الجمعة، 22 مايو 2020


المبحث الرابع:الحكامة و ترشيد استعمال المال العام
لقد ارتفعت الأصوات منذ السنوات الأخيرة،من القرن العشرين، تطالب بمحاربة ظاهرة استفحلت و انتشرت في الكثير من المجتمعات، لاسيما مجتمعات العالم الثالث، و منها المجتمع المغربي، أكثر من أي وقت مضى،ألا و هي الظاهرة التي عرفت بـ " زواج المال و السلطة". و قد تمثلت هذه الظاهرة بالخصوص في استغلال بعض رجال السياسة و الإدارة لمناصبهم، لكسب الثروات عن طريق تسهيل عمليات إسناد الصفقات العامة، لهذه الجهة أو تلك.و قد رافق ذلك أو ساعد عليه، أن الكثير من المسؤولين الإداريين و السياسيين، يمارسون الأعمال الحرة، بشكل  مباشر و مكشوف أو مستتر،  و قد يكون لبعضهم مصالح في بعض المقاولات أو الشركات ( أو مكاتب الدراسات و المكاتب الاستشارية..) الوطنية  و  الأجنبية.
لقد ألقت هذه الظاهرة بظلال كثيفة من الشك حول مصداقية الإدارة، و حول المفهوم الذي كان سائدا عن أغلب الناس، عن حياد الإدارة و حرصها على المصلحة العامة، و كشفت بالواضح أن للإداريين أفكارهم و مصالحهم التي قد تكون متناقضة مع المصلحة العامة، و من ثم قد يتواطؤن أو يتآمرون على الصالح العام.
و لعل هذا الاهتمام من الرأي العام العالمي و المحلي،قد وفّر الإجابات على أسئلة ظلت مطروحة منذ مدة طويلة، من نوع: كيف و لماذا تبرم الكثير من الصفقات العامة، من مختلف الأنواع، و بمختلف المبالغ؛ثم تعرف طريقها إلى التنفيذ، رغم عدم توفرها على أبسط الشروط الموضوعية للنجاح؟؟؟!!، أو رغم عدم الحاجة الاجتماعية أو الاقتصادية  إليها أصلا ( إذ لم تنجز أي دراسات تمهيدية لتحديد الحاجات الحقيقية المتعلقة بها.. أو الجدوى الاقتصادية أو الاجتماعية منها)!!؟؟
بل إن هذا الاهتمام..أعاد صياغة أسئلة أخرى،بمفردات أكثر قوة، و مضامين أوضح : لماذا تسند بعض الصفقات  دائما ، لنفس لأشخاص ( الطبيعيين و المعنويين)، دون غيرهم!!؟؟  رغم عدم استيفائهم، للشروط المنصوص عليها في القانون،.. بعضها أو كلها!!!؟؟؟ و لماذا تبرم ، و تنفذ، و تسلم لمختلف الإدارات ، خدمات و أشغال و توريدات، لا تساوي ربع ما أنفق عليها، بدل من إنفاق على مرافق عامة قد تكون في أمس الحاجة إليها( كالصحة، و التعليم، و الأمن..و غيرها)؟؟؟!!!
إن الفساد في مجال الصفقات العمومية، كبير و خطير،في كل أنحاء العالم، و لقد حاول المشرعون في الكثير من البلدان الحد منه ، بعدة وسائل في السابق، لعلها انصبت أساسا حول ضبط المساطر و الإجراءات القانونية ، المتعلقة بإبرام الصفقات.و لقد فشلت هذه المحاولات، لأنها لم تهتم بالصفقات في كل أبعادها، و إنما اهتمت بقضايا مسطرية و إجرائية تتعلق بتتبع الصفقات، أثناء إبرامها و تنفيذها، و إلى حد ما بعد تنفيذها. و لم تبحث ،في تلك المرحلة،في النتائج التي قد تترتب عن إبرام الصفقات من حيث فعاليتها و نجاعتها.أي  لم تطرح الأسئلة، التي كان يجب أن تطرح، لمعرفة الجدوى(الاجتماعية، و الاقتصادية..) منها.و هذا الوضع ( المليء بالثغرات ..)، كان من الأسباب التي شجعت على ظهور الفساد، و شجعت على انتشاره، في ميدان الصفقات العمومية؛ إذ نجح المفسدون و الفاسدون، في التقيد بالقواعد القانونية( الشكلية) و المسطرية( في الظاهر)، فتمكنوا،في الحقيقة و الواقع، من تمرير صفقات "خاوية"(صحيحة شكلا أي مسطريا، ولكن فارغة مضمونا): فسرقوا بذلك الأموال المخصصة للإنفاق العام، إذ لم يجدوا من يحاسبهم على النتائج، و لا من يسأل، أو حتى يتساءل" و لكن..لماذا أبرمت تلك الصفقات أصلا؟ هل كانت ضرورية (في الزمان..و المكان؟)؟ هل كان هناك تناسب بين الأموال المنفقة و المشتريات المحصل عليها؟..و هل استفاد الناس(عموم الناس) من هذه الصفقة أو تلك؟ و كم هو عدد الذين استفادوا..قياسا إلى الذين حرموا من النفقات الأخرى التي كان يمكن أن تنفق فيها تلك الأموال؟..؟
أسئلة..عكست وجود مشاكل بل إشكاليات في الكثير من الدول.إلا أن الحكومات في الغرب، و بعض الهيئات الحكومية و غير الحكومية كانت سباقة لإيجاد حلول لها ؛ من خلال إبداعها لمفاهيم جديدة في الحكم و التدبير العمومي، كمفهوم الحكامة(La gouvernance)، أو الحكامة الجيدة(La bonne gouvernance)[1].
ثم جاء دستور 2011 المغربي، فأولى اهتماما كبيرا بالحكامة الجيدة- و أفرد لها بابا خاصا، هو الباب الثاني عشر-،كما اهتم ايضا بالقضايا المرتبطة بها ، مثل الحق في المعلومات، و الشفافية،و النزاهة، و محاربة الفساد و استغلال النفوذ، و ربط المسؤولية بالمحاسبة،و تخليق العمل في المرافق العامة، و حق السكان في تقديم العرائض..و غيره[2].
و من هنا،و بوحي من هذا الدستور، جاء القانون الجديد للصفقات العمومية،لا سيما في القواعد المتعلقة بالحكامة،ليولي قضية تدبير الصفقات العمومية ،و النتائج التي تترتب عنها ، أهمية كبرى، أو على الأقل أكبر مما كان يحصل في الماضي.و يتجلى ذلك مثلا، و بشكل قوي،في حرص مشرع الصفقات،في مرسوم 2013، على تطويق ظاهرة الفساد من ثلاث جهات أو جوانب أساسية: فمن جانب نراه، حاول سد أهم الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها المال العام بحسن أو بسوء نية. و من جانب ثان، نراه يحمّل جزءا من المسؤولية للمتعاقدين مع الإدارة أيضا. و من جانب ثالث، نراه يلقي الجزء الأكبر من مسؤولية على كاهل الإدارة نفسها.
أي أنه حاول التصدي لمشكلة سوء التدبير، من خلال تحميل المسؤولية القانونية لأغلب المعنيين بالصفقات العمومية.أقول " أغلب المشاركين"، و ليس جميعهم؛لأن مشرع الصفقات- و باختلاف مع المشرع الدستوري-  لم يشرك في عملية محاربة الفساد الذي يطال الصفقات، إلا المعنيين  بها بشكل مباشر فقط ؛ و تجاهل غيرهم.و هذه رؤية قاصرة،في وجهة نظري- وقد أكون مخطئا-؛ إذ كان الأولى إشراك كل المعنيين، أو أكثرية المعنيين بهذه الصفقات، و على رأسهم ابناء المجتمع، الذين باسمهم و لأجلهم، و لتلبية حاجياتهم، تبرم الصفقات، لا سيما أبناء المجتمع المدني[3]، و هم من أكثر فئات المجتمع نشاطا، و أقدرهم على تتبع مسارات الصفقات، و الكشف عن ما يشوبها من اختلالات و انحرافات.لا سيما أن الدستور ينص على حق المواطنين في تقديم العرائض، و هو حق، لا شك، أن المشرع الدستوري أراده أن يكون وسيلة أيضا،للتأثير على تدبير الصفقات، و مراقبة فعالية تنفيذها[4].
و لو  أن مشرع الصفقات، في المرسوم الجديد، أخذ بعين الاعتبار هذه المقتضيات الدستورية و فعّلها، في  مواده التي خصصها للحكامة، لكان بذلك قد سلك طريقا قصيرا وسالكا و فعالا ؛ لمحاربة فساد الصفقات، من ناحية. و لكان، من ناحية أخرى، قد ساهم (بذلك) في إعطاء مفهوم الحكامة في مرسوم 2013، بعدا شاملا و أقرب إلى مفهوم دستور 2011؛ الذي شمل أيضا الحكامة باعتبارها صورة من صور الديمقراطية التشاركية، و هو بعد أساسي في الحكامة الجيدة، إن لم يكن هو البعد الأهم.
و لكن، للأسف، أخذ مشرع الصفقات العمومية المغربي، بمفهوم ضيق للحكامة،استبعد منه البعد الخاص بالديمقراطية التشاركية، فجعله بذلك أقرب إلى مفهوم " الترشيد في الإنفاق العمومي" بحصر المعنى، و ربما فعل ذلك، تحت ضغط خبراء البنك الدولي، الذين فرضوا فهمهم الخاص للحكامة،أو الحكامة الجيدة كما ينبغي لها أن تطبق في بلدان العالم الثالث؛ و التي جعلوها تدور حول محور" ترشيد النفقات العامة"[5].
و لا عجب في ذلك،ففي دولة كالمغرب، تعتبر فيه مصادر الأموال العامة، محدودة و قليلة، كان من الطبيعي أن يحظى ترشيد الإنفاق العام- باعتباره السبيل الأهم لمواجهة كل الحاجات العامة -؛ باهتمام أكبر من البعد الديمقراطي، ليصبح مرادفا للحكامة الجيدة .و تصبح الحكامة الجيدة، بالتالي، إحدى أهم الحلول لحل المشاكل الناجمة عن تدبير النفقات العمومية " الكثيرة"، للدولة و المؤسسات العامة و الجماعات الترابية، التي لا تتوافر إلا على إيرادات جبائية و غيرها، قليلة.
و من هنا، صار الترشيد و الحكامة ، في القانون المغربي للصفقات العامة، وجهان لعملة واحدة، يعنيان  من ناحية التوجيه السديد و الملائم للأموال العامة، عن طريق اختيار أفضل العروض الاقتصادية الممكنة. و من ناحية أخرى يعنيان كذلك؛ ضمان الاستعمال الفعال لهذه الأموال العامة،من خلالإنشاء نظام للتقارير يبين تكلفة التقديرية للصفقات  و تكلفتها الفعلية أو الحقيقية ، و الفروق بينهما و أسبابها.
 ليس هذا فقط، بل يعنيان أيضا- لا بل ربما أولا - تضييق الخناق على الآمرين بالصرف و الإداريين و الموظفين ( الذين يدورون في فلكهم، و يأتمرون بأوامرهم، في الغالب، أو ضدا على أوامرهم أحيانا..)، بالحد من سلطاتهم التقديرية، في تحديد(المواصفات) و تقدير الحاجيات العامة، و من ثم إسناد و إرساء الصفقات، على مقاولات " بعينها، مختارة مسبقا"[6].
و هكذا جعل المشرع قواعد الحكامة/أو ترشيد الصفقات العامة، تبدأ منذ مرحلة الإعداد لها، و تمتد إلى ما بعد تنفيذها:
أ-  فلقد ألزم المشرع، أصحاب المشاريع بتحديد الحاجات التي تلبي مطالب المرافق العامة( التي يتولون إدارتها و تسييرها)، و كيفية الاستجابة لها، قبل الشروع في أي صفقة:فالإدارة الرشيدة التي تدبر أمورها بحكامة جيدة، هي الإدارة المسؤولة؛ التي تخطط لعملية شراء حاجياتها، لضمان توفير الاحتياجات و المستلزمات الضرورية لتسيير المرافق العامة  ( من الأشغال و/ أو التوريدات و/ أو الخدمات)، بالكميات المناسبة، و الجودة المناسبة، و في التوقيت المناسب، و الأثمان المناسبة، و من المصدر ( المقاول/ المورد/ الممول) المناسب[7].
 و كما اهتم المشرع، بترشيد الانفاق على الصفقات، حتى قبل ميلادها ، فلقد حرص على توافر الحكامة الجيدة في إبرامها أيضا..فأوجد أساليب لترشيد الإنفاق العام ، من خلال، تأكيده على قاعدة " اختيار العرض الأفضل اقتصاديا"، أي "العرض الأجود بالثمن الأقل"؛ حيث كان يتم ، في مراحل سابقة،كما مرّ معنا في المبحث الأول من هذا الفصل،إسناد الصفقة لمن يطلب أقل ثمن لإنجازها.غير أنه لما تبين له، أن هذا الاختيار ينطوي على عيب كبير، يكمن في أن " العرض الأقل ثمنيا"، لا يكون دائما هو الأفضل من وجهة نظر المصلحة العامة ؛ تم استبداله بمعيار آخر، حاول من خلاله المشرع أن يراعي الجودة ، و لكن دون أن يتخلى عن الثمن الأقل؛ و ذلك باعتماد مفهوم " العرض الأفضل اقتصاديا"، و هو العرض الذي تتحقق فيه الحكامة الجيدة، متمثلة في أفضل علاقة بين الثمن و الجودة ( الفعالية و المردودية).
ب- و يمتد اهتمام المشرع، بمسألة ترشيد الانفاق على الصفقات، إلى مرحلة ما بعد التنفيذ، حيث نجده  قد أنشأ نظاما للرقابة على نفقات الصفقات،كما سبق القول أعلاه، بوساطة التقارير التي يعدها أصحاب المشاريع، و التي  يمكن من خلالها تتبع عمليات الإنفاق العمومي، و معرفة الفروق التي قد توجد بين النفقات الفعلية و النفقات المقدرة و المخططة للصفقات؛ و من ثم إمكانية البحث عن أساب هذه الفروق ، و كيفية تفاديها أو تصحيحها في المستقبل.
و هكذا،فظام التقارير " البعدية" عن الصفقات، من شأنه أن يحد من الانحرافات التي قد تحصل أثناء التنفيذ، أو التي قد تنجم عن "أخطاء في التقديرات الأولية و المخططات". و في جميع الحالات، فهو نظام  قد يقلص ، إذا طبق بصرامة و موضوعية، إلى حد كبير من التلاعبات و الأخطاء، التي قد تحصل  من طرف الإدارة صاحبة المشروع (أو بعض الموظفين فيها) بحسن نية، أو نتيجة تواطؤ بينها و بين المتعاقدين معها[8].
و من هنا، ندرك، كيف و لماذا جاءت القواعد المتعلقة بالحكامة في هذا القانون، كأنها وسائل إضافية، لضمان حماية المال العام و فعالية الصفقات، بواسطة الإدارة صاحبة المشروع أولا، و ثانيا ، بطريقة غير مباشرة، بواسطة المتعاقدين معها، كما يتجلى فيما يلي:
1- ففيما يتعلق بالمترشحين، نراه يلزمهم بتقديم شهادات ، و التعهد بتطهير الصفقات التي يبرمونها :
أ- أن يشهدوا على أنفسهم بأنهم لا يوجدون في حالات تضارب مصالح(أي تناقض المصالح الخاصة مع المصلحة العامة) ( المادة 26/ الفقرة "و")، كما هي مبينة في المادة (168):يجب على أعضاء لجان إبرام الصفقات، عدم التدخل في مساطر إبرامها، عندما تكون لهم مصلحة فيها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، و لو من بعيد[9]؛
ب- أن يلتزموا بعدم اللجوء- بشكل مباشر (بأنفسهم) أو غير مباشر ( بواسطة غيرهم)-، إلى أفعال الغش، أو الرشوة أو تقديم وعود، أو هبات أو هدايا..إلخ، بقصد التأثير على مختلف مساطر إبرام الصفقات و تدبيرها و تنفيذها( المادة 26/الفقرتان " د و هـ ")[10]؛
2- أما فيما يتعلق بالإدارة،فقد جاء المشرع ، بسلسة من الإجراءات ، التي تهدف إلى دفع الإدارة إلى تحمل مسؤوليتها، في مراقبة الصفقات في كل مراحلها:
أ- فالمادة (161)، تنص على أن الإدارة يمكنها أن تعهد بالإشراف على صفقاتها (الأشغال العمومية)، إلى جهة عمومية ( إدارة، أو مؤسسة، أو مقاولة) لتتبع عمليات الإشراف ، في مختلف مراحل دورة حياة الصفقة ( من مرحلة الدراسات التمهيدية..)، إلى مرحلة استلام المنشأة النهائي، و بالتالي مراقبة مدى احترام القوانين، في هذه المراحل، و إعداد تقارير عن عمليات التنفيذ، و وتيرتها، و جودتها..إلخ.
و مهمة الإشراف هذه، في الواقع، خطيرة جدا، بالنظر إلى النتائج التي قد تترتب عنها ؛إذ أن مسؤوليتها تمتد إلى تتبع عمليات إنجاز الصفقة، لضمان تنفيذها وفقا للعقد المبرم بين صاحب المشروع و المتعاقد معه، و بالتالي عدم تعريض المصلحة العامة، ممثلة في مصلحة الإدارة، للمخاطر التي قد تنجم عن سوء التنفيذ، أو التأخر فيه، أو الزيادة في تكاليفه. و تتم عملية الإشراف و التتبع هاته، من خلال الاتصال المنتظم بنائل الصفقة، و تذكيره بمواعيد التسليم ( الابتدائي و النهائي..)، و حثه على الالتزام بما تعهد به في العقد، ثم التأكد من سلامة التنفيذ، و مطابقته للمواصفات..إلخ.
ب- إلزام كل صاحب صفقة بأن يُعد عنها تقريريا تقديميا، يتضمن بالخصوص: طبيعة و مدى الحاجات المراد تلبيتها، و تكلفتها التقديرية، و الأسباب التي أدت إلى اختيار طريقة أو مسطرة إبرامها، و تبرير اختيار مقاييس انتقاء الترشيحات ، و تقييم العروض(المادة 163):و هذه مراقبة تبدأ من المنبع، و تساعد على مقارنة النتائج التي يتم التوصل إليها عند المصب ( عند انتهاء الصفقة)، كما سنرى في المادة التالية..؛
ج- و بالفعل، فالمادة (164)، ألزمت الإدارات بإعداد تقارير عند الانتهاء من تنفيذ كل صفقة يتجاوز مبلغها مليون درهم[11]، يرسل إلى رئيس الإدارة صاحبة المشروع، تسجل فيه كل الاختلالات و الفوارق التي قد تحصل بين التوقعات الأولية و النتائج النهائية،و أسبابها.فهي وسيلة رقابة على المتعاقدين مع الإدارة، و لكنها وسيلة رقابة على الأداء التدبيري لصاحب المشروع أيضا.و من هنا، حددت مهلة إعداد هذا النوع من التقارير في ثلاثة أشهر ( بعد التسليم النهائي للأعمال)، حتى يمكن لصاحب المشروع أن يستخلص الدروس، و يتدارك ما يمكن تداركه.
د- بالإضافة إلى ذلك، فرضت المادة (165) على الإدارة، واجب القيام بمراقبات و تدقيقات حول طرق إبرام و تنفيذ الصفقات، التي يتجاوز ثمنها خمسة (5) ملايين درهم ( مع احتساب الرسوم)،  و بالنسبة للصفقات التفاوضية التي يتجاوز مبلغها مليون (1.000.000) درهم (مع احتساب الرسوم)، و إعداد تقارير عنها، يوجه إلى رئيس الإدارة المعني ( و ينشر ملخص لها في البوابة  الإلكترونية).
كما عمل المرسوم من خلال هذه المادة على تحديد محتوى تقرير افتحاص الصفقات خصوصا على مستوى:
* قانونية مساطر إعداد الصفقة و إبرامها و تنفيذها؛
*تقييم حقيقية أو مادية الأشغال المنفذة أو التوريدات المسلمة أو الخدمات المنجزة؛
* احترام إجبارية إعداد الوثائق المختلفة المتعلقة بالصفقة و المقررة في هذا المرسوم؛
* تحقيق الأهداف المتوخاة من العمل؛
* تقييم النتائج المحصل عليها بالنظر إلى الوسائل المسخرة؛
* شروط استعمال الوسائل المسخرة؛
* تقييم ثمن الصفقة بالنظر إلى الأثمان المطبقة و تقييم كلفات  الأعمال موضوع هذه الصفقة؛
* ملائمة و فائدة المشاريع و الأعمال المنجزة في إطار الصفقة.
3- كما يلاحظ أن المشرع، قد سمح بالتعاقد من الباطن، لكنه أخضعه لشروط صارمة، من أهمها ألا يتجاوز التعاقد من الباطن خمسين بالمائة (50 %)، من مبلغ الصفقة، أو يشمل الحصة أو الجزء الرئيسي منها ( المادة 158): و الهدف من هذا الشرط، هو الحد من إمكانيات التواطؤ بين المتنافسين[12]،كما قد يفسر بأنه محاولة من المشرع ، في إبقاء العلاقة منحصرة في صاحب المشروع و نائل الصفقة، قدر المستطاع، لأن " شخص المتعاقد، هي محل اعتبار في الصفقات"(هناك تشابه بين وضعية المتعاقد مع الإدارة، و وضعية الأجير إزاء المشغل في قانون الشغل؛ فشخصية كل واحد منهما تكون محل اعتبار في العقد: فالإدارة، عندما تسند الصفقة لهذا المترشح أو ذاك،فإنها تقوم بذلك بعدما درست ملفه الإداري، و عرفت مؤهلاته، و أخلاقه المهنية أيضا..و على ضوء ذلك قبلت التعاقد معه.و من ثم فهي تفضل أن لا تتعامل مع طرف ثالث( المتعاقد من الباطن) الذي لا تعرف عنه شيئا)[13].
4- و من الوسائل الجيدة، التي جاء بها مرسوم 2013، و يحاول من خلالها الترشيد في الانفاق، كذلك، التوصية باعتماد أسلوب " مركزية الشراء"، أو ما سماه المشرع " بمسطرة تكتل المشتريات"؛ أي إسناد مهمة الشراء إلى وحدة إدارية واحدة أو " منسق"، يتم تكليفه ، بناء على اتفاق بين عدد من المشترين، الذي قد يجمع بينهم قاسم مشترك، هو إبرام صفقات متشابهة. تنص المادة (162) على أنه:"
" 1- يمكن لأصحاب المشاريع، تنسيق اقتناء التوريدات من نفس النوع في إطار " تكتل مشتريات"؛
" 2- يتكون تكتل المشتريات من صاحبي مشاريع أو أكثر يتجمعون من أجل طرح دعوة للمنافسة واحدة تؤدي إلى إبرام عدد من الصفقات يساوي عدد أصحاب المشاريع أعضاء التكتل؛
" يخضع إبرام الصفقات من طرف تكتلات المشتريات للقواعد المقررة في هذا المرسوم.
" 3- تحدد اتفاقية تأسيسية لـ " تكتل المشتريات" كيفيات عمل التكتل و توقع من طرف أعضاء هذا التكتل..".
هاته الآلية من شأنها أن تسمح لعدد من أصحاب المشاريع بالتجمع من أجل طرح دعوى لمنافسة واحدة، تؤدي إلى إبرام عدد من الصفقات، يساوي عدد أصحاب المشاريع أعضاء التكتل.و يجب أن يخضع إبرام الصفقات من طرف تكتل المشتريات لنفس القواعد المقررة في المرسوم. و ألزم المرسوم كذلك، أعضاء التكتل أن يبرموا  اتفاقية بينهم ، توضح كيفيات عمل التكتل ، و تعين الاتفاقية منسقا من بين أعضاء  التكتل يمثلهم في الصفقات، على أن تضمن في كل ملف صفقة يبرمها هذا التكتلن نسخة من الاتفاقية التأسيسة لتكتل المشتريات.
و في الواقع، يستطيع المشترون العموميون المنضوون في مثل هذه التكتلات، أن يحققوا مزايا و فوائد كثيرة، جراء توحيد  عمليات الشراء؛ إذ يستطيعون  الحصول على كميات كبيرة من التوريدات، بأثمان جيدة، و بشروط أخرى إضافية، تفضيلية ، تتعلق بالتسليم، و النقل، و الحراسة، و التخزين..إلخ.زيادة على أنها، تحقق مزايا أخرى للدولة ككل ، منها أنها: تمنع الازدواجية في الإجراءات،و بالتالي توفير النفقات، المتعلقة بعمليات و إجراءات الشراء،و التفتيش عند الاستلام، ..إلخ.
و في الحقيقة، لقد سبق للمغرب أن مرّ بتجربة فاشلة- أو أُفشلت-، فيما يتعلق بتنسيق المشتريات العامة،طبقها في الستينات من القرن الماضي.فلقد كان  المرسوم الملكي  المؤرخ في 17/7/1965 ، قد  أحدث إدارة مركزية لتموين الإدارات العمومية، في وزارة المالية.إلا أن هذه التجربة أقبرت في مهدها، و لم يكتب لها النجاح:فالتوريدات لم تكن دائما جيدة، أو لم تكن ترضي، في الغالب، أصحاب الطلبيات. كما أن الموردين لم يحترموا الآجال التي تشترطها الإدارات. بالإضافة إلى أن الظروف الإدارية، التي كانت تعمل فيها هذه المديرية، لم تساعدها على القيام بالمهام المنوطة بها، فتم إلغاؤها، بظهير بمثابة قانون  بتاريخ 11 ماي 1974( دون حل المشكل الذي ظل مطروحا).
و يبدو أن مشرع 2013، أراد تخطي هذه التجربة المريرة؛ محاولا تصحيح العيب الأساسي في النظام السابق، و الذي تسبب في فشلها، و المتمثل في أن الكثير من الوزارات لم ترى بعين الرضا وصاية وزارة المالية عليها، بل اعتبرت ذلك مبعثا للحد من استقلالها المالي.لهذا أوصى مرسوم 2013، أصحاب المشاريع بنهج مسطرة " تكتيل المشتريات"، كلما كان ذلك ممكنا، عندما يكون هناك تشابه أو انسجام أو تقارب بين مواصفات هذه المشتريات، و لاسيما عندما تكون الإدارات التي تطلبها منتمية إلى وزارة (وصية) واحدة،أو مجموعة من الإدارات تؤدي وظائف متشابهة، مثل الجماعات الترابية ( الجهات، و العمالات، و الأقاليم، و الجماعات )،فالقانون المغربي، يسمح لها، بتأسيس تكتلات للقيام بعمليات الشراء ( المادة146 )[14].



[1]  الحكامة، و الحكامة الجيدة، و الحكامة الرشيدة، و و الحكم الرشيد، و الحكمانية، و الغدارة الرشيدة، و الحكم الصالح، و الإدارة المجتمعية، و الحوكمة..و غيرها، كلها مصطلحات صيغت للدلالة على مفهوم المصطلح (La Gouvernance).
يذهب بعض الباحثين إلى أن هذا المصطلح، نشأ في فرنسا في القرن الثاني عشر، بالمعنى التقني الذي يدل على قيادة أو إدارة المحاكم الإقطاعية(la direction des bailliages).ثم استعمل المطلح الإنجليزي (governance)، في العصور الوسطى، للدلالة على طريقة تنظيم السلطة الفيودالية ( التعاون بين مختلف القوى في عصر الإقطاع: النبلاء الإقطاعيون، و رجال الكنيسة، و التجار). و في الثلاثينات من القرن العشرين، سينتشر استعمال المصطلح الإنجليزي، في القطاع الخاص (حكامة المقاولة=corporate governance ، إشراك الجميع من حملة الأسهم و العمال، في ااتخاذ القرارات، لاسيما عندما تكون لها آثار عليهم) .ثم استعمل بعد ذلك، ابتداء من النصف الثاني من الثمانينات، في القطاع العام، من طرف دعاة تطوير التسيير العمومي، ليشمل عدة مفاهيم جديدة أخرى، كمفهوم الديمقراطية التشاركية، الذي كان قد استعمل منذ الستينات و السبعينات، من طرف أنصار الديمقراطية التشاركية، و دعاة سياسة القرب (proximité)، فاستعمله، في هذا السياق، بعض عمداء المدن في بريطانيا(urban governance)،في عهد "مارغريت تاتشر"، في محاولة للاستجابة لمطالب السكان الكثيرة، و إقناعهم بضرورة تقليص الإنفاق العمومي (فالبلدية أو المدينة، يجب أن تحكم كالمقاولة.. ). و ابتداء من سنة 1989، سيشرع خبراء المنظمات الدولية في استعمال المصطلح الإنجليزي (و مرادفه الفرنسي..)،مثل خبراء صندوق النقد الدولي، و لاسيما خبراء البنك الدولي.و بفضل هاتين المنظمتين ، حقق المصطلح و المفهوم معا، انتشارا واسعا بعد ذلك، خصوصا في الأوساط الأكاديمية في العالم الثالث.لمادا العالم الثالث أو النامي بالخصوص؟ ذلك راجع إلى أن بلدان هذا العالم عانت كثيرا، في النصف الثاني من مشاكل الديون، و لاسيما في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين ، نتيجة انخفاض أسعار المواد الأولية (و هي مصدرها الأساسي للإيرادات)، فعجزت عن تسديد ديونها،و من ثم صارت مضطرة ، في نظر خبراء صندوق النقد و البنك الدولي؛ إلى إعادة "جدولة ديونها"، بل إعادة إصلاح هياكل اقتصادها،فاقترح عليها هؤلاء ، الأخد بمفهوم " الحكامة الجيدة"، للخروج من أزمتها، و أداء ديونها، بل و تحقيق تنمية أيضا.و قد رحبت الكثير من دول العالم الثالث بهذا البرنامج الإصلاحي، المضمن في الحكامة الجيدة ؛لأنه لا يشترط تحقق الديمقراطية الحقيقية لبلوغ مستويات معينة من التنمية، بل يمكنه أن يتعايش حتى مع الأنظمة غير الديمقراطية، و يبلغ مراده بواسطة " الحكامة الجيدة" التي ستقضي على "سرطان الفساد" و تنعش الاقتصاد، دون أن تضطر إلى تغيير أنظمة الحكم؛كل ما في الأمر أنها ستدفع الحكومات إلى أن تصبح أكثر رشدا، و أقل فسادا، من خلال تبني سلسلة من الإجراءات، أو توافر أربعة شروط أساسية:
1- مشروعية و شرعية الحكم: أي بناء دولة الحق و القانون، التي تضمن أمن المواطنين و استقلال القضاء؛
2- إدارة رشيدة: تلتزم تدبيرا حقيقيا و عقلانيا للنفقات العامة؛
3- ربط المسؤولية بالمحاسبة: إن الحكامة الجيدة، تقتضي المساءلة و المحاسبة،بمعنى أن كل من يسير الشأن العام، يجب أن يقدم الحساب؛
4- المشاركة بشفافية: التي تسمح للمواطنين بدعم حقوقهم، و إسماع صوتهم، اتجاه متهخذي القرار.
 و لكن، من الناحية العملية، ترجم خبراء البنك الدولي، الشرط الثاني (المتعلق بترشيد إدارة المالية العامة)، إلى سياسة تهدف إلى الخوصصة (بيع القطاع العام إلى القطاع الخاص)، و تشجيع القطاع الخاص، و تحرير التجارة،و تقليص الإنفاق العام،..إلخ.بتعبير آخر،لقد كان هدفهم من إدخال مفهوم الحكامة إلى بلدان العالم الثالث،،هو القضاء على مفهوم دولة الرفاه( التي جاءت من كينز)، و تشجيع القطاع الخاص ( التي ناصرها أتباع فريدمان و هايك= الليبرالية المتطرفة) بالدرجة الأولى، و إلى حد ما العمل على  التقليل من نفوذ السياسيين و الإداريين (محاربة الفساد).
و منذ هذا التاريخ- أي العشرية الأخيرة من القرن العشرين- و إلى اليوم، مازال مصطلح الحكامة، يعبر بطريقة أو أخرى، عن طريقة في الحكم، و لكن بعيدا عن الحكومة بمعناها المؤسسي، ليدل على أسلوب في اإدارة الشؤون العامة، لا تنفرد فيه الحكومة باتخاذ القرارات، بل تشرك معها القطاع الخاص، و المجتمع المدني، و عموم المواطنين، بهدف إدارة الموارد الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمع و الدولة، بهدف تحقيق التنمية..و لكن هناك، من يريد اختزاله،في مفهوم محاربة الفساد، بطريقة  تنفرد الحكومة وحدها بقيادتها، و في أحسن الأحوال، بإشراك عدد قليل من الشركاء الاجتماعيين و السياسيين و الاقتصاديين. 
2015 voir:Philippe Moreau Defarges-La Gouvernance-5éme éd - coll Quesais-je?-PUF-Paris
[2]   * الفصل (154):" [...] تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة و الشفافية و المحاسبة و المسؤولية، و تخضع في تسييرها للمبادئ و القيم الديمقراطية التي أقرها الدستور".
* و الفصل (155):" يمارس أعوان المرافق العمومية وظائفهم وفق مبادئ احترام القانون و الحياد و الشفافية و النزاهة و المصلحة العامة".
* و الفصل (156):" تتلقى المرافق العمومية ملاحظات مرتفقيها و اقتراحاتهم و تظلماتهم، و تؤمن تتبعها.
" تقدم المرافق العمومية ، الحساب عن تدبيرها للأموال العمومية، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، و تخضع في هذا الشأن للمراقبة و التقييم".
* و الفصل (158):" يجب على كل شخص، منتخبا كان أو معينا، يمارس مسؤولية عمومية، أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة في القانون، تصريحا كتابيا بالممتلكات و الأصول التي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بمجرد تسلمه لمهامه ، و خلال ممارستها، و عن انتهائها".
* و الفصل (159):" تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة، و تستفيد من دعم أجهزة الدولةن و يمكن للقانون أن يحدث عند الضرورة ، علاوة على المؤسسات و الهيئات المذكورة بعده، هيئات أخرى للضبط و الحكامة الجيدة".
* و الفصل (160):" على المؤسسات و الهيئات المشار إليها في الفصول 161 إلى 170 من هذا الدستور، تقديم تقرير عن أعمالها، مرة واحدة في السنة،على الأقل، الذي يكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان".
و من هيئات الحكامة، التي أفرد لها الدستور فصولا خاصة:
* الفصل( 165): عن الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري؛
* الفصل (166): عن مجلس المنافسة؛
* الفصل (167): عن الهيأة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة و محاربتها.
[3]  لا يمكن الحديث عن حكامة جيدة، مع إهمال الدور الذي يمكن أن تقوم به  الجمعيات و الهيئات و المنظمات غير الحكومية، و غيرها من مكونات المجتمع المدني، التي تعتبر شريكا و وسيطا غير رسمي بين الدولة و المجتمع، لكون هذه المنظمات هي أقرب لهموم و مطالب المواطنين، و بالتالي فهي أقدر على اقتراح الحلول الواقعية ، للمشاكل التي يتخبط فيها أفراد و جماعات المجتمع، كالصحة، و التعليم، و السكن، و الأمن ، و غيرها.
[4]  إن إشراك المواطنين في تدبير القضايا المتعلقة بالصفقات العمومية، عن طريق إشراكهم في بعض المجالس أو السماح لهم بتقديم العرائض أو أي وسيلة أخرى، من شأنه أن يساهم في ممارسة رقابة صارمة على الصفقات، و بالتالي ترشيد النفقات العمومية، باعتماد تقييم الإنفاق العمومي، على أساس النتائج و الفعالية و النجاعة، و لا شك أن ذلك سيرفع من جودة الخدمات التي تقدمها المرافق العامة.
[5]  " الحكامة الجيدة"، في مفهوم البنك الدولي، هي طريقة ممارسة السلطة الاقتصادية، و السياسية، و الإدارية، من طرف الحكومة و تسيير موارد البلاد، من أجل التطور ( التنمية).و من ثم اعتبرت،من لدن خبراء هذا البنك، شرط أساسي و معياري لتقييم السياسات العامة، لاسيما سياسات التنمية.و هي تعتمد في نظرهم على المبادئ الأربعة التالية: المسؤولية، و الشفافية، و دولة الحق و القانون، و المشاركة ( و لكن المشاركة، بمعنى إشراك المواطنين في تدبير الشؤون العامة، تأتي في آخر الترتيب كما رأينا، أي ليست على رأس المبادئ).
أو بتعبير آخر، فـلقد ارتبط مفهوم الحكامة، في أدبيات " البنك الدولي"، بالتدبير الجيد للموارد المالية: فالحكامة الجيدة، في مفهوم خبراء هذا البنك، هي الطريقة الأفضل لتدبير إيرادات الميزانية العامة للدولة( و الميزانيات المحلية..)، بهدف الإنفاق ( دون تبدير) على المرافق العامة (أو بعض المرافق العامة)، و أجهزة الدولة.
و هذا هو مفهوم الحكامة الجيدة،في ميدان الصفقات العامة، الذي انتشر عند الكثير من المؤلفين، منذ نهاية القرن الماضي، و مازال ينتشر إلى الآن:"En effet ,la bonne gouvernance des marchés publics ,consiste à une gestion de l'achat public exempte de pratiques abusives et de corruption et qui respecte la primauté du droit":Zoubaa-Le systeme de gestion des marchés publics-op.cit-p 21.
[6]  إن الحكامة تستوجب وجود نظام متكامل من المحاسبة و المساءلة(السياسية و الإدارية)، للمسؤولين في الإدارات العامة، و في منظمات المجتمع المدني، و في القطاع الخاص.ليس هذا فقط، بل إن الحكامة تقتضي أيضا القدرة على الحد من استغلال النفزذ السياسي أو الإداري ، في مجال الصفقات، بل و معاقبة المسؤولين المتورطين في الصفقات المشبوهة ، و أيضا الحد من تواطئهم مع رجال الأعمال في القطاع الخاص.
[7]  و من هنا،يختصر بعض المؤلفين،عملية الشراء، فيما يسمى بـ " الفايف آرس"(five Rs):
1- الكمية المناسبة (Right Quantity
2- الجودة المناسبة (Right Quality
3- الثمن المناسب (Right Price
4- الوقت المناسب (Right Time
5- المصدر المناسب (Right Source).
و هناك ، من يشترط في الإنفاق العمومي، شرطين، هما الكفاءة و الفعالية:
الكفاءة: إخراج المخرجات( تلبية الحاجيات) بأقل كلفة؛
الفعالية: هي تلبية الحاجيات الحقيقية للجمهور الذي يتلقى هذه الخدمات فعلا.
و هناك،من يذهب إلى أن الإدارة الرشيدة ،لا تلجأ إلى إبرام صفقات لشراء السلع و المعدات و الخدمات و الأشغال، إلا في أضيق نطاق..و على قدر الحاجة فقط.لأنها، تعلم أن تلبية الحاجيات العامة، يعتمد على مقدم الخدمة، أكثر مما يعتمد على كميات التوريدات و الخدمات و الأشغال.فالأستاذ مثلا، يستطيع أن يؤدي أداء جيدا، حتى بأقل الإمكانيات و الوسائل، إذا كان دخله جيدا، و يحس بالطمأنينة في عمله، و يتحمل برضا و إخلاص المسؤولية  الملقاة على كاهله.و كذلك الطبيب، و الممرض، و حتى الجندي، و رجل الأمن..و قس على ذلك:كل هؤلاء قد يؤدون الخدمات المطلوبة منهم، بأقل الوسائل، أو في إطار من التجهيزات و المعدات الهزيلة و الضعيفة، و قد يتحملون الظروف الصعبة..إذا شعروا بالرضا و الاطمئنان.أما إذا شعروا أن الحكومة تنفق أموالها في شراء مشتريات لا طائل منها- و مع ذلك تتجاهل حقوقهم- فلن يؤدوا الواجب الملقى على كواهلهم:و تصبح كل تلك المشتريات و السلع و الأشغال؛مجرد "خردة" و " مباني للاشباح".
[8]  مما يؤسف له، أن المشرع قصر هذا النوع من الرقابة، على الصفقات الكبيرة، التي يتجاوز ثمنها (خمسة ملايين)، بالنسبة للصفقات التي تبرم وفق طريقة "طلبات العروض"، و ثمن "مليونّدرهم للصفقات التفاوضية.
[9]   كان الأولى بالمشرع أن يأخذ بتوصية المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، الواردة في تقريره الذذي أشرناا إليه أعلاه، و ألا يكتفي بمنع تنازع المصالح، بل أن يلزم المعنيين بالصفقة، بالإبلاغ عن كل احتمال لوقوع تنازع للمصالح من شأنه إعطاء الامتياز لمترشح معين.كما كان من الأفضل كذلك إلزام صاحب المشروع، و/أو كل شخص معني، أن يتخذ في حال وجود احتمال لتنازع المصالح، الإجراءات الوقائية التي يراها ضرورية و كافية، و يخبر بها العموم ( عبر البوابة  على الخصوص)، و تحديد المشترين.
[10]  و في الواقع، إن محاولات كهذه يعاقب عليها القانون الجنائي، كما رأينا، عند حديثنا عن مصادر النظام القانوني للصفقات العمومية.و بالمناسبة، و الشيء بالشيء يذكر، لقد  حان الوقت لتحيين القانون الجنائي، حتى يتلاءم مع قانون الصفقات.
[11]  كان الأولى أن يعمم المشرع هذا الإجراء، على جميع الصفقات مهما كان حجمها، فكل درهم ينفق هو مال عام، و هو جدير بالحماية..ثم ما هو المليون درهم..إنه درهم زائد درهم زائد درهم..قطرة و قطرة..و يصبح عندنا نهر من الأموال.
[12]  الذين قد يتفقوا مع واحد منهم، على تقديم عروض غير ملائمة،أو ينسحبوا من التنافس، مقابل أن يمنحهم، عندما ينال الصفقة، جزءا من " الكعكة" التي فاز بها.
[13]  "[...] لا يعترف صاحب المشروع بأية علاقة قانونية له مع المتعاقدين من الباطن.."( الفقرة قبل الأخيرة من المادة 158).
[14]   أحدثت " المديرية المركزية لتزويد الإدارات العمومية"(D.C.A.A.P)، تحت وصاية وزارة المالية، بمقتضى المرسوم الملكي رقم 65.233، الصادر في 17 يوليوز 1965،فأناط بها مهمة جمع و توحيد سائر العمليات الرامية إلى تزويد الوزارات و المؤسسات العمومية، التي تتولى هذه الوزارات الوصية عليها، المواد و الأدوات و الأثاث الخاص بالمكتب، لتحذو في هذا الشأن حذو إدارة الجيش، الذي يتوفر على مصلحة خاصة تسهر على الشراء و التوزيع، كما جاء ذلك في الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة يوم 07 يونيو 1965.
و يندرج إحداث هذه المديرية، في إطار الجهود التي بذلن لإخراج المغرب من الأزمة الاقتصادية و المالية التي عرفها سنة 1964، بسبب تراكم عجز الميزانية ، التي كانت نفقات التسيير فيها، تمثل 79% من مجموع النفقات"" .
و لقد تميزت تجربة هذه المديرية، باختلالات كبيرة أدت إلى فشلها.ولعل من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ذلك الفشل، السبب الذي أشرنا إليه في المتن، و المتمثل في عدم رضى المصالح الوزارية عن طريقة عمل هذه المديرية، و التي كانوا يعتبرونها أسلوبا للحد من استقلالهم المالي لفائدة وزارة المالية، مما حدا بهم، أحيانا، إلى اقتناء مشترياتهم بواسطة ميزانيات المصالح الخارجية، التي لم تكن تشملها مقتضيات المرسوم الملكي 65.233 الملغى بظهير شريف رقم 1.73.655 بتاريخ 11 ماي 1974(ج.ر عدد 3214).راجع:محمد الفقير- المديرية المركزية لتزويد الإدارات العمومية- معلمة المغرب- الطبعة الثانية- المجلد 25- ص 275( و من مراجع هذا المقال، بحث كان قد أنجزه عبد الرحيم بنونة، حول تجربة هذه المديرية).

كيف تدرس؟ الطرق التي تساعدك على الفهم و الحفظ و تقوي ذاكرتك و تنظيم أوقات المراجعة و الراحة


كيف تدرس؟ الطرق التي تساعدك على الفهم و الحفظ و تقوي ذاكرتك و تنظيم أوقات المراجعة و الراحة..

كيف تدرس؟
(الجزء الرابع)

16- استخدم بعض الحيل و الطرق المساعدة للذاكرة.يصعب على الإنسان أحيانا حفظ بعض الأمور التي لا غنى له عن حفظها، كما يصعب عليه أحيانا أخرى حصر بعض الأمور التي يترتب عليه حفظها و حصرها، و حينئذ يكون من المناسب أن يبحث عن حيلة أو طريقة تساعده على حفظ ما يريد حفظهن و حصر ما ينبغي حصره.
و هذه الحيل كثيرة متنوعة، تختلف من درس إلى درس، و من مادة إلى أخرى، و من شخص إلى شخص.و بعض هذه الحيل أوجدها لنا القدامى، و يقدمها لنا المعلمون، و من المفيد في بعض الأحيان، على الأقل، أن نلجأ إليها، لنستفيد منها.و مثال ذلك، ما يقدمه لنا النحاة و معلمو اللغة، من أجروميات [ طرق لتبسّط النحو، و جعله في متناول الطلاب]، وكلمات تجمع القواعد الضرورية،أو تحصر الحروف العديدة التي لا بد من حفظها.وهكذا، يعلمنا أساتذتنا أن كل جمع مؤنث[ لأن كل جمع يجوز تأنيثه إلا جمع المذكر السالم]، بتحفيظنا البيت التالي:
إن قومي تجمعوا و بقتلي تحدثوا*********** لا أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث
كما يعلموننا حروف المضارعة، و يحصرونها لنا في كلمة (أنيت)، إلى آخر ما عندهم من طرق تساعد الطالب على الحفظ و التذكر.

على أن الطالب، لا يستغني أحيانا عن استنباط مثل هذه الحيل لنفسه، و اللجوء إليها في حفظه، و تذكيره لبعض القواعد و حصر بعض الأمور.
17- و هذا يوصلنا غلى قاعدة هامة جدا في الدرس و الحفظ، و هي وجوب عمل الطالب على استنباط الطرق و المناهج التي توافقه في درسه و حفظه، أكثر من غيرها.فالناس مختلف بعضهم عن بعض في كل شيء، في الجسد و النفس، في الفعل و العاطفة، في الذكاء و القدرات، في العادات و طرق العيش، و من المعقول ، تبعا لذلك، أن تختلف طرائقهم في الدرس و الحفظ و التذكير.ثم إنه من المعقول أيضا، أن تكون بعض القواعد أو الطرائق المفيدة لفلان من الناس، مضرة لفلان الآخر، أو أقل فائدة له.ولذلك كان لا بد للطالب من أن يكوّن لنفسه عاداته الفردية الخاصة في الدرس و الحفظ و التذكير، مستعينا فقط، بالقواعد العامة.على أنه، لا بد للطالب الذكي، من عدم الاقتصار على الصدفة و الاعتباط في تبني طرائقه الخاصة، و مناهجه الفردية، بل لا بد له من التعرف على ذاته، و دراسة أحواله، و ملاحظة نفسه، و التعرف على ما يفيده و يضره، و ما يقدم له فائدة أكثر، و ما يعود عليه بنفع أعم، و ما يوفر له وقته وجهده، و كل ذلك قبل أن يتبنى هذه الطريقة دون غيرها، أو يتخذ هذا المنهج دون سواه.
و معنى هذا كله، أن على الطالب قبل أن يتبنى طرائقه النهائية في الدرس و الحفظ و التذكير، أن ينظر في نفسه، و أن يجرب، و أن ينتقي عن خبرة و عن قناعة.و قد يُحتج على هذا كله،بأن الإنسان حين يتبنى طرائقه في الدراسة و الحفظ، و بالتالي الاستدعاء و التذكير، يكون حدثا لا يميز و لا يجرب،و أنه لا يكاد يتقدم به السن، و يصبح قادرا على التمييز حتى تكون طرائقه قد أصبحت عادات و تبلورت، مما يجعل تغييرها أمرا شاقا عسيرا، و أنه لذلك يجب أن يكون من عمل المعلم أن يعلم الطفل كيف يدرس و يحفظ و يتذكر، و أن يساعده على انتخاب طرائقه الخاصة، و تبني مفاهيمه الفردية.
و أنا، مع اعترافي بوجاهة هذا الاعتراض، أحب أن أؤكد لطلابنا أن في استطاعة الواحد منهم، مهما تقدم به السن، و حين تتوافر فيه الإرادة الحقة و الرغبة الأكيدة، أقول إن في استطاعة الواحد منهم، أن يعيد النظر في طرائقه، و أن يميز بين الصالح و الطالح، و أن يحتفظ بالصالح و ينبذ الطالح، و أن يعدل طرائقه من جديد.

18- لا تلجأ إلى التغيب [غَيْبًا:استظهاراً،عن ظهر القلب:"قرأ الكتاب غيبا"] إلا حين لا يكون من ذلك بد.أما المقصود بالتغيب، فالحفظ عن ظهر قلب و كلمة كلمة، أو قل (الصم) أو (البصم) كما يسميه بعض طلابنا.إن هذا النوع من الحفظ مضر جدا، و النسيان أسرع إليه من غيره، أما الفهم و الاحتفاظ بالأفكار الرئيسية فأمر أيسر، ومدة بقائه أطول.و أنا أعلم علم اليقين أن بعض طلابنا لا يستطيعون أن يحفظوا إلا هذا النوع من الحفظ، و لذلك فهم يجدون صعوبة بالغة في الحفظ، إلا إذا غيبوا الأفكار عن ظهر قلب.إن السبب في ذلك، هو أنهم اعتادوا هذا الأمر منذ صغرهم، فأصبح عادة.و العادة، كما يقال، طبيعة ثانية.و لكني أحب أن أؤكد لهؤلاء أنه ، بالرغم من صعوبة تغيير هذه العادة، فليس الأمر مستحيلا.كما أحب أن أؤكد لهم، أنه إذا كان في إمكانهم الاعتماد على هذا النوع من الحفظ في المدرسة الابتدائية، فإن الاعتماد عليه صعب في المدرسة الثانوية،مستحيل في الجامعة.
كما أحب أن أذكركم، بأن الذي يحفظ المعلومات عن ظهر قلب، لا يستطيع أن يتصرف بها ويستعملها و يستفيد منها، تصرف الذي يفهمها استعماله لها.و أخيرا، أحب أن أؤكد لهم أن التجارب العلمية، أجمعت على أن النسيان يتطرق إلى ما فهمت بمقدار أقل بكثير من تطرقه إلى ما حفظته دون فهم.


و أن المعلومات التي تصبها في قوالبك الشخصية، و يتمثلها عقلك، تصبح ملكك الشخصي، بخلاف المعلومات التي تحفظها بنصها، و التي تشعر أنها أشبه ما تكون بالثوب المُعار.وقديما قيل ، الثوب المعار لا يدوم، و إن دام فإنه لا يشعر بالدفء.على أني لا أحب أن يفهم الطالب، أني أقول بعدم تغيب أي شيء.إن هذا أمر مستحيل طبعا، و غير مفيد حتما.إن ثمة دساتير و قوانين و أقوالا مأثورة و أشعارا و آيات لا غنى لك عن حفظها عن ظهر قلب.
19- اترك أوقاتا للراحة بين فترات الدرس.لنفرض أنك خصصت عشر ساعات لدراسة مادة لدراسة مادة من المواد، فكيف تصرف هذه الساعات العشر؟ هل تصرفها في جلسة واحدة تدوم عشر ساعات؟ أم الأفيد أن تقضيها في جلستين، مدة الواحدة منهما خمس ساعات، تفصل بينهما فترة راحة؟ أم الأحسن أن تقسمها إلى أقسام ثلاثة متساوية، تفصل بينها فترتان للراحة ؟ أم ماذا؟
الحق إن الجواب على هذا السؤال، يقتضي ضبط شروط عديدة، منها مثلا نوع المادة المدروسة، و منها سن الطالب الذي يدرس، و منها عاداته في الدراسة، و غير ذلك من العوامل.ولكن المبدأ السليم في كل حال من الأحوال، هو أن الأنسب أن تقسم الساعات العشر على عدد من الفترات.و أن طول هذه الفترات يجب أن يكون معتدلا و وافيا بالغرض، فلا يكون قصيرا بحيث لا يستطيع المتعلم أن يلم بجزء كامل من الموضوع، و لا يكون طويلا بحيث يبعث الملل و السأم في نفس الطالب.و بالمناسبة، أحب أن أذكر الطالب بحقيقة هامة جدا، و هي أن التعب يختلط أحيانا بالملل، فيخيل للطالب أنه تعب مع  أنه ملاّن لا أكثر و لا أقل.و معنى هذا، يكفي أحيانا أن يغير الطالب الموضوع الذي يدرسه، حتى يستعيد نشاطه و حيويته.
ثم إن هذه الفواصل- فواصل الراحة- تساعد على إنضاج ما تعلمناه، و تعاون في استقراره في النفس، و رسوخه في الذهن.أما إدخال المعلومات على المعلومات- لا سيما حين تكون من نوع واحد- فكثيرا ما ينتهي بالتشويش- كتشويش ذهن المتعلم- و يعيق التعلم بدلا من أن يساعد عليه.
20- اجعل مراجعاتك في فترات متقطعة.إن ما قلناه عن وجوب تخلل فترات الراحة أوقات الدرس، صحيح فيما يخص فترات المراجعة.و معنى هذا أنه من الأنسب للطالب أن يترك بين مراجعة و أخرى فترة من الزمن ، تستقر المعلومات خلالها في الذهن، و تثبت فيه.و من الحقائق الثابتة أن المراجعة الأولى، يجب أن تعقب الدرس بعد فترة قصيرة،ثم تتباعد فترات المراجعة، ذلك أن التجارب العلمية برهنت، بما لا يقبل الجدل، على أن النسيان إنما أكثر ما يحصل بعد الحفظ بفترة قصيرة، ثم تقل نسبته (أي نسبة النسيان) حتى تثبت.و لذلك كان من الأهمية بمكان عظيم أن تكون مراجعتك الأولى لما درسته ، بعد فترة قصيرة من درسه، لا تتجاوز اليوم الواحد،ثم تعود إليه بعد فترات أطول.هذا، و لا أنسى أن أشير إلى حقيقة أخرى، برهن علم النفس على صحتها، و هي أن مقدار النسيان يتناسب عكسيا مع مقدار إتقان الحفظ، فالذي يحسن الحفظ و يبالغ فيه، مبالغة معقولة، ينسى، في المعتاد، أقل من الذي يكون حفظه ناقصا، و تثبيته سطحيا.

الخميس، 21 مايو 2020



دروس الصفقات العمومية
(توقفت هذه الدروس،لأسباب خارجة عن إرادتنا..فاغتنمناها فرصة لإعادة صياغة بعض المباحث..بما فيه مصلحة الطلبة، طبعا..و ها نحن نعود لنواصل المسير..و بالله التوفيق)

المبحث الثالث :مبدءا حرية المنافسة والمساواة في معاملة المتنافسين
يعتبر مبدأ المساواة بين المواطنين ( أمام القانون، و أمام الوظيفة العمومية، و في الانتفاع و استعمال المرافق العامة، ..)، من المبادئ العامة المنصوص عليها في كل دساتير العالم، و مواثيق حقوق الإنسان العالمية و الإقليمية و المحلية، و في القوانين العادية و المعاهدات..إلخ.
و لقد تكرس هذا المبدأ في مجال الصفقات العمومية، و لم يعد يثير أي نقاش.بل امتد هذا الحق من المواطنين إلى كل الناس، حتى الأجانب، كما مرّ معنا في الفصل السابق.
فلقد أصبح تحقيق المساواة بين جميع المتنافسين الصفقات العامة، مهما كانت جنسياتهم، إحدى حقوق الإنسان التي تؤكد عليها وثائق الأمم المتحدة، و/ أو المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة أو  غيرها من المنظمات المهنية أو الجهوية الأخرى: كصندوق النقد و البنك الدوليين، و منظمة التجارة العالمية، و غرفة التجارة الدولية، و منظمة التعاون و التنمية الاقتصادية (OECD)..و غيرها.
و هذا المبدأ لا يمكن أن يتحقق في الواقع، إلا إذا تحقق إلى جانبه مبدأ آخر، ألا و هو مبدأ "حرية المنافسة"، أو " حرية الولوج إلى الطلبية العمومية":فيجب أن يكون هناك أولا حرية في التنافس، ثم بعد ذلك نحرص على تحقيق المساواة بين المتنافسين، أما إذا أغلقت المنافسة في وجه البعض دون البعض الآخر، ففي ذلك اعتداء على مبدأ المساواة،أولا، بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من " السعي" لتحقيق مساواة صورية"، بين "متنافسين" قد لا يكونوا مؤهلين للتنافس أصلا، مما يلحق ضررا كبيرا بالطلبية العامة.
و من هنا، فنحن نرى أن مبدئي " حرية المنافسة أو حرية الولوج إلى الطلبية العامة" و مبدأ" المساواة في معاملة المتنافسين"، مبدئين متكاملين، بل هما وجهان لعملة واحدة، و الحديث عن أحدهما يكاد يغني عن الآخر.
و المشرع المغربي، على غرار الكثير من المشرعين، اعتبر أن التنافس على نيل الصفقات العمومية يجب أن يؤسس على المنافسة الحرة في أوسع أوجهها، بين متنافسين متساوين في الولوج إلى الطلبية العمومية، و من ثم في المعاملة التي ينبغي أن يحظوا بها من طرف  الإدارة صاحبة الصفقة.
و من خلال هذا المنظور الذي يتوخى تنظيم الصفقات العمومية، بوساطة المنافسة الواسعة، مع ضمان المساواة بين المترشحين (المتنافسين)، و احترام التوازن في العلاقات بينهم و بين الإدارة ، صارت قوانين الصفقات العمومية، بما فيها القانون المغربي، تتضمن مقتضيات تضمن إشراك أكبر عدد ممكن من المتنافسين المعنيين بالصفقة، مع طمأنتهم بأنهم سيعاملون على قدم المساواة؛ ليس فقط لأن ذلك تفرضه المبادئ العامة للقوانين في الدول المتحضرة،بل لأنه أيضا يصب في مصلحة للإدارة نفسها؛إذ يوفر لها الفرصة لاختيار أفضل العروض الممكنة( أو المتاحة في السوق:في مكان و زمان معينين).
لكل هذه الأسباب، لم يعد مستساغا و لا مقبولا أن يستبعد المشتري العمومي (الإدارة)، أي شخص طبيعي أو معنوي (عام أو خاص، وطني أو أجنبي)، يتقدم للمشاركة في صفقة عمومية، دون سبب شرعي ينص عليه القانون.و هذا ما استقرت عليه القوانين المعاصرة، بل هو ما استقر عليه القضاء الإداري أيضا، الذي صار يؤكد على :
1- يجب على المشتري العمومي( الإدارة)، أن يوفر أجواء الحرية، التي تسهل على المتنافسين ولوج الطلبيات العمومية: و يندرج ضمن هذا المبدأ، عدم أحقية صاحب المشروع(Le maitre d'ouvrage)،في أن يمنع مقاولة من المقاولات، في ولوج الطلبية العامة، لمجرد نزاع بينهما، اللهم إلا إذا كان ذلك النزاع قد ترتب عنه المنع المؤقت أو الدائم للمقاولة، من طرف السلطة المختصة (تطبيقا لمقتضيت المادة 138)؛
2- يجب على المشتري، تحقيق المساواة، بين جميع المتنافسين، أمام الشروط التي تطلب الإدارة استيفاءها للمشاركة في التنافس على صفقة عمومية، و من ثم نيلها:فلا يمنح أحد المتنافسين امتيازات أو تسهيلات أكثر من الآخري،فلا يسمح له مثلا أن يقدم ملفا للترشح غير مستوف للشروط، أو يقدم هذا الملف خارج الآجال، أو يسمح له بتعديل عرضه بعد فتح الأظرفة، أو ما شابه ؛
3- إن الشروط التي يضعها المشتري العمومية، يجب أن تكون قانونية، بل ويجب أن تجد تبريرها في موضوع الصفقة:فطبيعة الصفقة، قد تسمح لصاحب المشروع، أن يجعل عدد المتنافسين محدودا؛
4- و من ثم فإن الشروط التي يضعها المشتري العمومي، المبالغ فيها أو التي تستهدف إبعاد بعض المترشحين،بدعوى عدم توافرهم على مؤهلات مهنية معينة أو قدرات تقنية، مثلا،يلغيها القاضي الإداري؛
5- و بالتالي،فإذا توافرت الشروط في المتنافس،أيا كان، امتنع على الإدارة إعمال سلطتها التقديرية في استبعاده من الصفقة:بمعنى أن تقدير مؤهلات المترشحين لنيل الصفقة، لا تتم إلا على أساس الوثائق التي تتضمنها ملفاتهم فقط، و من ثم فتفضيل أحد أو بعض العروض على بعض، لا يم إلا على أساس المقترحات المضمنة في كل عرض.
هذا إذا نظرنا إلى المساواة من الناحية القانونية،التي تقضي بأن تكون الإدارة على مسافة واحدة، من جميع المترشحين، حتى تتاح لهم ، على قدم المساواة، حظوظا و فرصا متساوية، للولوج إلى الصفقة، و نيلها.
 و هناك اعتبارات أخرى اقتصادية ، تشجع، لا شك، على الأخذ بمبدأ المساواة،و تتعلق بالاستعمال الأمثل للمال العام؛إذ لا يمكن بلوغ أفضل النتائج في استعمال المال العام؛ إلا إذا شُرِّعت الأبواب على مصراعيها ، أمام جميع المتنافسين على قدم المساواة، مهما كان أصلهم ، حتى يشاركوا بعروضهم: فبهذه الطريقة،يصبح صاحب المشروع ملما بظروف العرض كلها، و بالثمن الذي يطلبه مختلف البائعين،هذا من جهة. و من جهة أخرى، فإن المتنافسين المعنيين بالصفقة، يصبحون كلهم، أو معظمهم، في ظل هذه المنافسة المفتوحة، على علم بكل الطلبيات العمومية التي تهمهم، و بالأثمان التي قد تدفعها الإدارات العمومية للحصول عليها، فيضعون الخطط للاستفادة منها ( في الحال، أو في المستقبل).
و لتحقيق منافسة فعالة، من هذا النوع، نص المرسوم بمثابة قانون تنظيمي للصفقات العمومية،على حزمة من الإجراءات من أهمها:
أ- من حيث المبدأ العام ( المادة 24)، يحق لكل شخص طبيعي أو معنوي، أن يشارك بصفة صحيحة و أن ينال الصفقة العمومية، في إطار المساطر المقررة في القانون، إذا هو أثبت توفره على المؤهلات التقنية، و المالية، المطلوبة لذلك.و كان، بالإضافة إلى ذلك ،في وضعية قانونية سليمة إزاء إدارة الضرائب، و إزاء هيئات الضمان الاجتماعي.و لم يكن في حالة تصفية أو تسوية قضائية ( ماعدا في حالة ترخيص خاص)، أو في حالة إقصاء إداري[1]  أو قضائي (مؤقت أو نهائي)[2]؛
ب- لقد حرص المشرع على إشراك كل المترشحين للصفقات، على قدم المساواة، و يتجلى ذلك من خلال حرصه على الإعلان عن الصفقات بكل السبل المتاحة، حتى يعبئ كل الطاقات الممكنة: فنص على ضرورة الإعلان عنها في عدد من الجرائد( و على رأسها الجريدة الرسمية )، و في البوابات( المنصات) الإلكترونية، و في الدوريات(مجلات..) و النشرات المتخصصة، و بأية وسيلة أخرى للإشهار ( المادة 20)؛
ت-كما أنه من بين الوسائل التي استحثها مشرع مرسوم 2013،في مجال تحسين المنافسة، آلية " طلب إبداء الاهتمام"..و التي تمكن صاحب المشروع من معرفة المتنافسين المحتملين قبل الشروع في الدعوة إلى المنافسة:و بالتالي يمكن للإدارة أن توسع مجال التنافس، و بالتالي تستفيد من كل الفرص و الخيارات و الإمكانيات المتاحة في السوق المحلي أو الوطني أو الدولي،حسب الأحوال؛
ث-كما أن القانون ألزم صاحب المشروع بأن يحدد الأسس الموضوعية التي على أساسها سيتم اختيار " نائل الصفقة" ؛ بطريقة محايدة و موضوعية( حتى لا يتم وضعها على مقاس أحد المتنافسين، أو إخدى العروض..). و ألزمه ، كذلك، بالإعلان عن هذه الأسس أو المعايير، منذ البداية ( في الإعلان، أو نظام الاستشارة،أو دفتر التحملات الخاص بالصفقة..) و بذلك تكون هذه الأسس و المعايير معروفة سلفا عند جميع المتنافسين، دون تمييز بينهم:ففي الصفقات من نوع " طلب العروض المفتوح"، مثلا، يكون صاحب المشروع مطالبا بوضع " نظام للاستشارة"، يبين فيه "..على الخصوص ، من ضمن ما يبين، مقاييس قبول المتنافسين و إسناد الصفقة، و يجب أن تكون هذه المقاييس موضوعية و غير تميزية، و متناسبة مع محتوى[ موضوع] الأعمال[ أشغال، أو توريدات، أو خدمات].."( المادة 18)( و يحق لكل مترشح يرغب في التنافس لنيل الصفقة، الحصول على نظام الاستشارة، و الاستفسارة عن كل مسألة واردة فيه..)؛
ث- و يدخل في هذا السياق أيضا، الحياد الذي يجب أن يتحلى به صاحب المشروع، عند تحديد مواصفات و خصائص المشتريات ، التي يريد اقتناءها، إذ يجب أن يتجنب الإشارة إلى أي نوع، أو صنف بعينه ( من السلع أو المعدات أو التجهيزات..)، أو يحدد علامات تجارية، أو يشترط مواصفات لا تنطبق إلا على علامات( ماركات) تجارية معينة[3].يقول المشرع( المادة 5):"..يجب ألا تشير المواصفات إلى أية علامة تجارية أو إحالات على مصنف مواد أو تسمية أو براءة أو مفهوم أو نوع أو مصدر أو منتجين معينين إلا في حالة عدم وجود أية وسيلة أخرى كافية الدقة و الوضوح لوصف مميزات الأعمال المطلوبة، و بشرط أن تكون التسمية المستعملة مقرونة بعبارة أو ما يعادلها.."؛
ج- و إذا كان صاحب المشروع، من حيث المبدأ، حر في اختيار طريقة إبرام الصفقة، إلا مرسوم 2013،  قيد من هذه الحرية، وجل اللجوء إلى المساطر الاستثنائية(كالمسطرة التفاوضية) أمرا صعبا، حفاظا على حرية المنافسة؛
ح- و في إطار تحقيق المساواة بين المتنافسين، ألزم المشرع صاحب المشروع بأن يوفر للمتنافسين المعلومات على قدم المساواة، في كل مراحل إعدادهم لعروضهم.فكل معلومة أو توضيح، يقدم إلى أحد المتنافسين- بطلبه- يجب أن يُبلّغ إلى باقي المتنافسين ( و هذه جزئية أشرنا إليها في المبحث السابق، لأن ذلك هو مكانها المناسب، و لكنها خليقة بأن تذكر هنا أيضا لعلاقتها بالموضوع).
و مع كل هذا، إلا أنه لا يجب أخذ مفهوم حرية المنافسة، أو مبدأ المساواة بين المتنافسين، بمعناه المطلق، إذ أن المشرع حد من هذه الحرية، و أخذ بمفهوم " التمييز الإيجابي أو التفضيلي"(La discrimination positive)، لفائدة بعض المقاولات الوطنية، لاسيما الصغرى و المتوسطة:
 1- ففي إطار جعل الصفقات العمومية رافعة استراتيجية للتنمية،جاء مرسوم 2013، بمجموعة من الإجراءات الداعمة للمقاولات  الصغرى و المتوسطة، لتشجيعها على ولوج الطلبيات العمومية، و ذلك من خلال التنصيص على تخصيص(20% ) من الاعتمادات المالية المتوقع إنفاقها في الصفقات العامة، كل سنة مالية، لفائدة المقاولات الوطنية المتوسطة و الصغيرة( المادة 156).ليس هذا فقط،بل لضمان هذا التخصيص ، فقد فرض على صاحب المشروع، أن يحدد بالضبط، في البرنامج التوقعي السنوي، الصفقات التي سوف يخصصها للمقاولات الصغرى و المتوسطة .و أن يؤكد كل ذلك، من خلال مضمون الإعلان عن طلب المنافسة  و كذا نظام الاستشارة، أن الصفقة مخصصة للمقاولات الصغرى و المتوسطة( و من ثم،يصبح المتنافسون ملزمون أن يبيون في الوثائق التي يدلون بها ، انهم استوفوا هذا الشرط)[4].
2- من الأمثلة الأخرى التي يمكننا أن نسوقها هنا، للتدليل على نسبية " مبدأ المساواة أو حرية المنافسة"، التمييز التفضيلي الذي يسمح به القانون لفائدة المقاولات الوطنية، في حدود معينة.و بالفعل،فلقد منح المشرع المغربي بمقتضى (المادة155)، للمقاولة الوطنية حق الأفضلية على المقاولات  الأجنبية، و ذلك في الصفقات المتعلقة بالأشغال و الدراسات المرتبطة بها:فعندما تلاحظ لجنة طلب العروض أو لجنة المباراة، أن العرض المقدم من مقاولة مغربية يتساوى من حيث المواصفات المطلوبة،مع مقاولة أجنبية،تعطى الأفضليية للعرض المغربي، و ذلك بإضافة نسبة لا تتعدى( 15%) إلى مبلغ العرض الأجنبي[5]؛فيصبح بذلك العرض الأجنبي أكبر كلفة- و كأن المقاولة الأجنبية أضافت إلى الثمن الذي تطلبه لإنجاز الصفقة( 15%) من الثمن الأصلي المقترح[6]. و لا شك أن هذا يتنافى مع مفهوم حرية المنافسة، و مبدأ المساواة أمام الطلبية العمومية كذلك، إلا أن الكثير من القوانين تسمح بهذا الإجراء لتشجيع المقاولات الوطنية،و مساعدتها على ولوج للصفقات العمومية،في إطار نوع من إعادة التوازن بين كفتي المقاولة الوطنية و الأجنبية ، و تشجيع استهلاك المنتوج الوطني..و محاربة البطالة..إلخ.



[1]  تضع الإدارة "قوائم سوداء"، بأسماء بعض المقاولات الفردية أو الشركات، التي سبق لها نيل صفقة من الصفقات، و لم تحترم التزاماتها؛ و بالتالي تقرر عدم التعامل معها في المستقبل، و لا تفسح لها المجال للمشاركة في المنافسات على الصفقات التي تنوي إبرامها.
للاسف أن كل إدارة( وارة، أو مؤسسة عمومية، أو جماعة محلية)، تضع قوائم خاصة بها، في حين ينبغي التنسيق بين مختلف الإدارات، و تبادل المعلومات، لمحاصرة هذه المقاولات " الخارجة على القانون"، و القضاء عليها، و في ذلك، لا شك، حماية للمال العام، و تخليق للأجواء المحيطة بالصفقات العمومية.
[2]  و إن كان المترشح مهندسا، يرغب في الترشح لنيل صفقة من صفقات الهندسة المعمارية، فيجب ألا يكون قد صدر في حقه عقوبة سحب الترخيص أو عقوبة توقيف مزاولة المهنة ( المواد 96 و ما بعدها).
[3]  حتى لا يتم " تفصيل" تلك المواصفات و الخصائص على ما يعرضه أحد المتنافسين في ملفه ( الذي قد يكون متواطئا مع أحد المسؤولين أو أكثر، من السياسيين أو الإداريين، الذين لهم سلطة على إسناد الصفقة)
[4]  كما منح المشرع المغربي لصاحب المشروع إمكانية التنصيص في نظام الاستشارة أو في دفتر الشروط الخاصة، على إلزام المقاولة الأجنبية نائلة الصفقة،إذا قررت الاستعانة بمقاولة أخرى لإنجاز جزء من الصفقة، في إطار التعاقد من الباطن، باختيار مقاولة صغرى أو متوسطة وطنية( سنتحدث عن التعاقد من الباطن، في سياق حديثنا عن التنفيذ).

[5]  هذه النسبة يجب أن تحددها الإدارة صاحبة الصفقة، في نظام الاستشارة المتعلق بإبرام الصفقة.و في حالة عدم ذكر هذه النسبة في نظام الاستشارة، فإن المسطرة تتم دون أي تمييز تفضيلي لمصلحة المقاولات الوطنية (المادة 155).
[6]  هذه النسبة تطبق على حصة المقاولة الأجنبية، حتى في حالة مشاركتها في الصفقة، في إطار تجمع مع شركات أو مقاولات وطنية (المادة 155).

كيف تدرس؟ أفضل الطرق للحفظ، بحفظ الكل، و باستعمال الذاكرتين البصرية و السمعية،و الحفظ بصوت عال، و الاستعانة بالربط بين الدروس

كيف تدرس؟ أفضل الطرق للحفظ، حفظ الكل، و باستعمال الذاكرتين البصرية و السمعية،و الحفظ بصوت عال، و الاستعانة بالربط بين الدروس

كيف تدرس؟
(الجزء الثالث)
11- الجأ في الدرس و الحفظ إلى طريقة الكل، لا إلى طريقة الأجزاء، و معنى هذا أن تلجأ حين تدرس موضوعا من المواضيع، إلى قراءته كله، و فهمه بمجموعه.ثم تحفظه، حين تحفظه، بكليته دفعة واحدة.لنفرض أنك تحاول حفظ قصيدة من القصائد.ابدأ أولا بقراءتها كلها، و فهم معانيها، و إدراك أجزائها.و لنفرض أنها تبدأ بالغزل، ثم تنتقل إلى الفخر، و تنتهي ، أخيرا، بالهجاء.و حينئذ أنصحك بألا تحفظها على الطريقة القديمة، و ذلك بأن تحفظها شطرا شطرا، ثم بيتا بيتا؛ بل أنصحك بأن تحفظ القسم الغزلي بكامله دفعة واحدة، و كذلك القسم الفخري و الهجائي[ وحدة الموضوع تخلق روابط بين الأبيات]،بشرط ألا تكون هذه الأقسام أطول من اللازم:و لقد برهنت البحوث العلمية بأجمعها، على أن هذا النوع من الحفظ، أكثر اقتصادا في الوقت و الجهد.كما برهنت على أنه أبقى في الذهن و أثبت في الذاكرة.و إذا كان الأمر صعبا عليك بعض الشيء، فيما يخص الاستظهار[الحفظ عن ظهر قلب]،و ذلك على اعتبارك قد اعتدت هذا النوع من الحفظ في الماضي، فحاوله في الدروس الأخرى، حاوله في كل المواضيع التي تحتاج للحفظ، حاول أن تحفظ هذه المواضيع، بكليتها لا بأجزائها، و ستجد حتما؛ أن هذه الطريقة أكثر فائدة و أجدى عائدة.
كيف تدرس؟ أفضل الطرق للحفظ، بحفظ الكل، و باستعمال الذاكرتين البصرية و السمعية،و الحفظ بصوت عال، و الاستعانة بالربط بين الدروس
المرحوم أ.د.فاخر عاقل(1918-2010)

12- طلبت إليك [ في ] نصيحة سابقة أن تربط بين الدرس الحاضر و الدروس السابقة، كما طلبت إليك أن تربط بين أجزاء الدرس الواحد، أما الآن فنصيحتي أن تكون الروابط التي تلجأ إليها من النوع الذي يفيدك في المستقبل.و معنى هذا، أن تلجأ أولا إلى الروابط الطبيعية المنطقية[ التي تجدها في الطبيعة ] ما أمكن، و أن تقلل الروابط الاصطناعية ما وسعك ذلك.و معناه، بعد ذلك، أن تستهدف في الروابط التي تلجأ إليها الحياة عامة، و الحياة المدرسية [الجامعية..] خاصة، و أن تأخذ بعين الاعتبار هاتين الحياتين و مطالبيهما.لنفرض أنك تدرس الفيزيولوجيا[ علم وظائف الأعضاء]، و لنفرض أنك تدرس إحساسا كالبصر؛ يجب أن تعلم أولا، أنه لا بد لكل إحساس من جوابذ أو خلايا عصبية حسية تتلقاه،ولا بد له ، بعد ذلك، من أعضاء تنقله، ولا بد أيضا من مركز في الدماغ، و أخيرا، ولا بد له من نابذ أو عضو حركة، يقوم برد الفعل.اربط إذن بين إحساس البصر، و بين القاعدة العامة [ التي تحدث عنها المؤلف للتو:لكل إحساس جابذ..و نابذ]، و تساءل ما هو الجابذ البصري و أين يوجد؟ إنه خلايا حسية موجودة في القرنية العينية.فما هي القرنية؟ و ماذا يحيط بها و يتصل من طبقات و أنسجة؟ و هناك بعد ذلك العصب البصري، فما هي صفاته؟ و هناك المركز البصري على القشرة الدماغية، ففي أي عضو هو؟..إلخ.و هناك، أخيرا، استجابتنا للمؤثر الضوئي، فكيف تحدث؟ و ما هي أجزاء العين التي تستخدم في هذه الاستجابة؟ و حاول، بعد ذلك- و أنت تدرس العين- أن تتلفت حولك، فترى عينيك و عيون الناس، و تستعين بعيون الحيوانات، ثم حاول ، أخيرا، أن تطبق دراستك على الحياة ، مستفيدا من دراستك في فهم آلية عينك و العناية بها.
13- حاول أن تكون روابطك عديدة متنوعة.إن تعدد الروابط و تنوعها مفيدان في التذكير، فإذا نسيت واحدا من هذه الروابط عدت إلى غيره، فساعدك على تذكر ما نسيت و إيضاح ما غمض عليك.و لنعد إلى مثلنا السابق، مثل دراستك العين، إن بإمكانك ألا تقتصر في دراسة العين على القواعد العامة التي تعرفها للحواس المختلفة، بل تضيف إلى ذلك ما تعلمته في الضوء، ولاسيما فيما يخص العدسات و آلات التصوير؛ ذلك أن العين تشبه آلة التصوير تماما. و دراسة العدسات و أنواعها، أساسية لفهم آلية العين في احددابها و تفلطحها ، لاستقبال النور الشديد أو الضعيف.ولا شك أن ربطك لمعلوماتك عن الضوء بدراستك للعين، مفيد في إيضاح الاثنين معا.كما أنه مفيد بتذكيرك بالحقائق الضرورية لك، و الخاصة بالعين.
14- كرر ما تريد حفظه بصوت عال، فإذا صح أن القراءة الصامتة أسرع و أكثر اقتصادا في الوقت و الجهد من القراءة الجهرية، فإنه صحيح ،لاشك فيه، أن القراءة الصامتة أقل فائدة في الحفظ و الاستظهار من القراءة الجهرية.و السبب في ذلك بسيط معقول، و هو أن القراءة الجهرية تشرك في الحفظ حاسة السمع، فتساعد بذلك على تثبيت المعلومات و إبقائها في الذهن مدة أطول و بشكل أضبط.و ليس هذا فحسب، بل إن عليك أن تُسمع نفسك ما تريد حفظه ،بصوت عال أيضا.
كيف تدرس؟ أفضل الطرق للحفظ، بحفظ الكل، و باستعمال الذاكرتين البصرية و السمعية،و الحفظ بصوت عال، و الاستعانة بالربط بين الدروس

إن بعض طلابنا يعتقدون أنه يكفي أن يستعرضوا في ذهنهم الفكرة أو الأفكار التي درسوا، حتى يحفظوها ، ولكنهم لا يكادون يحاولون تسميعها فعلا، حتى يجدوا أنها طارت من ذهنهم، ورد ذلك إلى أنهم لم يتمرنوا على تسميع ما يريدون بصوت جهوري عال.
15- استخدم ذاكرتك البصرية في الحفظ، يقول علماء النفس إن ثمة أنواعا من الذاكرة البصرية، و فيها يكون المعول على العين، و الذاكرة السمعية و تستخدم الأذن،ثم الذاكرة الشمية و الذوقية و الحركية و غيرها من الذاكرات.كما يقول علماء النفس، إن بعض الناس ميال للاعتماد على بصره أكثر من حواسه الأخرى، في حين أن البعض الآخر نزّاع للاعتماد على سمعه، و هكذا.
ثم يقولون بأن العين هي العضو الأهم، و أن فائدتها بالنسبة لمجموع الناس أكثر فائدة من الحواس الأخرى، و أن نسبة استخدامها أكبر من نسبة استخدام غيرها من الحواس.هذا رغم إجماعهم على أن الغالبية العظمى من الناس تعتمد على مجموع حواسها أكثر من اعتمادها على حاسة بعينها.و الملحوظ أن بعض الطلاب يعتمدون على الذاكرة السمعية أكثر من اللازم، و يهملون الاستفادة من ذاكرتهم البصرية، و لذلك فإننا نراهم عاجزين عن حفظ ما يريدون حفظه، إلا إذا رددوه بصوت عال و (سمّعوه لأنفسهم) على حد تعبيرهم.و لعل الأنكى من ذلك، أن أمثال هؤلاء الطلاب، يعجزون عن الاستفادة مما حفظوا، كما يعجزون عن تطبيقه إذا لم يرددوه بصوت مرتفع.و إني، و إن كنت لا أنكر قيمة الذاكرة السمعية،و لا أقول بعدم الاستفادة منها، لأدعو إلى استخدام الذاكرة البصرية، و الاستفادة منها، و الاعتماد عليها،و تعوّد القراءة الصامتة، و ترديد الأفكار أو الألفاظ في النفس،لاسيما و أن العلم قد برهن، بما لا يقبل الجدل، على أن القراءة الصامتة أدعى للفهم و الحفظ و التذكر، و أكثر اقتصادا في الجهد المبذول، و الوقت المصروف.
و إذن، اعتمد على عينيك، و على ذاكرتك البصرية، و ليكن جل اعتمادك عليهما، ولكن لا تتأخر عن الاستعانة بأُذنك و ذاكرتك السمعية، حين يكون ذلك ضروريا، و حين تريد المبالغة في الحفظ 
و الاطمئنان إلى التذكر.
***
و إلى اللقاء مع الجزء الرابع و الأخير، قريبا..إن شاء الله تعالى.

كيف تدرس؟ تعلم كيف تستدعي المعلومات من الذاكرة، و كيف تقرأ بغرض الفهم و الحفظ، و تعلم كيف أن التركيز أثناء القراءة يساعد على الفهم و الحفظ بأقل الجهود و في أقصر وقت


كيف تدرس؟ تعلم كيف تستدعي المعلومات من الذاكرة، و كيف تقرأ بغرض الفهم و الحفظ، و تعلم كيف أن التركيز أثناء القراءة يساعد على الفهم و الحفظ بأقل الجهود و في أقصر وقت

كيف تدرس؟
(الجزء الثاني)
6- اربط بين ما تحفظ و ما يساعدك على استدعائه و تذكره.و لتكن الروابط التي تلجأ إليها منطقية معقولة.إن بعض طلابنا يحفظون كثيرا من الحقائق، و لكنهم لا يعملون ، قاصدين واعين، على ربطها بما يساعد على تذكرها، فتكون النتيجة أن يعفي النسيان عليها، و أن تضيع جهود الطالب، و أن يتسرب إلى نفسه الشك في ذاكرته، مع أن السبب البسيط هو أن الطالب لم يعمل على بطها بما يذكره بها.لنفرض أنك تحفظ ارتفاع جبل من الجبال، فقارنه[اربطه] بجبل آخر،و أحفظ- إلى جانب حفظك مقدار علوه- مقدار زيادته في العلو في جبل آخر أنت متأكد من حفظك لعلوه.و لنفرض أنك تحفظ تاريخ موقعة حربية، فاربطها بموقعة حربية أخرى، و اذكر أنها وقعت بعدها أو قبلها، بكذا من السنين.و لنفرض أنك تحاول حفظ بعض الحقائق عن نبات، فاربطه ، إذن، بفصيلته، و قارنه بها، و تذكر وجوه شبهه بها، و وجوه اختلافه عنها.
7- ثق بذاكرتك.إن ثقتك بذاكرتك، و اعتمادك عليها، جديران بأن يساعداها في عملها،حريان بأن يثبتا الحقائق فيها، و أن يعيناها على تقديم هذه الحقائق حين الطلب.إن الكثيرين منا لا يثقون بذاكرتهم، و لا يعتمدون عليها، فيعمدون إلى كثرة الحفظ، و تكرار التعلم، فيتعودون عدم الحفظ، إلا إذا لجأوا إلى التكرار الكثير.و ليس هذا فحسب، بل إن عدم الثقة هذا، معناه استعداد مسبق للنسيان، أو عدم الحفظ.و هنا لا بد لب من التنبيه إلى أن حفظ الدروس و تذكرها، يخضع للعادة و قوانينها، خضوع غيرها.فإذا اعتاد الإنسان أن يحفظ من قراءة إلى قراءتين، و ثابر على ذلك، ساعدته عادته هذه  على التقليل من مرات التكرار في المستقبل، و أعانته على تذكر المضمون بجهد أقل.ولا بد لي ،بعد ذلك، من الإشارة إلى أهمية عامل الثقة، في عامة الشؤون المتصلة بالدرس و التسمّيع.إن الطالب الذي يثق بنفسه و قدرته و ذاكرته و كفاءاته، طالب مكتوب له أن ينجح، و أما الطالب الخائف و المتردد، الذي لا يثق بنفسه و قدرته و كفاءاته، فطالب محتوم عليه أن يفشل مهما درس و حفظ و جاهد.
8- اقرأ بغية أن تحفظ و أن تذّكر.يتخذ بعض الطلاب من الدروس موقفا فيه كثير من اللامبالاة. إنهم يقرؤون دروسهم قراءتهم لرواية أو مجلة، و إذا صحّ أن في قراءة المجلة لذة و متعة، فإنه صحيح أيضا أن الإنسان لا يقرأ الرواية ليحفظها و يذّكرها- إلا في أحوال نادرة-، و لا يتصفح المجلة بنيّة أن يحتفظ بما فيها، و يستخدمه في المستقبل.و إنما يقرأ الرواية للتسلية، و يتصفح المجلة لتمضية الوقت.و ليس هذا هو الحال بالنسبة للدروس التي يجب أن يقرأها الطالب ليحفظها و يتذكرها، و يستفيد منها في حياته المقبلة.
هذا، و أحب أن أنبّه هنا، إلى أن الفرق الموجود بين مجرد الفهم من جهة، و الحفظ و التذكر من جهة أخرى.نعم إن الفهم أساسي و ضروري في الحفظ و التذكر، و لكن الفهم غير كاف وحده للحفظ و التذكر، و لا بد للمتعلم من أن يبذل جهدا إضافيا كي يحفظ و يتذكر في المستقبل.إذن، اقرأ لتفهم أولا، و إذا فهمت، قرأت لتحفظ ثانيا، و لكي تحتفظ بما حفظت للمستقبل، فتذكره عند الحاجة ثالثا.
9- و يتصل بالنصيحة السابقة، نصيحة أخرى، و هي:حاول الحفظ و التذكر و أنت تدرس.معلوم أن بعض طلابنا، يعتقدون أن مجرد القراءة و التكرار، كفيلان بالتثبيت و التذكر.و الواقع، أن هذا خطأ، فلا يكفي أن تقرأ كي تحفظ، كما لا يكفي أن تحفظ كي تتذكر.إن عليك، و أنت تقرأ، أن تقف عند الأفكار الرئيسية ، و تعمل على تثبيتها في ذهنك.ثم تستعيدها، لترى ما إذا كنت قد حفظتها، ثم تعود إليها بعد حين، و في فترات متقطعة، لتجد[ لتفحص] ما إذا كنت تتذكرها.أما إذا اعتمدت على مجرد التكرار، تكرار القراءة، فإنك لن تحفظ و لن تذّكر.
10-ولا بد لك حين تقرأ، لكي تحفظ و تتذكر، من أن تركز انتباهك حول ما تقرأ.بل لا بد لك من أن تكون تحت توتر نفسي عال مركّز، حول الموضوع الذي تحاول حفظه و تذكره.إن قراءة منتبهة واحدة، خير من عشرات القراءات اللاهية،يقوم بها قارئ مشتت الذهن، موزّع الانتباه.و الحق إن الانتباه، قادر على توفير وقتك و جهدك، و لعله يهمك أن تعلم أن الدراسات العلمية الحديثة، أجمعت كلها على أن الانتباه، و القدرة على تركيزه حول موضوع معين، عامل من أهم عوامل الذكاء، و دعامة من أصح دعائمه.
هذا، و أحب أن أؤكد لك أن السبب في أن بعض الطلاب، تكفيهم قراءة أو قراءتان للحفظ و التذكر، في حين يحتاج البعض الآخر لعدد عديد من مرات القراءة، لحفظ أسوأ و تذكر أقل، أقول إن السبب هو تركيز الأولين انتباههم و قراءتهم، و هم تحت توتر نفسي عال، و شرود ذهن الآخرين، و التهاؤهم عما يقرؤون ، بتداعيات أفكار و أحلام يقظة، تبتعد بهم عن غاياتهم.
***
و إلى اللقاء مع الجزء الثالث..قريبا إن شاء الله.

الأربعاء، 20 مايو 2020

كيف تدرس؟ ابدأ بتكوين فكرة عامة عن مضمون المادة الدراسية،ثم انتقل بعد ذلك إلى دراسة أجزائها، معتمدا على الفهم أولا أكثر من الحفظ، و مستعينا بربط الأجزاء بعضها ببعض في إطار رؤية شاملة للمادة الدراسية

كيف تدرس؟ ابدأ بتكوين فكرة عامة عن مضمون المادة الدراسية،ثم انتقل بعد ذلك إلى دراسة أجزائها، معتمدا على الفهم أولا أكثر من الحفظ، و مستعينا بربط الأجزاء بعضها ببعض في إطار رؤية شاملة للمادة الدراسية

كيف تدرس؟
هذا المقال ، في كيفية الدراسة،مفيد جدا للتلاميذ و الطلبة، و لجميع طلاب العلم مهما كان مستواهم.كنت قد بدأت تلخيصه ؛لأنشره في هذه المدونة، منذ  عدة سنوات، إلاّ أن ظروفا حالت دون إتمام ذلك التلخيص و من ثم النشر.و هاأنذا أنشره اليوم كاملا،دون تلخيص..لأني رأيت أنه قد يكون من الأفيد، نشره كما جاء في الأصل- مع بعض الإضافات و الشروحات هنا و هناك،موضوعة بين قوسين معقوفين- حتى تكون فوائده أهم و أعم.
و أهمية هذا المقال، لا تأتي من مضمونه القيم و المتميز فقط، بل  تأتي أيضا من المكانة العلمية، و الخبرة العملية لمؤلفه... المرحوم الدكتور فاخر عاقل.
و الدكتور عاقل (1918-2010)، لمن لا يعرفه،هو عالم نفس سوري، و مربي، و أستاذ جامعي كبير.كان أستاذا لعلم النفس التربوي في جامعة دمشق،و عمل أيضا أستاذا لعلم النفس في عدد من الجامعات العربية.و لقد أثرى المكتبة العربية، بمؤلفات تربوية( كتبا و مقالات و مداخلات..) قيمة عديدة(من أهمها أول معجم لعلم النفس، باللغة العربية)(تجد نبذة عن سيرة حياة هذا العالم، في موسوعة وكيبيديا).
و المقال الذي نحن بصدده ، طويل نسبيا، يتضمن عشرين نصيحة.سننشره في أربعة أجزاء،كل جزء يتضمن خمسة نصائح؛ و أرجو قرائي الأعزاء- بل ألح عليهم - أن يقرؤوا الأجزاء كلها..فلن يندموا على ذلك.
و حتى لا أطيل..وأجعل الطويل أطول مما ينبغي، أقف عند هذا الحد لأتمنى لكم قراءة مفيدة و ممتعة، إن شاء الله.
***
كيف تدرس؟
هذا المقال كتبته قبل ربع قرن بطلب من طلابي و معارفي، و أعيد اليوم نشره [2007]، بناء على طلب من الصديق رئيس التحرير [مجلة المعرفة [1]]، لأن الحاجة إليه ماسة.و أرجو أن يجد القراء فيه نفعا يبرر نشره.
كما أرجو أن يرى القارئ فيه النصائح العلمية التي تساعد على كيفية الدرس.
***
1- ابدأ بإلقاء نظرة عامة على الدرس، تطلع بواسطتها على مخطط البحث[ المادة الدراسية]، و على أجزائه المختلفة، و موقع كل جزء من هذه الأجزاء، و علاقته بالأجزاء الأخرى.إن هذه النظرة العامة، تُطلعك على مجمل الدرس[ المادة الدراسية]، و تعطيك فكرة عن ترتيبه و نظامه، و عن موضع الأفكار الخاصة، و الأقسام الثانوية، و عن الصلة القائمة بين كل قسم و القسم الذي يسبقه، و القسم الذي يتلوه.و قد درجت بعض الكتب المدرسية، على إثبات هذا المخطط في مطلع الدرس، و هي عادة حسنة مفيدة، تساعد التلميذ في دروسه، و تعينه على الفهم.فإذا كان في كتابك مثل هذه المخططات، فانظر فيها، و اخرج منها بفكرة عن الدرس.
و بديهي أن أشير هنا إلى أن المقصود من هذه المخططات، هو إعطاؤك هذه الفكرة الكلية ، لا أكثر و لا أقل، و ليس المقصود منها إطلاقا حفظها و الاكتفاء بها، و الاعتقاد بأن في الإمكان أن تعتبرها هيكلا عظميا يكسوه الطالب باللحم من عنده.إن هذا الاعتقاد خاطئ، و إن هذه الطريقة لا تساعد على الدرس، و فهم الدرس إطلاقا.
2- و بعد أن تكوّن فكرتك العامة عن الدرس، الذي بين يديك، انتقل إلى دراسة الأجزاء، جزءا جزءا، و احرص على الفهم.فالدرس الذي لا تفهمه، و لا تستكنه [ اكْتَنَه:أدرك حقيقة الشيء] خفاياه، و تطّلع على دقائقه، و تمثله [ تخيله، تصوره] على حقائقه؛ درس ينسى بسرعة، و لا يبقى في الذهن، إلاّ أمدا قصيرا.
يشكو الكثيرون من طلابنا، ضعف الذاكرة، و سرعة النسيان، و يسألون عن علاج لضعف الذاكرة، و عن طريقة التخلص من سرعة النسيان.و جوابي لهم دوما، افهموا ما تقرؤون، تحتفظون به وقتا أطول، و على شكل أنسب.و أرجو ألا تفهم من هذا أني أنكر ضعف الذاكرة، و أسبابه التي قد تكون جسدية أو غير جسدية.و لكن أحب، أن أذكر لطلابنا، أن معظم نسيانهم ناتج عن طريقة درسهم، و عن عدم فهمهم ما يدرسون.و لقد أثبتت التجارب العلمية المختلفة، أن نسيان المفهوم أصعب من نسيان غير المفهوم، و أن الدرس الذي تفهمه، و تتعمق معانيه، يبقى في ذهنك مدة أطول من بقاء الذي تستظهره [ تُثبّته أو تطبعه في الذاكرة] دون فهم.و أن نسيان النص أسهل من نسيان المعنى.و دليل ذلك بسيط، فأنت قد تنسى نص بيت من الشعر، أو آية من الآيات، ولكنك تذكر معناه أو معناها، و العكس غير صحيح، أي أنك لا تنسى المعنى و تذكر النص.
3- كيّف طريقة دراستك ، بحسب الدرس الذي تدرس.ذلك أن لكل درس طريقة تختلف قليلا أو كثيرا عن طريقة الدروس الأخرى.فطريقة دراسة التاريخ، تختلف عن طريقة دراسة الهندسة، و طريقة دراسة النحو، غير طريقة دراسة الأدب؛فاحرص على أن تكون طريقتك في الدرس موافقة للموضوع الذي تدرس.في دراستك للتاريخ، اعتبره حكاية ، و احرص على ربط المسببات بالأسباب، و ليكن اهتمامك بالأسماء و التواريخ، مرتبطا باهتمامك بالعصر الذي تدرس، و الأسرة التي تدرس، و المجتمع الذي تدرس.أما في دراسة اللغة، فلابد لك من أن تذكر أن اللغة واسطة، واسطة للتعبير عن الأفكار شفويا و كتابيا، و إنما تتقن اللغة بمقدار ما تتقن التعبير.و إن هذا التعبير مستحيل إذا لم تتمرن عليه بالفعل، فتتكلم اللغة ، و تكتبها، و لا تحفظ المفردات مجردة.ثم إن هذا التعبير غير ممكن إذا لم تستفد فيه، مما تعلمت من قواعد الصرف و النحو و الإملاء.كما أن هذا التعبير، يكون على غير ما تبتغي له، إذ لم تقرأ لكتاب اللغة المبرزين،و لم تسمع أهلها يتكلمون بها.وهكذا تجد أن لكل علم طريقة، و أن لابد لك من استعمال هذه الطريقة للتمكن من هذا العلم.
4- اربط الدرس الجديد بالدرس القديم.إن هذا الربط بين ما تعرف و ما تتصدى لتعلمه، مفيد جدا.إنه كفيل أولا، بإعطاء الدرس الجديد مكانه من البحث العام، أو الموضوع الكلي[المادة الدراسية بأكملها]. و هو ثانيا، يوضح الدرس الجديد، و يبين صلته بالبحث العام، و بذلك يسهل فهمه و حفظه، و بالتالي استدعاءه و تذكره.و هو ثالثا، يساعد على بقاء الدرس في الذهن مدة أطول، وقاعدة أثبت.
[و في الحقيقة، إن] المقصود من تجزئة البحث[ تقسيم المادة الدراسية، إلى سلسلة من الدروس و المحاضرات..]، تسهيل درسه و تهوين حفظه.و لكن هذه التجزئة تصبح مضرة إذا لم يُنظر إليها على أنها مؤقتة، و إذا لم يتبين الطالب علاقة البحث الجزئي [الدرس،المحاضرة الواحدة] بالموضوع الكلي [ المادة الدراسية= مجموع محاضرات أو دروس المادة الدراسية]، و لم يصل[ الدرس] الجديد بالقديم، و يدعمه، و يقويه بواسطته.
5-رتب المواد التي تدرسها.إن هذا التصنيف، و ذلك الترتيب كفيلان، حين يقومان على أساس منطقي واضح، وفكرة معقولة صحيحة، بأن يوضحا الدرس، و يسهلا فهمه وحفظه، و من ثم استدعاءه و تذكره.
و ليكن ترتيبك و تصنيفك للأبحاث التي تدرس قائمين على مبدأ منطقي معقول، و ليكن هذا الترتيب ن و ذاك التصنيف من عملك أنت، فلا تكتف بما يقدمه إليك الكتاب أو المعلم أو أحد الرفاق ولا تحسبن أن الوقت الذي تصرفه في هذا الترتيب وقت ضائع، بل على العكس، إنه يساعدك على فهم الدرس، و التغلغل في أسراره و خفاياه، كما يساعدك على تثبيته في ذهنك و إبقائه فيه، مدة طويلة، و استدعائه حين تشاء.
***
و إلى اللقاء مع الجزء الثاني من هذا المقال..قريبا إن شاء الله.




[1]  المعرفة- وزارة الثقافة السورية- دمشق  - العدد527 - آب(غشت) 2007- ص 18 و ما يليها.