بسم الله الرحمان الرحيم
دروس في قانون الصفقات العمومية المغربي
مقدمة:
تلجأ الإدارة
العمومية،لأداء الوظائف و المهام المنيطة بها ، إلى أعمال قانونية (actes juridiques)
متعددة و متنوعة،تندرج معظمها، من حيث الآثار القانونية التي تترتب عنها، في صنفين كبيرين من القرارات:القرارات
الإنفرادية ( actes unilatéraux )، و القرارات التعددية ( actes plurilatéraux).
فالقرارات الانفرادية،
تتخذها الإدارة بمفردها، و لا يشاركها في إعدادها أو تنفيذها، أي طرف أجنبي عنها،و
لكنها تطبق على الأطراف الأجنبية على الإدارة،فتنشئ لها حقوق أو تلزمها بواجبات:مثال
ذلك القرارات(الإدارية) التنظيمية(Les règlements ).
أما القرارات التعددية، أو
متعددة الأطراف؛ فتتطلب اجتماع إرادتين مختلفتين،على الأقل، لوجودها أو
تنفيذها:مثال ذلك، القرارات التعاقدية، و التي تنقسم بدورها إلى نوعين:
1)
قرارات تعاقدية، تخضع للقانون الخاص: و هي عقود تبرمها
الإدارة مع أحد الأشخاص – الطبيعيين أو المعنويين، التابعين للقانون العام أو
القانون الخاص -، متخلية عن سلطاتها العامة، و كأنها شخص عادي، من ذلك على سبيل المثال:
عقود الشراء و البيع و الكراء.إلخ. و يطبق
على هذ العقود قواعد القانون المدني،و
مبدأ " العقد شريعة المتعاقدين".
2)
قرارات تعاقدية تخضع للقانون العام( القانون الإداري): و
هي عقود تبرمها الإدارة، متحلية بامتيازات السلطة العامة، و بالتالي تتضمن شروطا
غير عادية،لا نجدها في العقود الخاضعة للقانون المدني.ومن ثم،فإن القضاء الإداري
هو الذي يختص بفض النزاعات التي قد تترتب عن إعداد هذا النوع من العقود، أو
تنفيذها.
و هذه العقود الأخيرة ( و
التي تسمى أيضا؛ عقودا إدارية)،على أنواع متعددة و متنوعة، تعتبر كلها بالغة
الأهمية بالنسبة للإدارة،إلا أن أهمها على الإطلاق، هي عقود الصفقات العمومية (contrats des marchés publics ).و تكمن أهمية هذه العقود في
كونها، ، أهم الوسائل التي تستعملها الإدارة، المركزية أو اللامركزية، في تلبية
حاجيات المرافق العامة.
و لقد عرف العالم هذا النوع
من العقود ، منذ العصور القديمة؛إذ أثبتت الدراسات التي أجريت على التاريخ
الأوربي، ان الكثير من المنشآت العمومية اليونانية،أقيمت على أساس من الصفقات
العمومية.كما اشتملت بعض القوانين الرومانية، على قواعد تتعلق بهذا الميدان(هذا
على سبيل المثال لا الحصر).
إلا أنه، فيما يبدو، ليس
لتلك التجارب القديمة، و لا التجارب التي عرفها العالم في العصور الوسطى،أي أثر
يذكر على النظم القانونية التي تحكم الصفقات العمومية، في يوم الناس هذا.بل الظاهر،
ان هذه النظم المعاصرة، مدينة في نشأتها و تطورها،في المقام الأول،للتجارب
الأوربية الحديثة و المعاصرة.لا بل يبدو أن النظم و القوانين و مختلف التشريعات
المرتبطة بالصفقات العمومية، قد تغيرت و تطورت، بشكل مذهل و كبير؛الأمر الذي جعلها
تبتعد كثيرا حتى عن هذه التجارب الأوربية الأخيرة.
و بالفعل،فمنذ الثمانينات و
التسعينات من القرن الماضي، عرفت القواعد المنظمة للصفقات، تطورا كميا و نوعيا،
ارتقى بها من مجرد قواعد تقنية تستعين بها الإدارة العمومية،لأداء مهامها و
وظائفها،لتصبح قواعد و مبادئ دستورية، في الكثير من الدول.حدث كل ذلك ، بتأثير
مجموعة من العوامل السياسية و الاقتصادية؛ نشير إلى أهمها فيما يلي:
أ-
في النصف الثاني من القرن العشرين؛ ازداد الوعي ، عند
الحكام و المحكومين،بأن احترام الإدارة للقانون و الالتزام بقواعده، يفيد الجميع:فاحترام
القانون يوحي بالثقة للجميع،و يؤشر على تجدر دولة المؤسسات،لاسيما بالنسبة للدول
التي تسعى لجذب المستثمرين الأجانب.و من هنا، مسّت الحاجة، في هذه البلدان، إلى توفير
المؤسسات و الأطر البشرية، القادرة على ممارسة المراقبة الإدارية و
القضائية(القبلية و البعدية)، على أعمال الإدارة، لضمان احترام القانون
ب- لقد اقتنعت الشعوب، حتى في الدول النامية، بأن
تخلفها الاقتصادي و الاجتماعي، لا يرجع إلى الفقر في الموارد المالية فقط، بل يرجع
بالأساس إلى عدم الفعالية في استخدام الموارد المتاحة:فلما كانت الإمكانيات
المالية محدودة،بطبيعتها،فيجب على الإدارة استخدامها في صفقات عمومية حكيمة و رشيدة
أي الصفقات التي تحتاجها المرافق العمومية فعلا لأداء وظائفها:بالكميات و
المواصفات المناسبة، و في الأوقات المناسبة، و بالأسعار و الجودة المناسبة، و من
المصار(الصناعية و التجارية و الخدماتية) المناسبة، لتلبية الحاجيات المناسبة للتنمية
الشاملة(توفر فرص للعمل، و تنمي المناطق و الفئات الفقيرة و المهمشة، و تحمي البيئة،
و تحقق اهداف أخرى كثيرة،للتنمية
المستدامة).
ت-إن التطور الكبير الذي حدث على مستوى ممارسات حقوق
الإنسان،دفع الفاعلين الاقتصاديين،أشخاصا طبيعيين و معنويين، و منظمات حكزمية و
غير حكومية مهتمة بمحاربة الفساد الإداري
و إرساء أسس الشفافية ..إلخ، إلى مطالبة الإدارة، في كل مجتمع، بمعاملة
جميع الناس الذين ينتمون إلى نفس الدولة؛ معاملة متكافئة،دون تمييز بينهم لأسباب
سياسية أو اجتماعية أو غيرها:و المعنى العملي لهذا المبدأ،من منظورهم هو حظر
المحاباة و المحسوبية و الرشوة،في إسناد أو توزيع(إرساء) الصفقات العمومية.
ث- إن ثورة "العولمة الاقتصادية"،التي أدت غلى فتح الحدود الدولية
في وجه مختلف الأنشطة الاقتصادية، لاسيما في الثمانينات و التسعينات من القرن
الماضي، قد دفعت الشركات الأجنبية،إلى المطالبة بـ"حقها"،( الذي تضمنه
لها اتفاقيات التبادل الحر،على سبيل المثال)، في التمتع بنفس الفرص التي تتاح للشركات
الوطنية، فيما يتعلق بولوج "الأسواق الحرة و الشفافة" للصفقات العمومية.
أجل،لقد كان لكل هذه التحولات و غيرها، آثار على مشرعي قوانين الصفقات
العمومية ، في كل انحاء العالم، و من بينهم المشرع المغربي؛ الذي ادرك- و إن
متأخرا- ان ليس هناك من وسيلة لتسريع وتيرة التنمية الشاملة، و اللحاق بركب
التقدم، دون إثقال كواهل المواطنين بالأعباء الجبائية أو رهن مستقبلهم بالقروض
الداخلية و الخارجية، أفضل من ترشيد الإنفاق العام، من ناحية.و أن ليس هناك، من
سبيل لاستخدام الموارد المالية المحدودة،فيما ينفع الناس،إلا بتحديد الحاجيات
العامة، تحديدا دقيقا واقعيا و موضوعيا، من ناحية ثانية.و من ناحية ثالثة،لا يوجد
هناك منهجية أكثر فعالية، في دراسة و تفحص كل الخيارات المتاحة ( و ما ينطوي عليه
كل خيار من مزايا و عيوب)، لتلبية الحاجيات العامة، من سن قوانين تضمن تبسط
المساطر، و تضمن الشفافية في الإجراءات، و المساواة بين المتنافسين على الطلبيات
العامة، و بالتالي تشجع على جذب أفضل
المتنافسين من داخل البلاد و خارجها.
و في سبيل تحقيق هذه الأهداف، دخل المشرع المغربي، في برنامج طويل لإصلاح الترسانة
القانونية المتعلقة بالصفقات العمومية(الموروثة عن الاستعمار)،منذ تسعينات القرن
الماضي(مرسوم2.98.482، بتاريخ 30 دجنبر 1998)، توجت بإصدار المرسوم رقم (2.06.388)
المؤرخ بـ 5 فبراير 2007، الذي يحدد شروط
و أشكال إبرام صفقات الدولة و القواعد المتعلقة بتدبيرها و مراقبتها(على اساس أن
تصدر،لاحقا، مراسيم خاصة بصفقات المؤسسات و المقاولات العمومية و صفقات الجماعات
المحلية).
و لقد جاء في بيان الأسباب
الداعية إلى إصدار هذا المرسوم، مجموعة من الاعتبارات، تبين أن المغرب يريد القطع
مع الممارسات التقليدية ، التي جعلت هاجسها التقيد بالإجراءات البيروقراطيىة، و
يتبنى مفاهيم و ممارسات أكثر ليبرالية، تحافظ للإدارة على الكثير من سلطاتها
الواسعة في إعداد و تنظيم و إدارة و تنفيذ و مراقبة الصفقات العمومية،و في نفس
الوقت تشجعها على تبني إجراءات و ممارسات أكثر مرونة ، من ناحية. و تضمن، من ناحية
أخرى، للمتنافسين حرية الولوج إلى الصفقات العمومية،على أساس من المساواة و
الشفافية. و تضمن للمتعاقدين مع الإدارة، حقوقهم الكاملة و العادلة؛في إطار شراكة
متوازنة، يتوخى منها إنجاز صفقات عامة،بجودة عالية و كلفة مناسبة.
و لم يكتف المشرع بهذا، بل
عمل على تقوية الدور الرقابي للإدارة و
القضاء،حتى يضمن استقرار هذا التوازن بين الإدارة و المتعاقدين معها:
أ-
فإذا كان قد منح للإدارة سلطات واسعة، تتمثل بالأساس في
تضمين عقود الصفقات شروطا استثنائية،إلا أنه،على سبيل المثال، قيّد صلاحياتها فيما
يخص علاقاتها بالمتعاقدين معها، أو بكيفية التعاقد، أو حتى اختيار المتنافسين. كما
ألزمها باتخاذ كل الاحتياطات الضرورية للحد من الممارسات المخلة بمبدأ المساواة و
المنافسة الشريفة(أعمال الرشوة و الغش و المحسوبية..) هذا من جهة.
ب- و إذا كان في المقابل- و من جهة أخرى- قد ضمن للمتنافسين و المتعاقدين؛
الحرية و المساواة و الشفافية في ابرام و تنفيذ الصفقات.و ضمن لهم حق المطالبة
بفسخ الصفقات التي يبرمونها، أو المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي تلحقهم نتيجة
تصرفات الإدارة؛إلا أنه ألزمهم بالانصياع إلى أوامر و تعليمات الإدارة،في كل وقت؛
على اعتبار أنها تمثل المصلحة العامة.
إن هذه المعادلة
الثلاثية(السلطة-الحرية/القيود/الرقابة الإدارية و القضائية)، تشكل أهم الإشكاليات
الفرعية، لإشكاليتنا المركزية التي نحاول معالجتها في هذه الدروس، ألا و هي:إلى أي
مدى يستطيع القانون الحالي، البلوغ بالصفقات العمومية، درجة الفعالية؟
و في الحقيقة- و لدراسة هذه
الإشكالية،في سياقها العام، و في حدودها الزمانية و الموضوعية الحقيقية (في
أبعادها القانونية، و الاقتصادية، و السياسية)-، نرى أنه من المفيد منهجيا، التدرج
بالإجابة عنها من خلال معالجة إشكالياتها الفرعية التي تحدثنا عن بعضها أعلاه(التي
أشار إليها القانون)،بالإضافة إشكاليات فرعية أخرى، أغفلها نص القانون أو لم
يوليها الاهتمام الذي تستحق، و على رأسها "افتقار الإدارة إلى الأطر المتخصصة
في فقه الصفقات":فمعلوم أن إعداد وإبرام و مراقبة تنفيذ الصفقات، ليس بالأمر
السهل، و إذا لم يقم به موظفون أكفاء،فقد يؤدي ذلك إلى تبذير الأموال العامة.
و باتباع هذا المنهج،
سنتمكن- إن شاء الله- من دراسة الصفقات العمومية (و القانون الذي يحكمها)، أولا
بفحص القواسم المشتركة، التي تجمعها بالعقود الإدارية، ثم بعد ذلك، بالبحث في
المميزات، التي تميزها عن هذه الأخيرة:سنحاول، هنا تحديد مفهومين واضحين لكل من
العقود الإدارية و الصفقات العمومية.و في مرحلة ثالثة،سننظر في مصادر المنظومة
القانونية التي تؤطر الصفقات، في القانون المغربي، و المكانة التي يحتلها قانون
الصفقات داخلها.
و بتنفيذ هذه الخطوات،ستصبح
الطريق ممهدة أمامنا، لدراسة القانون الحالي،من خلال المحاور التالية:إبرام
الصفقات، فتنفيذها، ثم المنازعات التي تترتب عنها،و الجهات الإدارية و
القضائية،المختصة بفضها.
و بالله
التوفيق.
***
مراجع مختارة:
(اكتفينا هنا بذكر الاسماء العائلية للمؤلفين، مجردة من الألقاب العلمية)
(أما الحروف و
الأرقام بين قوسين،فتدلان على الرقم الترتيبي للكتاب في خزانة الكلية)
1-
الطماوي- الأسس العامة للعقود الإدارية (دراسة
مقارنة)- الطبعة الخامسة – دار الفكر العربي- القاهرة 1992.
2-
الطماوي- الوجيز في القانون الإداري (دراسة
مقارنة)- طبعة 1996-دار الفكر العربي.
3-
الطماوي- القضاء الإداري –الكتاب الأول:قضاء
الإلغاء(1967)، و الكتاب الثاني:قضاء التعويض (1968)- دار الفكر العربي...
4-
الصروخ- الصفقات العمومية في المغرب(الأشغال-
التوريدات- الخدمات)- الطبعة الثانية- دار القلم- الرباط 2012.
5-
سلامة بدر-العقود الإدارية و عقد البوت- الطبعة
الثانية-مكتبة دار النهضة العربية- القاهرة 2010.
6-
م.باهي- دليل الصفقات العمومية (ق.إد0022 ).
7-
مشورات ريمالد(REMALD)- مدونة الصفقات العمومية(ق.إد 0023).
8-
خليفة-الأسس العامة للعقود الإدارية (ق.إد
0030).
9-
البخاري- اجتهادات المجلس الأعلى(الغرفة
الإدارية) (ق.إد ..34).
10-
السناري- مبادئ و احكام العقود الإدارية(
ق.إد 0035).
11-
ندوة-المحاكم الإدارية و دولة القانون (ق.إد
0038).
12-
فودال- القانون الإداري(جزآن)(ق.إد 0041).
13-بوعشيق-المرافق
العامة الكبرى (ق.إد0053).
14-الكبيسي-حرية الإدارة في سحب قراراتها( ق.إد 0059).
15-فهمي-وسائل الإدارة العامة(ق.إد0073).
16-عبد اللطيف – التطورات الحديثة في مسؤولية الإدارة (
ق.إد0074).
17-سناري- القرارات القابلة للانفصال في القانون
الإداري(ق.إد 0075).
18-نصار- التحكيم في العقود الإدارية(دراسة مقارنة)
(ق.إد.0087).
19- القاسمي-الصفقات العمومية-ع 13(البيانات غير
واضحة،في دليل الخزانة).
20-اسماعيل-موسوعة القضاء الإداري( ج3 عن العقود
الإدارية(ق.إد0123).
21-فهمي-الإدارة العامة نشاطها و أموالها(ق.إد 0137).
22-يونس-الرقابة القضائية على الجزاءات الإدارية
العامة(ق.إد 0140).
23-باينة-الهيئات الاستشارية بالمغرب (ق.إد0134).
24-باينة- أشكال النشاط الإداري (ق.إد0149).
25- نظام العقود الإدارية وفق قرارات و احكام القضاء
(نصوص)(ق.إد 0151).
مراجع أجنبية:
26-A.De Laubadère,J-Cl Venezia
et Y.Gaudemet-Traité de droit
administratif-L.G.D.J-PARIS 1990..
27-M.Lombard-
Droit Administratif-4éd-Dalloz-Paris 2004.
28-S.Braconnier-Précis
du droit des marchés publics-3éd-Le moniteur-Paris 2009.
29-Cyrille EMERY-Passer un marché Public- 2éd
–DELMAS –Paris 2004.
30- L.Duguit-Les transformations du droit
public-in :www.gallica.bnf.fr
نصوص قانونية:
-
المرسوم رقم 20.6.388
بتاريخ 5فبراير 2007، بتحديد شروط و أشكال إبرام صفقات الدولة، و كذا بعض التدابير
المتعلقة بتدبيرها و مراقبتها-منشور بالجريدة الرسمية عدد 5518 بتاريخ 19 أبريل
2007- ص 1235.
و لتحميل هذا النص أو غيره من النصوص و الوثائق المتعلقة بالصفقات،.. و عموما لدراسة
الكثير من الجوانب الخاصة بهذا الموضوع، أنصحكم بالرجوع إلى الموقع التالي:
www.marches publics.gov.ma
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق