الفصل
الثاني: المبادئ الأساسية للصفقات العمومية
لقد تبين لكم،لا شك، من
خلال الفصل السابق، أن مفهوم الصفقات العمومية أصبح، في جل دول العالم إن لم نقل
كلها، يقوم على مجموعة من المبادئ العامة الأساسية، هي:
أ-المساواة في ولوج أو
الاشتراك في الصفقات العمومية، أي المساواة في معاملة المتنافسين على نيل الصفقات
العمومية؛
ب- و الشفافية، و تعني
احترام المشتري العمومي للمعايير الأخلاقية، في التعامل مع المتنافسين و/ أو
النائلين للصفقات في كل المراحل؛ في الإعلان عن الصفقات، و إبرامها،و إسنادها، و
تنفيذها؛
ج- و أخيرا و ليس آخرا،
عقلنة و ترشيد استعمال المال العام، حتى تكون الصفقات المبرمة مستوفية لشروط
الحكامة و الفعالية.
هذه المبادئ، كما يدل على
ذلك اسمها، يجب أن تكون هي النقطة التي نبدأ منها من الناحيتين الموضوعية و
الإجرائية، بل و هي النقطة التي نرجع إليها دائما، كلما اعترضت طريقنا- في مجال
الصفقات العمومية- عقبات[1].
و هذه المبادئ، هي منطلقات
من الناحية الأخلاقية أيضا،لأنها ارتبطت بتخليق الأجواء المرتبطة أو المحيطة
بالصفقات العمومية.
و من هنا، فهذه المبادئ،
للأسباب السابقة و غيرها أيضا،صارت تعتبر في الكثير من الدول، هي الأساس المتين
الذي يقام عليه نظام فعال للصفقات العمومية.لأنها تعتبر من بين السبل العملية التي
تضمن الوصول إلى صفقات فعالة.
و هذه المبادئ كما نعرفها
اليوم، و إن كانت من ناحية تمثل
المنطلقات، فهي، من ناحية أخرى، تمثل نقطة الوصول، التي انتهت إليها ممارسات
الكثير من الدول، بعد مسار طويل من التطور، و منها المغرب. و يكفي، على سبيل
المثال، أن نعود للمادة الأولى من المرسوم (2013)، و نقرأ الفقرة الأخيرة منها ، لنكتشف
التطور الكبير الذي طرأ على القانون الأساسي المنظم للصفقات العمومية؛ إذ لم يعد
إجرائيا، كما كان في نسخه السابقة ( قبل 1998)، بل صار غائيا، يهدف إلى تحقيق
غايات معينة، تتمثل أساسا في السعي إلى ضمان الشروط المناسبة لإبرام صفقات، و
خصوصا تنفيذ صفقات، تحترم البيئة و تدافع عنها، و تٌعني بتحقيق التنمية المستدامة
أيضا. و يتحقق ذلك، من خلال الإعداد و التنفيذ الجيدين للصفقات العمومية، حتى تكون
فعالة، و تستوفي شروط الحكامة الجيدة.
و حتى نضع هذا التطور في سياقه، يجب ربطه
بتطورات عرفتها مختلف التشريعات في هذا المجال، ولاسيما في الدول النامية، بضغط أو
تأثير من الدول الغربية أحيانا، و الكثير من المنظمات الدولية، في الكثير من
الحالات.و في ظل هذه الأجواء، وجدنا المشرع المغربي يتبنى كل هذه المبادئ في
المرسوم الحالي- مرسوم 2013-، و يقتبسها بشكل يكاد يكون حرفيا، من القانون
النموذجي الذي وضعته " لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري"،و الذي صار يؤكد
على أنه لا ينبغي النظر إلى "المبادئ العامة للطلبيات العمومية" على
أنها غايات في حد ذاتها، أو وسائل لإبرام صفقات " صحيحة من الناحية
القانونية" فقط، بل يجب التعامل معها على أنها وسائل ينبغي أن تكون"صحيحة"، لتحقيق غايات
اجتماعية و اقتصادية نافعة: تحقيق التنمية المستدامة، و حفظ المال العام من
التبديد في مالا طائل وراءه.
و هكذا، تنص المادة الأولى
من مرسوم2013، على ما يلي:
" - حرية الولوج إلى
الطلبية العمومية؛
" - المساواة في
التعامل مع المتنافسين؛
"- ضمان حقوق
المتنافسين؛
"- الشفافية في اختيار
نائل الصفقة؛
" و يخضع إبرام
الصفقات العمومية كذلك لقواعد الحكامة الجيدة.
" يأخذ إبرام الصفقات
العمومية بعين الاعتبار احترام البيئة و أهداف التنمية المستدامة.
" من شأن هذه المبادئ
أن تمكن من تأمين الفعالية في الطلبية العمومية و حسن استعمال المال العام. و
تتطلب تعريفا قبليا لحاجات الإدارة و احترام واجبات الإشهار و اللجوء إلى المنافسة
و اختيار العرض الأفضل اقتصاديا".
و الجدير بالذكر أن هذه
المبادئ، تشكل كلا متضافرا، يقوي بعضه بعضا، و من ثم فهي تشكل نظاما متكاملا، لا
يكون مفيدا إلا إذا طبق ككل.
المبحث
الأول: تطور المبادئ الأساسية للصفقات:
إن مبادئ الصفقات العمومية،
لم تظهر كلها دفعة واحدة، و إنما تطلبت وقتا طويلا حتى تتبلور و تصل إلى الصورة
التي نعرفها عليها اليوم.و لقد ساهمت أحداث و تطورات، و حسابات سياسية، و
اقتصادية، في أكثر من ميدان ، و على أكثر من صعيد،في رسم الصورة التي عليها هذه
المبادئ اليوم.
إن هذه المبادئ، ظهرت في
شكلها المعاصر،أول ما ظهرت في الدول المتقدمة، كمحاولات للحد من استغلال النفوذ و
السلطة (السياسية و/أو الإدارية أو هما معا)،في مجال الصفقات العمومية.أي تقليص
تأثيرها ،في اختيار المتعاقدين مع الإدارة، إلى أقصى الحدود؛ و بالتالي إعطاء جميع
المتعاقدين، نفس الحظوظ في الفوز بالطلبية العمومية.و في ذلك منفعة كبيرة، ليس
للمتعاقدين فقط، بل هو وسيلة لترشيد الإنفاق العام أيضا، بحيث يتم استعمال كل وحدة
نقدية من هذا المال ، فيما يعود بالنفع على المصلحة العامة.
أجل، لو رجعنا إلى التاريخ ،
لرأينا كيف نشأت و تطورت هذه المبادئ، فكرا و ممارسة، كرد فعل على الفساد السياسي،
و استغلال النفوذ..في فرنسا..و في المغرب..و في الكثير من البلدان الأخرى.فلو
درسنا تطور هذه المبادئ ، في سياق التاريخ الفرنسي، على سبيل المثال، للاحظنا بكل
وضوح كيف ظلت الصفقات العمومية، تخضع- في غياب القوانين التي تؤطرها-، إلى نزوات و
حسابات السياسيين؛فأغلب الصفقات كانت تمنح للمقربين من صناع القرار السياسي، كنوع
من المكافأة و الجزاء،عن دعم سابق (قدمه نائلو الصفقات)، لهؤلاء السياسيين، عندما كانوا يبحثون عن السبل
التي توصلهم لمقاليد السلطة.
و استمر الوضع كذلك حتى
القرن التاسع عشر( و بالضبط 1836)، عندما سيظهر أول قانون يلزم الإدارة بتنظيم
" مباريات حرة " للمتنافسين على نيل الصفقات العمومية،لا سيما و أن بعض
المشرعين و الفقهاء، و غيرهم، كانوا قد لفتوا الانتباه ، في أكثر من مناسبة ؛ إلى
أن التحالف المشبوه بين السياسيين و الإداريين، قد يلحق أضرارا كبيرة بمالية
الدولة، لا سيما و أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك قوانين تحارب المحسوبين و
الزبونية.
و إذا كان الاتفاق- إلى حد
التواطؤ - بين الإداريين و السياسيين(من رجال الأعمال) ، قد تسبب في ميلاد مبدأ
" حرية المنافسة"؛ فإن الاختلاف بين الإداريين و السياسيين(الحكام)،
سيدفع في اتجاه خلق مبادئ أخرى..تتمحور جلها، إن لم نقل كلها، حول ترشيد استعمال
العام ( أو ما سيعرف لاحقا بفعالية و حكامة الصفقات العامة).
و بالفعل؛فلقد كان الرأي السائد،
عند الكثير من رجال السلطة التشريعية- و وافقهم على ذلك الكثير من رجال القضاء - ،
أن المصلحة المالية للدولة تقتضي إبرام صفقات بأقل تكلفة ممكنة؛لأن موارد الدولة
محدودة، و حاجيات المرافق العامة كثيرة و متجددة، و لا يمكن الاستمرار إلى ما لا
نهاية،في تحصيل الضرائب، للانفاق على الصفقات،لما ينطوي عليه اللجوء إلى هذا
المورد من مخاطر، تهدد الاستقرارين السياسي و الاقتصادي؛ و بالتالي لا بد من ترشيد
الانفاق، انفاق أقل ما يمكن على كل صفقة، مهما كانت.هذا من ناحية، و من ناحية أخرى
فلقد كان هناك رأي سائد بين السياسيين، ورثوه من زمن الثورة،مفاده أن الإداريين
يستغلون كل فرصة تتاح لهم،لتحقيق مكاسب شخصية من أعمالهم.و كوسيلة للحد من تأثير
هذا النفوذ الإداري، الذي يمكن أن يستغل في إسناد الصفقات، وضع المشرعون الفرنسيون
معيار " الثمن"- و الثمن الأقل- ليكون هو المعيار الوحيد في إسناد
الصفقة، و بذلك أغلقوا الباب في وجه الإداريين، و منعوهم من التأثير على مجريات
التنافس على نيل الصفقات.
و لهذ، كان المشرعون في هذه
المرحلة من تاريخ الصفقات العمومية، يرون أن من واجب الإدارة إرساء الصفقة- أي
صفقة- على المتنافس الذي يطلب أدنى ثمن للخدمة أو للسلعة أو للشغل الذي يقدمه، بغض
النظر عن أي شيء آخر، أي بغض النظر عن ما إذا كان يتوافر على المؤهلات العلمية و
الخبرة، و الإمكانيات التقنية و المالية و غيرها، لتنفيذ الصفقة أم لا.
و هذا الموقف لم يكن يعجب
الإداريين، الذين كانوا يرون أن المصلحة العامة تقتضي إسناد الصفقة للمتنافس
الأكثر كفاءة و مقدرة و خبرة، و المؤهل أكثر من غيره لتنفيذ الصفقة على أحسن وجه،
دون مشاكل، و في الوقت المناسب؛حتى و لو لم يكن الثمن الذي يقترحه هو الأدنى.
و من هنا، بدأت الإدارة
تضغط في اتجاه، تعديل أسس ارساء الصفقات،حتى يكون للإدارة وجهة نظرها أيضا في
إرساء الصفقة، و حتى لا يقتصر الأمر على حسابات السياسيين الضيقة، لأنهم نادرا ما
تكون لهم خبرة و دراية ، بظروف التنفيذ الصعبة.. و نادرا ما يهتموا بمآلات
التنفيذ: لأن أهم الصفقات تتطلب وقتا لإنجازها،..قد لا ينتهي قبل مغادرة السياسي
لمنصبه الحكومي.
و رغم أن ضغوطات الإدارة،
قد بدأت منذ نشأة الصفقات، بمفهومها الحديث، إلا أنه و إلى حدود السبعينات من
القرن العشرين، ظلت كفة السياسيين (في الحكومة و البرلمان) هي الراجحة.فعدم ثقة
الناخبين برجال الإدارة- لشعورهم بعدم القدرة على التأثير فيهم، أو معاقبتهم- ، من
جهة، و غياب الرؤية الاستراتيجية لدى أغلب البرلمانيين من جهة أخرى،جعلت التشريعات
تتجاهل بعدي الفعالية و الجدوى من
الصفقات، و تهمل مسألة التأثير الحقيقي و
الفعلي للصفقات، على الحياة اليومية للمواطنين، و اهتمت فقط ببعدها الإجرائي:نفقات
تنفق وفق المساطر الشرعية.
و لهذا،جاءت أغلب القوانين
الفرنسية، المتعلقة بالصفقات، التي سنت في هذه المرحلة، و بالتالي كل الصفقات التي
أبرمت على أساسها، تركز على الجوانب الإجرائية و قيمة المبالغ المالية لهذه
الصفقات فحسب، و أهملت ما عدا ذلك من القضايا،كجودة الأشغال أو التوريدات أو
الخدمات، التي حصل عليها المجتمع، و مدى تلبيتها للحاجيات الحقيقية للناس من
عدمها.
و لهذا السبب أيضا، كان
نظام " المناقصة"،هو الطريقة العادية لإبرام الصفقات،في القوانين
الفرنسية ،و قوانين البلدان التي أخذت عنها؛ أما الطرق الأخرى، مثل التفاوض، فكانت
هي الاستثناء: هذا ما نجده مثلا في القوانين المغربية، منذ أول "قانون"
للصفقات العمومية ( 1917)، إلى حدود صدور مرسوم 1965[2].
غير أنه، مع انتشار و اتساع
تطبيقات و ممارسات الديمقراطية، و ازدياد الوعي بحقوق الإنسان، و وقوع الحكومات
تحت وطأة الضغوطات و المطالب المتكررة للمجتمعات( بما فيها الضغوطات التي تمارسها
وسائل الإعلام،و جمعيات حماية الأموال العامة ، و نقابات رجال الأعمال، ..)، على
صناع القرارات السياسية ( المشرعين بشكل خاص)،أو الإدارية ( أو هما معا)؛ أخذت
القوانين و الممارسات تعكس علاقات الصفقات العمومية بالحاجيات الحقيقية للسكان:
لقد أصبحت المعايير التي تقاس بها المشتريات العامة، هي الجودة، و النجاعة، و
الكفاءة..إلخ.
كما ازداد الاقتناع، أو على
الأقل الوعي ، عند السياسيين و الإداريين معا ؛ بأن الصفقات العمومية، تحقق مصالح
عامة و خاصة، و أنه لأجل ذلك يجب البحث عن " قاعدة" لالتقاء المصالح
الخاصة و العامة، قاعدة للتعاون بين الإدارة و المتعاقدين معها، للوصول إلى صفقات
مربحة للطرفين- وفق معادلة من نوع رابح -
رابح= Win-Win-؛ و ذلك من
خلال إشراك أكبر عدد من الشركاء الاقتصاديين، و الاستماع إلى الآراء و المطالب
التي يعبر عنها المستفيدين أو المعنيين بهذه الصفقات:
هذا
الاتجاه بدأ يظهر في المغرب، في قوانين الصفقات، منذ صدور مرسوم 1976؛ كما سنرى
فيما يلي.
فبعد الاستقلال، ورثت
الطبقة البرجوازية التجارية،لا سيما الفاسية- التي كانت تربط علاقات جيدة مع
الاستعمار، و راكمت خلال حكمه ثروات كبيرة-، الفرنسيين في مجال الصفقات، و ربطت
علاقات جيدة مع رجال السلطة الجدد[3]،
مما جعلها تحتكر الصفقات لنفسها، أو بالتعاون مع البقية الباقية من رجال الأعمال
الأجانب؛إذ أن القطاع الخاص الصناعي و التجاري، ظل في أغلبيته تحت الهيمنة
الأجنبية إلى حدود سنة 1973[4].
و بالفعل،ففي هذا التاريخ؛
اتخذ الملك الحسن الثاني - رحمه الله - ، قرار مغربة المقاولات ، و نتيجة لذلك لم
يعد للرأسمال الأجنبي - لا سيما الفرنسي - ، الحق في امتلاك اكثر من نصف أية شركة
أو مقاولة عاملة في المغرب.
لقد جاء هذا القرار،لترضية
النخب المغربية لا شك، و ربما أيضا كخطوة استراتيجية لخلق " طبقة مقاوِلة
متوسطة"، لتكون إحدى الدعائم النظام السوسيو- اقتصادي، لحماية استقراره في
حالة حدوث هزات عنيفة، كتلك التي شهدها المغرب في بداية السبعينات، و المتمثلة في
المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين (يوليوز 1971، و غشت 1972)، و الانتفاضة
المسلحة لجبال الأطلس (خنيفرة:1973).
و لقد ساعد على نهج سياسة
المغربة هاته ، أن المغرب، في هذه الفترة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المقدمة،
شهد طفرة اقتصادية، تميزت بزيادة أسعار الفوسفاط (بمقدار أربعة أضعاف)، و أسعار مواد
أولية أخرى، مما وفر له موارد هامة، شجعته على زيادة الانفاق في الاستثمارات
الكبرى، كالبنية التحتية( بناء الطرق، و المطارات، و السدود، و المستشفيات، و
الجامعات، و البنايات الإدارية..إلخ)، و تلبية الحاجيات السوسيو- اقتصادية.و
" ..بناء عليه ستعرف البرامج الاستثمارية الكبرى بالبلاد تطورا واسعا،مع
التوجه إلى البحث عن شركاء ضمن المقاولات الخصوصية المغربية، و لا سيما في قطاع
البناء و الأشغال العمومية.."[5].
و المهم هنا، أن قرار مغربة
المقاولات، ثم فيما بعد قرار خوصصة الكثير من المقاولات و المؤسسات العامة( ابتداء
من 1991) ، و مهما كانت الأسباب التي أدت إليهما[6]،
ساهما في فتح المجال أمام المقاولات المغربية القديمة المملوكة للبرجوازية (ذات الأصول
الفاسية، أو السوسية..بالخصوص)، و المقاولات الجديدة (التي ظهرت بعد الاستقلال)،
التي صار يملكها أو يساهم فيها الكثير من أبناء الطبقة الوسطى[7]؛
لولوج الطلبيات العمومية، في أجواء من الحرية و المساواة مع المقاولات التي كانت
تتمتع بالنفوذ أو القوة، لا سيما المقاولات الأجنبية، التي اعتمدت على حماية
دولها، أو على شبكة من العلاقات الزبونية.
و كان من المحتمل جدا، كما
يرى بعض الباحثين، أن يسفر قراري المغربة و الخوصصة، عن نتائج ايجابية كثيرة، لولا
أن تم تحريفهما عن مساريهما، فأتيا بنتائج عكسية(سلبية)؛ لأن رجال الأعمال
المغاربة، أو أغلبهم، للأسف، اختاروا أن يطوروا علاقاتهم مع صناع القرار، لضمان
حصصهم من الصفقات العمومية، بدلا من أن يطوروا مقاولاتهم حتى تكون قادرة على تلبية
الحاجيات العامة، و على التنافس على نيل الصفقات، في إطار من الشفافية والنزاهة و
المسؤولية الوطنية [8].
و من هنا، كان على المغرب
أن ينتظر قرابة ربع قرن، لكي يشهد مع حكومة التناوب برئاسة السيد عبد الرحمان
اليوسفي، انطلاق اصلاحات أخرى، همت الكثير من القطاعات ذات الصلة بالصفقات
العمومية، و كان شعار هذه المرحلة من تاريخ المغرب؛ هو الشفافية و محاربة الفساد و
المحسوبية.
يضاف إلى ذلك أن المغرب كان
قد انخرط في المنطمة العالمية للتجارة(OMC) سنة 1994، و عقد اتفاقيات
الشراكة مع الاتحاد الأوربي سنة 1996، و ابرم اتفاقيات التبادل الحر مع البلدان
الأوربية و تركيا و الولايات المتحدة..إلخ.
في ظل هذه الأجواء جاءت مراسيم
إصلاح النظام القانوني للصفقات العمومية، ابتداء من سنة 1998.
و هكذا، و منذ هذا التاريخ، و وصولا إلى بداية الألفية
الثالثة، بدأت تنتشر في مجال الأعمال الدولية ثم الوطنية فيما بعد، اتجاه يميل
إلى".. الاستعاضة التدريجية عن منطق الريع و الامتيازات و الزبونية و
المحسوبية و الغش و التدليس، بمنطق مبني على الاستحقاق و الكفاءة و المنافسة
الشريفة و القانون و المؤسسات، باعتباره المفتاح الحقيقي و الضروري لولوج عهد
الديمقراطية و الحداثة و الرخاء المشترك"[9]:
هذا هو الاتجاه الذي، على الأرجح، إدى إلى إفراز المرسومين 2007 و 2013.
[1] إن مصطلح " مبدأ" له دلالات كثيرة، أي
مفاهيم كثيرة، تختلف باختلاف المناسبات و السياقات،فيكون معناه تارة الأساس، و
تارة الطريق، و تارة العقيدة،و أخرى القانون أو العادة ..إلخ.
و في اللغة العربية، تشتق كلمة "
مبدأ" من كلمة " البدء"، و معناها الأولية، أو المباشرة، ثم صار
معناها "الأصل".فمبدأ القول "أوله"، و مبدأ الشيء
"أصله"، كقولنا " مبدأ الوجود أي أوله"، و مبدأ العادة أي "أصلها"، فتطورت الكلمة، فغدت
تفيد الطريق المعين، أو الأسلوب المتبع أو الأساليب المتخذة.فقولنا هذا مخالف
للمبادئ الدستورية، أي الأسس التي بني عليها الدستور كالحرية التي لا يجب أن يحرم
منها المواطن، ضمن حدود القانون..إلخ.
و المبادئ هي التي تساعدنا على أن نعمل
أعمالنا و نحن ندري و نعرف الدوافع التي تدفعنا، و نحن نعلم لماذا نسير..و أين و
متى نقف. و هذا منتهى العلم الذي يتحتم على كل واحد ساع للحياة، و خدمة الأمة، أن
يحيط به، و يسلم بعناصره..إلخ.
د.عبد الرحمان الكيالي- المبادئ و تطورها في
الأفراد و الجماعات-مجلة المجمع العلمي العربي - الجزء السابع و الثامن-المجلد
التاسع عشر- تموزو آب 1944/رجب و شعبان 1363- ص 303 و ما يليها( مع بعض التصرف).
[2] لقد نص الفصل 23 من ظهير 9 يونيو 1917، بمثابة
نظام المحاسبة العمومية، كما تم تعديله
تتميمه بالظهير الشريف المؤرخ في
26 ماي 1928، على أن تكون المناقصة العمومية ، هي القاعدة العامة، إلا في حالات
خاصة.
و كانت المناقصة تأخذ عدة أشكال:
1- مناقصة عادية أو مفتوحة؛
2- مناقصة محدودة؛
3- المباراة.
و استثناء ، يمكن اللجوء إلى صفقات "
التوافق" (gré
à gré).
[3] "..أكيد، أن المغرب يتبنى نظام اقتصاد
السوق، و أن تنظيم المقاولات هو تنظيم يخضع لهذا القانون.إلا أن أهمية القروض و
أهمية الصفقات العمومية تعتبر من بين العوامل التي تفتح الأبواب لتدخلات
النفوذ..": ريمي لوفو- الفلاح المغربي المدافع عن العرش- ترجمة: محمد بن
الشيخ- منشورات وجهة نظر- الرباط 2011- ص 294.
[4] ريمي لوفو- الفلاح المغربي المدافع عن العرش-
ترجمة: محمد بن الشيخ- منشورات وجهة نظر- الرباط 2011- ص 292.
[6] راجع القانون
رقم 1.38.89 المصادق عليه، بالظهير الشريف رقم 1.90.05 ، بتاريخ 15 رمضان
1410 ( 11 أبريل 1990)، المرخص لتحويل المنشآت العامة إلى القطاع الخاص.
و في الواقع، منذ وصول زعماء الليبرالية
المتطرفة في أوربا ( ممثلين بمارغريت ثاتشر، في بريطانيا) و الولايات المتحدة (
روناد ريغان)، هيمنت مفاهيم تحرير التجارة و الأسعار، و تقليص الإنفاق العمومية، و
الانفتاح على الإستثمار الأجنبي..و غير ذلك من المفاهيم، التي فرضها صندوق النقد
على الكثير من الدول التي كانت مثقلة بالديون، كالمغرب.
و للأسف، فإن عملية الخوصصة- و التي مازالت
مستمرة إلى الآن، و منذ ذلك الوقت-، لم تحقق كل أهدافها،بل أدت إلى تحويل الكثير
من المقاولات و المؤسسات العامة ذات المردودية العالية، من القطاع العام إلى بعض
الأثرياء، الذين لم يحسنوا استثمارها بما يعود بالنفع على الاقتصاد و المجتمع
المغربيين.بل استغلوها بطريقة " انتهازية"، محدودة الأفق، تعكس، كما قال
أحد الباحثين "[...] غياب الحس المقاولاتي لذا القطاع الخاص المحلي.هذا
الأخير الذي استفاد من عملية الخوصصة، بعد استفادته من المغربة، بشهادة شاهد من أهلها ، و يتعلق الأمر بعبد اللطيف
الجوهري (1983)[ و كان وقتها وزيرا ، و هو يشغل حاليا منصب ولي بنك المغرب]، الذي
لاحظ أن الخوصصة " كانت فرصة للطبقات الميسورة للاستحواذ على حصة أكبر من
الثروات الوطنية" ، وجد في الدولة المساند و الداعم عبر تخليها عن مقاولات
مربحة كالشركة الوطنية للاستثمار و البنك المغربي للتجارة الخارجية و تنازلها عن
استغلال ضيعات صوديا و صوجيتا التي كانت تغطي أكثر من 100.000 هكتار..::محمد شيكر-
الاقتصاد المغربي: السياق العام و الوضعية و الآفاق- دار النشر و التوزيع حنظلة-
دون مكان النشر - 2015- ص ص 89-90.
[7] يؤكد ريمي لوفو، أن النظام السياسي الملكي،
اختار أن يدعم - لاسيما بفضل اموال الفوسفاط -، إنشاء الـ"..قواعد الاقتصادية
و الاجتماعية لصالح طبقة متوسطة يمكن أن تصرف نظر العسكريين عن التفكير بمحاولة
انقلابية ما. و الحق أن التوسع الذي عرفه القطاع الخاص، بل و أيضا التضخم الذي طرأ على النظام التربوي و على الجهاز
الإداري ، كل ذلك قد أسهم أيضا في الدفع نحو تبني هذه الاستراتيجية":الفلاح
المغربي..- ص 307.
[8] " إن القطاع الخاص، يقول الأستاذ الجامعي
عبد القادر برادة، لم يعط للوطنية الاقتصادية الأهمية التي تستحقها حيث "
تخلى عن الصناعة لصالح الشركات المتعددة الجنسيات و اختار الانخراط في أنشطة
مضارباتية ( العقار و التجارة و التوظيفات المالية) أو مدعمة بشكل كبير من طرف
الدولة ( السكن و الفلاحة و المعادن) و منح لنفسه يدا عاملة رخيصة لكون سوادها
الأعظم محروم من التغطية الاجتماعية و أصبح يغريه تهريب رؤوس الأموال بتحايله على
مراقبة الصرف و تحويل جزء من أرباح المقاولة غلى الخارج عن طريق الإفراط في فواتير
المواد الأولية المستوردة و ذلك بتواطؤ مع الممولين الأوربيين:..": محمد
شيكر- المرجع السابق- ص 90.و راجع أيضا:نور الدين أفاية و إدريس الكراوي- النخبة
الاقتصادية المغربية: دراسة حول الجيل الجديد من المقاولين- ترجمة: عبد الهادي
الإدريسي- منشورات جمعية البحث و التواصل ما بين الثقافات- دون مكان -2011- ص 63.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق