الجمعة، 27 مارس 2020


المبحث الثالث:الأساس القانوني للضريبة
إن السؤال الذي يطرح هنا، هو: ما هو الأساس القانوني الذي تستند إليه الدولة في فرض الضرائب؟
و في الإجابة عن هذا السؤال ، انقسم علماء المالية و فقهاء القانون، إلى فريقين كبيرين[1]:
 الأول ، يرى أن الدولة،تحصل الضرائب، استنادا إلى وجود نظرية العقد الاجتماعي (المطلب الأول)، و الرأي الآخر يذهب إلى أن هذا الحق، يستند على نظرية أن الضريبة؛ عمل من أعمال السيادة، التي تجد أساسها في فكرة التضامن الاجتماعي (المطلب الآخر).
و الجدير بالذكر،و من هنا تأتي أهمية هذا المبحث، أن الأسس أو المبررات القانونية ، التي بني عليها حق الدولة في فرض الضرائب،اعتمدت كمرتكزات،لإقامة مبادئ عامة للضريبة، كمبدأ "عمومية الضريبة أو ضرورة الضريبة"،و مبدأ " المساواة في تحمل "أعباء الضريبة، كل على قدر استطاعته"- و هذين المبدئين تحدثنا عنهما في مبحث سابق-، و مبدأ" التضامن بين الأجيال في تحمل الأعباء العامة"، و مبدأ" جنسية الضريبة"، و هما مبدئين أساسيين آخرين ، سنتناولهما بالبحث،في هذا المبحث.
المطلب الأول:نظرية العقد الاجتماعي
تقوم هذه النظرية على الأسس التي وضعها مفكرو العقد الاجتماعي، لا سيما " توماس هوبز"(T.Hobbes)(1588-1679)، و " جون لوك"(J.Locke)(1704-1632)، و "جان جاك روسو"(J.J.Rousseau)(1712-1778)، و غيرهم أيضا من أمثال " جان بودان"(J.Bodin)(1596-1530)[2]،و " مونتسكيو"(Montesquieu)(1689-1755)، و " ميرابو(الأب)"(de Mirabeau)(1715-1789)، و " جان باتست ساي"(J-B Say)(1767-1832)، و " برودون"(Proudhon)(1809-1865).. و غيرهم.
كل هؤلاء قالوا- على تباين بينهم في التفاصيل -؛ بأنه كما تنازل الأفراد للدولة- أو بالأحرى للحكومة-، عن جزء (أو أجزاء) من حرياتهم و حقوقهم بمقتضى عقد أبرم لهذا الغرض( في زمن ما)، في سبيل حماية الأجزاء الأخرى الباقية ؛فإنهم تنازلوا أيضا - بمقتضى نفس العقد أو بعقد مماثل معاصر او لاحق له-، عن جزء أو أجزاء من أموالهم، في سبيل حماية الأجزاء الباقية[3].
على هذا اتفق جميع أنصار نظرية العقد الاجتماعي، ثم اختلفوا بعد ذلك، حول مسألة التكييف القانوني لطبيعة هذا التعاقد..، و رتبوا على ذلك نتائج، تأثرت بها مختلف عناصر التنظيم الفني للضريبة[4].
أ- ففريق، رأى أنه عقد إيجار أعمال،و أن الأفراد اتفقوا مع الدولة على أن يؤدوا لها الضريبة، مقابل ما تقدمه لهم من منافع، و ينتج عن ذلك عدة نتائج في التطبيق، من أهمها:
أ/1 - أن تكون الضريبة متناسبة مع المنفعة التي يحصل عليها المكلف من ناحية، و يترتب على ذلك، من ناحية أخرى، ضرورة تناسب الضريبة مع الدخل و الثروة(لأن الغني ينتفع أكثر من الفقير، بالخدمات التي تقدمها الدولة:الأمن مثلا)؛
أ/2- أن تقوم الدولة بتقسيم نفقاتها إلى نفقات تغطى بالرسوم و أخرى تغطى بالضرائب:فتقتضي الرسوم اللازمة لتغطية النفقات العامة، لبعض المرافق، من الذين ينتفعون أو يستفيدون مباشرة منها (كالذين يستفيدون من التعليم العمومي، و الذين يستفيدون من المنتزهات و الحدائق، و المكتبات العامة، على سبيل المثال).و أن يقتصر التمويل بالضرائب، على تغطية النفقات العامة التي تؤدي إلى خلق منافع غير قابلة للتقسيم، مثل مرافق الأمن و القضاء، و الصحة العامة، و النظافة العامة،و ما شابه[5].
ب- و فريق ثان، على رأسهم الفرنسي "جان بودان"(Bodin)، رأى أنه عقد تأمين؛و أن اداءات الضريبة المتكررة، ليست إلا أداءات لأقساط التأمين، الذي بمقتضاه يؤمّن المكلف على أمواله، و ينتفع بها مطمئنا.و بما أن قسط التأمين يختلف باختلاف قيم الأشياء المؤمن عليها؛ فقد خلص أنصار هذا الرأي إلى أن العدالة تقتضي أن يؤدي الأغنياء-(مهما كان أصل ثرواتهم دخلا أو رأسمال أو خليطا منهما)-، أموالا ( أقساط تأمين) ، أكثر من الفقراء، و بذلك وجدوا تبريرا للضرائب التصاعدية[6]؛
ج- و فريق ثالث،اعتبر أن أساس الضريبة عقد شركة إنتاج:تشبّه هذه النظرية، المجتمع بشركة مساهمة؛ المساهمون هم أعضاء المجتمع، و الحكومة هي مجلس الإدارة.و جميع المساهمون،يعملون داخل المجتمع،منهم من يعمل بالزراعة، و منهم من يعمل بالتجارة، و منهم من يعمل بالصناعة..إلخ، و كل واحد منهم يتحمل نفقة عمله أو نشاطه "الإنتاجي"، و عليه أن يتحمل بالإضافة إلى ذلك جزءا من نفقة " مجلس الإدارة"(= الحكومة)،على شكل ضريبة، يدفعها لتمويل نفقات " الانتاج العامة"، و المتمثلة في القيام بمهام المرافق العامة، التي يستفيد منها جميع أعضاء المجتمع، و التي من دونها ما كان ليكون هناك إنتاج(كالحفاظ على الأمن، و الدفاع عن الوطن، و إنشاء الطرق و القناطر..إلخ).و مساهمة كل فرد في التكاليف العامة(الحكومية)، لها علاقة بما يملكه من " أسهم " في الشركة، أي ثروته:و يترتب على هذا الرأي ، ضرورة تضريب الرأسمال فقط دون الدخل، و ضرورة أن تكون الضريبة تناسبية مع هذا الرأسمال المنتج[7].
هذه هي أهم الآراء التي تفرعة عن نظرية " العقد المالي"، الذي عقد بين أفراد المجتمع و الدولة، و الذي على أساسه قامت هذه الأخيرة بفرض الضرائب، و تحصيلها.
و هذه النظرية، تعرضت إلى انتقادات كثيرة،من عدة نواح، أهمها؛ أنها أسست على "فرضيات" لم يثبت صحتها من الناحية التاريخية،إذ لم يثبت قيام علاقة تعاقدية بين الحاكم و المحكوم لا على تأسيس المجتمع، و لا الدولة..و لا على تأسيس الضريبة.
إلا أنه مع ذلك، لقد كان لهذه النظرية أهداف " نبيلة"، إذ حاولت الحد من سلطة الملوك في فرض الضرائب:فالقول بوجود عقد، يعني القول بوجود التزامات متبادلة،لا يجوز لأحد طرفي العقد تجاوزها، إلا بموافقة الطرف الآخر..و إلا اعتبر العقد " مفسوخا".
المطلب الآخر: نظرية التضامن الاجتماعي
لقد رأى بعض المفكرين، أن الأساس في فرض الضريبة، إنما ينبع من مبدأ التضامن بين أفراد المجتمع الواحد، الذي هو أساس الجماعة، و هو السبب في تكوين ثروات الأفراد.
فحسب وجهة النظر هاته، أن الفرد لا يمكن أن يعيش خارج المجتمع ،أي مجتمع. و أن كل ما ينتجه الفرد ليس انتاجه وحده، و إنما يتم ذلك بمساعدة الجماعة التي يعيش فيها،و بفضلها. و أنه من باب التضامن، أن  يساعد و يدعم كل فرد جماعته ،باسم التضامن أولا، و ثانيا لأنها هي التي كانت سببا مباشرا أو غير مباشر في حصوله على تلك الثروة.
و من هنا، يرى أنصار هذا الرأي، أن التضامن بين أفراد المجتمع ضرورة تاريخية و اجتماعية؛فهو ينشأ من تلقاء نفسه، و لكنه يحتاج ، لضمان استمراره، إلى الدولة- الممثل القانوني للمجتمع-، لتقوم على حاجياته المشتركة.
و هكذا، لكي تقوم الدولة، بتحقيق و ضمان استمرار التضامن الاجتماعي لأبناء الجماعة الواحدة، في الحاضر و المستقبل، فهي في حاجة إلى إيرادات مالية، للوفاء بمطالب هذه الأغراض.و لذلك فهي تلجأ إلى فرض الضرائب على أعضاء الجماعة ، بما لها من سيادة عليهم، و تحقيقا للتضامن بينهم. و "..و على ذلك فالضريبة لا تعدو أن تشكل طريقة لتوزيع الأعباء العامة التي اقتضاها مبدأ التضامن القومي بين أفراد الجماعة .."[8].
و يترتب على الأخذ بهذه النظرية النتائج التالية:
1- الضريبة فكرة سيادية،بمعنى أن الدولة تقوم بفرض الضرائب على أعضاء الجماعة بما لها من سيادة عليهم؛
2- أن تفرض الضريبة على جميع أعضاء المجتمع، لأنهم جميعا ملزمون بالتضامن، و هو ما يعني عمومية الضريبة، و فرضها على جميع أبناء الجماعة حيثما كانوا:و معنى هذا الأخذ بمبدئي "جنسية الضريبة" ، من ناحية ، و أيضا "إقليمية الضريبة"، من ناحية أخرى ؛لأن كل من يقيم فوق إقليم الجماعة، فهو " ينتمي" إليها، و إن مؤقتا،..و بالتالي يجب أن يتضامن معها؛
3- أن يساهم كل من ينتمي إلى الجماعة في التكاليف العامة التي تتحملها هذه الأخيرة أو يفرضها التضامن، لا على قدر انتفاعه من التضامن أو الجماعة، و إنما على قدر استطاعته على تحمل العبء الضريبي(= مقدرته التكليفية)؛
4- و يمكن، بناء على فكرة التضامن بين أجيال نفس الجماعة،أن نفسر التزام الجيل الحاضر بدفع ضرائب،يستخدم جزء من حصيلتها في خدمة قروض عامة "قديمة"،كانت الأجيال السابقة قد اقترضتها، و استنفدت كل منافعها[9].


[1]  هناك نظريات أخرى ، لا يتسع المجال لذكرها..فقت أهميتها،و لذلك قصرنا حديثنا على أهم نظريتين، إحداهما قديمة، و أخرى معاصرة نسبيا.
[2]  إن النظرية الحديثة للضريبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تعود إلى القرن الخامس عشر (في فرنسا)، و القرن الثالث عشر(في انجلترا)، عندما ظهرت فكرة  ضرورة موافقة الملزمين بكل ضريبة على أدائها، و تستند هذه الفكرة على فكرة أخرى مفادها أن موافقة الملزمين ضرورية ،لأن الضريبة تمس بحق الملكية، و هو أحد الحقوق الطبيعية للإنسان، التي لا يحق للحكومة المس بها، و إلا فقدت شرعيتها.
ولعل أول مفكر استند إلى هذه الفكرة الأخيرة، لإقامة الأسس لنظرية قانونية الضريبة، هو المفكر الفرنسي "جان بودان"، الذي تناول في كتابه (Les six livres de la République)(1577)، أسس مشروعية الضريبة و عدالتها.فالضريبة ، تعتبر مشروعة (Légitime) في نظره، لأنها الثمن الضروري الذي يدفع مقابل الحماية التي يوفرها الملك للأفراد.و كي تكون الضريبة عادلة (juste)، يجب أن يتساوى الجميع أمامها،دون تمييز بين الأشخاص.و لهذا كان "بودان" يفضل الضريبة العينية (L'impôt réel) على الضريبة الشخصية (L'impôt personnel)- و سنعرف الفرق بين هذين النوعين لاحقا.كما أنه كان يرى أن الضريبة " النسبية"، هي الصيغة الأنسب لتحقيق العدالة، لأنها تتناسب مع قدرات كل مكلف، و مع قدرات المجتمع و الدولة؛إذ تراعي حالات الانخفاض أو النقص الذي يمكن أن يحصل في قيمة النقود.
[3]  و من القائلين بهذا الرأي كل من " مونتسكيو" و " ميرابو":فالأول يقول إن " موارد الدولة إن هي إلا أنصبة يؤديها المواطنون من أموالهم لقاء أن تؤمنهم الدولة على ما تبقى في أيديهم منها، لتكفل لهم حق التمتع بها".أما الآخر(ميرابو)، فيرى أن " الضريبة دين عام يلتزم به المواطنون كثمن لتلك المزايا التي تؤديها الجماعة لهم..".انظر:الشاوي- نظرية الضريبة ..- م.س- ص 54.
[4]  الصكبان-م.س- ص 159؛ المحجوب- م.س- ص 33.
[5]  و يؤخذ على  هذه النظرية عدة مآخذ، من أهمها :1) أن الفقراء لا يؤدون ضرائب، و مع ذلك نجدهم( في الواقع)، ينتفعون بالخدمات التي تقدمها الدولة؛ و 2) بالإضافة إلى أنه من العسير تحديد المفعة التي تعود على كل فرد على حدة؛و 3)و يؤخذ على هذه النظرية كذلك، عدم قدرتها على تفسير التزام الجيل الحاضر بدفع ضرائب تخصص حصيلتها لخدمة قروض عامة، عقدتها الأجيال السابقة ، و استنفدت كل منافعها.انظر: رفعت المحجوب-م.س- ص 36؛ الزمراني- 233
[6]  الصكبان- ص 160؛ المحجوب- ص 37.و يضيف الأستاذ المحجوب( نفس المكان):"..و يؤخذ على هذه النظرية عدة مآخذ أهمها: أن..مقتضى عقد التأمين أن يلتزم المؤمن لديه بتعويض الضرر الذي يحدث للمؤمن، و هو ما لا يصدق في الضريبة.فالدولة لا تلتزم بتعويض الضرر الذي يلحق الممول، و لكنها تلتزم بحماية الأفراد، و بمعاقبة المتسبب في إضرارهم".
[7]   المحجوب- م.س- ص 38.و الصكبان- ص 160.
[8]  المحجوب- ص 39.
[9]  المحجوب-ص 40.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق