فصل تمهيدي: العقود الإدارية
كثير ما تحتاج مختلف الإدارات العمومية، لتسيير و تلبية
حاجيات المرافق العامة، المدنية و العسكرية المنوطة بها، إلى القيام بأعمال البناء ، أو الشراء، أو استجارة
الخدمات..أو ما شابه ذلك؛ فتبرم لهذا السبب عقودا متنوعة و متعددة، بينها و بين
أشخاص القانون الخاص أو أشخاص القانون العام.
و في الواقع، فإن تعدد و تنوع هذه العقود،
إنما يعود إلى الصفة التي تتصف بها الإدارة، عند إبرامها لها:فالإدارة، قد تتصرف
كشخص عادي من أشخاص القانون الخاص. كما قد تتصرف كسلطة عمومية.و بالتالي، لا تخضع
كل العقود التي تبرمها الإدارة لنظام قانوني واحد، بل تنقسم إلى قسمين: عقود
تخضع للقانون المدني، و أخرى للقانون الإداري( = خاضعة للقضاء الإداري).
و هكذا ؛ فليست كل العقود التي تبرمها
الإدارة، هي بالضرورة عقودا إدارية،بمعنى تخضع للقانون و القضاء الإداريين، و إنما
العقود الإدارية هي فئة من تلك العقود ، لها مميزاتها التي تميزها عن باقي عقود
الإدارة (= تبرمها الإدارة)، بل و تميزها عن باقي العقود التي يعقدها الخواص فيما
بينهم؛ من حيث أصول أحكامها(المبحث الأول)، و أنواعها (المبحث الثاني)
،و حتى من جانب طبيعتها التعاقدية (المبحث الثالث).
المبحث الأول: العقود الإدارية و أصول
أحكامها:
نشأت العقود الإدارية في مفهومها
المعاصر، أول ما نشأت، في ظل القضاء الإداري الفرنسي خلال القرن التاسع عشر. فهو
الذي تكفل بوضع أهم أحكامها و مبادئها( المطلب
الثاني)، و أهم العناصر التي تميزها عن العقود الخاصة ( المطلب الثالث).و
بالتالي ساهم في تحديد بعض أهم العناصر التي تدخل في تعريفها. إلى درجة أن
الفقهاء،عندما حاولوا وضع تعريفات للعقود الإدارية، اقتصروا، في الكثير من الحالات
على " إعادة صياغة" بعض الأحكام القضائية في مادة العقود الإدارية( المطلب الأول).
المطلب الأول: تعريف العقود الإدارية:
ليس للعقود الإدارية، تعريفا قانونيا و لا
قضائيا متفقا عليه. و إنما لها تعريفات فقهية؛ استنبطها فقهاء القانون الإداري؛ في
الغالب، من اجتهادات القضاء الإداري[1]،
التي استخلصت بدورها من مفهوم العقد في
القانون المدني أيضا[2]. و هذا يعني أن العقد
المدني هو أصل أغلب الأركان و القواعد و
المبادئ ، التي يرتكز عليها العقد الإداري .إلا أن هذا ليس حكما مطلقا مع ذلك؛إذ
أن القاضي الإداري قد يجتهد " خارج أحكام القانون المدني" أيضا.
و مع أننا لا نتوفر على تعريف جامع مانع
للعقد الإداري، إلا أن هناك تعريفات تحظى بقبول واسع بين الفقهاء و رجال القضاء،
إذ تستوعب أهم الأركان التي يجب توفرها في كل عقد إداري.
1- منها على سبيل المثال، التعريف الذي أوردته
" الموسوعة العربية الميسرة"(1965):
العقد الإداري، هو كل عقد تكون الإدارة
العامة طرفا فيه، لتسيير مرفق عام ، و يتضمن لذلك شروطا استثنائية غير مألوفة في
عقود القانون الخاص، تراعى فيها تغليب المصلحة العامة على مصلحة الفرد.
تتميز العقود الإدارية بقابليتها للتعديل من
جانب الإدارة وحدها،و لسلطة الإدارة الحق في توزيع جزاءات على المتعاقد معها إذا
اخل بالتزاماته، و في ذلك خروج على قاعدة " العقد شريعة المتعاقدين"،
التي تحكم عقود الأفراد[1]؛
2- و منها أيضا ،التعريف الذي جاء في " الأسس العامة للعقد
الإداري"، لمؤلفه الأستاذ الدكتور
خليفة، و مفاده أن العقد الإداري:"..اتفاق يكون أحد أطرافه شخصا معنويا عاما
بقصد إدارة أحد المرافق العامة أو تسييرها و تظهر فيه النية في الأخذ بأسلوب القانون
العام و ذلك من خلال تضمين العقد شروطا استثنائية غير مألوفة في تعاملات الأفراد،
سواء بتمتع الإدارة بامتيازات و سلطات لا يتمتع بها الأفراد، أو بمنح المتعاقد
سلطات استثنائية في مواجهة الغير، لا يتمتع بها لو تعاقد مع غيره من الأفراد، كـأن
يكون صاحب احتكار فعلي، أو بمنحه الحق في الاستيلاء على بعض العقارات المملوكة
للغير فترة مؤقتة"
[2].
3- و منها أخيرا و ليس آخرا ،التعريف
الذي ساقته الأستاذة الدكتورة مليكة صروخ
(2012):
العقود الإدارية هي تلك الإتفاقيات التي
تبرم بين الإدارة كسلطة عامة قائمة على تحقيق المصلحة العامة و بين الأفراد أو
الشركات الخاصة من أجل إنجاز عمل معين يحقق المنفعة العامة بشكل مباشر، مع تضمين
الاتفاق أهم شروط و قواعد تنفيذ العمل المطلوب و أهم حقوق و واجبات كل من الطرفين
المتعاقدين لدى تنفيذ ذلك العمل[3].
من خلال هذه التعريفات و ما شابهها؛ يمكننا
القول بأنه،في اول انطباع أوفي الظاهر على الأقل،لا يختلف العقد الإداري عن العقد
المدني.غير أن التمعن أكثر في العقدين يبين أن هناك اختلافات جوهرية بينهما،
متمثلة أساسا في أن العقد الإداري- إذا نظر إليه من زاوية الإدارة- ليس إلا وسيلة
أخرى لتحقيق أهداف الإدارة،فإذا تبين لهذه الأخيرة أنه قد يهدد مصالحها،فإنها لا
تتردد في الرجوع إلى طريقة " القرار الانفرادي"، حتى داخل إطار العقد
نفسه.
و لإدراك هذا المعنى، قد نحتاج إلى استرجاع
بعض الملاحظات عن تطور وظائف الدولة - أعني هنا السلطة الحاكمة-، لنعرف كيف طورت الإدارة أساليب عملها حتى تتكيف مع
التحولات؛ و لكن دون التفريط في أسلوبها الأفضل و الأصلي، و هو القرار الانفرادي،
الذي تعود لاستعماله متى احتاجت إلى ذلك، باسم المصلحة العامة.
فمن المعروف أن الدولة- أعني في مفهومها
الأوربي و الغربي- نشأت و تطورت، كسلطة "حارسة"؛ حارسة للأمن الداخلي و
السلم الخارجي، و لم تكن تعنى بالمرافق العامة الأخرى، ربما باستثناء القضاء، الذي
يعتبر امتدادا لمفهوم الأمن، و مكمل له. و من هنا، لم تعتمد الحكومات- و الإدارات
التي تعتبر امتدادا لها- في تعاملها مع الأفراد ( المحكومين)،إلا على الأعمال
الانفرادية، التي تنفرد بوضعها و تنفيذها؛ و هي التي تعرف اليوم بالقرارات
الانفرادية:فالحكومة كانت تصدر الأوامر، في شتى المجالات، و لتلبية كل
الحاجيات،بإرادتها المنفردة، و الأفراد ينصاعون لهذه الأوامر و ينفذونها.
و
استمرت هذه الأوضاع في أوروبا إلى نهاية العصور الوسطى( أما في عالمنا الإسلامي،
فلاشك أن الأوضاع كانت مختلفة نسبيا، و لعلها اختلفت في مناطق أخرى من العالم
أيضا؟!).
و في العصور الحديثة و المعاصرة عرفت الدول
الأوربية و الغربية ( في أمريكا الشمالية بالخصوص)،سلسلة من التطورات و التحولات
السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و غيرها،لا يتسع المجال لذكرها
هنا،أدت إلى تغير في وظيفة الدولة؛ فقد انتقلت من الدولة " الحارسة" إلى
الدولة التدخلية(= تتدخل في تنظيم الحياتين الاقتصادية و الاجتماعية..)، ثم
الخدمية (= التي تقدم خدمات).و هذا التحول أدى إلى تقليص دور القرار الانفرادي
لصالح وسيلة أخرى في التعامل بين الدولة و
الأفراد، مبنية على التراضي، هي التعاقد:فالدولة، نتيجة التحولات التي عرفتها
المجتمعات،لم تعد قادرة على تلبية احتياجاتها- من سلع و خدمات - من الأفراد إلا
برضاهم، و باتفاق معهم[3].
و لقد أسست العقود الأولى التي عقدتها
الإدارة، على نفس الأسس و الأركان و القواعد التي أقرها القانون المدني.و هذا أمر
بديهي؛إذ لما ارادت الإدارة أن تتعاقد مع الأفراد، وجدتهم يتعاقدون وفق أسس راسخة
القدم و ثابتة، فلم يسعها إلا أن تتقيد بها هي أيضا؛و من ثم قبلت التعاطي مع الخواص بالتراضي.
غير أن التسيير اليومي للمرافق العامة، فرض
على الإدارة أن تتدخل بإرادتها المنفردة، فتبدل و تغير محتويات العقود التي
أبرمتها،و تقوم بالإشراف و التوجيه،.. و غير ذلك من الأمور التي تقتضيها المصلحة
العامة.و ساندها القضاء الإداري في هذا المنحى، و أخذ يبدع لها الحلول، أحيانا
بانسجام مع القانون المدني و أحيانا أخرى بعيدا عن قواعد هذا القانون[4]،فوضع
بذلك قواعد و أسس العقد الإداري.
المطلب الثاني: أصول احكام العقود الإدارية:
العقود الإدارية،أو بالأحرى العقود التي
أبرمتها الإدارة قديمة.و كانت في معظمها تدخل في نطاق القانون الخاص،، كما مرّ معنا.على اعتبار
أن الإدارة، عندما كانت تبرم هذه العقود، لم تجد في "نفسها" حاجة إلى
التصرف كسلطة عمومية (autorité publique)، و إنما تصرفت في معظم الحالات كشخص عادي من أشخاص القانون
الخاص.و ترتب على ذلك أن القضاء
العادي(المدني)،كان هو المختص بالنظر في النزاعات التي تترتب عن العقود التي
تبرمها الإدارة.و لم يستثن من ذلك،إلا بعض العقود (المسماة)، التي نصت القوانين
المنشئة لها [8] ،
على أنها "عقود إدارية"،حتى و لو كانت مضامينها تحيل على قواعد القانون
الخاص: مثل عقود القروض العامة، و عقود شغل الدومين العام(contrats comportant occupation du domaine
public)، و عقود الأشغال
العامة[9].
و فيما عدا هذه العقود الإدارية المحددة
بالقانون ( التشريع)(= Les contrats
administratif par détermination de la loi )،فإن العقود الأخرى التي أبرمتها الإدارة في مرحلة الدولة "
الحارسة"، أبرمتها كـ " الشخص
العادي"، و لم تكن محتاجة إلى أن تتحلى بمزايا السلطة العامة،و بالتالي أخضعت
للقانون المدني.و هكذا أصبح المعيار الذي أخذ به القضاء في إسناد الاختصاص للنظر
في المنازعات التي تثيرها عقود الإدارة؛ هو دخول الإدارة إلى العقد مسلحة بالسلطة
العامة أو مجردة منها.
و استمرت الاجتهاد القضائي يذهب في هذا
الاتجاه لبعض الوقت. غير أنه لما ازداد اقبال الدولة الفرنسية، على إبرام العقود
لتلبية حاجيات المرافق العامة الجديدة، في إطار الإيديولوجيات السياسية و
الاقتصادية الجديدة، التي فرضت على الدولة التدخل لتقديم الخدمات، انطلاقا من
نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين( بناء خطوط السكك الحديدية و
الترامواي، و تزويد السكان بالماء و الكهرباء و الغاز، و بناء المدارس و
المستشفيات...إلخ)؛ واجه رجال القضاء و الفقه إشكالية حادة، تمثلت في تحديد
القانون الواجب التطبيق على المؤسسات العامة التجارية و الصناعية، التي تتولى خدمة
"مرافق عامة"،كالإنارة، و الصحة العمومية..إلخ:فهل تطبق عليها القواعد
التي تحكم المرافق العامة الإدارية؟ أي قواعد القانون العام، أم يطبق عليها قواعد
الخاص بحكم طبيعة النشاط التجاري و الصناعي الذي تقوم به؟ و هل تطبيق هذا القانون
الأخير كفيل بضمان استمرارية المرافق العامة،في أداء عملها؟
و
انتهى الأمر بالقضاة الإداريين؛ إلى أن يتبينوا حقيقة معينة،مفادها أن الاستمرار
في تطبيق القانون المدني على الكثير من تلك العقود الجديدة و المستجدة التي
أبرمتها الدولة ،و التي لها صلة بالتجارة أو الصناعة، قد يضر بالمصلحة العامة، وقد
يهدد بتوقف المرافق عن أداء وظيفتها(عدم استمراريتها).فقرروا الأخذ بنظرية
"تحمي" المرفق العام، كمعيار في التمييز بين العقود( و مختلف الأعمال)
التي يختص بها القضاء العادي،و لتي لا تهدد المرافق العامة، و تلك التي لها علاقة
باستمرارية المرفق العام،و بالتالي تدخل في نطاق القضاء الإداري.
و
من هنا ، اعتبر القضاء الإداري كل عقد تبرمه الإدارة من اجل تسيير أو إدارة
أو يتعلق بمرفق عمومي، عقدا إداريا، أي يخضع للقضاء الإداري[10].و لعل الرأي الذي ضمّنه "المفوض
الحكومي"(Le
commissaire de gouvernement)،"
جان روميو" (J.Romieu)(1858-1953)[11]، في تعليقه الشهير على حكم"تيريي (Terrier)(بتاريخ 6 فبراير 1903)، يعبر أفضل تعبير على هذا الاتجاه:"..إن
اختصاص القضاء الإداري ، يتناول كل ما يتعلق بتنظيم و سير المرافق العامة، وطنية
أو محلية، سواء أكانت وسيلة الإدارة في ذلك عمل من اعمال السلطة او تصرفا عاديا، و
بالتالي فإن العقود التي تبرمها الإدارة بهذا الخصوص، هي أعمال إدارية بطبيعتها و
يختص القضاء الإداري بالفصل في كل ما يثار بشانها من منازعات.."[12].
و لقد سار القضاء الإداري، مسارا لا بأس
بها،في اتجاه الأخذ بمعيار المرفق العام، و اصدر عدة أحكام أخرى شهيرة ،في تاريخ
القضاء الإداري، تدعم هذا التوجه، من أهمها :Feutry 1908)، و [13]Thérond 1910)[5].
بيد أن أنصار نظرية "السلطة
العمومية"،لم يعجبهم هذا التحول الذي طرأ على الاجتهادات القضائية الإدارية.
فما لبثوا إلا قليلا، حتى شرعوا في توجيه أسهم نقدهم إلى معيار "المرفق
العام"،معتبرين إياه معيارا فضفاضا و واسعا؛إذ يتسع لبعض الأنشطة
الخاضعة للقانون الخاص.و حاول فريق ثان التوفيق بين المدرستين(المرفق العام و
السلطة العمومية)، بالقول بان المرفق العمومي في حقيقته، إنما يعبر عن السلطة
العمومية،إذ أنه يحتاجها للقيام بوظائفه.و ذهب رأي ثالث إلى القول، بأن السلطة
العمومية، ليست إلا وسيلة لتحقيق أهداف المرفق العام..إلخ.
و أيا ما كان، فقد هيمن على الأجواء، في
بداية القرن العشرين ، إحساس بأن الأمور قد تذهب في اتجاه التقريب بين المدرستين
القضائيتين( و الفقهيتين بالتالي)، المتصارعتين.لولا أن خرج أحد القضاة،برأي أعاد
الصراع بين المدرستين إلى الواجهة، و بطريقة أكثر حدة هذه المرة،لاسيما و أنه( أي
الرأي) أصاب نظرية " المرفق العام كمعيار" بضربة قوية؛ زلزلت أركانها.
أجل ، ففي 22 يناير 1921، أصدرت محكمة
التنازع الفرنسية(Tribunal des conflits)،
حكما شهيرا،في قضية (Bac d’Eloka)،لتبين بكل وضوح بأنه بإمكان كل شخص عمومي، أن يستغل مرفقا عاما ،
بنفس الأسلوب الذي يعتمده الخواص؛ و بالتالي يخضع هذا الاستغلال للقانون الخاص[14].
و من هنا، لم يعد بالإمكان تطبيق القانون
الإداري "بحكم القانون"، على كل مرفق عمومي،كيفما كان،و إنما على
المرافق التي تقوم بالأعمال التي تتولاها الدولة بحكم وظائفها الأصلية. اما
الأعمال و الأنشطة التي قد تقوم بها بشكل مؤقت أو عرضي، أو أُرغمت على القيام بها،
لعدم وجود أحد من الخواص يتحمل أعباءها، فتدخل في مجال القانون الخاص.
كانت هذه ضربة موجعة،كما سبق القول، وجهها
القضاء الإداري ، لمدرسة " المرفق العام" ، التي كانت تحلم بأن تجعل من
معيار المرفق العام "حجر الزاوية"، في كل ما يتعلق بالقانون و القضاء
الإداريين.
و لكن هذا الاجتهاد،إذا قمنا بتقييمه بشكل
موضوعي؛ سنجد أنه جاء منسجما مع روح التطور، و انه قدم خدمات كبيرة للاقتصاد
(العام) الفرنسي:فقبيل هذا الاجتهاد، وقفت المقاولات و الشركات العامة،عاجزة عن
تطوير نفسها، و الإسهام بشكل فعال في خدمة الاقتصاد و المجتمع الفرنسيين.لأنها،
بحكم خضوعها لمساطر و إجاراءات القانون العام المعقدة،لم تستطع منافسة الشركات
الخاصة، التي تعمل معها في نفس المجال.و بالتالي، كان لابد من تخفيف العبء
"البيروقراطي" الملقى على عاتقها.
غير أن هذا الاجتهاد على أهميته، لم يسلم هو
الآخر من الانتقاد. فلقد وجهت له انتقادات كثيرة ، من طرف كبار فقهاء القانون
العام ، من أمثال العميد "دوجي" و العميد "هوريو"، لأسباب
متعددة و مختلفة. و لكن القضاء الإداري، أو على الأقل الاتجاه الذي تبنى هذا الرأي
داخل القضاء الإداري الفرنسي، لم يعر تلك الانتقادات اهتماما كبيرا، بل واصل
مسيرته في اتجاهه الجديد، مؤكدا في أحكام أخرى- في 1923، و 1932، و 1935...إلى
الآن[15]- أن المرافق الاقتصادية الصناعية أو التجارية(Les
services publics industriels ou commerciaux)،تمثل صنفا من المرافق العمومية، التي لا يجب إخضاعها للقانون
العام، و أن المرافق الإدارية (Les services publics administratifs) ،هي التي ينبغي إخضاعها(وحدها)
للقضاء الإداري.
والحاصل، أن مدرسة المرفق العام أصيبت
بانتكاسة كبيرة،في النصف الأول من القرن العشرين، و استمرت معها تبعاتها، حتى
النص الثاني منه.إلا أن ذلك لم يؤدي إلى القضاء عليها قضاء مبرما، كما كان
يُشيع أتباع مدرسة "السلطة العمومية".بل مازالت قائمة، و مازال لها
أنصار كثيرون من بين القضاة، و من بين الفقهاء أيضا.
و بالتالي،فإن المعركة بين أنصار
"المرفق العام كمعيار" من جهة و أنصار " السلطة العمومية
كمعيار"،في تمييز الأعمال القانونية الإدارية، مازالت قائمة. و لقد لمسنا
تأثيرها على تعريف العقود الإدارية بشكل عام. و سنرى،على وجه الخصوص، كيف تؤثر
ايضا ، على تحديد أي العناصر أكثر أهمية في إضفاء صفة العقد الإداري:هل هو وجود
علاقة بين العقد و نشأة و تسيير و إدارة مرفق عام؟ أم تضمُّنه شروطا استثنائية لا
نجدها في عقود القانون الخاص؟
المطلب الثالث:معايير التمييز بين العقود
الإدارية و العقود الخاصة:
هناك عدة معايير للتمييز بين العقود
الإدارية و العقود الخاصة(التي تبرمها الإدارة)، أبسطها و اسهلها ؛ هو المعيار
القانوني، الذي يعتمد على وجود نص قانوني(الفرع الأول).و في غياب هذا النص،
يلجأ القضاء إلى بعض العناصر، التي يعتبرها قرائن(أو مؤشرات) يستدل منها على طبيعة
العقد الذي أبرمته الإدارة؛ مثل:أن يكون احد طرفي العقد شخصا عاما(الفرع الثاني)،و
موضوع العقد نفسه(الفرع الثالث)، أو الشروط المضمنة فيه(الفرع الرابع).
الفرع الأول:وجود نص تشريعي:
قد يتدخل المشرع، فيضفي
صفة العقد الإداري ، على بعض أنواع العقود التي تبرمها الإدارة ، و يضع لكل منها
نظاما قانونيا خاصا.و يطلق الفقهاء، على هذه العقود اسم "العقود الإدارية المسماة"(contrats
administratifs nommés).
و من أهمها:عقود الامتياز أو الالتزام و التدبير المفوض، و عقود المعاونة، و عقود
القرض العمومي، و عقود الصفقات العمومية[16].
و
على العكس من ذلك، يمكن للإدارة ان تعبر عن إرادتها في جعل عقد من العقود التي
تبرمها، عقدا خاصا، اي يخضع للقانون الخاص، بقرارات خاصة تصدرها.و لقد أكد هذا
الحق؛ القضاء الإداري،في أكثر من حكم ( من أشهرها حكم المجلس الأعلى في قضية السيد
"معمور بلقاسم"، بتاريخ 1958)[17].و لقد أشارت
المادة الثانية ، من قانون الصفقات العمومية ( مرسوم5 فبراير 2007)،إلى هذه
المسألة:"..تستثنى من مجال تطبيق هذا المرسوم:الاتفاقيات أو العقود التي
يتعين على الدولة إبرامها وفقا لأشكال و حسب قواعد القانون العادي..".و أضافت
المادة الثالثة ( الفقرة 6):
العقود و الاتفاقيات الخاضعة للقانون
العادي:عقود أو اتفاقيات يكون موضوعها، بالخصوص، الحصول على أعمال سبق تحديد شروط
توريدها و أثمانها[أي لا تحتاج إلى مفاوضات..] و لا يكون لصاحب المشروع تعديلها أو
ليست له فائدة في تعديلها[أي لا يحق للإدارة/أو لا ترغب في تعديل تلك الشروط..].و
تحدد لائحة الأعمال التي يمكن أن تكون موضوع عقود أو اتفاقيات خاضعة للقانون
العادي بمقرر للوزير الأول[18] بعد استطلاع رأي لجنة الصفقات[التابعة للحكومة]..
الفرع الثاني:أن تكون الإدارة طرفا في
العقد:
لقد رأينا، كيف أجمعت تعريفات العقود
الإدارية أعلاه، على ضرورة أن تكون الإدارة طرفا في العقد، كي يعتبر إداريا.
و يقصد بالإدارة هنا، كل شخص عام( = من
أشخاص القانون العام).و من ثم لا تعد عقودا إدارية،الاتفاقات و العقود التي تبرم
بين الأفراد الطبيعيين أو المعنويين التابعين للقانون الخاص ، و التي لا تكون
الإدارة طرفا فيها، حتى و لو كان موضوع العقد يرتبط باداء خدمة عامة، أو يحقق
منفعة عامة.
غير أنه، يجوز للأشخاص الخاصة أن تبرم عقودا
إدارية، إذا كان أحدها على الأقل، متعاقد باسم و لحساب شخص معنوي عام، كوكيل عنه.و
لقد محكمة التنازع الفرنسية، في إحدى احكامها الشهيرة (بتاريخ 8 يوليوز 1963)،
بأنه يعتبر عقد إداريا، العقد الذي أبرمته شركة اقتصاد مختلط (صاحب امتياز) مع أحد
المقاولين الخواص، و ذلك على اعتبار أن شركة الامتياز ، تعاقدت لحساب الإدارة[19].
و تعد أهم الأشخاص المعنوية، الدولة ، و
أشخاص القانون العام الترابية( الجماعات المحلية) أو المرفقية،و كذلك الهيئات
العامة ، من أمثال هيئات(نقابات) المحامين والأطباء و الصيادلة و غيرها.
الفرع الثالث:موضوع العقد:
وفقا لهذا العنصر/ المعيار(Le
critère de la participation à l’exécution du service public)، يعتبر العقد إداريا إذا كانت له
صلة بأداء المرفق العام لمهامه، كأن يتعلق بتنظيمه أو تشغيله أو المساهمة في
أعماله.
و في هذه الحالة، كما أصبح معروفا لديكم،
فإنه ليس المشرع أو الإدارة هو الذي يحدد وجود هذه الصلة أو انعدامها؛ بل القضاء
الإداري هو الذي يفعل ذلك.بل هو الذي تدخل اصلا لوضع هذا المعيار، كما مرّ معنا،
من خلال عدة أحكام،أشرنا إلى بعضها، و نشير فيما يلي إلى حكمين شهيرين إضافيين (
أحدهما فرنسي، و الآخر مغربي)؛ اعتبرا مجرد المشاركة في تسيير مرفق عمومي، قرينة
على أن هذا المشارك خاضع للقانون العام.
ففي الحكم الفرنسي، الصادر في قضية السيد
"لوريي"(Laurier)(1954)،قضت المحكمة بأن العقد الذي يربط حارس العمارة المملوكة
للإدارة،بهذه الأخيرة،يعتبر عقدا إداريا؛لأن هذا الحارس يشارك في تسيير المرفق
العام المتواجد بالعمارة.
أما في الحكم المغربي،فقد قضى القضاء
الإداري ،في قضية السيد "أحمد بن يوسف"( الغرفة الإدارية، بتاريخ 9
يوليوز 1959)؛ بأنه عون عمومي، و أن العقد الذي على أساسه التحق بعمله مع الإدارة،
يعد عقدا إداريا،رغم انه بني على قواعد تنتمي للقانون الخاص.ذلك أن طبيعة عمله –
مراقبة الموازين بوزارة التجارة و الصناعة- تمثل مشاركة في أداء مهام لصالح المرفق
العام.
الفرع الرابع:وجود شروط غير مألوفة في
العقود الخاصة:
يعتبر العقد الذي تعقده الإدارة ، عقدا
إداريا؛ إذا تضمن شروطا غير مألوفة في العقود الخاصة(Le critère de la clause exorbitante
ou du régime exorbitant)،تعترف للإدارة بامتيازات
لا نكاد نجدها في العقود الخاصة.
فمن المعلوم أن الفكرة المهيمنة على القانون
الخاص، هي فكرة المساواة؛ إذ أن كل الحقوق تستحق نفس الاحترام.و من هنا، المبدأ
الشهير " العقد شريعة المتعاقدين"؛ أي أن المتعاقدين يساهمون في وضع
القواعد التي تحكمهم:بالتساوي فيما بينهم، و دون خوف أو محاباة، و دون تفريق بين
غني و فقير، و قوي و ضعيف.
أما الفكرة المهيمنة على القانون العام، فهي
فكرة اللا"مساواة"؛ على اعتبار أن القانون العام وجد من أجل حماية
المصلحة العامة، التي يجب الاعتراف لها بحق الأسبقية.و أن هذا الاعتراف، لا يتناقض
مع جوهر المساواة، و لا مع مبدأ العدالة.فالعدل لا يعني معاملة متماثلة دون اعتبار
للفروق بين الأفراد و الجماعات.بل إن ما تعنيه العدالة؛ هو أنه يجب معاملة "
المثل كمثيله".و ليس من العدالة في شيء أن تعامل مصالح الأفراد كمصالح
الجماعات.
و من هنا، اعْتُرِف للإدارة بالحق في ألا
تعامل معاملة الند للند مع الأفراد أو حتى الجماعات في العقود الإدارية. و من أجل
إحداث التوازن بينها و بين الخواص في العقود ،كان لا بد من وضع شروط استثنائية أو
غير عادية لمصلحتها، تخلق نوعا من اللاتوازن في الحقوق و الواجبات لمصلحتها ، أي
لفائدة المصلحة العامة.
و في الحقيقة، لم يجمع الاجتهاد القضائي على
وضع تعريف واحد موحد لما يعتبره الشروط الاستثنائية،التي إذا أضيفت للعقد،منحت
للشخص العام مركزا أعلى أو استثنائيا قياسا إلى المتعاقد معها. و قد انعكس هذا
الاختلاف بين القضاة، على تعريف الفقهاء لهذه الشروط، فاختلفوا بدورهم في تحديدها،
و إن كان أغلبهم يجمل معظمها فيما يلي:
أ-سلطة الإدارة في تعديل العقد أو فسخه،
بقرار انفرادي، و دون حاجة إلى حكم قضائي؛
ب-سلطة الإدارة في الإشراف على التنفيذ، و
إعطاء التوجيهات و التعليمات للمتعاقد معها؛
ج-سلطة الإدارة في إنزال عقوبات بالمتعاقد
معها،متى أخل بالتزاماته؛
د-سلطة الإدارة في تغيير التنفيذ أو وقفه
مؤقتا،أو التنفيذ المباشر، أو إسناد التنفيذ إلى طرف ثالث، على حساب المتعاقد
معها..إلخ؛
هـ- كما تعتبر شروطا استثنائية، حق المتعاقد
مع الإدارة في استعمال أو ممارسة مظاهر السلطة العامة، في إطار الحدود اللازمة
لتنفيذ التزاماته التعاقدية، كحق نزع الملكية، و حق استعمال المال العام،..إلخ.
و الحاصل،إذا اعتبر القضاء أن العقد يتضمن
بنودا أو شروطا"غير عادية"، تؤشر على وجود اللاتوازن أو اللامساواة بين
طرفي العقد؛فإن ذلك يعتبر دليلا على أن العقد إداري.
بقي أن نقول، في ختام هذا المبحث، أو
بالأحرى ان نجيب على سؤال نلخص من خلاله كل ما أسلفناه عن هذه المعايير القضائية،
الا و هو:ترى هل كل معيار من هذه المعايير يعتبر في حد ذاته كافيا لتمييز العقود
الإداري؟ أم ان بعض المعايير اقدر من غيره على أداء هذه المهمة؟ أم أن هذه
المعايير ، لا تؤدي وظيفتها في التمييز، غلا إذا اخذت جميعها جملة؟
[1] و معلوم أن النظام القانوني الذي يحكم
العقود الإدارية،هو من صنع القضاء الإداري ،إذ ان معظم القواعد و
المبادئ و الأحكام التي تحكم العقود الإدارية، لم تظهر بمقتضى قوانين أو نصوص
تشريعية، كما هو الحال في القواعد التي تخضع لها العقود المدنية(مدونة الالتزامات
و العقود- ظهير 12 غشت 1913 و تعديلات التي لحقت به)،و إنما كشف عنها القضاء
الإداري الفرنسي أولا، ثم القضاء الإداري في باقي البلدان التي أخذت بالقانون
الإداري(كمصر، و المغرب، و تونس..إلخ).
[2] يعتمد العقد الإداري على النصوص التشريعية أيضا،
فيستمد منها بعض القواعد التي تنظم جانبا من جوانبه.انظر:د.عبد العزيز عبد المنعم
خليفة-الأسس العامة للعقود الإدارية- مرجع سبقت الإشارة إليه- ص 16؛ و د.علي عبد
الأمير قبلان- أثر القانون الخاص على العقد الإداري- م.س- ج1ص 54.
[4] و لكن ضمن حدود و ضوابط تحول دون انقلاب
التزامات العقد إلى عبء ثقيل على المتعاقد مع الإدارة.راجع قبلان- المرجع السابق-
ص 55.
[5] يمكن تلخيص وقائع قضية (Terrier)، في أن المجلس الإقليمي(Saone- et -Loire)،خصص جوائز،لقتل
الأفاعي السامة، و وعد كل من يحضر أفعى ميتة، بأن يعطيه قدرا من المال.و جاء
"تيريي"، بأفعى ميتة، و طالب بالنقود، و لكن رئيس الإدارة المحلية، رفض
أن يؤدي إليه، بدعوى أن المبلغ المخصص لقتل الأفاعي قد نفذ.فرفع هذا الأخيرالأمر
إلى القضاء الإداري، الذي قضى بأن قتل الأفاعي السامة يعتبر مرفقا عاما يدخل في
اختصاص المجلس الإقليمي لـ"صاون إي لوار"، و أن هذا الأخير عهد بتنفيذه
إلى الخواص (سكان المنطقة)، و إذن فهناك عقد و التزامات متبادلة،و مادام الأمر
يتعلق بمرفق عام، فيمكن اعتبار العقد عقدا إداريا،يدخل - بالتالي- في اختصاص مجلس
الدولة(المحكمة الإدارية).
و القرارين الآخرين، المشار إليهما في المتن،
يتعلقان بقضايا مشابهة، فالقرار المسمى (Thérond)، يتعلق بمحاربة الكلاب الضالة،
باعتباره مرفقا عاما.أما قضية "فوتري"، فتتلخص وقائعها ، في أن مجنونا
هرب من أحد المستشفيات، و أضرم النار في اصطبل يملكه السيد "فوتري"،مما
أدى إلى حرق التبن الموجود به.و رُفع الأمر إلى القضاء،فقضت محمكة التنازع ؛أن
القضية تدخل في اختصاص القضاء الإداري، لصلتها بتنظيم و سير مرفق عام،هو مستشفى
المجانين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق