الاثنين، 30 مارس 2020


المبحث الثاني: الضرائب المباشرة و الضرائب غير المباشرة
(التصنيف التقني-الإداري)
بالإضافة إلى التصنيف الاقتصادي السابق، الذي يأخذ بعين الاعتبار المادة الضريبية)، هناك تصنيف تقليدي، أكثر عمومية من غيره/ يأخذ بعين الاعتبار، في نفس الوقت، الملزم بالضريبة، و المادة الضريبية، و النظام القانوني و الإداري للضريبة.و يتعلق الأمر بالتصنيف الذي يميز بين الضرائب المباشرة (impôts directs)، و الضرائب غير المباشرة (impôts indirects).
و بالفعل، فهذا التصنيف يستند إلى المعايير التقنية(الفنية) و الإجراءات (المساطر) الإدارية[1] ، المعتمدة، في أغلب النظم و التشريعات الجبائية، فيما يتعلق بتحدد أوعية الضرائب، و تقدير المواد الخاضعة لها، و تصفيتها (حسابها)، و تحصيلها.و هذا التصنيف، هو الأقدم، كما أنه هو الأكثر استعمالا[2].
و لعل السبب في استعمال هذا التصنيف، منذ مدة طويلة، يعود إلى بساطته:فإذا نظرنا إلى الضرائب من زاوية الطرق التي تتبعها الإدارة الجبائية، لتتبع الثروة، سنجدها تختار بين طريقتين،إحداهما مباشرة، و الأخرى غير مباشرة:
أ- فقد تفرضها بشكل مباشر على عناصر الثروة و هي تحت يد المكلف؛ أي عند نشأتها، أو بتعبير أكثر وضوحا؛ عند حصول المكلف على الدخل ، أو عند تحقق واقعة تملكه للثروة ، على شكل رأسمال؛
ب- كما يمكنها أن تفرضها بشكل غير مباشر على الثروة؛ و ذلك عند استعمالها(في الاستهلاك) أو تداولها( بمناسبة مختلف التصرفات و المعاملات:بيع،أو شراء، أو إرث..):في هذه الحالة تعتبر الإدارة الجبائية، استعمال المكلف للثروة أو تداولها، مظهرا خارجيا يؤكد وجود الثروة[3].
و إذن، بلغة أخرى، فالضرائب المباشرة ؛ تضرب على مختلف أنواع الدخل (أجور، و مرتبات..إلخ)، و على مختلف أنواع رأس المال( أراضي زراعية، و مواشي، و مباني، و سيارات، و سندات و أسهم، و مجوهرات ولوحات و تحف فنية..إلخ)؛ و يتحملها المكلف بها بشكل نهائي.أما الضرائب غير المباشرة، فتضرب على السلع و الخدمات (انتاجا و استهلاكا..)، و يتحملها " مؤقتا" المكلف بها قانونيا،الذي لا يعتبر إلا مجرد وسيط بين الإدارة و الغير (المكلف الفعلي أو في الواقع)؛ الذي يتحمل عبئها النهائي.
و رغم أن تقسيم الضرائب هذا هو الأشهر، نظرا لبساطته؛و فعاليته فيما يتعلق بالضرائب الأساسية؛ إلا أنه مع ذلك " تقسيم زئبقي" يصعب الامساك به؛ و يكاد يفقد فعاليته، عندما يتعلق بالضرائب الصغرى؛ و من هنا تم إبداع معايير أخرى (مساعدة)، لتمييز الضرائب المباشرة عن الضرائب غير المباشرة، نذكر فيما يلي أهمها[4].
و من هنا، يقوم هذا التصنيف على ثلاث دعامات، أو معايير هي: معيار وجود جداول(سجلات) للتحصيل، و معيارأثر أو انعكاس الضريبة، و معيار ثبات الوعاء من عدمه.
المطلب الأول:المعيار الإداري أو طريقة التحصيل:
هناك، من يحاول التمييز بين الضرائب المباشرة و الضرائب غير المباشرة، بالاعتماد على طريقة التحصيل، و الإدارة المكلفة بالتحصيل:فالضريبة المباشرة،تحصّل(= تجبى) عن طريق جدول(سجل) اسمي(Le critère de l'emission du rôle)[5] ، في حين أن الضريبة غير المباشرة، لا تجبى،في معظم الأحيان، بناء على جدول اسمي (عملية شراء سلعة مثلا، تخضع للضريبة على القيمة المضافة، و لا يمكن أن تتكهن الإدارة الجبائية مسبقا، بأن زيد أو عمرو، سيشتري سلعة معينة بتاريخ معين، لتدرج اسمه في جدول الضريبة على القيمة المضافة).
و يقصد بهذه الجداول الاسمية ، سجلات تضعها الإدارة الجبائية( المصلحة المكلفة بالوعاء=  Le service chargé de l'assiette)، تقيد فيها اسم المكلف ، و نوع الضريبة المفروضة عليه (المادة الضريبية).و بالاعتماد على هذه الجداول؛- التي لها  الصفة التنفيذية (titre exécutoire)؛أي تسمح للإدارة الجابية باستعمال القوة لتحصيل ما جاء فيها-؛  تصدر إدارة الضرائب الإعلام بالضريبة(avis d'imposition)، المقتبس عن ذلك السجل( الذي يتضم اسم الضريبة المباشرة، و رقم الجدول، و رقم الأمر بالتحصيل، و تاريخ الشروع في التحصيل، و تاريخ الاستحقاق.. إلخ).
و استنادا إلى وجود هذه الجداول، تصنف الضرائب على أنها مباشرة ( مثل الضريبة على الدخل، و الضريبة على السكنى، و الضرائب العقارية..)، و في حالة تحصيل الضرائب دون الاعتماد على وجود هذه الجداول، تصنف هذه الضرائب على أنها غير مباشرة( مثل الضريبة على القيمة المضافة، و ضرائب التسجيل..):وفي الواقع يصعب وضع جداول لهذه الضرائب، لأنها تفرض على أعمال إنتاج أو استهلاك غير منتظمة في الزمن، بل يصعب توقعها أحيانا.
إلا أن هذا المعيار، ترد عليه استثناءات؛فالضريبة على أرباح الأسهم و السندات،وفق هذا المعيار،تعتبر ضريبة غير مباشرة؛لأنها لا تجبى على أساس جداول اسمية،و لا تفرض أو تحصّل نتيجة اتصال مباشر بين الإدارة الجبائية و المكلف؛ في حين يتفق الجميع على أن هذه الضريبة ، تعد إحدى أنواع الضرائب على الدخل (الأرباح)، و هي من الضرائب المباشرة.و ضريبة "الفينيت"(vignette automobile)، تعتبر وفق هذا المعيار ضريبة غير مباشرة، لأنها لا تجبى بالاعتماد على جداول اسمية،مع العلم أنها ضريبة على الرأسمال(ملكية السيارة)[6].
و رغم دقة هذا التصنيف، إلا أن الكثير من النظم الجبائية تعتمد عليه، و على أساسه يتم تقسيم المصالح الإدارية الجبائية، بل على أساسه يوزع الاختصاص أحيانا بين القضاء العادي و القضاء الإداري، فيما يتعلق بالنظر في المنازعات الجبائية.



[1]  يستعمل التصنيف الإداري بمعنى آخر أيضا: فالمحاسبة العمومية الوطنية، تصنف الضرائب حسب الجماعات الاجتماعية المستفيدة منها، و بالتالي الإدارات الجبائية المعنية بتحصيلها؛فيتم التمييز بين الضرائب العائدة للدولة ( الضريبة على الدخل، و الضريبة على القيمة المضافة..)، و الضرائب العائدة للجماعات الترابية (الضريبة على السكن، الضرائب العقارية الحضرية..)، و تلك التي تستفيد منها منظمات الاحتياط الاجتماعي ( المساهمة الاجتماعية=Contribution sociale ).
[2]  يعود بعض المؤلفين ، بأصل هذا التصنيف إلى مرسوم  أصدرته الحكومة الفرنسية، بتاريخ 22 دجنبر 1879.انظر:Bouvier -op.cit-p 22
[3]  المحجوب-المرجع السابق- ص 57.
[4]  و هناك أيضا معايير أخرى، جديرة بالاهتمام، منها:
1- معيار علاقة الضريبة بموضوعها:فالضرائب المباشرة هي الضرائب التي تضرب على موضوع(مادة ضريبية) ، ليس أداء الضريبة، شرط للحصول عليه،أما الضرائب غير المباشرة، فهي الضرائب التي تفرض على موضوع لا يمكن استعماله و الحصول على اشباع منه قبل أداء أو الخضوع للضريبة:من ذلك فشراء الحاسوب،لا بد من دفع الضريبة (غير المباشرة=ض.ق.م) أولا حتى يمكن الاستفادة من الحاسوب؛أما في حالة الضرائب على الدخل أو الرأسمال، فإن الضريبة ليست شرطا للحصول عليهما، و انما تستحق بعد تواجدهما (فالطبيب مثلا، يحصل الدخل،ثم بعد ذلك يؤدي الضريبة)؛
2- معيار المقدرة التكليفية:إن الضرائب المباشرة، وفق هذا المعيار،هي التي تراعي مختلف الظروف الشخصية و الاجتماعية للمكلف، أما الضرائب غير المباشرة، فهي الضرائب التي لا تقبل بطبيعتها أن تكون وسيلة لمراعاة الظروف الشخصية و الاجتماعية لدافع هذه الضرائب.
انظر: الصكبان-م.س- ص 207.
[5]  و الجداول قد تكون جماعية (  rôles collectifs)، عندما يتعلق الأمر بإجراءات التحصيل الأصلية،و قد تكون فردية(rôles individuels)، عندما يتعلق الأمر بتحصيل الضريبة من مكلف  واحد، بعدما حصل تصحيح المعطيات الجبائية الخاصة به ، بعد تظلم إدراي تقدم بها، مثلا.
[6] هناك من يعتبر هذه الضريبة غير مباشرة، و أنها تضرب على الاستهلاك.


الفصل الثالث: أنواع الضرائب
لاشك أنكم قد لاحظتم، من خلال المباحث السابقة، أن الضرائب تتميز بسمتين أساسيتين، هما التنوع و التعدد.فالمشرعون الجبائيون، في مختلف الدول، يسنون ضرائب متعددة و متنوعة، تتلاءم مع  الأهداف العامة ( السياسة  أو الاقتصادية أو الاجتماعية )، التي يتبنونها؛ و أيضا لتحقيق بعض الأهداف الخاصة (المالية مثلا) من كل ضريبة.أي أن المشرع الجبائي، في كل بلد، يحاول من خلال الضرائب العديدة و المتنوعة التي يفرضها، تحقيق أهداف عامة بواسطة النظام الجبائي ككل، و أهداف خاصة من خلال كل ضريبة على حدة، كما رأينا[1].
و إذا كان هذا التنوع و التعدد في الضرائب أمرا طبيعيا، فمن الطبيعي كذلك أن تكون هناك تصنيفات متعددة للضرائب.و كل تصنيف يعتمد معيارا أو أكثر لتجميع الضرائب في مجموعات:فهناك تصنيف يعتمد الملزم نفسه كمعيار، و تصنيف ثان يأخذ الوعاء أو المادة الضريبية كوعاء، و تصنيف ثالث يراعي الطريقة التي تجبى بها الضريبة..إلخ.
و عمليات التصنيف ليست، أو لم تعد ، بالأمر الهين؛إذ أن أنواع الضرائب كثيرة، و الأسس المعتمدة في تصنيفها متعددة و متنوعة، و قد ازدادت تنوعا و تعددا ، بازدياد عدد الضرائب، منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
وبالفعل فالضرائب اليوم، تكاد تضرب كل شيء، و تمتد إلى كل جوانب الحياة.و من ثم يصعب دراسة كل الضرائب، إذا أخذت في مجملها و في كل تجلياتها و تشعبها، فلا بد من تصنيفها و تقسيمها إلى أقسام و أنواع، حتى يسهل تناولها.
و التصنيف عموما، كمنهج علمي، يساعد في الدراسة النظرية للضرائب، كل واحدة على حدة، ن أجل ربطها بهذا الصنف أو ذاك. كما أنه، يمنح للباحث فرصة مقاربتها كمجموعات، أي التفكير فيما يجمع عناصر كل مجموعة ، و يقربها من بعضها البعض؛ و ما يميزها و يبعدها عن عناصر المجوعات الأخرى.
و لكن، يجب الإقرار هنا، أن محاولات تجميع بعض الضرائب، على أسس معايير معينة، لا يكون دائما دقيقا، بل كثيرا ما تتعرض هذه التصنيفات إلى انتقادات، خاصة إذا تم تقييمها من الناحية العملية.و من ثم، فلعل أفضل منهجية، للاستفادة منها، هي أن لا يعتمد على تصنيف واحد ،بل لا بد من استعمال أكثر من تصنيف في نفس الوقت.
فيما يلي،سنبحث بالتفصيل وعين من التصنيف الأول منهما اقتصادي( المبحث الأول)، أو يعتمد على أسس اقتصادية، و الآخر تصنيف إداري-تقني( المبحث الثاني).و إلى جانب هذين التصنيفين الكبيرين و الهامين، سندرس تصنيفات أخرى( المبحث الثالث)، لاستكمال الصورة في ذهن الدارس.ذلك أن التصنيفات على تعددها، يكمل بعضها بعضا، و لا يمكن الاعتماد على واحد أو اثنين منها، في اسيعاب الضرائب في مختلف أبعادها القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، بل يجب الاستعانة بالكثير من هذه التصنيفات؛لأن لكل منها مزاياه ( و عيوبه طبعا).
المبحث الأول: التصنيف الاقتصادي
نريد بالتصنيف الاقتصادي هنا، على أساس العناصر الاقتصادية المضروبة[2].و في هذا النوع من التصنيف يتم التمييز عادة، بين الضرائب على الاستهلاك أو الإنفاق( مثل الضريبة على القيمة المضافة TVA)؛ و الضرائب على الرأسمال أو الثروة( مثل الضرائب على العقار..)؛ و الضرائب على الدخل، و ضمن هذا الصنف الأخير يتم التمييز بين الضرائب على دخول الأشخاص الطبيعيين، و الضرائب على دخول الأشخاص المعنويين (الشركات..).
المطلب الأول- تضريب الدخل:
قد يبدو الحديث عن تضريب الدخول، أمرا بسيطا، لأول وهلة، إذ يتعلق الأمر بفرض الضريبة أو الضرائب، على المكاسب المحققة- أو المفترض تحققها- التي حصل عليها فرد أو مقاولة.
إلا أن الأمر، ينطوي على صعوبات كبيرة، لعل أولها و أهمها، كما مرّ معنا، هو تحديد مفهوم الدخل نفسه:ماهو؟
فعندما فرضت الضريبة على الدخل أول مرة في فرنسا،سنة 1914،اعتمد المشرع الجبائي على التعريف المدني للدخل، الذي يعتبر أن الدخل هو" مبلغ مالي يأتى من مصدر دائم، و بطريقة دورية"[3].
هذا التعريف، يستبعد ، إذن، ليس فقط المكاسب غير الدورية، بل كذلك المكاسب الرأسمالية،و أيضا المزايا العينية( و قد شرحنا السبب في مكان آخر، من هذه الدروس).و لهذا، اضطر المشرع الجبائي، إلى تبني تعريف آخر أكثر اتساعا،يأخذ بعين الاعتبار الإثراء الصافي (L'enrichissement net)، للمكلف خلال فترة من الزمن محددة:أي، بتعبير آخر، التغيير الإيجابي أو السلبي، الذي يطرأ على ثروته.
و بناء على هذا التعريف،أصبح بالإمكان تضريب الدخول الرأسمالية( مثل الزيادات التي تحصل في قيم الأصول الثابتة للمقاولات، و التي قد تطهر عند عمليات البيع)،و أيضا المداخيل غير النقدية( المزايا العينية)، و أيضا المكاسب الاستثنائية ( مثل الأرباح المحققة في البورصة).
هذا التحول نحو مقترب اقتصادي أكثر للدخل الجبائي، يظهر في المادة (22)من مدونة الضرائب،التي تنص على أن ضريبة الدخل تضرب على الدخل الإجمالي الصافي السنوي، و يحدد من خلال حصيلة جميع الدخول الصافية لكل صنف من أصناف الدخل، أي الناتج الخام( Le produit brut)، الذي يفضل بعد خصم النفقات الذي دفعت من أجل الحصول على على كل صنف من الدخل أو المحافظة عليه.
المطلب الثاني- تضريب الإنفاق:
يقصد بتضريب الإنفاق (الاستهلاك)،فرض الضرائب على السلع و الخدمات (Services)، عند الحصول عليها أو الاستفادة منها.
و أول ملاحظة يجب تسجيلها هنا، هي أن تضريب الانفاق ليس بعيدا عن تضريب الدخل أو الرأسمال،كما قد نتصور لأول وهلة.فضرب سلعة أو خدمة ، هو في حقيقيته ضرب للدخل الذي انفق على أي منهما.كما ان تضريب السلع و المشتريات، قد يكون أحيانا، تضريبا للرأسمال، عندما تكون السلعة المشتراة، سلعة استثمارية ( أثات مكتب،أو أصل تجاري، أو قيم منقولة ،كالأسهم و السندات..)[5].
المطلب الثالث: تضريب رأس المال:
إن تضريب رأس المال، يمكن أن يتم بمناسبة انتقاله، مجانا(كما في حالة الهبة أو الإرث..)،أو بعوض( مثل بيع العقارات و المنقولات..). كما يضرب على الوجود المادي نفسه، لهذا الرأسمال( الضرائب العقارية مثلا)[6].
و نحب أن نسجل هنا ملاحظة أخرى، شبيهة بتلك التي أوردناها للتو، أعلاه، و مفادها أن الضريبة على الرأسمال قد تأخذ شكل ضريبة على الإنفاق أو ضريبة على الدخل، و لكن بشكل غير مباشر.و هكذا، فتضريب الرأسمال، قد يأخذ شكل ضريبة على الإنفاق عندما تقتطع بمناسبة تملك المشتري عقار أو منقول( منزل، أو سيارة مثلا).كما أن الضريبة على الرأسمال، قد تبدو كما لو أنها ضريبة على الدخل، عندما يستعمل المكلف دخله لشراء عقار أو منقول( و بعدما يكون قد أدى على ذلك الدخل ضريبة الدخل..):فتصبح كل الضرائب على العقار مثلا،بشكل غير مباشر طبعا،ضرائب على ما ادخره المكلف، من دخول(من أجره أو راتبه الشهري..عبر سنوات، مثلا).
من أهم المشاكل التي تواجه المشرع الجبائي ، أثناء سنه للقواعد القانونية المتعلقة بالضرائب، قضية تحديد الأوضاع و الوقائع، التي يمكن على أساسها تعريف المواد (الأوعية) الضريبية:فالمشرع الجبائي، كما هو معروف،لا يحدد أسماء الملزمين بالضرائب، و إنما يكتفي بتحديد حالات نموذجية لوقائع أو أعمال أو أنشطة أو صفات في المواد الضريبية أو الملزمين بالضرائب.و لا تصبح هذه ّ الحالات النموذجية" واقعية؛ إلا إذا انطبقت على حالات ملموسة، أو أشخاص(ملزمين) بعينهم.
و لعل  السؤال الذي ظل يطرحه المشرع الجبائي، منذ أقدم العصور؛ هو :هل مبلغ الضريبة يجب أن يقتطع من الرأسمال أم من الدخل؟
 لقد اعتبر الكثير من علماء الاقتصاد، و فقهاء القانون، و علماء السياسة، و عموم المشرعين.. أنه لا مجال للتردد في الإجابة عن هذا السؤال؛إذ لا فرق بين الدخل و الرأسمال،إذا نظرنا إليهما من زاوية الضريبة؛ فهي في المحصلة النهائية،- و أيا كان الفن المالي الذي نعتمد عليه، و أيا كان الموضوع الذي تفرض عليه-؛ تضرب على ثروات المكلفين، التي تعتبر الأوعية الحقيقة لجميع الضرائب.أو هي، بتعبير آخر، تضرب على " الدخل الوطني و بعض عناصر الثروة الوطنية"، و أن تنوعها( الضرائب)؛إنما هو ناجم عن تنوع الوقائع المنشئة للضرائب (Les faits générateurs des impôts).
و من ثم، فالدول المعاصرة، عندما تنوّع الضرائب التي تفرضها- و تصوغها على شكل نظام جبائي- على الرأسمال و/ أو الدخل و/أو فروعهما،فإنما تفعل ذلك؛ بقصد تنويع الطرق التي توصل إلى الثروات: فالنظام الضريبي لا يكتفي، مثلا، باخضاع الدخل للضريبة عند تحققه فحسب، بل يعمل على إخضاعه للضريبة أيضا، عند انفاقه؛ أي لا يكتفي بعبور الطريقة المباشرة(الضريبة المباشرة) إلى الثروة، بل يسلك الطريقة غير المباشرة(الضريبة غير المباشرة) كذلك[7].
و عموما يعتبر الدخل و الرأسمال، مقياسان للقدرة الاقتصادية أو الجبائية للملزم؛ لكن هناك فروق كبيرة و كثيرة بينهما، من أهمها أن أحدهما(الرأسمال) ثابت في الزمن (على الأقل قياسا إلى عمر الملزم)، و الآخر دينامي متجدد ..و لكن غير قار.
و هناك مسألة ثانية،و هي إن فروع الرأسمال كثيرة (عقارات زراعية، مباني، منقولات..إلخ)، و كذلك فروع الدخل أنواع متعددة؛فهل يجب التعامل معها كلها بنفس الطريقة، من الناحية الجبائية؟خذ على سبيل المثال فروع الدخل:فبعضه يأتي من العمل، و بعضه الثاني يأتي من الرأسمال(كراء العقارات مثلا)، و بعضه الثالث يأتي من مصدر يختلط فيه العمل بالرأسمال (دخول ملاك المقاولات، و ودخول أصحاب المهن الحرة مثلا)؛ فهل يجب التعامل مع الدخل بنفس الطريقة، بغض النظر عن مصدره؟
و هناك مسألة ثالثة،و هي أن العدالة الجبائية تقتضي أن ننظر إلى القدرات التكليفية للملزمين، أي مدى قدراتهم على تحمل الأعباء الجبائية:فصحيح أن مداخيل بعض الملزمين تتساوى، إلا أن أعباءهم قد تختلف،مما يستدعي الانتباه إلى الظروف الشخصية و الاقتصادية و الاجتماعية لبعض الملزمين (مثل أعمارهم، و حالتهم الصحية، و حالتهم المدنية،و عدد أطفالهم، و ديونهم..إلخ).
إن دراسة هذه القضايا و المسائل، التي تعرضنا إليها أعلاه؛ أي دراسة تنوع الأسس و العناصر الخاضعة للضريبة- أو تنوع الوقائع المنشئة للضريبة-، من حيث التمييز بين الضرائب على الرأسمال أو الدخل، و بين الضرائب المباشرة على الدخل أو انفاقه..إلخ، هي موضوع هذا الفصل باعتبارها أكثر التصاقا بالجانب التشريعي-النظري للوعاء؛أماالقضايا و المسائل المتعلقة بالبحث في الإجراءات(الإدارية) التي يجب اتباعها لتقدير الوعاء و حسابه، فتدخل في الجوانب التطبيقية و التقنية للضريبة..و سندرسها في فصول لاحقة.



[1] و لقد درسنا في المباحث السابقة، بعض هذه الأهداف العامة و الخاصة، و سنعود لدراستها هنا، في هذا الفصل، من زاوية أخرى، تسلط الضوء  على القواسم المشتركة، التي تبين كيف تحقق هذه الضرائب تلك الأهداف العامة أو الخاصة.

[2]  يمكن للتصنيف الاقتصادي أن يعتمد على معيار آخر،كالفاعلين الاقتصاديين، الذين يتحملون الضريبة.
و فيما يخص التصنيف على أساس الفاعلين الاقتصاديين، يمكن القول عنه في عجالة أنه يسمح بمقابلة الضرائب المفروضة على الأفراد (الضرائب على الدخل، الضرائب على السكن..)، و الضرائب المفروضة على المقاولات (الضرائب على الشركات..)، و الضرائب على المنتجات ( الضريبة على القيمة المضافة، و غيرها من الضرائب غير المباشرة..).
و رغم التشابه الظاهري، بين هذا التصنيف و التصنيف الإداري، إلا أنهما مختلفان، لأن أحدهما إداري و الآخر اقتصادي.
[3]  "Une somme d'argentprovenant d'une source permanente d'une manière périodique".
[4] Introduction au droit fiscal général et à la théorie de l'impot-op.cit-p 21 et suivantes.
[5]    و على العكس من ذلك، فعندما يتعلق الأمر بسلعة استهلاكية، فإن الضريبة تمثل فعلا ضريبة على الانفاق.
[6]  لا يجب الخلط هنا، بين الضريبة على العقار، و الضريبة على الدخل الذي يتأتى من العقار:فقد تضرب الضريبة على ملكية المنزل، و تضرب ضريبة أخرى على الدخول الكرائية، التي يدرها هذا العقار.
[7] يونس البطريق -م.س- ص 143؛ المحجوب-ج2-ص 56.

الأحد، 29 مارس 2020


المبحث الثاني: الصفقة عقد إذعان:
إن هذا التحليل التي انتهينا منه للتو، قد يقنع بعض الناس بأن الصفقات العمومية عقود تبادلية حقيقية، ترتب التزامات متبادلة في ذمة كل من الإدارة و المتعاقد معها.و لكن هناك فئات أخرى، منهم عدد من القضاة الإداريين و الفقهاء،يرون أن هذه العقود غير تبادلية في الواقع:
1.    فمن طبيعة العقود التبادلية ، أنه إذا طالب أحد المتعاقدين  الآخر بتنفيذ التزامه، و لم يكن هو نفسه قد نفذ التزامه التعاقدي، كان للمتعاقد الآخر أن يدفع ذاك الطلب بما يسمى " الدفع بعدم التنفيذ".إلا أن هذا لا يحدث في العقود الإدارية،و منها الصفقات:فالمتعاقد مطالب بالاستمرار في التنفيذ،حماية لمبدأ "استمرارية المرفق العام"(و هناك أمثلة أخرى لا داعي لذكرها هنا) ؛
2.    كما  أن تلك الشروط التي يقال أن المتعاقد يوافق عليها بمحض إرادته ؛ ليست في حقيقتها إلا أمالي تمليها الإدارة:فالإدارة تعرض شروطها على المتعاقد معها (في دفاتر التحملات)، فيتعين عليه قبولها أو رفضها دون مناقشة؛
3.    لا بل إن الإدارة صاحبة المشروع نفسها- ( و لتكن جماعة قروية أو بلدية على سبيل المثال)- ، لا تقوم بصياغة دفاتر الشروط العامة ( الإدارية و التقنية( المشتركة) ) بنفسها، بل تُفرض عليها كما تفرض على المتعاقد معها، باعتبارها مقتضيات " تنظيمية" عامة،  تلزم الإدارة صاحبة المشروع،  بإدراجها في وثائق الصفقة ؛
4.    و من طبيعة الحال، فإنه يحق للحكومة و للإدارة العليا المختصة، أن تصدر قرارات قد تؤدي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة  إلى تعديل الأسس التي تقوم عليها الصفقة ، فتصبح الإدارة صاحبة المشروع ملزمة بتعديل بنود الصفقة ضمانا لحسن سير المرفق العام. هذا من جهة. و من جهة أخرى يمكن للإدارة صاحبة المشروع نفسها  أن تعدل حتى تلك الشروط التي تضمنها عقد الصفقة الأصلي ( أعني هنا دفتر الشروط الخاصة)[1]،إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك؛
5.    كما أن الإدارة لا تستطيع حتى لو شاءت أن تتنازل عن حقوقها التي منحها إياها القانون، مثل حقها في الحصول على ضمانة من صاحب الصفقة، أو إعفاءه من الإدلاء بالملف الإداري، أو التنازل عن حقها في المراقبة و الإشراف و التوجيه..إلخ.
من هنا يتبين لنا أن الصفقات العمومية تخضع لقواعد خاصة، تختلف عن تلك التي تنظم الصفقات التي يبرمها الخواص ( تخضع للقانون المدني).فأطراف الصفقة العمومية لا يستطيعون، حتى لو شاءوا، الاتفاق على استبدال كل أو جل الشروط المضمنة في دفاتر التحملات العامة ( الإدارية و المشتركة).و كل ما يستطيعونه، هو أن يحيدوا عن هذه الشروط ، أي يبتعدوا عنها قليلا.و من هنا، يضع بعض الفقهاء العقود الإدارية ، ضمن صنف عقود الإذعان[2].
و يسوق أنصار نظرية " الصفقة العمومية عقد إذعان"،بعض الأمثلة، التي تدعم وجهة نظرهم منها أنه قد يحدث أن يتقدم بعض المتنافسين على الصفقة، بعرض تقني، يتضمن ملاحظات أو اقتراحات، يحاول من خلالها أن يبرهن:
أ‌-       أن عرضه – قد يختلف عن الشروط العامة ( الإدارية و التقنية) و الشروط الخاصة- في هذه الجزئية أو تلك ؛
ب‌-   أو أن عرضه، لا يستجيب لكل المواصفات و الشروط المطلوبة في دفتر من الدفاتر؛
ت‌-  أو يحاول تصحيح ما يعتبره أخطاء تقنية واردة في الدفتر الخاص بالصفقة؛
ث‌-  أو يحاول إدخال تغييرات على صياغة شرط من شروط الدفتر الخاص بالصفقة؛..إلخ.
فتكون النتيجة إقصاؤه من المشاركة في الصفقة، على أساس أن كل هذه الملاحظات تعتبر تحفظات، في حين أنه للفوز بالصفقة يجب القبول بالشروط كما هين دون تحفظ أو تعديل.
و الإدارة تبرر موقفها هذا بالقول بأنها مطالبة بمعاملة كل المتنافسين على قدم المساواة،أي على أساس معايير موحدة.هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن السماح للمتنافسين بإجراء تعديلات على الدفاتر، سيحرم الإدارة من المقارنة بين العروض المتنافسة التي تقيدت "حرفيا" بشروط الدفاتر[3].
من هنا، ذهب الكثير من القضاء و الفقه معا إلى اعتبار الصفقات العمومية عقود إذعان(contrat d’adhésion )؛ لأن الموجب الأصلي ( أي الإدارة)، يعرض إيجابه في شكل بات و نهائي لا يقبل المناقشة، و بالتالي لا يمكن للطرف الآخر إلا أن يرفض العقد أو يقبله بكل مكوناته ( عقد الالتزام و دفاتر التحملات)، إذا كانت له رغبة في التعاقد.
غير أنه تفرع عن هذا الرأي ، وجهة نظر ترى أن الصفقات العمومية،و إن كانت عقود  إذعان، إلا أن ذلك لا يقلل من القيمة التعاقدية لعقودها،لأن عقود الإذعان بطبيعتها تنتج عن اتفاق إرادتين، و الطرف المذعن غير مجبر على التعاقد، هذا من ناحية.و من ناحية ثانية، فصحة العقود لا تستند إلى ضرورة وجود إرادتين متساويتين ( لنتذكر هنا رأي موريس هوريو). و من ناحية ثالثة،فإن الإدارة تعوض للمتعاقد معها لا على أساس أنها اتخذت قرار انفرادي، و لكن تنفيذا لالتزامات تبادلية تعاقدية .
بالإضافة، إلى ذلك،يقول الدكتور العربي مياد:" و من نافلة القول،فإن صفقات الأشغال أو الأدوات أو الخدمات المبرمة لحساب الدولة تبقى عقودا إدارية تدخل ضمن زمرة عقود الإذعان، و لا ينفي عنها الصفة التعاقدية كون شروطها تملى من طرف الإدارة بشكل إنفرادي، لأن هذه الخاصية تتوارى أو تقل حدتها بعد قبول تلك الشروط من طرف المقاول أو المورد الذي يعهد إليه بانجاز الصفقات العمومية".و يضيف( في مكان آخر):" و غني عن البيان ان العقود الإدارية، مثل كنانيش التحملات، عقود بمعنى الكلمة، رغم ما قيل في حقها من أنها تحرر مسبقا بإرادة منفردة من طرف الإدارة.فإذا كانت الإدارة تتمتع بهذا الامتياز فليس من باب التسلط و إنما لأنها تعمل على تحقيق المصلحة العامة، إذ من واجبها استنادا إلى مبدأ انتظام المرفق العام و استمراريته أن تسهر على إعداد شروط العقد و حسن تنفيذها، بل وإدخال التعديلات عليها"[4].
المبحث الثالث:الصفقات عقود توازن :
إذا كانت العقود الخاصة تخضع لمبدأ " العقد شريعة المتعاقدين"،فإن الإدارة في العقود الإدارية، و ضمنها الصفقات العمومية، تتمتع ببعض الامتيازات إزاء المتعاقد معها.و الأصل في هذه الامتيازات، يعود إلى أن القانون الإداري و الاجتهاد الإداري( و حتى الفقه الإداري)، يعترفون للمصلحة العامة بحق الأسبقية : لا يمكن تحقيق المساواة، بين مصلحة شخصية، و مصالح مجتمع و دولة بأكملهما.
و عليه،فعندما تبرم الإدارة صفقة مع مقاول بناء مثلا،يحق لها التمتع ببعض الحقوق الإمتيازية :كأن تتدخل لتراقب سير الأعمال،و أن تدخل تعديلات على على عقد الصفقة، إذا ثبت أن ذلك سيكون في مصلحة الإدارة،بل قد تفسخ العقد(فمبدأ ثبات العقود مبدأ معمول به في القانون الخاص لا العام)( المطلب الأول).
غير أن المشرع كي يحقق نوعا من التوازن في عقود الصفقات، و غيرها من العقود الإدارية،  منح للمتعاقد مع الإدارة مجموعة من الحقوق أيضا، أهمها حقه في الحصول على الثمن المتفق عليه، و حقه في الحصول على تعويضات عن الأضرار التي لحقته جراء تنفيذ الصفقة ( المطلب الآخر).
المطلب الأول: امتيازات الإدارة:
سندرس هذه الامتيازات بالتفصيل لاحقا، و لكن لا بأس من الإشارة هنا إلى أهم هذه الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة في تنفيذ عقود الصفقات، نتيجة تمتعها بالسلطة العمومية؛ أعني حقها في الرقابة و الإشراف (الفرع الأول)، و حقها في تعديل العقد بإرادتها المنفردة ( الفرع ثاني)، و أخيرا حقها في العقاب ( الفرع الثالث).
الفرع الأول:الحق في المراقبة:
من الحقوق التي تتمتع بها الإدارة في العقود الإدارية، حقها في الرقابة و الإشراف على حسن تنفيذ شروط و مقتضيات عقد الصفقة، و يتجلى هذا الحق بشكل خاص في صفقات الأشغال العمومية.فهي تتولى، بناء على البنود و الشروط و المقررة في دفاتر التحملات، الإشراف على الأشغال، و ذلك بإصدار أوامر الخدمة(ordres de service ) إلى صاحب الصفقة بواسطة المهندس، الذي يسهد على حسن تنفيذ العقد.و لها أن تدلي برأيها في مجريات و سير عمل الأشغال، و لها أن توجه تعليماتها للعناصر البشرية العاملة في تنفيذ الأشغال.
و تستمر هذه الرقابة منذ بداية تنفيذ الصفقة إلى تسليمها النهائي، و عندها تمارس الإدارة رقابة من نوع آخر، تنصب على التأكد و التحقق من حسن جودة التنفيذ، و من مطابقته لعقد الصفقة.
الفرع الثاني:الحق في تعديل العقد:
من حق الإدارة بصفة عامة أن تعدل قراراتها بشكل انفرادي ، وفقا لمقتضيات المصلحة العامة، سواء كانت هذه القرارات انفرادية في أصلها، أو لها صلة بعقد من العقود الإدارية:فلها في العقود أن تعدل في شروطها بما يزيد أو ينقص من التزامات المتعاقد معها، و دون حاجة لموافقته.
غير أن حق الإدارة في تعديل العقود التي تبرمها، مقيد بشروط أساسية، من أهمها ألا تتعدى تلك التعديلات نطاق الشرعية،و ألا يهدف كل تعديل إلا تحقيق المصلحة العامة.و ألا تتجاوز  التعديلات حدا معينا محددا في القانون أو متفق عليه [5]؛و ألا تمس التعديلات البنود التعاقدية،و بالخصوص المزايا أو الحقوق المالية للمتعاقد[6].  و أن يتقاضى المتعاقد مع الإدارة التعويضات المناسبة عن الأضرار الحقيقية التي نتجت عن تلك التعديلات خاصة التعديلات التي قد تمس بالتوازن المالي للعقد.
الفرع الثالث: الحق في العقاب:
من المزايا أو الامتيازات الأخرى التي تتمتع بها الإدارة في نظام العقود الإدارية، انه بإمكانها اتخاذ قرارات ضد المتعاقد معها، ثم تنفذها دون الحاجة إلى استصدار حكم قضائي. و من ذلك أنها تستطيع أن تتخذ قرارا بمعاقبة المتعاقد معها إذا اخل بالتزاماته، لحثه على حسن تنفيذ العقد المبرم معه. و قد تتخذ هذه العقوبات، شكل عقوبات مالية أو زجرية.بل يمكن للإدارة أن تتولى بنفسها إتمام العقد أو تعهد به إلى طرف ثالث (مقاول، أو خدماتي، أو مورد)، إذا تأكدت ان المتعاقد ( الأصلي) سيء النية في التنفيذ.غير أن أخطر هذه العقوبات جميعا، هي فسخ العقد بقرار انفرادي( مع ضمان حق المتعاقد في المطالبة بالتعويض إن كان متضررا من هذا القرار).
المطلب الآخر:حقوق المتعاقد مع الإدارة:
في مقابل الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة،يستفيد المتعاقد معها من مجموعة من الحقوق،لعل أهمها على الإطلاق هو حقه في الحصول على الثمن المحدد للصفقة، بعد إنجازه للعمل المتفق عليه.فعدم أداء الإدارة لهذا الثمن، قد يلحق بالمتعاقد معها أضرارا جسيمة، يلقى عبؤها على كاهل الإدارة.
و مما يتعلق بهذا الحق الأساسي،حق المتعاقد في إعادة التوازن المالي للعقد.ذلك أنه قد تحدث ظروف غير متوقعة ( عند إبرام الصفقة)، تؤدي إلى الإخلال بالتوازن المالي للصفقة فتضع المتعاقد مع الإدارة في مركز خارج العقد (la situation extracontractuelle)، مما يقتضي منح المتعاقد تعويضا ماليا، يعيد للصفقة توازنها، و إذا استحال ذلك أمكن للمتعاقد طلب فسخ العقد.
و قيمة هذه التعويضات، قد يكون منصوص عليها في عقد الصفقة نفسه،كما يمكن للقضاء التدخل لتقديرها ( القرار الشهير للغرفة الإدارية للمجلس الأعلى، في قضية المجلس البلدي ضد شركة النقل/ 1963).
و من أهم الحالات، التي قد تفقد الصفقة توازنها، نذكر ما يلي:إذا طالبت الإدارة المتعاقد معها بإنجاز أعمال إضافية، أو اتخذت أي قرارات انفرادية، أو طرأت ظروف أو صعوبات اقتصادية أخلت بالتوازن المالي للعقد.
و بما أن الحالة الأولى واضحة لا تحتاج إلى توضيح- كما أننا سنعود إليها لاحقا-،فسنقصر حديثنا السريع فيما يلي على الحالتين الأخريين: أعني الظروف أو الصعوبات الطارئة ( الفرع الأول)، و القرارات الانفرادية( الفرع الثاني).

الفرع الأول:نظرية الظروف الطارئة:
تتلخص هذه النظرية(La théorie de l’imprévision ) في ان ظروفا استثنائية خارجة عن إرادة الطرفين المتعاقدين، و غير متوقعة وقت التعاقد، تأتي فتعوق أو تؤخر تنفيذ الصفقة و تجعله مرهقا أشد الإرهاق للمتعاقد؛لأنها تقلب التوازن المالي في الصفقة رأسا على عقب، و إن كانت لا تجعل التنفيذ مستحيلا( كما هو الحال في القوة القاهرة)[7].
 في مثل هذه الحالة يصبح المتعاقد في مركز "خارج العقد"،لأنه ليس هو المركز التعاقدي الذي توقعه عقد الصفقة عند إبرامه أول مرة.و قد يدوم هذا الوضع لبعض الوقت- تسمى الفترة غير التعاقدية (La période extra-contractuelle) – و تبدأ مع بداية اختلال التوازن المالي للصفقة و تنتهي بحالة من اثنين:إما بإعادة التوازن للصفقة الأصلية، بواسطة التعويضات التي تمنح للمتعاقد( أو يمكن لكلا الطرفين فسخ العقد)، و الحالة الأخرى هي أن يعود التوازن تلقائيا إلى الصفقة، ليعود المتعاقدان إلى الحالة التي توقعها عقد الصفقة الأصلي( و يعوض المتعاقد عن الأعباء التي تحملها عندما كان خارج التعاقد).
و في الغالب فإن الإدارة لا تتحمل وحدها كل الخسائر، ما لم تكن هي المسؤولة عنها: بمعنى أن الإدارة تتحمل جزءا و المتعاقد معها يتحمل جزءا  آخر ( قد يكون هو الأكبر).
الفرع الثاني: نظرية فعل الأمير:
فعل الأمير(La théorie de fait de prince)، هو تصرف إداري أو قرار قانوني( تشريعي أو تنظيمي)، سواء كان محقا أو مبطلا،فيعتبر حالة من حالات القوة القاهرة، فتقف أو تزول به الالتزامات.
و من هنا ندرك أن التعويض الذي يحصل عليه المتعاقد يكون أكبر و أهم، من ذاك الذي يحصل عليه في حالة تحقق "نظرية الظروف الطارئة".
و مع ذلك فإن مجلس الدولة قد قرر ( قرار صادر بتاريخ 15 /7/1949 في قضية Ville d’El Beuf )، أنه إذا صدرت نصوص عامة:قوانين أو قرارات تنظيمية من شأنها أن تزيد في أعباء المتعاقد زيادة فادحة، و كانت هذه النصوص العامة غير متوقعة و صادرة من سلطة أخرى غير السلطة المتعاقدة، فإن النظرية الواجبة التطبيق هي نظرية " الظروف الطارئة" و ليست نظرية " فعل الأمير".
و من أمثلة تلك النصوص العامة القوانين و القرارات التنظيمية، التي تزيد من أجور العمال أو تمنحهم بعض الإعانات الاجتماعية،كإعانة غلاء المعيشة، أو تزيد في بعض الضرائب أو الرسوم، أو فرض الحصار عن منطقة أو إقليم مثلا..إلخ؛ لأن من شأن هذه "التغييرات" أن تزيد في أعباء المتعاقد مع الإدارة.
غير أن لا يمكن للمتعاقد مع الإدارة الاستفادة من هذه التعويضات، إلا إذا استمر في تنفيذ الصفقة رغم الأعباء التي ألقيت على كاهله بفعل الأمير أو نتيجة الظروف الطارئة؛فإذا تحقق هذا الشرط أمكنه مطالبة الإدارة أن تتحمل معه أو عنه الخسائر التي تحملها خلال الفترة غير العقدية( أي الأعباء التي تحملها خارج العقد)[8].
و الحاصل، بعد استعراض هذه الآراء،هو أن الصفقة العمومية ليست عقدا بالمفهوم المتعارف عليه في القانون الخاص، و لكنها ليست في نفس الوقت عقد إذعان بالمعنى الدقيق للكلمة.و لعل أقرب الآراء للصواب، هو القول بأنها عقد تبادلي،يميل إلى تحقيق التوازن بين المصلحة العامة التي تتوخاها الإدارة، و المصلحة الخاصة للمتعاقدين معها.و لعل مفهوم العقد التبادلي، يتجلى أكثر في التزام الإدارة بأداء العوض، كما سنرى فيما يلي.



[1]  أما عقد الالتزام( و أهم عناصره هو الثمن) فلا يعدل إلا باتفاق مع المتعاقد.
[2]  يعرف عقد الإذعان عموما بأنه العقد  الذي يقتصر دور أحد الأطراف فيه على قبول عقد منظم بصورة مسبقة من المتعاقد الآخر، دون إمكانية مناقشة بنوده.
و لا بد من الإشارة إلى أن عقد الإذعان جاء تعريبا للاصطلاح الفرنسي (contrat d'adhesion)، و يعني عقد الانضمام. من ذلك ، يبدو أن نظرية الإذعان جاءت وفقا لرؤية الفقيه السنهوري- رحمه الله- و تعريبه للمصطلح الفرنسي، و هو تعريب أو ترجمة بعيدة عن المفهوم الفرنسي الذي يدل عليه المصطلح الفرنسي، الذي يفيد " الانضمام" أكثر مما يعني " الإذعان".و يقول الدكتور قبلان:"..نرى أن مفهوم الانضمام يرجح على مفهوم الإذعان في مثل تلك العقود، لأنها تؤمن للعقد أهم ركن، ألا و هو الرضى؛ إذ بدونه لا نكون أمام صيغة العقد بمفهومه القانوني":المرجع السابق-ج1ص 164.
[3]  و لا يوجد لهذا المبدأ إلا استثناءين اثنين، و هما:1) عندما يسمح صاحب المشروع للمرشح لنيل الصفقة( أو بعد نيله) تعديل دفتر التحملات الخاص بالصفقة( و هذا لا يوجد في القانون الحالي).و 2) إذا كان القانون يسمح للمرشح المتنافس أن يقترح بديل أو بدائل (variantes)، شريطة أن يحترم الخصائص التقنية التي حددتها الإدارة:فالمرشح حر في أن يقدم عرضا مطابق لما جاء في الدفاتر، كما يمكنه أن يرفق عرضه التقني الأساسي بعرض آخر بديل، في الملف التقني، باستقلال عن دفتر التحملات الخاص( أي دون أن يدخل تغيرات على دفتر التحملات الخاص الذي تعرضه الإدارة). و لقد نظم المشرع المغربي هذا الإجراء في المادة (20) من قانون الصفقات:" إذا نص نظام الاستشارة  على تقديم عروض بديلة بالنسبة للحل الأساسي المحدد في دفتر الشروط الخاصة يتعين أن يحدد هذا النظام موضوع و حدود هذه العروض البديلة و شروطها الأساسية".
[4]  عقود الإذعان:دراسة مقارنة – مكتبة دار السلام للطباعة و النشر – الرباط 2004- على التوالي ص 83 و ص 800.
[5]  فلا يجوز أن تغير تلك التعديلات عقد الصفقة بشكل كبير، إلى درجة تجعل المتعاقد  أمام عقد صفقة جديد ، قد تفوق قيمته المالية الثمن الأصلي  المتفق عليه.
[6]  إن البنود التعاقدية المحضة( أعني الثمن بالخصوص، و الأجل، و كيفية تقدير التعويضات..إلخ)؛ لا يجوز للإدارة تعديلها إلا بإرادة الطرف الآخر.

[7]  إن القوة القاهرة تجعل تنفيذ العقد مستحيلا، و يصبح من الضروري إنهاؤه العقد.
[8]  قضت المحكمة الإدارية للرباط،مؤخرا، في أحد الملفات التي عرضت عليها كالآتي:"..و حيث إن قرار المقاولة بالاستمرار في التنفيذ كشرط لتطبيق نظرية الظروف الطارئة لمواجهة حجم الأشغال و الأعباء يعتبر صحيحا و منتجا لكافة آثاره إزاء صاحب المشروع، و يجعل المقاولة المعنية بالأمر محقة في الحصول على المبالغ المالية و التعويضات التي اقتضاها إنجاز الأشغال، استنادا إلى ضرورات سير المرافق العامة بانتظام و إلى قواعد العدالة":قسم القضاء الشامل- حكم بتاريخ 27/9/2012.