الجمعة، 27 مارس 2020


الفصل الثاني: الصفقة عقد إداري:
لدراسة الصفقة العمومية كعقد إداري، كان يجب أن نبحث فيها كعقد أولا، و من ثم النظر إلى طابعها الإداري.
و لقد درسنا في المبحث الأول الصفقة كعقد، و حان الوقت للطرح السؤال التالي:هل يعتبر اشتراك الإدارة ، كطرف، في الصفقة العمومية و الإنفاق على تمويلها من المال العام، مبررا كافيا لتصنيفها ضمن زمرة العقود الإدارية ؟
لقد مرّ معنا،أنه كي يعتبر العقد الذي تبرمه الإدارة عقدا إداريا- و ليس عقدا خاصا-، لابد أن يستوفي أحد الشرطين التاليين أو هما معا:
1-أن يعتبره القانون عقدا إداريا؛
2-أن تتوفر فيه  المعايير التي جاء بها الاجتهاد القضائي[1].
و في الواقع،إن عقود الصفقات العمومية، تستوفي هذين الشرطين معا. فالمشرع اعتبرها عقودا لأنها تتضمن، على الأقل ، الحد الأدنى من الشروط التي يجب توفرها في كل عقد عقد.و كذلك القضاء اعتبرها عقودا إدارية منذ أمد بعيد، في فرنسا، مهد القضاء الإداري، و من ثم في بلدان أخرى منها المغرب.أما الفقه، و هو موضوع حديثنا هنا بشكل خاص،فقد انقسم، كما مرّ معنا، إلى ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول يرى أن الصفقة العمومية، هي قبل كل شيء عقد؛لأنها تعبّر عن إرادات متقابلة، تتولد عنها التزامات تبادلية، و هي بذلك تختلف عن القرارات الانفرادية ( المبحث الأول
في حين أن الاتجاه الثاني،يرى أن التشابه بين عقد الصفقة- (باعتباره عقد إداري)- و العقد المدني ، لا يعني  التشابه في النتائج التي تترتب عن كل منهما ؛ لأن وجود الإدارة في عقد الصفقة جعلها تملي شروطها كما تشاء، تماما كما يحدث في عقود الإذعان (المبحث الثاني
أما الاتجاه الثالث، فذهب إلى أن الصفقات ،تشبه العقود العادية و عقود الإذعان معا، فهي تحقيق التوازن بين الأطراف المتعاقدة،فهي إذ تمنح الإدارة الكثير من الامتيازات ، إلا أنها لا تضحي بحقوق المتعاقد معها، مادام ذلك لا يتعارض مع المصلحة العامة ( المبحث الثالث).
المبحث الأول:الصفقة العمومية ..عقد تبادلي :
عند إبرام عقد من العقود، من الطبيعي أن يتراضى أطرافه ، على جميع العناصر المكونة له.لذلك فمن المنطقي جدا، أن تكون إرادة الموقعين على العقد تامة و واضحة، بالنسبة للالتزامات  الناتجة عنه.فهل هي كذلك بالنسبة للصفقات العمومية؟
لمعرفة ذلك، يجب علينا البحث في  طبيعة الالتزامات التي تنتج عن عقود الصفقات العمومية.هل هي فعلا التزامات متقابلة و متبادلة ؟ بشكل واضح، يبعدها عن مفهوم القرارات الانفرادية،التي تنفرد الإدارة بتطبيقها على الغير دون رضاهم؟
لنرى..
أ‌-       تنص المادة (13) في فقرتها( البند ألف)، من المرسوم 2.12.349 الصادر في 8 جمادى الأولى 1434( الموافق لـ 20 مارس 2013)، و التي سبقت الإشارة إليها أعلاه،على أن " الصفقات العمومية عقود مكتوبة تتضمن دفاتر تحملات تحدد شروط إبرامها و تنفيذها، و تتألف دفاتر التحملات من دفاتر الشروط الإدارية العامة و دفاتر الشروط المشتركة و دفاتر الشروط الخاصة"[2].
ب‌-   و تنص نفس المادة (البند جيم /الفقرة 3):"..تعقد الالتزامات المتبادلة التي تثبتها الصفقات على أساس عقد الالتزام الذي يوقعه نائل الصفقة[3] و على أساس دفتر الشروط الخاصة".
و يفهم من هذه الفقرة و التي قبلها أن الصفقات عقود مكتوبة تبادلية أو ذات التزامات متبادلة(contrat bilatéral)؛ ترتب التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين، و أن هذه الالتزامات مثبتة في=عقد الالتزام  + دفاتر التحملات..لاسيما دفتر الشروط الخاصة.
فما هو عقد الالتزام (acte d’engagement) هذا؟ و ما هو دفتر الشروط الخاصة؟
في المادة (13)( البند أ/ الفقرة3):"تحدد دفتر الشروط الخاصة البنود  المتعلقة بكل صفقة و تتضمن الإحالة إلى النصوص العامة المطبة و الإشارة غلى مواد دفاتر الشروط المشتركة، و عند الاقتضاء، إلى مواد دفاتر الشروط الإدارية العامة التي قد يتم الحيد عنها..".
 و بالرجوع إلى المرسوم، نجد المادة (27)، في بندها الأول ، تقول:" يجب أن تتضمن الملفات التي يقدمها المتنافسون، علاوة على دفتر الشروط الخاصة الموقع بالأحرف الأولى [من طرف صاحب المشروع] و الموقع عليه[من طرف نائل الصفقة]، مستندات الملف الإداري و الملف التقني و الملف الإضافي عند الاقتضاء(...) و عرضا ماليا...    
"1- يتضمن العرض المالي ما يلي:
" أ) عقد الالتزام الذي يلتزم بموجبه المتنافس بإنجاز الأعمال موضوع الصفقة طبقا للشروط المقررة في دفتر التحملات مقابل ثمن يقترحه.و يتم إعداد هذا العقد في نظير واحد.."[4].
هذان النصان يثيران الملاحظات الأساسية التالية:
أ‌-        عقد الالتزام، يلزم المتعاقد وحده؛
ب‌-     بتنفيذ الأعمال المحددة في دفتر التحملات: و رغم أن المشرع لا يحدد نوعية هذا الدفتر، إلا أنه بالنظر إلى المادة (13) من المرسوم- الفقرة " ب" أعلاه- نفهم بسهولة أن المقصود هو "دفتر التحملات الخاصة"؛
ت‌-      أن المتعاقد مع الإدارة يلتزم بالقيام بالعمل المحدد في دفتر التحملات الخاصة، مقابل ثمن يقترحه:و هذا يعني عمليا، أن الإيجاب الأصلي الصادر عن الإدارة- متمثلا في الإعلان عن الصفقة- قد لقي قبولا،و أن هذا الأخير أنتج "إيجابا " جديدا، متمثلا في الثمن الذي يقترحه المتنافس.
ث‌-     و إذن، فعملية إبرام الصفقة، في الظاهر على الأقل، فيها أخذ و عطاء، أي تفاوض على الشروط التي يجب تضمينها لعقد الصفقة.
و مما يدعم هذا الاستنتاج، ما جاء في مواد أخرى من القانون، لاسيما تلك المتعلقة بالصفقات التفاوضية:
1-    المادة (84):" المسطرة التفاوضية طريقة إبرام تختار بموجبها لجنة تفاوض نائلا، لصفقة بعد استشارة متنافس أو أكثر و التفاوض بشأن شروط الصفقة.
" تتعلق هذه المفاوضات على الخصوص بالثمن و أجل التنفيذ أو تاريخ الانتهاء أو التسليم و شروط التنفيذ و تسليم العمل.لا يجوز أن تتعلق هذه المفاوضات بموضوع الصفقة و محتواها[فهذه تحددها دفاتر التحملات]"؛
2-    المادة (87):" تبرم الصفقات التفاوضية:
"أ) إما بناء على عقد التزام يوقعه الراغب في التعاقد و على دفتر الشروط الخاصة؛
ب)إما بصفة استثنائية،بتبادل رسائل أو اتفاقية خاصة بالنسبة للأعمال المستعجلة (...) و يبين تبادل الرسائل أو الاتفاقية الخاصة المذكورة على الأقل على[كذا !] طبيعة  العمليات و كذا حدود التزامات السلطة المتعاقدة من حيث المبلغ و المدة، و يحدد لها ثمنا نهائيا أو ثمنا مؤقتا"؛
بعد استعراض هذه النصوص، نخلص إلى الاستنتاجات التالية:
       أولا) إن الصفقة تتكون من العناصر التالية:عقود مكتوبة  و  دفاتر تحملات تحدد شروط إبرامها و تنفيذها.
ثانيا) و بالتمعن في نصوص القانون، يتجلى أن العقد الأهم من كل تلك العقود هو "عقد الالتزام"، و أن الدفتر الأهم من كل تلك الدفاتر هو دفتر "التحملات الخاصة".
ثالثا) و السر في ذلك يعود إلى أن هذا العقد و ذاك الدفتر يكملان بعضهما بعضا، كما أنهما يتضمنان أو يحيلان على كل المقتضيات و الشروط المطلوبة لإبرام الصفقة أو تنفيذها؛
رابعا)فعقد الالتزام يحتوي على البيانات الأساسية المطلوبة  لصحة عقد الصفقة، و هي:طريقة إبرام الصفقة،و الإحالة على مواد المرسوم التي تم التعاقد على أساسها، بيان أطراف الصفقة، و موضوعها و محتوى الأعمال و مكان تنفيذها، و ثمنها، و أجل تنفيذها، و شروط استلام الأعمال، و شروط التسديد، و غير ذلك من الأمور الأساسية(المادة 13/ب)؛
خامسا)أما دفتر الشروط الخاصة، فيحدد البنود و الشروط التي يتم التفاوض و التراضي حولها فيما يتعلق بالصفقة موضوع العقد. بما في ذلك الشروط  التي قد تختلف مع مقتضيات دفتر الشروط المشتركة أو مواد دفتر الشروط الإدارية العامة(مع ضرورة الإشارة إلى ذلك )( المادة 13(أ/3).
و بناء على هذه الاستنتاجات يمكن القول إن عقد الالتزام يتضمن الشرط الأساسي للمتعاقد مع الإدارة متمثلا في الثمن.في حين أن الشروط الأخرى( المشار إليها أعلاه:رابعا) ، توجد في دفتر الشروط الخاصة.و أن مكونات هاتين الوثيقتين، هي التي تعبر عن الالتزامات المتقابلة ( الثمن مقابل إنجاز العمل المحدد في دفاتر التحملات، لاسيما الدفتر الخاص).و إذن، فعقد الصفقة، ليس عقدا انفراديا، تنفرد الإدارة بوضعه و إملائه، بل هو لا يتم إلا باشتراك طرفين متقابلين كل منهما يدافع عن مصالحه التي تختلف عن مصالح المتعاقد معه.و من ثم فإن الإدارة تجد نفسها مضطرة إلى بذل جهودها لإنجاح المفاوضات، شكل مباشر أو غير مباشر، حسب نوعية الصفقة( كما سنرى فيما يأتي، غن شاء الله تعالى).
  هذا، و لا يفوتني هنا التأكيد على نقطة سبقت الإشارة إليها، و لكن لا باس من تكرارها، ألا و هي أن التفاوض أو المساومة بين طرفي الصفقة،إنما تنصب بالأساس على "مضمون الالتزام"  و مضمون دفتر التحملات الخاصة ( و لو بشكل نسبي).أي أن هاتين الوثيقتين، لاسيما عقد الالتزام، هما جوهر التعاقد؛بدليل أن بعض مواد القانون المتعلق بالصفقات، نصت صراحة، على أن عقد الصفقة، يعتبر مبرما بصورة مجملة و صحيحة، إذا تم الاتفاق على الثمن و على طبيعة العمل المراد إنجازه مقابل ذلك الثمن، و هذه كما نعلم هي أهم العناصر المكونة لعقد الالتزام( انظر على سبيل المثال المادة 87، المشار إليها أعلاه).و عندما يتحدث القضاء ( و الفقه) عن البنود التعاقدية، و أنه لا يجوز للإدارة تعديلها إلا بإرادة الطرف المتعاقد معها؛فإنما يراد بذلك عقد الالتزام بالخصوص(و أهم عناصره الذي هو الثمن)[5].


[1]   و هي للتذكير :
أ‌-        أن تكون الإدارة طرفا في العقد؛
ب‌-     أن يكون إبرام العقد من أجل تسيير مرفق عمومي؛
ت‌-     أن يتضمن العقد شروطا تنتمي إلى " وسائل السلطة العامة".

[2]  سنتعرف على هذه الدفاتر بتفصيل لاحقا، إلا أنه يمكن القول بأنها تتضمن الشروط التي على أساسها سيتم إبرام الصفقة و تنفيذها.
[3]  و هو " المتنافس الذي تم قبول عرضه قبل تبليغ المصادقة على الصفقة": المادة (4) البند (1) من مرسوم 20 مار س 2013.
[4]  كان القضاء الإداري في مرحلة من المراحل، يعتبر مجرد الإحالة في العقد الذي تبرمه الإدارة، على دفتر من دفاتر التحملات، يكفي لمنحه صفة العقد الإداري.أما في اجتهاداته الأخيرة، فم يعد يعتبر وجود دفتر التحملات في حد ذاته معيارا، اللهم إلا إذا تضمن شروطا غير عادية، أو استثنائية ، تعبر عن السلطة العمومية.
[5]  سنرى نماذج من الأحكام القضائية المتعلقة بهذه الجزئية لاحقا، في سياق دراستنا للمنازعات المترتبة عن تنفيذ الصفقات( إن شاء الله تعالى).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق