الثلاثاء، 26 مايو 2020

ماذا نتعلم من الجامعة

ماذا نتعلم في الجامعة؟

ان الرأي السائد بين الناس ؛ هو ان ما نتعلمه في الجامعة، يختلف من زمان الى زمان، و من مكان الى مكان.الا اننا عندما نتمعن اكثر في حقائق الأمور،نجد ان ما تعلمه الجامعات اليوم لا يكاد يختلف، في جوهره، عن ما كانت تعلمه منذ أزيد  من قرن ونصف ، و اذا لم تصدق ذلك، فتأمل بعمق ما قاله الأديب و الشاعر و الاستاذ الجامعي " وليام كوري" (W.Cory )(١٨٢٣-١٨٩٢)، عن أهداف التعليم الجامعي في زمانه.
يقول كوري:اننا نخطئ عندما نتصور اننا نلتحق بالجامعة سعيا وراء العلم و المعرفة وحدهما، فنحن نتعلم فنونها اخرى لا تقل أهمية عن المعلومات التي نقرأها في الكتب..
         لأننا نتعلم فن الإنصات و قدرة التعبير عن النفس..
         و نتعلم فن التأثير على أفكار الناس و إقناعهم بما نؤمن به..
        و نتعلم فن الاعتراض او الموافقة على الآراء و المقترحات التي تطرح أمامنا ، و لكن بأسلوب جامعي..
        و نتعلم فن إنجاز أعمالنا في الوقت المحدد لنا..
        و نتعلم كيف نتذوق ما نقرأ ، و كيف نفرق بين الغث و الثمين في قراءاتنا..
        و اخيراً، نتعلم، كيف ننمي الشجاعة الأدبية و الشجاعة الفكرية في نفوسنا
المصدر:ماذا نتعلم في الجامعة؟-العربي ( الكويتية)- العدد ١٤٩- ابريل ١٩٧١ - ص ٥٠.



الاثنين، 25 مايو 2020

الضمانات التي تمنحها الإدارة للمتنافسين


الضمانات التي تمنحها الإدارة للمتنافسين لنيل الصفقات العمومية

الضمانات الممنوحة للمتنافسين
كل هذه المبادئ الأساسية، التي تحدثنا عنها أعلاه، تبدو مثالية من الناحية النظرية، و قد تكون جيدة من الناحية العملية، إذا احترمها أطراف التعاقد في الصفقات العمومية، و لاسيما الإدارة.فالإدارة تتمتع بامتيازات كثيرة جدا، قد لا ترغب في التنازل عنها، لتحقيق بعض التوازن مع المتنافسين لنيل الصفقات معها.فما هي الضمانات إذن، التي وفرها القانون لتطبيق المبادئ الأساسية للصفقات العامة؟
لقد منح المشرع المرشحين الراغبين في التنافس على نيل الصفقات، و كذا المتعاقدين مع الإدارة، الكثير من الضمانات القانونية، بأن حقوقهم سيتم احترامها في مختلف المراحل التي تمر منها مساطر إبرام الصفقات و تنفيذها ، كما يتجلى لنا من خلال المواد التالية:
أ- فالفقرة (6) من المادة (19)، تبين لنا أنه إذا استحال على أحد المتنافسين الحصول على ملف طلب العروض، لسبب من الأسباب ؛ فإنه يحق له أن يشتكي إلى الجهة التي يخضع لها صاحب المشروع المعني:و إذا تبين لصاحب المشروع، صحة الشكاية و استنادها إلى مبررات مقبولة، يؤجل فتح الأظرفة ( و يعلن عن هذا التأخير، أو يخبر بأية وسيلة أخرى المترشحين)؛
ب- و في الفقرة (8) من نفس المادة، نجد المشرع يتيح فرصة للمتنافسين الذين يعتبرون أنهم غير قادرين على تحضير عروضهم- و خصوصا إذا كان نظام الاستشارة ينص على إعداد  ملف إضافي،أو عندما الأعمال موضوع الصفقة ، ذات طبيعة معقدة-، داخل الأجل المعلن عنه في إشهار الصفقة،بأن يطلبوا إرجاء فتح الأظرفة، إذا أقر صاحب المشروع بصحة طلب المتنافس أو المتنافسين أصحاب الطلب ( و هذا المقتضى من مستجدات القانون الحالي،و لم يكن موجودا في القوانين السابقة)؛
ج- ليس هذا فقط، بل نجد المشروع يعطي للمتنافسين الحق- خلال جلسة فتح الأظرفة- في أن يدلوا بملاحظاتهم و تحفظاتهم، حول العيوب المحتملة التي قد تشوب مسطرة إبرام الصفقة.و إذا أقر رئيس الجلسة صحة هذه التحفظات أو الملاحظات، يختم المسطرة و يخبر بصوت عال المتنافسين بذلك( المادة 36/البند 5)؛
د- و أباح المشرع للمتنافسين اللجوء إلى السلطات المختصة، لطلب إلغاء الصفقة: و في حالة الشكاية المبنية على أسس صحيحة، تلغي الصفقة ( المادة 45)؛
ه- غير أنه في حالة المباراة، إذا ألغى صاحب المشروع الصفقة، فإنه يمنح الجوائز المقررة للمتنافسين الأحسن ترتيبا ، و هذا  الإجراء من مستحدثات القانون الجديد ( المادة (83)؛
و- وبعد اختيار نائل الصفقة، فإن صاحب المشروع مطالب بإخبار باقي المتنافسين ، بأنه تم إقصاؤهم، و ذلك في ظرف زمني لا يتجاوز خمسة (5) أيام، ابتداء من تاريخ انتهاء أشغال لجنة فحص العروض، برفض عروضهم، مع ذكر أسباب إبعادهم، حتى يمكنهم اللجوء إلى القضاء أو التظلم إلى الإدارة  إن شاءوا (المادة 44)؛
ز- و لضمان هذا الحق، فإن المشرع ألزم الإدارة بأن تحتفظ بالوثائق التي تتضمن مبررات إقصاء أولئك المتنافسين،لمدة خمس (5) سنوات على الأقل(المادة 44)؛
ح- و من الضمانات الهامة التي منحها المشرع للمتنافسين، أنه منع السلطات المختصة من تغيير الاختيار الذي أقرته لجنة طلب العروض ( المادة 44)؛
ط- من الضمانات التي جاء بها مرسوم 2013، أن إلغاء طلب العروض يجب أن يتم بقرار موقع من طرف السلطة المختصة، ، يتضمن الأسباب التي تبرر هذا الإلغاء،مع ضرورة نشره في بوابة الصفقات العمومية،و طبعا تبليغه لأعضاء لجنة طلب العروض( المادة 45).
و نفس الشي أشارت إليه (المادة 83) المتعلقة بإلغاء المباراة، الذي يتم بناء على مقرر توقعه السلطة المختصة، و تبين أسباب هذا الإلغاء كذلك عندما يتعلق الأمر بإلغاء الاستشارة المعمارية(المادة 111)، و إلغاء المباراة المعمارية (المادة 128)؛
ط- و قد يحدث أن تقصي الإدارة أحد المتنافسين من المشاركة في الصفقات العمومية، إقصاء مؤقتا أو نهائيا ( المادة 138)؛ و في هذه الحالة ، يستدعى المتنافس أو صاحب الصفقة، لتبلغ إليه المؤاخذات، للإدلاء بملاحظاته، داخل الأجل المحدد من طرف صاحب المشروع، و الذي لا يمكن أن يقل عن خمسة عشر (15) يوما، و يبلغ إليه مقرر العقوبة، الذي يجب أن يكون معللا؛
ك-هذا، و فيما يخص صفقات الجماعات الترابية- و هذا من مستجدات المرسوم الحالي (2013)، أيضا-، أحدثت المادة (145) لجنة في وزارة الداخلية، يكون من اختصاصاتها، إبداء الرأي حول مقررات وزير الداخلية، بإقصاء متنافسين مؤقتا أو نهائيا، من المشاركة في صفقات الجماعات الترابية.و كذا إبداء الرأي حول تظلمات و شكايات المتنافسين في مجال صفقات الجماعات الترابية؛
ل- و من المستجدات التي جاء بها المرسوم الحالي، إدخال ما يسمى بـ " أجل الانتظار"، و هو الأجل الذي أفسح للمتظلمين من الصفقات، و مدته خمسة عشر (15) يوما، لا يمكن للسلطة المختصة خلاله أن تصادق على الصفقة، بل يجب عليها انتظار انتهاء هذه المدة، و ذلك قصد تمكين المتنافسين من تقديم طعونهم الإدارية إليها ( المادة 152)
و هذا الإجراء، من مستجدات المرسوم الحالي؛إذ لم يكن المرسوم السابق (2007)، يسمح للمتنافسين  بتأجيل المصادقة على الصفقة، في انتظار البت في طعونهم. أي بتعبير آخر، لم تكن هناك  مدة زمنية فاصلة بين تاريخ انتهاء أشغال لجنة إسناد الصفقة(اختيار نائل الصفقة ) من ناحية،و تاريخ المصادقة على الصفقة من ناحية أخرى.فجاء مرسوم 2013،ليمنح للمتنافسين غير الراضين عن نتيجة المنافسة، مهلة خمسة عشر (15) يوما ( كضمانة)، تسمح لهم بتقديم طعونهم  الإدارية،إلى الجهة المختصة،لعلها تقبل طعونهم،فتمتنع عن المصادقة على الصفقة المعنية؛
م- و عموما، يجوز لكل متنافس، حسب مقتضيات المادة (169)، أن يوجه شكايته كتابة إلى صاحب المشروع،(تظلم إداري استعطافي) إذا لاحظ خرقا لإحدى قواعد المسطرة، أو لاحظ أن ملف طلب المنافسة تضمن بنودا تمييزية أو شروطا غير متناسبة مع موضوع الصفقة، أو نازع في سبب إقصاء عرضه.و في حالة عدم تلقي أي رد من الجهة المختصة، أو أن الرد لم يكن مقنعا، أمكنه أن يرسل شكاية أخرى- تظلم إداري رئاسي- إلى الوزير المعني أو وزير الداخلية ( في حالة صفقات الجماعات الترابية): و يمكن للسلطة المختصة، حسب الحوال، إذا تبينت لها صحة الشكاية، أن يأمر بالقيام بتصحيح الخلل  أو إلغاء المسطرة؛
ن- كما أن القانون الحالي، أفسح المجال أمام المتنافسين، إمكانية تقديم طعونهم و شكاياتهم، أمام لجنة الصفقات العمومية، بشكل مباشر و دون اللجوء إلى صاحب المشروع المادة 170).
و من طبيعة الحال، فإن كل متضرر من أعمال الإدارة، يمكنه أن يلجأ إلى القضاء..لينصفه(و سنتناول المسطرة الإدارية و القضائية ،بتفصيل أكبر، في سياق حديثنا عن " منازعات الصفقات العامة")[1].
***
و بعد..
إن الدراسات العلمية التي أنجزت حول الصفقات العمومية، لاسيما تلك التي تمت بمساعدة المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة ، و ترانسبارنسي ( الشفافية)ن و فريدوم هاوس ، و غيرها من الهيئات، تؤكد أنه رغم اعتراف الكثير من الدول بهذه المبادئ، و إدراجها في قوانينها، و تشريعاتها المختلفة، إلا أنها لا تتقيد بها و لا تحترمها في الممارسة.و الأسباب التي قد تفسر ذلك كثيرة و متنوعة،منها عدم وجود رغبة حقيقية- أو عدم وجود القدرة أحيانا-، لدى المسؤولين ، على تطبيق تلك المبادئ في أرض الواقع،لأنها تلحق أضرارا بمصالحهم .
من هنا، يطرح السؤال الهام: هل القانون وحده يكفي لضمان الحصول على صفقات فعالة؟
لا شك أن وجود نظام قانوني، بقواعد واضحة و متكاملة، أمر ضروري لإرساء أسس نظام جيد للصفقات العمومية.و لقد بذل المغرب، أعني الحكومات المغربية المتعاقبة، و منذ فجر الاستقلال، جهودا كبيرة، تذكر و تشكر ، لأجل توافر الترسانة القانونية المغربية، على نظام قانوني عصري و جيد، حتى لا نقول ممتاز، يواكب آخر المستجدات، و يستجيب لجميع متطلبات الإدارات العمومية.إلا أنها، حتى الآن، عجزت عن إتمام هذا الجهود، و تتويجها بوضع مدونة للصفقات العمومية، تجمع كل الشتات التشريعي، الذي له صلة بالصفقات.
و لكن، في الحقيقة، إن هذه القوانين، أو حتى المدونة، لو خرجت إلى حيز الوجود، لن تطبق نفسها بنفسها، بل هي تعرف طريقها إلى التطبيق، عبر " عقول" الإداريين.و هنا، موطن الداء..
أجل، إن القواعد القانونية وحدها، حتى و لو كانت هي أحسن القوانين، لا تكفي وحدها، بل لا بد من استكمالها بمؤسسات تؤطر عمليات التطبيق، حتى تتم وفق المبادئ و المعايير الدولية للصفقات الجيدة.


[1]  و لحماية حقوق المتنافسين، و فرصهم في التقاضي، نص مرسوم 2013 على ضرورة مسك صاحب المشروع لسجل لتتبع الشكايات يتضمن تاريخ استلام الشكاية ، و مآلها (المادة 169).و لا شك أن احترام هذه المادة، سيحد من استهتار أصحاب المشاريع، و استخفافهم بالشكايات، و عدم الرد عليها،سيما و أن تلك السجلات قد تصبح حججا ضدهم، في حالة التنازع الإداري أو القضائي.


الأحد، 24 مايو 2020

صفقات التنمية المستدامة ..و الصفقات الخضراء


صفقات التنمية المستدامة ..و الصفقات الخضراء

المبحث الخامس:صفقات التنمية المستدامة[1]
لقد صار احترام البيئة ، و السعي لتحقيق التنمية المستدامة، هدفان أساسيان ، ترمي إلى بلوغهما الكثير من التشريعات، في الكثير من دول العالم ،  و على رأسها التشريعات المتعلقة بالمشتريات العمومية، و ذلك  منذ أزيد من ربع قرن على الأقل.
و بناء على ذلك، صار المشترون العموميون ،في أغلب دول العالم،مطالبون بإدراج شروط و بنود في نظم الاستشارة و في دفاتر التحملات العامة و الخاصة، تقضي بحماية البيئة ، و تراعي أهداف التنمية الاجتماعية و التطور الاقتصادي للأجيال الحاضرة و المستقبلية.
و لقد انخرط المغرب، منذ بداية الألفية الثالثة ، في هذا المسار، و لم يكن مرسوم 2013، المتعلق بالصفقات العامة، إلا واحدا من القوانين المغربية التي ذهبت في هذا الاتجاه.
و هكذا فمرسوم 2013،أولى لقضايا البيئة و التنمية المستدامة، أهمية كبيرة، فأدمج،لأول مرة، احترام البيئة ، و أهداف البيئة المستدامة، ضمن المبادئ العامة التي يجب على كل صفقة احترامها و التقيد بها قدر المستطاع، ثم جعل من ضمن المعايير المعتمدة لقبول العروض و إسناد الصفقة(تفضيل العروض)، معايير خاصة بحماية البيئة،و تنمية الطاقات المتجددة..،في كل أنواع الصفقات، و مهما كان الغرض منها:صفقات الأشغال، أو التوريدات، أو الخدمات.
أجل،لقد صارت النجاعة و الفعالية و الحكامة في تدبير النفقات العمومية ،رهينة بإدماج البعدين البيئي و التنموي في كل سياسات المشتريات العمومية. و لا شك أن ذلك سيحمي البيئة و يحقق التنمية المستدامة، بطريقة مباشرة، و بطريقة غير مباشرة أيضا، من خلال تغيير سلوك الأفراد و المقاولات في هذا الاتجاه.
فباستعمال سلطاتها في تحديد حاجياتها( في دفاتر الشروط الخاصة، و في نظم الاستشارة)، أو في تحديد شروط التنفيذ ؛ يمكنها  شراء السلع و الخدمات و الأشغال، التي تحترم البيئة. كما يمكنها اشتراط تسليم مشترياتها (التوريدات مثلا) ، بطريقة تساهم بفعالية في حماية البيئة و/أو تحقيق التنمية المستدامة.فالصفقات " الصديقة للبيئة" أو " ما يعرف بالصفقات الخضراء)، تغطي مجالات واسعة، مثل شراء الحواسيب التي تستهلك كميات قليلة من الكهرباء( و بالتالي كميات قليلة من المواد الطاقية، كالفحم أو البترول..لإنتاج الكهرباء)، و البنايات التي تحافظ على الموارد الطبيعية (كالمياه ،و المواد المنتجة للطاقة الكهربائية= الإنارة)، و الأوراق و الأوعية القابلة لإعادة الاستعمال للتدوير ( Les matériaux recyclables)، و السيارات و الحافلات و مختلف وسائل النقل الكهربائية، و وسائل النقل التي تحترم البيئة(قليلة التلوث)، و المواد الغذائية البيولوجية ( للمطاعم= المدارس، و الجامعات، و المستشفيات،و السجون، و التكنات العسكرية..إلخ)، و مختلف السلع التي لا تضر بالبيئة ( أصباغ،و مداد الطبع، و مواد التنظيف،أسمدة، مبيدات، و المصابيح،..)..إلخ.
و هذه الصفقات البيئية،لا تؤثر بطريقة مباشرة في سلوك الأفراد فقط( من خلال ضرب المثل)، بل تؤثر في  سلوك المقاولات أيضا،فاقتناء السلع و الخدمات و الأشغال الإيكولوجية، هي وسيلة تمتلكها السلطات العمومية لحث المقاولات الصناعية على تنمية التكنولوجيات الخضراء أو الصديقة للبيئة.
فالصفقات الخضراء، تهدف إلى تحقيق الترشيد في الإنفاق، و  حماية الموارد البشرية على المدى البعيد: فهي تحافظ على مصادر المواد الأولية و الطاقة  ( يجب أن نشتري ما نحتاج إليه فقط)، و تخفض نسب التلوث في الهواء، و تقلل كميات النفايات، و توجه السلوك الفردي و الجماعي إلى حماية البيئة( تقلص من آثار الارتفاع الحرار= نسب الغازات التي تسبب الارتفاع الحراري، كغاز ثاني أكسيد الكربون)،..و كل هذا يصب في مصلحة الجميع أفراد المجتمع..و القطاعين العام و الخاص.
فلو أن الإدارات اشترت ما تحتاجه فقط، و بالكميات التي تحتاجها، و بالمواصفات البيئية ، لتم الحفاظ على الكثير من الموارد و الإمكانيات اليوم و للأجيال القادمة أيضا:فلو تم شراء مصابح صديقة للبيئة ( تستهلك كميات أقل من الكهرباء)؛ و لو تم شراء حواسيب تستهلك كميات أقل من الطاقة؛ و تم تزويد المكاتب بالأوراق و الأقلام و ما شابه، القابلة للتدوير؛ و لو تم تجهيز البنايات العمومية بأنابيب و حنفيات لا تبذر المياه..إلخ؛ لكان في ذلك ترشيد للمال العام، و حماية للبيئة، و تحقيق للتنمية المستدامة.
و في الحقيقة أن الصفقات العمومية، في السنوات العشرين الأخيرة لم تهتم بالجوانب البيئية فقط، بل اهتمت كذلك بالتنمية في بعدها الاجتماعي أيضا، أي ما يعرف بالتنمية البشرية الشاملة،فقامت منظمات الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، أو ما يعرف بالمعاقين، بمطالبة الحكومات المركزية و المحلية و الشركات الخاصة،بأن تيسّر ولوج المباني و وسائل النقل العامة، و مرافق التسلية، و مواقف السيارات و غيرها، من الأماكن العامة، للضرير و الأصم، و كل من يستخدم كراسي مزودة بعجلات، ..إلخ.فاستجابت الكثير من الحكومات المركزية، و الحكومات المحلية، و البلديات، لهذا الطلب؛ و أصدرت سلسلة من القوانين و القرارات، تلزم الإدارت العامة، وحتى شركات القطاع الخاص؛بإبرام صفقات أشغال و توريدات و خدمات، لتسهيل ولوج المعاقين الأماكن العامة و الخاصة،و استعمال مختلف التجهيزات الموجودة بالمرافق العامة، و كل الخدمات التي يوفرها القطاع الخاص[2].بل في الكثير من الحالات ، كانت الحكومات المركزية، تدفع جزءا من تكاليف الصفقات التي تبرمها السلطات المحلية، أو جزءا من التكاليف التي يتحملها الخواص.
1- فالحكومات كانت تنفق الكثير من الأموال، على بعض الصفقات التي يستفيد منها ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل الصفقات المتعلقة بصناعة الأعضاء و الأطراف الصناعية (كالذراع، و الساق، ..)، التي يفقدها بعض الناس لإصابة أو مرض ،أو لعجز في الخَلْقة منذ الولادة.
ثم أضيفت إليها، أنواع جديدة من الصفقات، ربما ما كانت لتخطر على بال السياسيين الليبراليين و المحافظين؛و لكنها مالبثت أن فرضت نفسها، كواقع يجب التعامل معه، و كحاجيات يجب الاستجابة لها:
1-و منها، تخصيص العديد من مواقف السيارات، و الأماكن الأخرى للاستراحة و غيرها، للزوار المعاقين (الذين صاروا مطالبين بتركيب لوحات خاصة في سياراتهم، للاستفادة من تلك الامتيازات)؛
2- و تم تزويد الكثير من الحافلات بمصاعد خاصة، لرفع الكراسي ذات العجلات، إلى الحافلات، و إنزالها إلى الشارع.و زودت محطات القطار، و المترو..و غيرها (و المتاجر الكبرى)، بمصاعد و سلالم متحركة، لنقل المعاقين، من أرصفة الشوار، و من طبقة إلى أخرى (صعودا و نزولا)؛
3- و تم إنشاء ممرات و منحدرات(= ولوجيات)، تؤدي إلى كل الأماكن في الإدارات و المؤسسات و المرافق العامة (و الخاصة).و حتى اماكن الترفيه، كأحواض السباحة، حيث يمكن للسباحين ، الذين يركبوا كراسي ذات عجلات، من الهبوط إلى الماء ببطء؛
4- و أنشأت الكثير من الإدارات العامة، معابر أزيلت منها أطراف الأرصفة، ليسهل عبورها على الأشخاص الذين يركبون كراسي ذات عجلات.كما وضعت الكثير من الإدارات مسالك على جانبي درجات السلالم، مخصصة لسير كراسي المعاقين؛
5- و زودت الكثير من المراحيض ( في المدارس و الجامعات..و المقاهي و المطاعم..و الإدارات..)، بصنابير تعمل بالضغط، لتساعد الأشخاص المعاقين (المعوقي الأيدي)، الذين يصعب عليهم استعمال الصنابير الدوارة؛
6- و زودت الكثير من الإدارات ، بالأبواب الأوتوماتيكية، التي تعمل بالأشعة ؛
7- كما زودت الكثير من إشارات المرور بمنبهات صوتية، لتنبيه المارة العميان إلى أوقات العبور؛
8- وزودت الكثير من الإدارات،و أكشاك الهاتف العمومية، بأجهزة الهاتف المنخفضة، التي وضعت عند مستويات منخفضة،حتى تتيح للأشخاص الذين يركبون كراسي ذات عجلات، أن يجروا مخابراتهم بسهولة..إلخ.



[1]  إن التنمية تعني أشياء كثيرة، من أهمها تحسين دخل الأفراد و الأسر، و تمكين هؤلاء من زيادة الاستهلاك، و تحسين نوعية الحياة، و تطوير بيئة صحية جيدة، و تحسين قدرات البشر للتعامل مع العلم و تقنيات العصر.
و يعود الفضل في صياغة مفهوم التنمية بهذا المضمون إلى عدد من العلماء، أغلبهم من العالم الثالث( الهند، و باكستان، و مصر..)، الذين عملوا في إطار أو بتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.فبفضل هؤلاء العلماء ، ظهر مفهومان جديدان للتنمية، سمي الأول بـ :" التنمية المستدامة"، و الآخربـ" التنمية البشرية":
1- فالتنمية المستدامة، عرفت في أدبيات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بأنها:" توسيع خيارات الناس".و المقصود بالخيارات هو الفرص المبتغاة في ميادين أساسية للحياة الإنسانية، و تتلخص في الأهداف التالية:
أ- تأمين حاجيات الأجيال الراهنة دون إضرار بإمكانات الأجيال القادمة على تأمين حاجياتها(مع الأخذ بعين الاعتبار الاكراهات البيئية)؛
ب- العناية بالأهداف الاجتماعية، و أهمها محاربة الفقر، و البطالة، و توفير الفرص المتكافئة للمواطنين، و تحسين توزيع الدخل، و توسيع خيارات الناس بهدف تحسين مستوى معيشتهم، و تطوير نوعية حياتهم؛
ج- تأكيد قيم الحرية و حقوق الإنسان، و توفير الوسائل و الآليات الضامنة لإرساء سلطة القانون، و إشراك الناس في صناعة القوانين و القرارات التي تهمهم.
أما المفهوم الآخر، المعروف بالتنمية البشرية، فقد تم وضعه لقياس درجات تطور المجتمعات و مستويات معيشة الناس فيها و أحوالهم العامة، من خلال تقدير مجموعة من العناصر، منها: توقعات الحياة، و الانجازات التعليمية و الثقافية، و القدرة الشرائية الحقيقية،..ضمن مؤشر واحد مترابط.
و هذا المؤشر- مثله مثل مكونات المفهوم السابق- ليس نهائيا أو ثابتا، بل هو مفتوح و قابل لاستيعاب مكونات و عناصر جديدة في ضوء ما يطرأ على مفهوم التنمية البشرية في المستقبل، و ما ينشأ من محددات جديدة لنوعية الحياة، و متطلبات تحسين مستوى المعيشة للسكان.
هذا، و الجدير بالذكر هنا، و لعلكم لاحظتم ذلك، أن مفاهيم  التنمية و الحكامة يتقاطعان، فهما في عمومياتهما و تفاصيلهما متشابكين و مترابطين، بعضهما ببعض ارتباطا عضويا، إذ لا يمكن تحقيق الواحد منهما دون تحقيق الأخرى:فتحقيق الحكامة الجيدة، يؤدي حتما إلى بلوغ التنمية الجيدة. و لكن شريطة أن يكون هناك إيمان حقيقي بالحكامة و التنمية دون تناقض بينهما، و أن تكون الإيديولوجيا (و السياسات) التي تتبناها الحكومة (و بالتالي القوانين التي تطبقها)، تكرّس المفهومين معا،و ليس استعمال أحدهما أو هما معا، لتمرير الخطابات السياسية و الممارسات، بإضفاء الطابع الديمقراطي التنموي عليهما .
  لتوضيح هذه الفكرة، نشير على المستوى المحلي، إلى العلاقة بين السلطة المحلية المنتخبة (رئيس الجهة، أو رئيس المجلس الإقليمي، أو عمدة المدينة)، و السلطة المعينة ( والي الجهة، و عامل الإقليم و العمالة، و الباشا):إن الحكامة الجيدة، تقتضي نقل أهم الاختصاصات من السلطة المعينة إلى السلطة المنتخبة.و لكن الذي يحدث، هو أن الحكومة تمنح للسلطة المعينة سلطات أقوى، لاسيما فيما يتعلق بتدبير الموارد المالية( و على رأسها الصفقات العامة).هل يتماشى ذلك مع ما جاء به الدستور؟ هل يتطابق مع مبادئ الصفقات التي في المرسوم؟ 

[2]  و احتجت بعض الشركات و المقاولات الخاصة على ذلك، بالقول بأن التكاليف تربو على المنافع، و لكن الحكومات ، لم تعر هذه الاحتجات اهتماما كبيرا.ثم مالبثت الآراء أن استقرت على الاقتناع ، بأهمية تلك النفقات العامة.


الجمعة، 22 مايو 2020


المبحث الرابع:الحكامة و ترشيد استعمال المال العام
لقد ارتفعت الأصوات منذ السنوات الأخيرة،من القرن العشرين، تطالب بمحاربة ظاهرة استفحلت و انتشرت في الكثير من المجتمعات، لاسيما مجتمعات العالم الثالث، و منها المجتمع المغربي، أكثر من أي وقت مضى،ألا و هي الظاهرة التي عرفت بـ " زواج المال و السلطة". و قد تمثلت هذه الظاهرة بالخصوص في استغلال بعض رجال السياسة و الإدارة لمناصبهم، لكسب الثروات عن طريق تسهيل عمليات إسناد الصفقات العامة، لهذه الجهة أو تلك.و قد رافق ذلك أو ساعد عليه، أن الكثير من المسؤولين الإداريين و السياسيين، يمارسون الأعمال الحرة، بشكل  مباشر و مكشوف أو مستتر،  و قد يكون لبعضهم مصالح في بعض المقاولات أو الشركات ( أو مكاتب الدراسات و المكاتب الاستشارية..) الوطنية  و  الأجنبية.
لقد ألقت هذه الظاهرة بظلال كثيفة من الشك حول مصداقية الإدارة، و حول المفهوم الذي كان سائدا عن أغلب الناس، عن حياد الإدارة و حرصها على المصلحة العامة، و كشفت بالواضح أن للإداريين أفكارهم و مصالحهم التي قد تكون متناقضة مع المصلحة العامة، و من ثم قد يتواطؤن أو يتآمرون على الصالح العام.
و لعل هذا الاهتمام من الرأي العام العالمي و المحلي،قد وفّر الإجابات على أسئلة ظلت مطروحة منذ مدة طويلة، من نوع: كيف و لماذا تبرم الكثير من الصفقات العامة، من مختلف الأنواع، و بمختلف المبالغ؛ثم تعرف طريقها إلى التنفيذ، رغم عدم توفرها على أبسط الشروط الموضوعية للنجاح؟؟؟!!، أو رغم عدم الحاجة الاجتماعية أو الاقتصادية  إليها أصلا ( إذ لم تنجز أي دراسات تمهيدية لتحديد الحاجات الحقيقية المتعلقة بها.. أو الجدوى الاقتصادية أو الاجتماعية منها)!!؟؟
بل إن هذا الاهتمام..أعاد صياغة أسئلة أخرى،بمفردات أكثر قوة، و مضامين أوضح : لماذا تسند بعض الصفقات  دائما ، لنفس لأشخاص ( الطبيعيين و المعنويين)، دون غيرهم!!؟؟  رغم عدم استيفائهم، للشروط المنصوص عليها في القانون،.. بعضها أو كلها!!!؟؟؟ و لماذا تبرم ، و تنفذ، و تسلم لمختلف الإدارات ، خدمات و أشغال و توريدات، لا تساوي ربع ما أنفق عليها، بدل من إنفاق على مرافق عامة قد تكون في أمس الحاجة إليها( كالصحة، و التعليم، و الأمن..و غيرها)؟؟؟!!!
إن الفساد في مجال الصفقات العمومية، كبير و خطير،في كل أنحاء العالم، و لقد حاول المشرعون في الكثير من البلدان الحد منه ، بعدة وسائل في السابق، لعلها انصبت أساسا حول ضبط المساطر و الإجراءات القانونية ، المتعلقة بإبرام الصفقات.و لقد فشلت هذه المحاولات، لأنها لم تهتم بالصفقات في كل أبعادها، و إنما اهتمت بقضايا مسطرية و إجرائية تتعلق بتتبع الصفقات، أثناء إبرامها و تنفيذها، و إلى حد ما بعد تنفيذها. و لم تبحث ،في تلك المرحلة،في النتائج التي قد تترتب عن إبرام الصفقات من حيث فعاليتها و نجاعتها.أي  لم تطرح الأسئلة، التي كان يجب أن تطرح، لمعرفة الجدوى(الاجتماعية، و الاقتصادية..) منها.و هذا الوضع ( المليء بالثغرات ..)، كان من الأسباب التي شجعت على ظهور الفساد، و شجعت على انتشاره، في ميدان الصفقات العمومية؛ إذ نجح المفسدون و الفاسدون، في التقيد بالقواعد القانونية( الشكلية) و المسطرية( في الظاهر)، فتمكنوا،في الحقيقة و الواقع، من تمرير صفقات "خاوية"(صحيحة شكلا أي مسطريا، ولكن فارغة مضمونا): فسرقوا بذلك الأموال المخصصة للإنفاق العام، إذ لم يجدوا من يحاسبهم على النتائج، و لا من يسأل، أو حتى يتساءل" و لكن..لماذا أبرمت تلك الصفقات أصلا؟ هل كانت ضرورية (في الزمان..و المكان؟)؟ هل كان هناك تناسب بين الأموال المنفقة و المشتريات المحصل عليها؟..و هل استفاد الناس(عموم الناس) من هذه الصفقة أو تلك؟ و كم هو عدد الذين استفادوا..قياسا إلى الذين حرموا من النفقات الأخرى التي كان يمكن أن تنفق فيها تلك الأموال؟..؟
أسئلة..عكست وجود مشاكل بل إشكاليات في الكثير من الدول.إلا أن الحكومات في الغرب، و بعض الهيئات الحكومية و غير الحكومية كانت سباقة لإيجاد حلول لها ؛ من خلال إبداعها لمفاهيم جديدة في الحكم و التدبير العمومي، كمفهوم الحكامة(La gouvernance)، أو الحكامة الجيدة(La bonne gouvernance)[1].
ثم جاء دستور 2011 المغربي، فأولى اهتماما كبيرا بالحكامة الجيدة- و أفرد لها بابا خاصا، هو الباب الثاني عشر-،كما اهتم ايضا بالقضايا المرتبطة بها ، مثل الحق في المعلومات، و الشفافية،و النزاهة، و محاربة الفساد و استغلال النفوذ، و ربط المسؤولية بالمحاسبة،و تخليق العمل في المرافق العامة، و حق السكان في تقديم العرائض..و غيره[2].
و من هنا،و بوحي من هذا الدستور، جاء القانون الجديد للصفقات العمومية،لا سيما في القواعد المتعلقة بالحكامة،ليولي قضية تدبير الصفقات العمومية ،و النتائج التي تترتب عنها ، أهمية كبرى، أو على الأقل أكبر مما كان يحصل في الماضي.و يتجلى ذلك مثلا، و بشكل قوي،في حرص مشرع الصفقات،في مرسوم 2013، على تطويق ظاهرة الفساد من ثلاث جهات أو جوانب أساسية: فمن جانب نراه، حاول سد أهم الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها المال العام بحسن أو بسوء نية. و من جانب ثان، نراه يحمّل جزءا من المسؤولية للمتعاقدين مع الإدارة أيضا. و من جانب ثالث، نراه يلقي الجزء الأكبر من مسؤولية على كاهل الإدارة نفسها.
أي أنه حاول التصدي لمشكلة سوء التدبير، من خلال تحميل المسؤولية القانونية لأغلب المعنيين بالصفقات العمومية.أقول " أغلب المشاركين"، و ليس جميعهم؛لأن مشرع الصفقات- و باختلاف مع المشرع الدستوري-  لم يشرك في عملية محاربة الفساد الذي يطال الصفقات، إلا المعنيين  بها بشكل مباشر فقط ؛ و تجاهل غيرهم.و هذه رؤية قاصرة،في وجهة نظري- وقد أكون مخطئا-؛ إذ كان الأولى إشراك كل المعنيين، أو أكثرية المعنيين بهذه الصفقات، و على رأسهم ابناء المجتمع، الذين باسمهم و لأجلهم، و لتلبية حاجياتهم، تبرم الصفقات، لا سيما أبناء المجتمع المدني[3]، و هم من أكثر فئات المجتمع نشاطا، و أقدرهم على تتبع مسارات الصفقات، و الكشف عن ما يشوبها من اختلالات و انحرافات.لا سيما أن الدستور ينص على حق المواطنين في تقديم العرائض، و هو حق، لا شك، أن المشرع الدستوري أراده أن يكون وسيلة أيضا،للتأثير على تدبير الصفقات، و مراقبة فعالية تنفيذها[4].
و لو  أن مشرع الصفقات، في المرسوم الجديد، أخذ بعين الاعتبار هذه المقتضيات الدستورية و فعّلها، في  مواده التي خصصها للحكامة، لكان بذلك قد سلك طريقا قصيرا وسالكا و فعالا ؛ لمحاربة فساد الصفقات، من ناحية. و لكان، من ناحية أخرى، قد ساهم (بذلك) في إعطاء مفهوم الحكامة في مرسوم 2013، بعدا شاملا و أقرب إلى مفهوم دستور 2011؛ الذي شمل أيضا الحكامة باعتبارها صورة من صور الديمقراطية التشاركية، و هو بعد أساسي في الحكامة الجيدة، إن لم يكن هو البعد الأهم.
و لكن، للأسف، أخذ مشرع الصفقات العمومية المغربي، بمفهوم ضيق للحكامة،استبعد منه البعد الخاص بالديمقراطية التشاركية، فجعله بذلك أقرب إلى مفهوم " الترشيد في الإنفاق العمومي" بحصر المعنى، و ربما فعل ذلك، تحت ضغط خبراء البنك الدولي، الذين فرضوا فهمهم الخاص للحكامة،أو الحكامة الجيدة كما ينبغي لها أن تطبق في بلدان العالم الثالث؛ و التي جعلوها تدور حول محور" ترشيد النفقات العامة"[5].
و لا عجب في ذلك،ففي دولة كالمغرب، تعتبر فيه مصادر الأموال العامة، محدودة و قليلة، كان من الطبيعي أن يحظى ترشيد الإنفاق العام- باعتباره السبيل الأهم لمواجهة كل الحاجات العامة -؛ باهتمام أكبر من البعد الديمقراطي، ليصبح مرادفا للحكامة الجيدة .و تصبح الحكامة الجيدة، بالتالي، إحدى أهم الحلول لحل المشاكل الناجمة عن تدبير النفقات العمومية " الكثيرة"، للدولة و المؤسسات العامة و الجماعات الترابية، التي لا تتوافر إلا على إيرادات جبائية و غيرها، قليلة.
و من هنا، صار الترشيد و الحكامة ، في القانون المغربي للصفقات العامة، وجهان لعملة واحدة، يعنيان  من ناحية التوجيه السديد و الملائم للأموال العامة، عن طريق اختيار أفضل العروض الاقتصادية الممكنة. و من ناحية أخرى يعنيان كذلك؛ ضمان الاستعمال الفعال لهذه الأموال العامة،من خلالإنشاء نظام للتقارير يبين تكلفة التقديرية للصفقات  و تكلفتها الفعلية أو الحقيقية ، و الفروق بينهما و أسبابها.
 ليس هذا فقط، بل يعنيان أيضا- لا بل ربما أولا - تضييق الخناق على الآمرين بالصرف و الإداريين و الموظفين ( الذين يدورون في فلكهم، و يأتمرون بأوامرهم، في الغالب، أو ضدا على أوامرهم أحيانا..)، بالحد من سلطاتهم التقديرية، في تحديد(المواصفات) و تقدير الحاجيات العامة، و من ثم إسناد و إرساء الصفقات، على مقاولات " بعينها، مختارة مسبقا"[6].
و هكذا جعل المشرع قواعد الحكامة/أو ترشيد الصفقات العامة، تبدأ منذ مرحلة الإعداد لها، و تمتد إلى ما بعد تنفيذها:
أ-  فلقد ألزم المشرع، أصحاب المشاريع بتحديد الحاجات التي تلبي مطالب المرافق العامة( التي يتولون إدارتها و تسييرها)، و كيفية الاستجابة لها، قبل الشروع في أي صفقة:فالإدارة الرشيدة التي تدبر أمورها بحكامة جيدة، هي الإدارة المسؤولة؛ التي تخطط لعملية شراء حاجياتها، لضمان توفير الاحتياجات و المستلزمات الضرورية لتسيير المرافق العامة  ( من الأشغال و/ أو التوريدات و/ أو الخدمات)، بالكميات المناسبة، و الجودة المناسبة، و في التوقيت المناسب، و الأثمان المناسبة، و من المصدر ( المقاول/ المورد/ الممول) المناسب[7].
 و كما اهتم المشرع، بترشيد الانفاق على الصفقات، حتى قبل ميلادها ، فلقد حرص على توافر الحكامة الجيدة في إبرامها أيضا..فأوجد أساليب لترشيد الإنفاق العام ، من خلال، تأكيده على قاعدة " اختيار العرض الأفضل اقتصاديا"، أي "العرض الأجود بالثمن الأقل"؛ حيث كان يتم ، في مراحل سابقة،كما مرّ معنا في المبحث الأول من هذا الفصل،إسناد الصفقة لمن يطلب أقل ثمن لإنجازها.غير أنه لما تبين له، أن هذا الاختيار ينطوي على عيب كبير، يكمن في أن " العرض الأقل ثمنيا"، لا يكون دائما هو الأفضل من وجهة نظر المصلحة العامة ؛ تم استبداله بمعيار آخر، حاول من خلاله المشرع أن يراعي الجودة ، و لكن دون أن يتخلى عن الثمن الأقل؛ و ذلك باعتماد مفهوم " العرض الأفضل اقتصاديا"، و هو العرض الذي تتحقق فيه الحكامة الجيدة، متمثلة في أفضل علاقة بين الثمن و الجودة ( الفعالية و المردودية).
ب- و يمتد اهتمام المشرع، بمسألة ترشيد الانفاق على الصفقات، إلى مرحلة ما بعد التنفيذ، حيث نجده  قد أنشأ نظاما للرقابة على نفقات الصفقات،كما سبق القول أعلاه، بوساطة التقارير التي يعدها أصحاب المشاريع، و التي  يمكن من خلالها تتبع عمليات الإنفاق العمومي، و معرفة الفروق التي قد توجد بين النفقات الفعلية و النفقات المقدرة و المخططة للصفقات؛ و من ثم إمكانية البحث عن أساب هذه الفروق ، و كيفية تفاديها أو تصحيحها في المستقبل.
و هكذا،فظام التقارير " البعدية" عن الصفقات، من شأنه أن يحد من الانحرافات التي قد تحصل أثناء التنفيذ، أو التي قد تنجم عن "أخطاء في التقديرات الأولية و المخططات". و في جميع الحالات، فهو نظام  قد يقلص ، إذا طبق بصرامة و موضوعية، إلى حد كبير من التلاعبات و الأخطاء، التي قد تحصل  من طرف الإدارة صاحبة المشروع (أو بعض الموظفين فيها) بحسن نية، أو نتيجة تواطؤ بينها و بين المتعاقدين معها[8].
و من هنا، ندرك، كيف و لماذا جاءت القواعد المتعلقة بالحكامة في هذا القانون، كأنها وسائل إضافية، لضمان حماية المال العام و فعالية الصفقات، بواسطة الإدارة صاحبة المشروع أولا، و ثانيا ، بطريقة غير مباشرة، بواسطة المتعاقدين معها، كما يتجلى فيما يلي:
1- ففيما يتعلق بالمترشحين، نراه يلزمهم بتقديم شهادات ، و التعهد بتطهير الصفقات التي يبرمونها :
أ- أن يشهدوا على أنفسهم بأنهم لا يوجدون في حالات تضارب مصالح(أي تناقض المصالح الخاصة مع المصلحة العامة) ( المادة 26/ الفقرة "و")، كما هي مبينة في المادة (168):يجب على أعضاء لجان إبرام الصفقات، عدم التدخل في مساطر إبرامها، عندما تكون لهم مصلحة فيها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، و لو من بعيد[9]؛
ب- أن يلتزموا بعدم اللجوء- بشكل مباشر (بأنفسهم) أو غير مباشر ( بواسطة غيرهم)-، إلى أفعال الغش، أو الرشوة أو تقديم وعود، أو هبات أو هدايا..إلخ، بقصد التأثير على مختلف مساطر إبرام الصفقات و تدبيرها و تنفيذها( المادة 26/الفقرتان " د و هـ ")[10]؛
2- أما فيما يتعلق بالإدارة،فقد جاء المشرع ، بسلسة من الإجراءات ، التي تهدف إلى دفع الإدارة إلى تحمل مسؤوليتها، في مراقبة الصفقات في كل مراحلها:
أ- فالمادة (161)، تنص على أن الإدارة يمكنها أن تعهد بالإشراف على صفقاتها (الأشغال العمومية)، إلى جهة عمومية ( إدارة، أو مؤسسة، أو مقاولة) لتتبع عمليات الإشراف ، في مختلف مراحل دورة حياة الصفقة ( من مرحلة الدراسات التمهيدية..)، إلى مرحلة استلام المنشأة النهائي، و بالتالي مراقبة مدى احترام القوانين، في هذه المراحل، و إعداد تقارير عن عمليات التنفيذ، و وتيرتها، و جودتها..إلخ.
و مهمة الإشراف هذه، في الواقع، خطيرة جدا، بالنظر إلى النتائج التي قد تترتب عنها ؛إذ أن مسؤوليتها تمتد إلى تتبع عمليات إنجاز الصفقة، لضمان تنفيذها وفقا للعقد المبرم بين صاحب المشروع و المتعاقد معه، و بالتالي عدم تعريض المصلحة العامة، ممثلة في مصلحة الإدارة، للمخاطر التي قد تنجم عن سوء التنفيذ، أو التأخر فيه، أو الزيادة في تكاليفه. و تتم عملية الإشراف و التتبع هاته، من خلال الاتصال المنتظم بنائل الصفقة، و تذكيره بمواعيد التسليم ( الابتدائي و النهائي..)، و حثه على الالتزام بما تعهد به في العقد، ثم التأكد من سلامة التنفيذ، و مطابقته للمواصفات..إلخ.
ب- إلزام كل صاحب صفقة بأن يُعد عنها تقريريا تقديميا، يتضمن بالخصوص: طبيعة و مدى الحاجات المراد تلبيتها، و تكلفتها التقديرية، و الأسباب التي أدت إلى اختيار طريقة أو مسطرة إبرامها، و تبرير اختيار مقاييس انتقاء الترشيحات ، و تقييم العروض(المادة 163):و هذه مراقبة تبدأ من المنبع، و تساعد على مقارنة النتائج التي يتم التوصل إليها عند المصب ( عند انتهاء الصفقة)، كما سنرى في المادة التالية..؛
ج- و بالفعل، فالمادة (164)، ألزمت الإدارات بإعداد تقارير عند الانتهاء من تنفيذ كل صفقة يتجاوز مبلغها مليون درهم[11]، يرسل إلى رئيس الإدارة صاحبة المشروع، تسجل فيه كل الاختلالات و الفوارق التي قد تحصل بين التوقعات الأولية و النتائج النهائية،و أسبابها.فهي وسيلة رقابة على المتعاقدين مع الإدارة، و لكنها وسيلة رقابة على الأداء التدبيري لصاحب المشروع أيضا.و من هنا، حددت مهلة إعداد هذا النوع من التقارير في ثلاثة أشهر ( بعد التسليم النهائي للأعمال)، حتى يمكن لصاحب المشروع أن يستخلص الدروس، و يتدارك ما يمكن تداركه.
د- بالإضافة إلى ذلك، فرضت المادة (165) على الإدارة، واجب القيام بمراقبات و تدقيقات حول طرق إبرام و تنفيذ الصفقات، التي يتجاوز ثمنها خمسة (5) ملايين درهم ( مع احتساب الرسوم)،  و بالنسبة للصفقات التفاوضية التي يتجاوز مبلغها مليون (1.000.000) درهم (مع احتساب الرسوم)، و إعداد تقارير عنها، يوجه إلى رئيس الإدارة المعني ( و ينشر ملخص لها في البوابة  الإلكترونية).
كما عمل المرسوم من خلال هذه المادة على تحديد محتوى تقرير افتحاص الصفقات خصوصا على مستوى:
* قانونية مساطر إعداد الصفقة و إبرامها و تنفيذها؛
*تقييم حقيقية أو مادية الأشغال المنفذة أو التوريدات المسلمة أو الخدمات المنجزة؛
* احترام إجبارية إعداد الوثائق المختلفة المتعلقة بالصفقة و المقررة في هذا المرسوم؛
* تحقيق الأهداف المتوخاة من العمل؛
* تقييم النتائج المحصل عليها بالنظر إلى الوسائل المسخرة؛
* شروط استعمال الوسائل المسخرة؛
* تقييم ثمن الصفقة بالنظر إلى الأثمان المطبقة و تقييم كلفات  الأعمال موضوع هذه الصفقة؛
* ملائمة و فائدة المشاريع و الأعمال المنجزة في إطار الصفقة.
3- كما يلاحظ أن المشرع، قد سمح بالتعاقد من الباطن، لكنه أخضعه لشروط صارمة، من أهمها ألا يتجاوز التعاقد من الباطن خمسين بالمائة (50 %)، من مبلغ الصفقة، أو يشمل الحصة أو الجزء الرئيسي منها ( المادة 158): و الهدف من هذا الشرط، هو الحد من إمكانيات التواطؤ بين المتنافسين[12]،كما قد يفسر بأنه محاولة من المشرع ، في إبقاء العلاقة منحصرة في صاحب المشروع و نائل الصفقة، قدر المستطاع، لأن " شخص المتعاقد، هي محل اعتبار في الصفقات"(هناك تشابه بين وضعية المتعاقد مع الإدارة، و وضعية الأجير إزاء المشغل في قانون الشغل؛ فشخصية كل واحد منهما تكون محل اعتبار في العقد: فالإدارة، عندما تسند الصفقة لهذا المترشح أو ذاك،فإنها تقوم بذلك بعدما درست ملفه الإداري، و عرفت مؤهلاته، و أخلاقه المهنية أيضا..و على ضوء ذلك قبلت التعاقد معه.و من ثم فهي تفضل أن لا تتعامل مع طرف ثالث( المتعاقد من الباطن) الذي لا تعرف عنه شيئا)[13].
4- و من الوسائل الجيدة، التي جاء بها مرسوم 2013، و يحاول من خلالها الترشيد في الانفاق، كذلك، التوصية باعتماد أسلوب " مركزية الشراء"، أو ما سماه المشرع " بمسطرة تكتل المشتريات"؛ أي إسناد مهمة الشراء إلى وحدة إدارية واحدة أو " منسق"، يتم تكليفه ، بناء على اتفاق بين عدد من المشترين، الذي قد يجمع بينهم قاسم مشترك، هو إبرام صفقات متشابهة. تنص المادة (162) على أنه:"
" 1- يمكن لأصحاب المشاريع، تنسيق اقتناء التوريدات من نفس النوع في إطار " تكتل مشتريات"؛
" 2- يتكون تكتل المشتريات من صاحبي مشاريع أو أكثر يتجمعون من أجل طرح دعوة للمنافسة واحدة تؤدي إلى إبرام عدد من الصفقات يساوي عدد أصحاب المشاريع أعضاء التكتل؛
" يخضع إبرام الصفقات من طرف تكتلات المشتريات للقواعد المقررة في هذا المرسوم.
" 3- تحدد اتفاقية تأسيسية لـ " تكتل المشتريات" كيفيات عمل التكتل و توقع من طرف أعضاء هذا التكتل..".
هاته الآلية من شأنها أن تسمح لعدد من أصحاب المشاريع بالتجمع من أجل طرح دعوى لمنافسة واحدة، تؤدي إلى إبرام عدد من الصفقات، يساوي عدد أصحاب المشاريع أعضاء التكتل.و يجب أن يخضع إبرام الصفقات من طرف تكتل المشتريات لنفس القواعد المقررة في المرسوم. و ألزم المرسوم كذلك، أعضاء التكتل أن يبرموا  اتفاقية بينهم ، توضح كيفيات عمل التكتل ، و تعين الاتفاقية منسقا من بين أعضاء  التكتل يمثلهم في الصفقات، على أن تضمن في كل ملف صفقة يبرمها هذا التكتلن نسخة من الاتفاقية التأسيسة لتكتل المشتريات.
و في الواقع، يستطيع المشترون العموميون المنضوون في مثل هذه التكتلات، أن يحققوا مزايا و فوائد كثيرة، جراء توحيد  عمليات الشراء؛ إذ يستطيعون  الحصول على كميات كبيرة من التوريدات، بأثمان جيدة، و بشروط أخرى إضافية، تفضيلية ، تتعلق بالتسليم، و النقل، و الحراسة، و التخزين..إلخ.زيادة على أنها، تحقق مزايا أخرى للدولة ككل ، منها أنها: تمنع الازدواجية في الإجراءات،و بالتالي توفير النفقات، المتعلقة بعمليات و إجراءات الشراء،و التفتيش عند الاستلام، ..إلخ.
و في الحقيقة، لقد سبق للمغرب أن مرّ بتجربة فاشلة- أو أُفشلت-، فيما يتعلق بتنسيق المشتريات العامة،طبقها في الستينات من القرن الماضي.فلقد كان  المرسوم الملكي  المؤرخ في 17/7/1965 ، قد  أحدث إدارة مركزية لتموين الإدارات العمومية، في وزارة المالية.إلا أن هذه التجربة أقبرت في مهدها، و لم يكتب لها النجاح:فالتوريدات لم تكن دائما جيدة، أو لم تكن ترضي، في الغالب، أصحاب الطلبيات. كما أن الموردين لم يحترموا الآجال التي تشترطها الإدارات. بالإضافة إلى أن الظروف الإدارية، التي كانت تعمل فيها هذه المديرية، لم تساعدها على القيام بالمهام المنوطة بها، فتم إلغاؤها، بظهير بمثابة قانون  بتاريخ 11 ماي 1974( دون حل المشكل الذي ظل مطروحا).
و يبدو أن مشرع 2013، أراد تخطي هذه التجربة المريرة؛ محاولا تصحيح العيب الأساسي في النظام السابق، و الذي تسبب في فشلها، و المتمثل في أن الكثير من الوزارات لم ترى بعين الرضا وصاية وزارة المالية عليها، بل اعتبرت ذلك مبعثا للحد من استقلالها المالي.لهذا أوصى مرسوم 2013، أصحاب المشاريع بنهج مسطرة " تكتيل المشتريات"، كلما كان ذلك ممكنا، عندما يكون هناك تشابه أو انسجام أو تقارب بين مواصفات هذه المشتريات، و لاسيما عندما تكون الإدارات التي تطلبها منتمية إلى وزارة (وصية) واحدة،أو مجموعة من الإدارات تؤدي وظائف متشابهة، مثل الجماعات الترابية ( الجهات، و العمالات، و الأقاليم، و الجماعات )،فالقانون المغربي، يسمح لها، بتأسيس تكتلات للقيام بعمليات الشراء ( المادة146 )[14].



[1]  الحكامة، و الحكامة الجيدة، و الحكامة الرشيدة، و و الحكم الرشيد، و الحكمانية، و الغدارة الرشيدة، و الحكم الصالح، و الإدارة المجتمعية، و الحوكمة..و غيرها، كلها مصطلحات صيغت للدلالة على مفهوم المصطلح (La Gouvernance).
يذهب بعض الباحثين إلى أن هذا المصطلح، نشأ في فرنسا في القرن الثاني عشر، بالمعنى التقني الذي يدل على قيادة أو إدارة المحاكم الإقطاعية(la direction des bailliages).ثم استعمل المطلح الإنجليزي (governance)، في العصور الوسطى، للدلالة على طريقة تنظيم السلطة الفيودالية ( التعاون بين مختلف القوى في عصر الإقطاع: النبلاء الإقطاعيون، و رجال الكنيسة، و التجار). و في الثلاثينات من القرن العشرين، سينتشر استعمال المصطلح الإنجليزي، في القطاع الخاص (حكامة المقاولة=corporate governance ، إشراك الجميع من حملة الأسهم و العمال، في ااتخاذ القرارات، لاسيما عندما تكون لها آثار عليهم) .ثم استعمل بعد ذلك، ابتداء من النصف الثاني من الثمانينات، في القطاع العام، من طرف دعاة تطوير التسيير العمومي، ليشمل عدة مفاهيم جديدة أخرى، كمفهوم الديمقراطية التشاركية، الذي كان قد استعمل منذ الستينات و السبعينات، من طرف أنصار الديمقراطية التشاركية، و دعاة سياسة القرب (proximité)، فاستعمله، في هذا السياق، بعض عمداء المدن في بريطانيا(urban governance)،في عهد "مارغريت تاتشر"، في محاولة للاستجابة لمطالب السكان الكثيرة، و إقناعهم بضرورة تقليص الإنفاق العمومي (فالبلدية أو المدينة، يجب أن تحكم كالمقاولة.. ). و ابتداء من سنة 1989، سيشرع خبراء المنظمات الدولية في استعمال المصطلح الإنجليزي (و مرادفه الفرنسي..)،مثل خبراء صندوق النقد الدولي، و لاسيما خبراء البنك الدولي.و بفضل هاتين المنظمتين ، حقق المصطلح و المفهوم معا، انتشارا واسعا بعد ذلك، خصوصا في الأوساط الأكاديمية في العالم الثالث.لمادا العالم الثالث أو النامي بالخصوص؟ ذلك راجع إلى أن بلدان هذا العالم عانت كثيرا، في النصف الثاني من مشاكل الديون، و لاسيما في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين ، نتيجة انخفاض أسعار المواد الأولية (و هي مصدرها الأساسي للإيرادات)، فعجزت عن تسديد ديونها،و من ثم صارت مضطرة ، في نظر خبراء صندوق النقد و البنك الدولي؛ إلى إعادة "جدولة ديونها"، بل إعادة إصلاح هياكل اقتصادها،فاقترح عليها هؤلاء ، الأخد بمفهوم " الحكامة الجيدة"، للخروج من أزمتها، و أداء ديونها، بل و تحقيق تنمية أيضا.و قد رحبت الكثير من دول العالم الثالث بهذا البرنامج الإصلاحي، المضمن في الحكامة الجيدة ؛لأنه لا يشترط تحقق الديمقراطية الحقيقية لبلوغ مستويات معينة من التنمية، بل يمكنه أن يتعايش حتى مع الأنظمة غير الديمقراطية، و يبلغ مراده بواسطة " الحكامة الجيدة" التي ستقضي على "سرطان الفساد" و تنعش الاقتصاد، دون أن تضطر إلى تغيير أنظمة الحكم؛كل ما في الأمر أنها ستدفع الحكومات إلى أن تصبح أكثر رشدا، و أقل فسادا، من خلال تبني سلسلة من الإجراءات، أو توافر أربعة شروط أساسية:
1- مشروعية و شرعية الحكم: أي بناء دولة الحق و القانون، التي تضمن أمن المواطنين و استقلال القضاء؛
2- إدارة رشيدة: تلتزم تدبيرا حقيقيا و عقلانيا للنفقات العامة؛
3- ربط المسؤولية بالمحاسبة: إن الحكامة الجيدة، تقتضي المساءلة و المحاسبة،بمعنى أن كل من يسير الشأن العام، يجب أن يقدم الحساب؛
4- المشاركة بشفافية: التي تسمح للمواطنين بدعم حقوقهم، و إسماع صوتهم، اتجاه متهخذي القرار.
 و لكن، من الناحية العملية، ترجم خبراء البنك الدولي، الشرط الثاني (المتعلق بترشيد إدارة المالية العامة)، إلى سياسة تهدف إلى الخوصصة (بيع القطاع العام إلى القطاع الخاص)، و تشجيع القطاع الخاص، و تحرير التجارة،و تقليص الإنفاق العام،..إلخ.بتعبير آخر،لقد كان هدفهم من إدخال مفهوم الحكامة إلى بلدان العالم الثالث،،هو القضاء على مفهوم دولة الرفاه( التي جاءت من كينز)، و تشجيع القطاع الخاص ( التي ناصرها أتباع فريدمان و هايك= الليبرالية المتطرفة) بالدرجة الأولى، و إلى حد ما العمل على  التقليل من نفوذ السياسيين و الإداريين (محاربة الفساد).
و منذ هذا التاريخ- أي العشرية الأخيرة من القرن العشرين- و إلى اليوم، مازال مصطلح الحكامة، يعبر بطريقة أو أخرى، عن طريقة في الحكم، و لكن بعيدا عن الحكومة بمعناها المؤسسي، ليدل على أسلوب في اإدارة الشؤون العامة، لا تنفرد فيه الحكومة باتخاذ القرارات، بل تشرك معها القطاع الخاص، و المجتمع المدني، و عموم المواطنين، بهدف إدارة الموارد الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمع و الدولة، بهدف تحقيق التنمية..و لكن هناك، من يريد اختزاله،في مفهوم محاربة الفساد، بطريقة  تنفرد الحكومة وحدها بقيادتها، و في أحسن الأحوال، بإشراك عدد قليل من الشركاء الاجتماعيين و السياسيين و الاقتصاديين. 
2015 voir:Philippe Moreau Defarges-La Gouvernance-5éme éd - coll Quesais-je?-PUF-Paris
[2]   * الفصل (154):" [...] تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة و الشفافية و المحاسبة و المسؤولية، و تخضع في تسييرها للمبادئ و القيم الديمقراطية التي أقرها الدستور".
* و الفصل (155):" يمارس أعوان المرافق العمومية وظائفهم وفق مبادئ احترام القانون و الحياد و الشفافية و النزاهة و المصلحة العامة".
* و الفصل (156):" تتلقى المرافق العمومية ملاحظات مرتفقيها و اقتراحاتهم و تظلماتهم، و تؤمن تتبعها.
" تقدم المرافق العمومية ، الحساب عن تدبيرها للأموال العمومية، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، و تخضع في هذا الشأن للمراقبة و التقييم".
* و الفصل (158):" يجب على كل شخص، منتخبا كان أو معينا، يمارس مسؤولية عمومية، أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة في القانون، تصريحا كتابيا بالممتلكات و الأصول التي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بمجرد تسلمه لمهامه ، و خلال ممارستها، و عن انتهائها".
* و الفصل (159):" تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة، و تستفيد من دعم أجهزة الدولةن و يمكن للقانون أن يحدث عند الضرورة ، علاوة على المؤسسات و الهيئات المذكورة بعده، هيئات أخرى للضبط و الحكامة الجيدة".
* و الفصل (160):" على المؤسسات و الهيئات المشار إليها في الفصول 161 إلى 170 من هذا الدستور، تقديم تقرير عن أعمالها، مرة واحدة في السنة،على الأقل، الذي يكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان".
و من هيئات الحكامة، التي أفرد لها الدستور فصولا خاصة:
* الفصل( 165): عن الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري؛
* الفصل (166): عن مجلس المنافسة؛
* الفصل (167): عن الهيأة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة و محاربتها.
[3]  لا يمكن الحديث عن حكامة جيدة، مع إهمال الدور الذي يمكن أن تقوم به  الجمعيات و الهيئات و المنظمات غير الحكومية، و غيرها من مكونات المجتمع المدني، التي تعتبر شريكا و وسيطا غير رسمي بين الدولة و المجتمع، لكون هذه المنظمات هي أقرب لهموم و مطالب المواطنين، و بالتالي فهي أقدر على اقتراح الحلول الواقعية ، للمشاكل التي يتخبط فيها أفراد و جماعات المجتمع، كالصحة، و التعليم، و السكن، و الأمن ، و غيرها.
[4]  إن إشراك المواطنين في تدبير القضايا المتعلقة بالصفقات العمومية، عن طريق إشراكهم في بعض المجالس أو السماح لهم بتقديم العرائض أو أي وسيلة أخرى، من شأنه أن يساهم في ممارسة رقابة صارمة على الصفقات، و بالتالي ترشيد النفقات العمومية، باعتماد تقييم الإنفاق العمومي، على أساس النتائج و الفعالية و النجاعة، و لا شك أن ذلك سيرفع من جودة الخدمات التي تقدمها المرافق العامة.
[5]  " الحكامة الجيدة"، في مفهوم البنك الدولي، هي طريقة ممارسة السلطة الاقتصادية، و السياسية، و الإدارية، من طرف الحكومة و تسيير موارد البلاد، من أجل التطور ( التنمية).و من ثم اعتبرت،من لدن خبراء هذا البنك، شرط أساسي و معياري لتقييم السياسات العامة، لاسيما سياسات التنمية.و هي تعتمد في نظرهم على المبادئ الأربعة التالية: المسؤولية، و الشفافية، و دولة الحق و القانون، و المشاركة ( و لكن المشاركة، بمعنى إشراك المواطنين في تدبير الشؤون العامة، تأتي في آخر الترتيب كما رأينا، أي ليست على رأس المبادئ).
أو بتعبير آخر، فـلقد ارتبط مفهوم الحكامة، في أدبيات " البنك الدولي"، بالتدبير الجيد للموارد المالية: فالحكامة الجيدة، في مفهوم خبراء هذا البنك، هي الطريقة الأفضل لتدبير إيرادات الميزانية العامة للدولة( و الميزانيات المحلية..)، بهدف الإنفاق ( دون تبدير) على المرافق العامة (أو بعض المرافق العامة)، و أجهزة الدولة.
و هذا هو مفهوم الحكامة الجيدة،في ميدان الصفقات العامة، الذي انتشر عند الكثير من المؤلفين، منذ نهاية القرن الماضي، و مازال ينتشر إلى الآن:"En effet ,la bonne gouvernance des marchés publics ,consiste à une gestion de l'achat public exempte de pratiques abusives et de corruption et qui respecte la primauté du droit":Zoubaa-Le systeme de gestion des marchés publics-op.cit-p 21.
[6]  إن الحكامة تستوجب وجود نظام متكامل من المحاسبة و المساءلة(السياسية و الإدارية)، للمسؤولين في الإدارات العامة، و في منظمات المجتمع المدني، و في القطاع الخاص.ليس هذا فقط، بل إن الحكامة تقتضي أيضا القدرة على الحد من استغلال النفزذ السياسي أو الإداري ، في مجال الصفقات، بل و معاقبة المسؤولين المتورطين في الصفقات المشبوهة ، و أيضا الحد من تواطئهم مع رجال الأعمال في القطاع الخاص.
[7]  و من هنا،يختصر بعض المؤلفين،عملية الشراء، فيما يسمى بـ " الفايف آرس"(five Rs):
1- الكمية المناسبة (Right Quantity
2- الجودة المناسبة (Right Quality
3- الثمن المناسب (Right Price
4- الوقت المناسب (Right Time
5- المصدر المناسب (Right Source).
و هناك ، من يشترط في الإنفاق العمومي، شرطين، هما الكفاءة و الفعالية:
الكفاءة: إخراج المخرجات( تلبية الحاجيات) بأقل كلفة؛
الفعالية: هي تلبية الحاجيات الحقيقية للجمهور الذي يتلقى هذه الخدمات فعلا.
و هناك،من يذهب إلى أن الإدارة الرشيدة ،لا تلجأ إلى إبرام صفقات لشراء السلع و المعدات و الخدمات و الأشغال، إلا في أضيق نطاق..و على قدر الحاجة فقط.لأنها، تعلم أن تلبية الحاجيات العامة، يعتمد على مقدم الخدمة، أكثر مما يعتمد على كميات التوريدات و الخدمات و الأشغال.فالأستاذ مثلا، يستطيع أن يؤدي أداء جيدا، حتى بأقل الإمكانيات و الوسائل، إذا كان دخله جيدا، و يحس بالطمأنينة في عمله، و يتحمل برضا و إخلاص المسؤولية  الملقاة على كاهله.و كذلك الطبيب، و الممرض، و حتى الجندي، و رجل الأمن..و قس على ذلك:كل هؤلاء قد يؤدون الخدمات المطلوبة منهم، بأقل الوسائل، أو في إطار من التجهيزات و المعدات الهزيلة و الضعيفة، و قد يتحملون الظروف الصعبة..إذا شعروا بالرضا و الاطمئنان.أما إذا شعروا أن الحكومة تنفق أموالها في شراء مشتريات لا طائل منها- و مع ذلك تتجاهل حقوقهم- فلن يؤدوا الواجب الملقى على كواهلهم:و تصبح كل تلك المشتريات و السلع و الأشغال؛مجرد "خردة" و " مباني للاشباح".
[8]  مما يؤسف له، أن المشرع قصر هذا النوع من الرقابة، على الصفقات الكبيرة، التي يتجاوز ثمنها (خمسة ملايين)، بالنسبة للصفقات التي تبرم وفق طريقة "طلبات العروض"، و ثمن "مليونّدرهم للصفقات التفاوضية.
[9]   كان الأولى بالمشرع أن يأخذ بتوصية المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، الواردة في تقريره الذذي أشرناا إليه أعلاه، و ألا يكتفي بمنع تنازع المصالح، بل أن يلزم المعنيين بالصفقة، بالإبلاغ عن كل احتمال لوقوع تنازع للمصالح من شأنه إعطاء الامتياز لمترشح معين.كما كان من الأفضل كذلك إلزام صاحب المشروع، و/أو كل شخص معني، أن يتخذ في حال وجود احتمال لتنازع المصالح، الإجراءات الوقائية التي يراها ضرورية و كافية، و يخبر بها العموم ( عبر البوابة  على الخصوص)، و تحديد المشترين.
[10]  و في الواقع، إن محاولات كهذه يعاقب عليها القانون الجنائي، كما رأينا، عند حديثنا عن مصادر النظام القانوني للصفقات العمومية.و بالمناسبة، و الشيء بالشيء يذكر، لقد  حان الوقت لتحيين القانون الجنائي، حتى يتلاءم مع قانون الصفقات.
[11]  كان الأولى أن يعمم المشرع هذا الإجراء، على جميع الصفقات مهما كان حجمها، فكل درهم ينفق هو مال عام، و هو جدير بالحماية..ثم ما هو المليون درهم..إنه درهم زائد درهم زائد درهم..قطرة و قطرة..و يصبح عندنا نهر من الأموال.
[12]  الذين قد يتفقوا مع واحد منهم، على تقديم عروض غير ملائمة،أو ينسحبوا من التنافس، مقابل أن يمنحهم، عندما ينال الصفقة، جزءا من " الكعكة" التي فاز بها.
[13]  "[...] لا يعترف صاحب المشروع بأية علاقة قانونية له مع المتعاقدين من الباطن.."( الفقرة قبل الأخيرة من المادة 158).
[14]   أحدثت " المديرية المركزية لتزويد الإدارات العمومية"(D.C.A.A.P)، تحت وصاية وزارة المالية، بمقتضى المرسوم الملكي رقم 65.233، الصادر في 17 يوليوز 1965،فأناط بها مهمة جمع و توحيد سائر العمليات الرامية إلى تزويد الوزارات و المؤسسات العمومية، التي تتولى هذه الوزارات الوصية عليها، المواد و الأدوات و الأثاث الخاص بالمكتب، لتحذو في هذا الشأن حذو إدارة الجيش، الذي يتوفر على مصلحة خاصة تسهر على الشراء و التوزيع، كما جاء ذلك في الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة يوم 07 يونيو 1965.
و يندرج إحداث هذه المديرية، في إطار الجهود التي بذلن لإخراج المغرب من الأزمة الاقتصادية و المالية التي عرفها سنة 1964، بسبب تراكم عجز الميزانية ، التي كانت نفقات التسيير فيها، تمثل 79% من مجموع النفقات"" .
و لقد تميزت تجربة هذه المديرية، باختلالات كبيرة أدت إلى فشلها.ولعل من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ذلك الفشل، السبب الذي أشرنا إليه في المتن، و المتمثل في عدم رضى المصالح الوزارية عن طريقة عمل هذه المديرية، و التي كانوا يعتبرونها أسلوبا للحد من استقلالهم المالي لفائدة وزارة المالية، مما حدا بهم، أحيانا، إلى اقتناء مشترياتهم بواسطة ميزانيات المصالح الخارجية، التي لم تكن تشملها مقتضيات المرسوم الملكي 65.233 الملغى بظهير شريف رقم 1.73.655 بتاريخ 11 ماي 1974(ج.ر عدد 3214).راجع:محمد الفقير- المديرية المركزية لتزويد الإدارات العمومية- معلمة المغرب- الطبعة الثانية- المجلد 25- ص 275( و من مراجع هذا المقال، بحث كان قد أنجزه عبد الرحيم بنونة، حول تجربة هذه المديرية).