المبحث
الرابع:القواعد الأساسية للضريبة
لقد أشرنا، في مقدمة هذه
الدروس، إلا أن الإشكالية الأساسية في التشريع الضريبي، هي التناقض الموجود بين
مصلحة الحكومة ، و مصالح المكلفين:فالدولة تريد الحصول على أكبر حصيلة جبائية
ممكنة، و المكلف بالضريبة، يريد الحفاظ على أمواله، أو على الأقل أن يساهم في
الأعباء العامة، على قدر استطاعته.
عن هذا التناقض، نشأت
الكثير من الأفكار التي حاولت التوفيق بين هذين " المطلبين المتنافضين: حق
الدولة في الحصول على الضرائب، لتمويل نفقاتها العامة أو لأي غرض آخر يخدم الصالح
العام، من جهة، و من جهة أخرى احترام حق الملزم و حريته، في ألا يكلف فوق طاقته.
و من المفكرين الذين اهتموا
بهذا الموضوع، رائد الفكر الاقتصادي الشهير " آدم سميث"، فلقد وضع
مجموعة من المبادئ أو الضوابط، اعتبرها أساسية للتوفيق بين مصلحة الخزينة العامة و
المكلف.و لقد استقرت هذه القواعد منذ أن وضعها مؤسسها، و صارت "دستورا"،
تلتزم به الهيئات التشريعية، عبر العالم.
و لقد تم تعديل هذا الدستور من خلال إضافات ،
حاولت الاستجابة إلى متطلبات الدولة المعاصرة، التي تراعي الظروف و التطورات
السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، عند اختيار الأوعية الجبائية، و الأشخاص
الخاضعين للضرائب.إلا أن هذه التعديلات، على أهميتها، بقيت داخل الإطار العام،
الذي وضعه " سميث"، من خلاله قواعده الأربعة المحددة للضريبة الجيدة.
و سنتناول هذه القواعد
الأربعة،في إيجاز، و هي قاعدة العدالة أو المساواة(المطلب الأول)، و قاعدة اليقين
في الدفع (المطلب الثاني)، و قاعدة الملاءمة (المطلب الثالث)، و قاعدة الاقتصاد في
نفقات الجباية( المطلب الرابع( .و سنستكمل هذا الحديث، بتناول قاعدة وفرة الحصيلة (المطلب
الخامس)، و قاعدة المرونة (المطلب السادس)، و قاعدة الحياد (المطلب السابع).
المطلب الأول:قاعدة
العدالة:
تعني هذه القاعدة؛ مساهمة كل أعضاء الجماعة الاجتماعية
(المجتمع)، في تحمل أعباء الدولة، تبعا لمقدرتهم التكليفية، بحيث تكون مساهمة
أعضاء الجماعة،في الأعباء العامة، بالتناسب مع دخولهم. و معنى هذا أن "آدم
سميث" كان من أنصار الضريبة النسبية.
و في الواقع، لقد كان هذا الرأي مشتركا بين معظم - إن لم
نقل كل[1]-
المفكرين الكلاسيكيين؛ فجميعهم اعتبروا ان الضريبة النسبية، هي التي تحقق العدالة
بين المكلفين. و لعل السر في موقفهم هذا، يعود إلى أنهم، كانوا يتبنون التكييف القانوني
للضريبة، على أنها "عقد مالي"؛ يؤديها كل مكلف، بمقدار يتناسب مع دخله .
و لقد تخلى المفكرون - الاقتصاديون، و الجبائيونن و
السياسيون-، عن وجهة النظر هذه،قيما بعد، و تبنوا "نظرية التضامن "، كأساس
للضريبة، و من ثم اعتبروا الضريبة التصاعدية، هي الضريبة التي تحقق المساواة و
العدالة بين المكلفين؛لأنها تسمح لكل مكلف أن يساهم على قدر طاقته و مقدرته
التكليفية.
و عليه،صارت فكرة العدالة اليوم، تقتضي أيضا،أن تكون الضريبة عامة، تضرب
على الجميع، و لكن مع مراعاة إعفاء الحد الأدنى الذي يكفل للفقراء أن يعيشوا، ومن
جهة، و تخفيض الضريبة على المكلفين المثقلين بأعباء عائلية أو ديون أو غيرها،
تجعلهم غير قادرين على تحمل الضريبة على قدم المساواة مع غيرهم.
المطلب الثاني:قاعدة
اليقين
تنصرف هذه
القاعدة، كما حددها "آدم سميث"، إلى ضرورة أن تكون الضريبة محددة بوضوح،
بحيث تتولد القناعة لدى المكلف بأنه يدفع ما يستحق عليه من ضرائب دونما تحيز أو
تمييز أو تحكم. " الوضوح و اليقين"، في الحقيقة، ينصرفان إلى كل ما
يتعلق بالضريبة، من حيث مبلغها ، و الأشخاص المكلفين بها، و الأسعار المطبقة
عليها، و الإعفاءات التي يتمتع بها المكلف بها،و ميعاد الوفاء بها، و طريقة هذا
الوفاء،..إلخ.
و في الواقع،فإن الكثير من الأسباب التي تدفع بعض
المكلفين إلى التهرب من أداء الضرب، أو تخلق المنازعات بين الإدارة الجبائية و المكلفين،إنما
تعود إلى عدم احترام الإدارة لهذه القاعدة، فتخفي المعلومات عن المكلفين، و تفرض
نفسها مفسرا وحيدا للقوانين، بل تعمل على إفراغ هذه القوانين من مضامينها الأصلية.
و لعله من أهم الإجراءات التي تتخذها الدولة، لاحترام
هذه القاعدة، هو التدوين؛ أي جمع جميع القوانين الجبائية في مدونة واحدة؛ مما يسهل
على المكلفين الاطلاع على النصوص القانونية و القرارات التنظيمية، و بالتالي ضمان
حقوقهم إزاء الإدارة الجبائية( بل و يجب استكمال ذلك، بنشر الأحكام القضائية ذات
الصلة أيضا).
المطلب الثالث:قاعدة
الملاءمة في الدفع:
و يراد بهذه القاعدة، أن تكون مواعيد تحصيل الضريبة و
إجراءات التحصيل ملائمة للمكلف تفاديا لثقل عبئها عليه.و كان " سميث"
يرى أن الوقت الذي يحصل فيه المكلف على دخله، هو أفضل الأوقات لأداء الضريبة
المفروضة على كسب العمل و على إيراد القيم المنقولة.و عملا بهذا المبدأ، تعمل
الإدارات الجبائية اليوم، على اقتطاع الضريبة على بعض أصناف الدخول من المنبع، و
بمجرد حصول المكلف على الدخل( الأجر أو الراتب..أو الحصة من أرباح الأسهم، أو
عوائد الأموال المودعة في البنوك..).بل أصبحت تلزم حتى الخاضعين للضرائب، و فق
نظام التصريحات، بأن يؤدوا الضرائب على دفعات..و ذلك لتسهيل عمليات الأداء.
و قد لاحظ " سميث " كذلك، أن الضرائب على
الاستهلاك- التي تقع في النهاية على عاتق المستهلك-، يتم دفعها في الوقت الملائم،
و ذلك أن المستهلك يدفعها جزءا جزءا و بمناسبة الشراء، و أضاف أن المستهلك إذا
تحمل قدرا من عدم الملاءمة، فليتحمل هو مسؤولية ذلك الخطأ؛لأنه حر في أن يشتري السلع
الخاضعة للضرائب متى شاء:كأنه، يوصيه بالتملص من الضريبة.
المطلب الرابع:قاعدة
الاقتصاد في نفقات الجباية:
و تعرف هذه
القاعدة كذلك بقاعدة " الكفاية و الاقتصاد"، و هي تنصرف إلى ضرورة
الاقتصاد في نفقات جباية( تحصيل) الضرائب،أي ضرورة أن تنظم كل ضريبة بحيث لا يزيد
ما تأخذه الإدارة الجبائية من المكلفين، عما يدخل الخزينة العامة، إلا بأقل مبلغ
ممكن.
و لقد جرت العادة، أن الإدارة تستخلص من المكلفين مبلغا
أكبر من المبلغ الذي يدخل الخزينة العامة،و ذلك لتغطية نفقات التحصيل. و هو ما
يعني أنه كلما زادت نفقات الإدارة- أي النفقات الإدارية، و القانونية ، بالإضافة
إلى ما يسمى بتكلفة "الطاعة أو الإكراه"[2]-،
كلما أضيفت أعباء "ضريبة" إلى المكلف، من جهة، و انخفضت " الكفاية
الاقتصادية" للضريبة، من جهة أخرى[3].
المطلب
الخامس: قاعدة وفرة الحصيلة(المردودية)
إن من شروط الضريبة الجيدة
أن تكون حصيلتها كبيرة، و إنتاجها مستمرا لا ينقطع.و من هنا يجب على المشرع أن
يختار أوعية جبائية تتسم بالاستقرار النسبي، لضمان موارد يمكن الاعتماد عليها و
زيادتها عند الضرورة.من ذلكن مثلا، أن الرأسمال يتسم بالاستقرار، و لكن لا يمكن
إثقاله بالضرائب، مخافة استنزافه و إفنائه.في حين أن الدخل، يتميز بالاستقرار و
الثبات، و يعتبر ملائما للتضريب، و الحصول منه على حصيلة وافرة من الأموال؛ و لذلك
تعتبر الضريبة على الدخل إحدى المكونات الأساسية في النظم الجبائية، في معظم دول
العالم المعاصرة، لا سيما في الدول المتقدمة، حيث يحقق الأفراد دخولا مرتفعة.كما
أن الضرائب على الاستهلاك ( مثل الضريبة على القيمة المضافة)، و الضرائب على
الاستيراد و التصدير ( الرسوم الجمركية)، تشكل أوعية مناسبة للتضريب، للحصول على
حصيلة جبائية جيدة، و مستمرة[4].
المطلب
السادس: قاعدة المرونة
إن الضريبة الجيدة،في نظر
المفكرين الاقتصاديين، و علماء المالية، وفقهاء التشريع الضريبي المعاصرين؛ يجب أن
تكون مرنة، أي قادرة على التكيف مع الظروف التي يعرفها البلد، و بالتالي الاستجابة
للحاجيات المتغيرة للحكومة؛ لأن
الضريبة،كما مرّ معنا، تستعمل- في زمما المعاصر- لتحقيق أغراض كثيرة اقتصادية و
اجتماعية و غيرها، و من ثم ينبغي لها أن تتسم بمرونة كبيرة حتى تتلاءم مع هذه
المتطلبات الجددة و المتجددة.
و عليه فالضريبة الجيدة،وفق
هذا المنطور، يجب، على سبيل المثال، أن تكون قابلة للزيادة السريعة ، خلال فترات
النمو الاقتصادي، للحد من التضخم ( أي زيادة الأسعار)؛فتضاف إلى أسعار السلع و
الخدمات، فتمنعها الأفراد و الشركات من المزيد من الإنفاق؛ فتحافظ الضرائب بذلك
على أسعار السوق في حدود معينة لا تتجاوزها.و كذلك، يمكن النقص من أسعار الضرائب،
في فترات الركود الاقتصادي؛ فتكثر الأموال بأيدي الأفراد و الشركات ، التي يمكنهم
استعمالها في الإنفاق؛ و هكذا تساعد مرونة الضريبة على الانتعاش الاقتصادي.
المطلب
السابع:قاعدة الحياد
منذ " آدم سميث" على الأقل، و مرورا بـ " ديفيد
ريكاردو"، إلى آخر ما..اعتقد علماء الاقتصاد الليبراليون ان الضرائب الجيدة
يجب أن تكون محايدة، بحي لا تؤثر على القرارات الاقتصادية، التي يتخذها المكلفون
بالضريبة.أي لا ينبغي أن تترك أي تأثير على سلوك المكلف: يجب أن يبقى سلوكه دون
تغيير حتى بعد أداء الضريبة، فإن كان ينوي استهلاك سلعة معينة، فيجب أن لا يصرفه
أداء الضريبة عن ذلك، مثلا.
و لكن هذا الرأي، صار
مرفوضا اليوم، و لا يدافع عنه إلا أقلية قليلة من الليبراليين المتطرفين، أما
أغلبية علماء الاقتصاد، و علماء و فقهاء الضريبة، فصاروا يعتقدون بأن الضريبة يجب
أن تؤدي وظائف تؤثر على سلوك المكلفين، بشكل "إيجابي" أو سلبي"،
حسب الأحوال"، بما يخدم المصلحة العامة: كأن تساهدم في تحقيق العدالة
الاجتماعية، و الحد من الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء و الفقراء، و أن توجه
الإدخار أو الاستثمار أو الاستهلاك، بما يحقق التنمية العامة للمجتمع.
***
و في الحقيقة، يبدو لي أن البحث عن الضريبة الجيدة، حلم بعيد
المنال..فهو يشبه الحلم الذي يراود بعض الأطباء و العلماء بالتوصل إلى الدواء الذي
يجد طريقه إلى موضع الداء، دون أن يلحق أضرارا بباقي أعضاء الجسم.فكل دواء، مهما
حاول العلماء، يحدث ضررا ببعض أعضاء الجسم..إذ من المستحيل صنع دواء يحتوي على
عناصر العلاج فقط ( التي تقتل الجراثيم و تدمر الفيروسات مثلا)، و لكنه يخلو من
العناصر التي تضر بأعضاء الجسم السليمة.
و من ثم فمن الصعب، إيجاد
الضريبة التي تضرب الوعاء المستهدف( أو المكلف المستهدف)، دون أن تضر بباقي
الأوعية ، أو باقي المكلفين...أو يكون تأثيرها محسوبا، و آثارها الجانبية..في حدود
الغرض المراد بلوغه..أو الذي يمكن تحمله.
و لربما هذا هو الذي دفع
المشرع الجبائي، في الكثير من البلدان، أن يستبدل الضرائب العامة أو الشاملة (التي تحيط بدخل الملزم بمجمله) ؛ بالضرائب
النوعية، التي تحاول من خلالها أن تأخذ الأوعية في مجملها؛لأنها تراعي مجمل-حتى لا
نقول كل- ظروف الملزم،و تحد بالتالي من آثار الضرائب النوعية،التي قد تحدث كل منها
ضررا بالملزم ، دون وعي بالأضرار التي تحدثها الضرائب النوعية الأخرى.
[1] يمكن أن نستثني منهم، " جان بابتست
ساي"، على سبيل المثال؛الذي كان يرى أن الضريبة النسبية أكثر عبئا على الفقير
منها على الغني، و أنها تصدم العدالة.انظر: رفعت المحجوب- ص 42.
[2] يراد بتكلفة الطاعة:"..مختلف الإجراءات و
الجهود و الوسائل الكفيلة بإجبار المكلفين على الدفع للضرائب المستحقة عليهم، و
عدم التهرب أو التحويل في العبء الضرائبي و غير ذلك..": العواملة- م. س- ص
135.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق