 39.
[9]  المحجوب-ص 40.


الفصل الثاني: الصفقة عقد إداري:
لدراسة الصفقة العمومية كعقد إداري، كان يجب أن نبحث فيها كعقد أولا، و من ثم النظر إلى طابعها الإداري.
و لقد درسنا في المبحث الأول الصفقة كعقد، و حان الوقت للطرح السؤال التالي:هل يعتبر اشتراك الإدارة ، كطرف، في الصفقة العمومية و الإنفاق على تمويلها من المال العام، مبررا كافيا لتصنيفها ضمن زمرة العقود الإدارية ؟
لقد مرّ معنا،أنه كي يعتبر العقد الذي تبرمه الإدارة عقدا إداريا- و ليس عقدا خاصا-، لابد أن يستوفي أحد الشرطين التاليين أو هما معا:
1-أن يعتبره القانون عقدا إداريا؛
2-أن تتوفر فيه  المعايير التي جاء بها الاجتهاد القضائي[1].
و في الواقع،إن عقود الصفقات العمومية، تستوفي هذين الشرطين معا. فالمشرع اعتبرها عقودا لأنها تتضمن، على الأقل ، الحد الأدنى من الشروط التي يجب توفرها في كل عقد عقد.و كذلك القضاء اعتبرها عقودا إدارية منذ أمد بعيد، في فرنسا، مهد القضاء الإداري، و من ثم في بلدان أخرى منها المغرب.أما الفقه، و هو موضوع حديثنا هنا بشكل خاص،فقد انقسم، كما مرّ معنا، إلى ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول يرى أن الصفقة العمومية، هي قبل كل شيء عقد؛لأنها تعبّر عن إرادات متقابلة، تتولد عنها التزامات تبادلية، و هي بذلك تختلف عن القرارات الانفرادية ( المبحث الأول
في حين أن الاتجاه الثاني،يرى أن التشابه بين عقد الصفقة- (باعتباره عقد إداري)- و العقد المدني ، لا يعني  التشابه في النتائج التي تترتب عن كل منهما ؛ لأن وجود الإدارة في عقد الصفقة جعلها تملي شروطها كما تشاء، تماما كما يحدث في عقود الإذعان (المبحث الثاني
أما الاتجاه الثالث، فذهب إلى أن الصفقات ،تشبه العقود العادية و عقود الإذعان معا، فهي تحقيق التوازن بين الأطراف المتعاقدة،فهي إذ تمنح الإدارة الكثير من الامتيازات ، إلا أنها لا تضحي بحقوق المتعاقد معها، مادام ذلك لا يتعارض مع المصلحة العامة ( المبحث الثالث).
المبحث الأول:الصفقة العمومية ..عقد تبادلي :
عند إبرام عقد من العقود، من الطبيعي أن يتراضى أطرافه ، على جميع العناصر المكونة له.لذلك فمن المنطقي جدا، أن تكون إرادة الموقعين على العقد تامة و واضحة، بالنسبة للالتزامات  الناتجة عنه.فهل هي كذلك بالنسبة للصفقات العمومية؟
لمعرفة ذلك، يجب علينا البحث في  طبيعة الالتزامات التي تنتج عن عقود الصفقات العمومية.هل هي فعلا التزامات متقابلة و متبادلة ؟ بشكل واضح، يبعدها عن مفهوم القرارات الانفرادية،التي تنفرد الإدارة بتطبيقها على الغير دون رضاهم؟
لنرى..
أ‌-       تنص المادة (13) في فقرتها( البند ألف)، من المرسوم 2.12.349 الصادر في 8 جمادى الأولى 1434( الموافق لـ 20 مارس 2013)، و التي سبقت الإشارة إليها أعلاه،على أن " الصفقات العمومية عقود مكتوبة تتضمن دفاتر تحملات تحدد شروط إبرامها و تنفيذها، و تتألف دفاتر التحملات من دفاتر الشروط الإدارية العامة و دفاتر الشروط المشتركة و دفاتر الشروط الخاصة"[2].
ب‌-   و تنص نفس المادة (البند جيم /الفقرة 3):"..تعقد الالتزامات المتبادلة التي تثبتها الصفقات على أساس عقد الالتزام الذي يوقعه نائل الصفقة[3] و على أساس دفتر الشروط الخاصة".
و يفهم من هذه الفقرة و التي قبلها أن الصفقات عقود مكتوبة تبادلية أو ذات التزامات متبادلة(contrat bilatéral)؛ ترتب التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين، و أن هذه الالتزامات مثبتة في=عقد الالتزام  + دفاتر التحملات..لاسيما دفتر الشروط الخاصة.
فما هو عقد الالتزام (acte d’engagement) هذا؟ و ما هو دفتر الشروط الخاصة؟
في المادة (13)( البند أ/ الفقرة3):"تحدد دفتر الشروط الخاصة البنود  المتعلقة بكل صفقة و تتضمن الإحالة إلى النصوص العامة المطبة و الإشارة غلى مواد دفاتر الشروط المشتركة، و عند الاقتضاء، إلى مواد دفاتر الشروط الإدارية العامة التي قد يتم الحيد عنها..".
 و بالرجوع إلى المرسوم، نجد المادة (27)، في بندها الأول ، تقول:" يجب أن تتضمن الملفات التي يقدمها المتنافسون، علاوة على دفتر الشروط الخاصة الموقع بالأحرف الأولى [من طرف صاحب المشروع] و الموقع عليه[من طرف نائل الصفقة]، مستندات الملف الإداري و الملف التقني و الملف الإضافي عند الاقتضاء(...) و عرضا ماليا...    
"1- يتضمن العرض المالي ما يلي:
" أ) عقد الالتزام الذي يلتزم بموجبه المتنافس بإنجاز الأعمال موضوع الصفقة طبقا للشروط المقررة في دفتر التحملات مقابل ثمن يقترحه.و يتم إعداد هذا العقد في نظير واحد.."[4].
هذان النصان يثيران الملاحظات الأساسية التالية:
أ‌-        عقد الالتزام، يلزم المتعاقد وحده؛
ب‌-     بتنفيذ الأعمال المحددة في دفتر التحملات: و رغم أن المشرع لا يحدد نوعية هذا الدفتر، إلا أنه بالنظر إلى المادة (13) من المرسوم- الفقرة " ب" أعلاه- نفهم بسهولة أن المقصود هو "دفتر التحملات الخاصة"؛
ت‌-      أن المتعاقد مع الإدارة يلتزم بالقيام بالعمل المحدد في دفتر التحملات الخاصة، مقابل ثمن يقترحه:و هذا يعني عمليا، أن الإيجاب الأصلي الصادر عن الإدارة- متمثلا في الإعلان عن الصفقة- قد لقي قبولا،و أن هذا الأخير أنتج "إيجابا " جديدا، متمثلا في الثمن الذي يقترحه المتنافس.
ث‌-     و إذن، فعملية إبرام الصفقة، في الظاهر على الأقل، فيها أخذ و عطاء، أي تفاوض على الشروط التي يجب تضمينها لعقد الصفقة.
و مما يدعم هذا الاستنتاج، ما جاء في مواد أخرى من القانون، لاسيما تلك المتعلقة بالصفقات التفاوضية:
1-    المادة (84):" المسطرة التفاوضية طريقة إبرام تختار بموجبها لجنة تفاوض نائلا، لصفقة بعد استشارة متنافس أو أكثر و التفاوض بشأن شروط الصفقة.
" تتعلق هذه المفاوضات على الخصوص بالثمن و أجل التنفيذ أو تاريخ الانتهاء أو التسليم و شروط التنفيذ و تسليم العمل.لا يجوز أن تتعلق هذه المفاوضات بموضوع الصفقة و محتواها[فهذه تحددها دفاتر التحملات]"؛
2-    المادة (87):" تبرم الصفقات التفاوضية:
"أ) إما بناء على عقد التزام يوقعه الراغب في التعاقد و على دفتر الشروط الخاصة؛
ب)إما بصفة استثنائية،بتبادل رسائل أو اتفاقية خاصة بالنسبة للأعمال المستعجلة (...) و يبين تبادل الرسائل أو الاتفاقية الخاصة المذكورة على الأقل على[كذا !] طبيعة  العمليات و كذا حدود التزامات السلطة المتعاقدة من حيث المبلغ و المدة، و يحدد لها ثمنا نهائيا أو ثمنا مؤقتا"؛
بعد استعراض هذه النصوص، نخلص إلى الاستنتاجات التالية:
       أولا) إن الصفقة تتكون من العناصر التالية:عقود مكتوبة  و  دفاتر تحملات تحدد شروط إبرامها و تنفيذها.
ثانيا) و بالتمعن في نصوص القانون، يتجلى أن العقد الأهم من كل تلك العقود هو "عقد الالتزام"، و أن الدفتر الأهم من كل تلك الدفاتر هو دفتر "التحملات الخاصة".
ثالثا) و السر في ذلك يعود إلى أن هذا العقد و ذاك الدفتر يكملان بعضهما بعضا، كما أنهما يتضمنان أو يحيلان على كل المقتضيات و الشروط المطلوبة لإبرام الصفقة أو تنفيذها؛
رابعا)فعقد الالتزام يحتوي على البيانات الأساسية المطلوبة  لصحة عقد الصفقة، و هي:طريقة إبرام الصفقة،و الإحالة على مواد المرسوم التي تم التعاقد على أساسها، بيان أطراف الصفقة، و موضوعها و محتوى الأعمال و مكان تنفيذها، و ثمنها، و أجل تنفيذها، و شروط استلام الأعمال، و شروط التسديد، و غير ذلك من الأمور الأساسية(المادة 13/ب)؛
خامسا)أما دفتر الشروط الخاصة، فيحدد البنود و الشروط التي يتم التفاوض و التراضي حولها فيما يتعلق بالصفقة موضوع العقد. بما في ذلك الشروط  التي قد تختلف مع مقتضيات دفتر الشروط المشتركة أو مواد دفتر الشروط الإدارية العامة(مع ضرورة الإشارة إلى ذلك )( المادة 13(أ/3).
و بناء على هذه الاستنتاجات يمكن القول إن عقد الالتزام يتضمن الشرط الأساسي للمتعاقد مع الإدارة متمثلا في الثمن.في حين أن الشروط الأخرى( المشار إليها أعلاه:رابعا) ، توجد في دفتر الشروط الخاصة.و أن مكونات هاتين الوثيقتين، هي التي تعبر عن الالتزامات المتقابلة ( الثمن مقابل إنجاز العمل المحدد في دفاتر التحملات، لاسيما الدفتر الخاص).و إذن، فعقد الصفقة، ليس عقدا انفراديا، تنفرد الإدارة بوضعه و إملائه، بل هو لا يتم إلا باشتراك طرفين متقابلين كل منهما يدافع عن مصالحه التي تختلف عن مصالح المتعاقد معه.و من ثم فإن الإدارة تجد نفسها مضطرة إلى بذل جهودها لإنجاح المفاوضات، شكل مباشر أو غير مباشر، حسب نوعية الصفقة( كما سنرى فيما يأتي، غن شاء الله تعالى).
  هذا، و لا يفوتني هنا التأكيد على نقطة سبقت الإشارة إليها، و لكن لا باس من تكرارها، ألا و هي أن التفاوض أو المساومة بين طرفي الصفقة،إنما تنصب بالأساس على "مضمون الالتزام"  و مضمون دفتر التحملات الخاصة ( و لو بشكل نسبي).أي أن هاتين الوثيقتين، لاسيما عقد الالتزام، هما جوهر التعاقد؛بدليل أن بعض مواد القانون المتعلق بالصفقات، نصت صراحة، على أن عقد الصفقة، يعتبر مبرما بصورة مجملة و صحيحة، إذا تم الاتفاق على الثمن و على طبيعة العمل المراد إنجازه مقابل ذلك الثمن، و هذه كما نعلم هي أهم العناصر المكونة لعقد الالتزام( انظر على سبيل المثال المادة 87، المشار إليها أعلاه).و عندما يتحدث القضاء ( و الفقه) عن البنود التعاقدية، و أنه لا يجوز للإدارة تعديلها إلا بإرادة الطرف المتعاقد معها؛فإنما يراد بذلك عقد الالتزام بالخصوص(و أهم عناصره الذي هو الثمن)[5].


[1]   و هي للتذكير :
أ‌-        أن تكون الإدارة طرفا في العقد؛
ب‌-     أن يكون إبرام العقد من أجل تسيير مرفق عمومي؛
ت‌-     أن يتضمن العقد شروطا تنتمي إلى " وسائل السلطة العامة".

[2]  سنتعرف على هذه الدفاتر بتفصيل لاحقا، إلا أنه يمكن القول بأنها تتضمن الشروط التي على أساسها سيتم إبرام الصفقة و تنفيذها.
[3]  و هو " المتنافس الذي تم قبول عرضه قبل تبليغ المصادقة على الصفقة": المادة (4) البند (1) من مرسوم 20 مار س 2013.
[4]  كان القضاء الإداري في مرحلة من المراحل، يعتبر مجرد الإحالة في العقد الذي تبرمه الإدارة، على دفتر من دفاتر التحملات، يكفي لمنحه صفة العقد الإداري.أما في اجتهاداته الأخيرة، فم يعد يعتبر وجود دفتر التحملات في حد ذاته معيارا، اللهم إلا إذا تضمن شروطا غير عادية، أو استثنائية ، تعبر عن السلطة العمومية.
[5]  سنرى نماذج من الأحكام القضائية المتعلقة بهذه الجزئية لاحقا، في سياق دراستنا للمنازعات المترتبة عن تنفيذ الصفقات( إن شاء الله تعالى).