الفصل
الثالث: أنواع الضرائب
لاشك أنكم قد لاحظتم، من
خلال المباحث السابقة، أن الضرائب تتميز بسمتين أساسيتين، هما التنوع و التعدد.فالمشرعون
الجبائيون، في مختلف الدول، يسنون ضرائب متعددة و متنوعة، تتلاءم مع الأهداف العامة ( السياسة أو الاقتصادية أو الاجتماعية )، التي يتبنونها؛
و أيضا لتحقيق بعض الأهداف الخاصة (المالية مثلا) من كل ضريبة.أي أن المشرع
الجبائي، في كل بلد، يحاول من خلال الضرائب العديدة و المتنوعة التي يفرضها، تحقيق
أهداف عامة بواسطة النظام الجبائي ككل، و أهداف خاصة من خلال كل ضريبة على حدة،
كما رأينا[1].
و إذا كان هذا التنوع و
التعدد في الضرائب أمرا طبيعيا، فمن الطبيعي كذلك أن تكون هناك تصنيفات متعددة
للضرائب.و كل تصنيف يعتمد معيارا أو أكثر لتجميع الضرائب في مجموعات:فهناك تصنيف يعتمد
الملزم نفسه كمعيار، و تصنيف ثان يأخذ الوعاء أو المادة الضريبية كوعاء، و تصنيف ثالث
يراعي الطريقة التي تجبى بها الضريبة..إلخ.
و عمليات التصنيف ليست، أو
لم تعد ، بالأمر الهين؛إذ أن أنواع الضرائب كثيرة، و الأسس المعتمدة في تصنيفها
متعددة و متنوعة، و قد ازدادت تنوعا و تعددا ، بازدياد عدد الضرائب، منذ النصف
الثاني من القرن العشرين.
وبالفعل فالضرائب اليوم،
تكاد تضرب كل شيء، و تمتد إلى كل جوانب الحياة.و من ثم يصعب دراسة كل الضرائب، إذا
أخذت في مجملها و في كل تجلياتها و تشعبها، فلا بد من تصنيفها و تقسيمها إلى أقسام
و أنواع، حتى يسهل تناولها.
و التصنيف عموما، كمنهج
علمي، يساعد في الدراسة النظرية للضرائب، كل واحدة على حدة، ن أجل ربطها بهذا
الصنف أو ذاك. كما أنه، يمنح للباحث فرصة مقاربتها كمجموعات، أي التفكير فيما يجمع
عناصر كل مجموعة ، و يقربها من بعضها البعض؛ و ما يميزها و يبعدها عن عناصر
المجوعات الأخرى.
و لكن، يجب الإقرار هنا، أن
محاولات تجميع بعض الضرائب، على أسس معايير معينة، لا يكون دائما دقيقا، بل كثيرا
ما تتعرض هذه التصنيفات إلى انتقادات، خاصة إذا تم تقييمها من الناحية العملية.و
من ثم، فلعل أفضل منهجية، للاستفادة منها، هي أن لا يعتمد على تصنيف واحد ،بل لا
بد من استعمال أكثر من تصنيف في نفس الوقت.
فيما يلي،سنبحث بالتفصيل
وعين من التصنيف الأول منهما اقتصادي( المبحث الأول)، أو يعتمد على أسس اقتصادية،
و الآخر تصنيف إداري-تقني( المبحث الثاني).و إلى جانب هذين التصنيفين الكبيرين و
الهامين، سندرس تصنيفات أخرى( المبحث الثالث)، لاستكمال الصورة في ذهن الدارس.ذلك
أن التصنيفات على تعددها، يكمل بعضها بعضا، و لا يمكن الاعتماد على واحد أو اثنين
منها، في اسيعاب الضرائب في مختلف أبعادها القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية،
بل يجب الاستعانة بالكثير من هذه التصنيفات؛لأن لكل منها مزاياه ( و عيوبه طبعا).
المبحث
الأول: التصنيف الاقتصادي
نريد
بالتصنيف الاقتصادي هنا، على أساس العناصر الاقتصادية المضروبة[2].و في
هذا النوع من التصنيف يتم التمييز عادة، بين الضرائب على الاستهلاك أو الإنفاق(
مثل الضريبة على القيمة المضافة TVA)؛ و الضرائب على الرأسمال أو الثروة( مثل الضرائب
على العقار..)؛ و الضرائب على الدخل، و ضمن هذا الصنف الأخير يتم التمييز بين
الضرائب على دخول الأشخاص الطبيعيين، و الضرائب على دخول الأشخاص المعنويين
(الشركات..).
المطلب
الأول- تضريب الدخل:
قد يبدو الحديث عن تضريب
الدخول، أمرا بسيطا، لأول وهلة، إذ يتعلق الأمر بفرض الضريبة أو الضرائب، على
المكاسب المحققة- أو المفترض تحققها- التي حصل عليها فرد أو مقاولة.
إلا أن الأمر، ينطوي على
صعوبات كبيرة، لعل أولها و أهمها، كما مرّ معنا، هو تحديد مفهوم الدخل نفسه:ماهو؟
فعندما فرضت الضريبة على
الدخل أول مرة في فرنسا،سنة 1914،اعتمد المشرع الجبائي على التعريف المدني للدخل،
الذي يعتبر أن الدخل هو" مبلغ مالي يأتى من مصدر دائم، و بطريقة دورية"[3].
هذا التعريف، يستبعد ، إذن،
ليس فقط المكاسب غير الدورية، بل كذلك المكاسب الرأسمالية،و أيضا المزايا العينية(
و قد شرحنا السبب في مكان آخر، من هذه الدروس).و لهذا، اضطر المشرع الجبائي، إلى
تبني تعريف آخر أكثر اتساعا،يأخذ بعين الاعتبار الإثراء الصافي (L'enrichissement net)، للمكلف خلال فترة من الزمن
محددة:أي، بتعبير آخر، التغيير الإيجابي أو السلبي، الذي يطرأ على ثروته.
و بناء على هذا
التعريف،أصبح بالإمكان تضريب الدخول الرأسمالية( مثل الزيادات التي تحصل في قيم
الأصول الثابتة للمقاولات، و التي قد تطهر عند عمليات البيع)،و أيضا المداخيل غير
النقدية( المزايا العينية)، و أيضا المكاسب الاستثنائية ( مثل الأرباح المحققة في
البورصة).
هذا التحول نحو مقترب
اقتصادي أكثر للدخل الجبائي، يظهر في المادة (22)من مدونة الضرائب،التي تنص على أن
ضريبة الدخل تضرب على الدخل الإجمالي الصافي السنوي، و يحدد من خلال حصيلة جميع
الدخول الصافية لكل صنف من أصناف الدخل، أي الناتج الخام( Le produit brut)،
الذي يفضل بعد خصم النفقات الذي دفعت من أجل الحصول على على كل صنف من الدخل أو
المحافظة عليه.
المطلب
الثاني- تضريب الإنفاق:
يقصد بتضريب الإنفاق
(الاستهلاك)،فرض الضرائب على السلع و الخدمات (Services)، عند الحصول عليها أو الاستفادة
منها.
و أول ملاحظة يجب تسجيلها
هنا، هي أن تضريب الانفاق ليس بعيدا عن تضريب الدخل أو الرأسمال،كما قد نتصور لأول
وهلة.فضرب سلعة أو خدمة ، هو في حقيقيته ضرب للدخل الذي انفق على أي منهما.كما ان
تضريب السلع و المشتريات، قد يكون أحيانا، تضريبا للرأسمال، عندما تكون السلعة
المشتراة، سلعة استثمارية ( أثات مكتب،أو أصل تجاري، أو قيم منقولة ،كالأسهم و
السندات..)[5].
المطلب
الثالث: تضريب رأس المال:
إن تضريب رأس المال، يمكن
أن يتم بمناسبة انتقاله، مجانا(كما في حالة الهبة أو الإرث..)،أو بعوض( مثل بيع
العقارات و المنقولات..). كما يضرب على الوجود المادي نفسه، لهذا الرأسمال(
الضرائب العقارية مثلا)[6].
و نحب أن نسجل هنا ملاحظة
أخرى، شبيهة بتلك التي أوردناها للتو، أعلاه، و مفادها أن الضريبة على الرأسمال قد
تأخذ شكل ضريبة على الإنفاق أو ضريبة على الدخل، و لكن بشكل غير مباشر.و هكذا،
فتضريب الرأسمال، قد يأخذ شكل ضريبة على الإنفاق عندما تقتطع بمناسبة تملك المشتري
عقار أو منقول( منزل، أو سيارة مثلا).كما أن الضريبة على الرأسمال، قد تبدو كما لو
أنها ضريبة على الدخل، عندما يستعمل المكلف دخله لشراء عقار أو منقول( و بعدما
يكون قد أدى على ذلك الدخل ضريبة الدخل..):فتصبح كل الضرائب على العقار مثلا،بشكل
غير مباشر طبعا،ضرائب على ما ادخره المكلف، من دخول(من أجره أو راتبه الشهري..عبر
سنوات، مثلا).
من أهم المشاكل التي تواجه
المشرع الجبائي ، أثناء سنه للقواعد القانونية المتعلقة بالضرائب، قضية تحديد
الأوضاع و الوقائع، التي يمكن على أساسها تعريف المواد (الأوعية) الضريبية:فالمشرع
الجبائي، كما هو معروف،لا يحدد أسماء الملزمين بالضرائب، و إنما يكتفي بتحديد
حالات نموذجية لوقائع أو أعمال أو أنشطة أو صفات في المواد الضريبية أو الملزمين
بالضرائب.و لا تصبح هذه ّ الحالات النموذجية" واقعية؛ إلا إذا انطبقت على
حالات ملموسة، أو أشخاص(ملزمين) بعينهم.
و لعل السؤال الذي ظل يطرحه المشرع الجبائي، منذ أقدم العصور؛
هو :هل مبلغ الضريبة يجب أن يقتطع من الرأسمال أم من الدخل؟
لقد اعتبر الكثير من علماء الاقتصاد، و فقهاء
القانون، و علماء السياسة، و عموم المشرعين.. أنه لا مجال للتردد في الإجابة عن
هذا السؤال؛إذ لا فرق بين الدخل و الرأسمال،إذا نظرنا إليهما من زاوية الضريبة؛
فهي في المحصلة النهائية،- و أيا كان الفن المالي الذي نعتمد عليه، و أيا كان
الموضوع الذي تفرض عليه-؛ تضرب على ثروات المكلفين، التي تعتبر الأوعية الحقيقة
لجميع الضرائب.أو هي، بتعبير آخر، تضرب على " الدخل الوطني و بعض عناصر
الثروة الوطنية"، و أن تنوعها( الضرائب)؛إنما هو ناجم عن تنوع الوقائع
المنشئة للضرائب (Les faits
générateurs des impôts).
و من ثم، فالدول المعاصرة،
عندما تنوّع الضرائب التي تفرضها- و تصوغها على شكل نظام جبائي- على الرأسمال و/ أو
الدخل و/أو فروعهما،فإنما تفعل ذلك؛ بقصد تنويع الطرق التي توصل إلى الثروات: فالنظام
الضريبي لا يكتفي، مثلا، باخضاع الدخل للضريبة عند تحققه فحسب، بل يعمل على إخضاعه
للضريبة أيضا، عند انفاقه؛ أي لا يكتفي بعبور الطريقة المباشرة(الضريبة المباشرة)
إلى الثروة، بل يسلك الطريقة غير المباشرة(الضريبة غير المباشرة) كذلك[7].
و عموما يعتبر الدخل و
الرأسمال، مقياسان للقدرة الاقتصادية أو الجبائية للملزم؛ لكن هناك فروق كبيرة و
كثيرة بينهما، من أهمها أن أحدهما(الرأسمال) ثابت في الزمن (على الأقل قياسا إلى
عمر الملزم)، و الآخر دينامي متجدد ..و لكن غير قار.
و هناك مسألة ثانية،و هي إن
فروع الرأسمال كثيرة (عقارات زراعية، مباني، منقولات..إلخ)، و كذلك فروع الدخل
أنواع متعددة؛فهل يجب التعامل معها كلها بنفس الطريقة، من الناحية الجبائية؟خذ على
سبيل المثال فروع الدخل:فبعضه يأتي من العمل، و بعضه الثاني يأتي من الرأسمال(كراء
العقارات مثلا)، و بعضه الثالث يأتي من مصدر يختلط فيه العمل بالرأسمال (دخول ملاك
المقاولات، و ودخول أصحاب المهن الحرة مثلا)؛ فهل يجب التعامل مع الدخل بنفس
الطريقة، بغض النظر عن مصدره؟
و هناك مسألة ثالثة،و هي أن
العدالة الجبائية تقتضي أن ننظر إلى القدرات التكليفية للملزمين، أي مدى قدراتهم
على تحمل الأعباء الجبائية:فصحيح أن مداخيل بعض الملزمين تتساوى، إلا أن أعباءهم
قد تختلف،مما يستدعي الانتباه إلى الظروف الشخصية و الاقتصادية و الاجتماعية لبعض
الملزمين (مثل أعمارهم، و حالتهم الصحية، و حالتهم المدنية،و عدد أطفالهم، و
ديونهم..إلخ).
إن دراسة هذه القضايا و
المسائل، التي تعرضنا إليها أعلاه؛ أي دراسة تنوع الأسس و العناصر الخاضعة
للضريبة- أو تنوع الوقائع المنشئة للضريبة-، من حيث التمييز بين الضرائب على
الرأسمال أو الدخل، و بين الضرائب المباشرة على الدخل أو انفاقه..إلخ، هي موضوع
هذا الفصل باعتبارها أكثر التصاقا بالجانب التشريعي-النظري للوعاء؛أماالقضايا و
المسائل المتعلقة بالبحث في الإجراءات(الإدارية) التي يجب اتباعها لتقدير الوعاء و
حسابه، فتدخل في الجوانب التطبيقية و التقنية للضريبة..و سندرسها في فصول لاحقة.
[1] و لقد درسنا في المباحث السابقة، بعض هذه الأهداف العامة
و الخاصة، و سنعود لدراستها هنا، في هذا الفصل، من زاوية أخرى، تسلط الضوء على القواسم المشتركة، التي تبين كيف تحقق هذه
الضرائب تلك الأهداف العامة أو الخاصة.
و فيما يخص التصنيف على أساس الفاعلين
الاقتصاديين، يمكن القول عنه في عجالة أنه يسمح بمقابلة الضرائب المفروضة على
الأفراد (الضرائب على الدخل، الضرائب على السكن..)، و الضرائب المفروضة على
المقاولات (الضرائب على الشركات..)، و الضرائب على المنتجات ( الضريبة على القيمة
المضافة، و غيرها من الضرائب غير المباشرة..).
و رغم التشابه الظاهري، بين هذا التصنيف و
التصنيف الإداري، إلا أنهما مختلفان، لأن أحدهما إداري و الآخر اقتصادي.
[4]
Introduction au droit fiscal général et à la théorie de l'impot-op.cit-p 21 et
suivantes.
[5] و على العكس من ذلك،
فعندما يتعلق الأمر بسلعة استهلاكية، فإن الضريبة تمثل فعلا ضريبة على الانفاق.
[6] لا يجب
الخلط هنا، بين الضريبة على العقار، و الضريبة على الدخل الذي يتأتى من العقار:فقد
تضرب الضريبة على ملكية المنزل، و تضرب ضريبة أخرى على الدخول الكرائية، التي
يدرها هذا العقار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق