الأحد، 24 مايو 2020

صفقات التنمية المستدامة ..و الصفقات الخضراء


صفقات التنمية المستدامة ..و الصفقات الخضراء

المبحث الخامس:صفقات التنمية المستدامة[1]
لقد صار احترام البيئة ، و السعي لتحقيق التنمية المستدامة، هدفان أساسيان ، ترمي إلى بلوغهما الكثير من التشريعات، في الكثير من دول العالم ،  و على رأسها التشريعات المتعلقة بالمشتريات العمومية، و ذلك  منذ أزيد من ربع قرن على الأقل.
و بناء على ذلك، صار المشترون العموميون ،في أغلب دول العالم،مطالبون بإدراج شروط و بنود في نظم الاستشارة و في دفاتر التحملات العامة و الخاصة، تقضي بحماية البيئة ، و تراعي أهداف التنمية الاجتماعية و التطور الاقتصادي للأجيال الحاضرة و المستقبلية.
و لقد انخرط المغرب، منذ بداية الألفية الثالثة ، في هذا المسار، و لم يكن مرسوم 2013، المتعلق بالصفقات العامة، إلا واحدا من القوانين المغربية التي ذهبت في هذا الاتجاه.
و هكذا فمرسوم 2013،أولى لقضايا البيئة و التنمية المستدامة، أهمية كبيرة، فأدمج،لأول مرة، احترام البيئة ، و أهداف البيئة المستدامة، ضمن المبادئ العامة التي يجب على كل صفقة احترامها و التقيد بها قدر المستطاع، ثم جعل من ضمن المعايير المعتمدة لقبول العروض و إسناد الصفقة(تفضيل العروض)، معايير خاصة بحماية البيئة،و تنمية الطاقات المتجددة..،في كل أنواع الصفقات، و مهما كان الغرض منها:صفقات الأشغال، أو التوريدات، أو الخدمات.
أجل،لقد صارت النجاعة و الفعالية و الحكامة في تدبير النفقات العمومية ،رهينة بإدماج البعدين البيئي و التنموي في كل سياسات المشتريات العمومية. و لا شك أن ذلك سيحمي البيئة و يحقق التنمية المستدامة، بطريقة مباشرة، و بطريقة غير مباشرة أيضا، من خلال تغيير سلوك الأفراد و المقاولات في هذا الاتجاه.
فباستعمال سلطاتها في تحديد حاجياتها( في دفاتر الشروط الخاصة، و في نظم الاستشارة)، أو في تحديد شروط التنفيذ ؛ يمكنها  شراء السلع و الخدمات و الأشغال، التي تحترم البيئة. كما يمكنها اشتراط تسليم مشترياتها (التوريدات مثلا) ، بطريقة تساهم بفعالية في حماية البيئة و/أو تحقيق التنمية المستدامة.فالصفقات " الصديقة للبيئة" أو " ما يعرف بالصفقات الخضراء)، تغطي مجالات واسعة، مثل شراء الحواسيب التي تستهلك كميات قليلة من الكهرباء( و بالتالي كميات قليلة من المواد الطاقية، كالفحم أو البترول..لإنتاج الكهرباء)، و البنايات التي تحافظ على الموارد الطبيعية (كالمياه ،و المواد المنتجة للطاقة الكهربائية= الإنارة)، و الأوراق و الأوعية القابلة لإعادة الاستعمال للتدوير ( Les matériaux recyclables)، و السيارات و الحافلات و مختلف وسائل النقل الكهربائية، و وسائل النقل التي تحترم البيئة(قليلة التلوث)، و المواد الغذائية البيولوجية ( للمطاعم= المدارس، و الجامعات، و المستشفيات،و السجون، و التكنات العسكرية..إلخ)، و مختلف السلع التي لا تضر بالبيئة ( أصباغ،و مداد الطبع، و مواد التنظيف،أسمدة، مبيدات، و المصابيح،..)..إلخ.
و هذه الصفقات البيئية،لا تؤثر بطريقة مباشرة في سلوك الأفراد فقط( من خلال ضرب المثل)، بل تؤثر في  سلوك المقاولات أيضا،فاقتناء السلع و الخدمات و الأشغال الإيكولوجية، هي وسيلة تمتلكها السلطات العمومية لحث المقاولات الصناعية على تنمية التكنولوجيات الخضراء أو الصديقة للبيئة.
فالصفقات الخضراء، تهدف إلى تحقيق الترشيد في الإنفاق، و  حماية الموارد البشرية على المدى البعيد: فهي تحافظ على مصادر المواد الأولية و الطاقة  ( يجب أن نشتري ما نحتاج إليه فقط)، و تخفض نسب التلوث في الهواء، و تقلل كميات النفايات، و توجه السلوك الفردي و الجماعي إلى حماية البيئة( تقلص من آثار الارتفاع الحرار= نسب الغازات التي تسبب الارتفاع الحراري، كغاز ثاني أكسيد الكربون)،..و كل هذا يصب في مصلحة الجميع أفراد المجتمع..و القطاعين العام و الخاص.
فلو أن الإدارات اشترت ما تحتاجه فقط، و بالكميات التي تحتاجها، و بالمواصفات البيئية ، لتم الحفاظ على الكثير من الموارد و الإمكانيات اليوم و للأجيال القادمة أيضا:فلو تم شراء مصابح صديقة للبيئة ( تستهلك كميات أقل من الكهرباء)؛ و لو تم شراء حواسيب تستهلك كميات أقل من الطاقة؛ و تم تزويد المكاتب بالأوراق و الأقلام و ما شابه، القابلة للتدوير؛ و لو تم تجهيز البنايات العمومية بأنابيب و حنفيات لا تبذر المياه..إلخ؛ لكان في ذلك ترشيد للمال العام، و حماية للبيئة، و تحقيق للتنمية المستدامة.
و في الحقيقة أن الصفقات العمومية، في السنوات العشرين الأخيرة لم تهتم بالجوانب البيئية فقط، بل اهتمت كذلك بالتنمية في بعدها الاجتماعي أيضا، أي ما يعرف بالتنمية البشرية الشاملة،فقامت منظمات الدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، أو ما يعرف بالمعاقين، بمطالبة الحكومات المركزية و المحلية و الشركات الخاصة،بأن تيسّر ولوج المباني و وسائل النقل العامة، و مرافق التسلية، و مواقف السيارات و غيرها، من الأماكن العامة، للضرير و الأصم، و كل من يستخدم كراسي مزودة بعجلات، ..إلخ.فاستجابت الكثير من الحكومات المركزية، و الحكومات المحلية، و البلديات، لهذا الطلب؛ و أصدرت سلسلة من القوانين و القرارات، تلزم الإدارت العامة، وحتى شركات القطاع الخاص؛بإبرام صفقات أشغال و توريدات و خدمات، لتسهيل ولوج المعاقين الأماكن العامة و الخاصة،و استعمال مختلف التجهيزات الموجودة بالمرافق العامة، و كل الخدمات التي يوفرها القطاع الخاص[2].بل في الكثير من الحالات ، كانت الحكومات المركزية، تدفع جزءا من تكاليف الصفقات التي تبرمها السلطات المحلية، أو جزءا من التكاليف التي يتحملها الخواص.
1- فالحكومات كانت تنفق الكثير من الأموال، على بعض الصفقات التي يستفيد منها ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل الصفقات المتعلقة بصناعة الأعضاء و الأطراف الصناعية (كالذراع، و الساق، ..)، التي يفقدها بعض الناس لإصابة أو مرض ،أو لعجز في الخَلْقة منذ الولادة.
ثم أضيفت إليها، أنواع جديدة من الصفقات، ربما ما كانت لتخطر على بال السياسيين الليبراليين و المحافظين؛و لكنها مالبثت أن فرضت نفسها، كواقع يجب التعامل معه، و كحاجيات يجب الاستجابة لها:
1-و منها، تخصيص العديد من مواقف السيارات، و الأماكن الأخرى للاستراحة و غيرها، للزوار المعاقين (الذين صاروا مطالبين بتركيب لوحات خاصة في سياراتهم، للاستفادة من تلك الامتيازات)؛
2- و تم تزويد الكثير من الحافلات بمصاعد خاصة، لرفع الكراسي ذات العجلات، إلى الحافلات، و إنزالها إلى الشارع.و زودت محطات القطار، و المترو..و غيرها (و المتاجر الكبرى)، بمصاعد و سلالم متحركة، لنقل المعاقين، من أرصفة الشوار، و من طبقة إلى أخرى (صعودا و نزولا)؛
3- و تم إنشاء ممرات و منحدرات(= ولوجيات)، تؤدي إلى كل الأماكن في الإدارات و المؤسسات و المرافق العامة (و الخاصة).و حتى اماكن الترفيه، كأحواض السباحة، حيث يمكن للسباحين ، الذين يركبوا كراسي ذات عجلات، من الهبوط إلى الماء ببطء؛
4- و أنشأت الكثير من الإدارات العامة، معابر أزيلت منها أطراف الأرصفة، ليسهل عبورها على الأشخاص الذين يركبون كراسي ذات عجلات.كما وضعت الكثير من الإدارات مسالك على جانبي درجات السلالم، مخصصة لسير كراسي المعاقين؛
5- و زودت الكثير من المراحيض ( في المدارس و الجامعات..و المقاهي و المطاعم..و الإدارات..)، بصنابير تعمل بالضغط، لتساعد الأشخاص المعاقين (المعوقي الأيدي)، الذين يصعب عليهم استعمال الصنابير الدوارة؛
6- و زودت الكثير من الإدارات ، بالأبواب الأوتوماتيكية، التي تعمل بالأشعة ؛
7- كما زودت الكثير من إشارات المرور بمنبهات صوتية، لتنبيه المارة العميان إلى أوقات العبور؛
8- وزودت الكثير من الإدارات،و أكشاك الهاتف العمومية، بأجهزة الهاتف المنخفضة، التي وضعت عند مستويات منخفضة،حتى تتيح للأشخاص الذين يركبون كراسي ذات عجلات، أن يجروا مخابراتهم بسهولة..إلخ.



[1]  إن التنمية تعني أشياء كثيرة، من أهمها تحسين دخل الأفراد و الأسر، و تمكين هؤلاء من زيادة الاستهلاك، و تحسين نوعية الحياة، و تطوير بيئة صحية جيدة، و تحسين قدرات البشر للتعامل مع العلم و تقنيات العصر.
و يعود الفضل في صياغة مفهوم التنمية بهذا المضمون إلى عدد من العلماء، أغلبهم من العالم الثالث( الهند، و باكستان، و مصر..)، الذين عملوا في إطار أو بتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.فبفضل هؤلاء العلماء ، ظهر مفهومان جديدان للتنمية، سمي الأول بـ :" التنمية المستدامة"، و الآخربـ" التنمية البشرية":
1- فالتنمية المستدامة، عرفت في أدبيات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بأنها:" توسيع خيارات الناس".و المقصود بالخيارات هو الفرص المبتغاة في ميادين أساسية للحياة الإنسانية، و تتلخص في الأهداف التالية:
أ- تأمين حاجيات الأجيال الراهنة دون إضرار بإمكانات الأجيال القادمة على تأمين حاجياتها(مع الأخذ بعين الاعتبار الاكراهات البيئية)؛
ب- العناية بالأهداف الاجتماعية، و أهمها محاربة الفقر، و البطالة، و توفير الفرص المتكافئة للمواطنين، و تحسين توزيع الدخل، و توسيع خيارات الناس بهدف تحسين مستوى معيشتهم، و تطوير نوعية حياتهم؛
ج- تأكيد قيم الحرية و حقوق الإنسان، و توفير الوسائل و الآليات الضامنة لإرساء سلطة القانون، و إشراك الناس في صناعة القوانين و القرارات التي تهمهم.
أما المفهوم الآخر، المعروف بالتنمية البشرية، فقد تم وضعه لقياس درجات تطور المجتمعات و مستويات معيشة الناس فيها و أحوالهم العامة، من خلال تقدير مجموعة من العناصر، منها: توقعات الحياة، و الانجازات التعليمية و الثقافية، و القدرة الشرائية الحقيقية،..ضمن مؤشر واحد مترابط.
و هذا المؤشر- مثله مثل مكونات المفهوم السابق- ليس نهائيا أو ثابتا، بل هو مفتوح و قابل لاستيعاب مكونات و عناصر جديدة في ضوء ما يطرأ على مفهوم التنمية البشرية في المستقبل، و ما ينشأ من محددات جديدة لنوعية الحياة، و متطلبات تحسين مستوى المعيشة للسكان.
هذا، و الجدير بالذكر هنا، و لعلكم لاحظتم ذلك، أن مفاهيم  التنمية و الحكامة يتقاطعان، فهما في عمومياتهما و تفاصيلهما متشابكين و مترابطين، بعضهما ببعض ارتباطا عضويا، إذ لا يمكن تحقيق الواحد منهما دون تحقيق الأخرى:فتحقيق الحكامة الجيدة، يؤدي حتما إلى بلوغ التنمية الجيدة. و لكن شريطة أن يكون هناك إيمان حقيقي بالحكامة و التنمية دون تناقض بينهما، و أن تكون الإيديولوجيا (و السياسات) التي تتبناها الحكومة (و بالتالي القوانين التي تطبقها)، تكرّس المفهومين معا،و ليس استعمال أحدهما أو هما معا، لتمرير الخطابات السياسية و الممارسات، بإضفاء الطابع الديمقراطي التنموي عليهما .
  لتوضيح هذه الفكرة، نشير على المستوى المحلي، إلى العلاقة بين السلطة المحلية المنتخبة (رئيس الجهة، أو رئيس المجلس الإقليمي، أو عمدة المدينة)، و السلطة المعينة ( والي الجهة، و عامل الإقليم و العمالة، و الباشا):إن الحكامة الجيدة، تقتضي نقل أهم الاختصاصات من السلطة المعينة إلى السلطة المنتخبة.و لكن الذي يحدث، هو أن الحكومة تمنح للسلطة المعينة سلطات أقوى، لاسيما فيما يتعلق بتدبير الموارد المالية( و على رأسها الصفقات العامة).هل يتماشى ذلك مع ما جاء به الدستور؟ هل يتطابق مع مبادئ الصفقات التي في المرسوم؟ 

[2]  و احتجت بعض الشركات و المقاولات الخاصة على ذلك، بالقول بأن التكاليف تربو على المنافع، و لكن الحكومات ، لم تعر هذه الاحتجات اهتماما كبيرا.ثم مالبثت الآراء أن استقرت على الاقتناع ، بأهمية تلك النفقات العامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق